الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الخامس الحكمة من التدرج في الدعوة]
[المبحث الأول تهيئة النفوس للسماع]
الفصل الخامس
الحكمة من التدرج في الدعوة وفيه تمهيد وثلاثة مباحث: المبحث الأول: تهيئة النفوس للسماع
المبحث الثاني: قبول النفوس للحق
المبحث الثالث: ترسيخ الإسلام في النفوس
تمهيد بعد أن بينت في الفصول السابقة تدرجه صلى الله عليه وسلم في الدعوة باعتبار الموضوع توحيدًا وشريعة، وباعتبار الوسيلة والأسلوب، وباعتبار المدعوين، بقي أن أبين الحكمة من هذا التدرج الحكيم، وهذا ما سوف أتناوله بإذن الله في هذا الفصل، وقد قسمته إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تهيئة النفوس للسماع.
المبحث الثاني: قبول النفوس للحق.
المبحث الثالث: ترسيخ الإسلام في النفوس.
وفيما يلي التفصيل في هذه المباحث.
المبحث الأول
تهيئة النفوس للسماع بالتدرج في الدعوة تتهيأ النفوس للسماع، فالحجة لا تقوم على المدعوين إلا بالسماع (1) ولذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإجارة المستجير من المشركين لأن إجارته تهيئة لنفسه للسماع، فقال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6](2) .
فأوجب سبحانه كف القتال عمن أظهر الرغبة في سماع كلام الله (3) . بل جعل الغاية من إجارته إسماعه كلام الله ليكون كلام الله أول ما يقرع سمعه فيقع من نفسه موقع التمكن، وبذلك تقوم عليه الحجة (4) .
وإذا فلا ضير من إعطاء المشركين الفرصة لكي تتهيأ نفوسهم لسماع القرآن ومعرفة هذا الدين، لعل قلوبهم تتفتح وتتلقى وتستجيب، فتزكو تلك القلوب، وتطيب تلك النفوس.
وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك فقد كان يهيئ نفوس المشركين للسماع، فحينما
(1) انظر: ابن تيمية، التفسير الكبير 6 / 33.
(2)
سورة التوبة، الآية:6.
(3)
انظر: محمد رشيد رضا، تفسير المنار 10 / 177.
(4)
انظر: المرجع السابق 10 / 118.
جاءه عتبة بن ربيعة لمفاوضته صلى الله عليه وسلم هيأ نفسه للسماع أولا بقوله: «قد فرغت يا أبا الوليد. . " قال: نعم، فقال: " يابن أخي فاسمع» (1) .
ولا يخفى على أحد ما في هذه الملاطفة والتكنية من تهيئة للنفس للسماع، وحين اتكأ عتبة على يديه وقال: أسمع، أسمعه صلى الله عليه وسلم صدرًا من سورة فصلت (2) .
ونجد مصعب بن عمير وهو مبعوثه صلى الله عليه وسلم للدعوة، يبدأ بتهيئة نفوس مدعويه للسماع، فحينما جاءه كل من زعيمي بني عبد الأشهل، أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما كان يبدؤهما بعرض السماع أولا فيقول:" أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكرهه "(3) .
وبهذه الملاطفة والعرض المنصف هيأ نفسيهما للسماع، فلما سمعا أسلما، وأسلم أقوامهما (4) .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يهيئ نفوس أصحابه للسماع فقد روى البخاري عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع: «استنصت الناس " فقال: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (5) .
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 15 / 338.
(2)
انظر: المرجع السابق 5 / 338، 339.
(3)
ابن هشام، السيرة النبوية 2 / 59.
(4)
انظر: المرجع السابق 2 / 60.
(5)
البخاري، صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الإنصات للعلماء (ك 3 / ح 121) 1 / 56.
فدل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم استنصت أصحابه قبل أن يعظهم ليهيئ نفوسهم لسماع كلامه، ثم حفظه ثم العمل به، ونشره، وقد ذكر ابن حجر حكمة عظيمة بين فيها التدرج في تلقي العلم، وأن أوله الاستماع فقال:" قال سفيان الثوري وغيره: أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر "(1) .
ومما كان يهيئ به صلى الله عليه وسلم نفوس أصحابه للسماع والفهم أنه عليه الصلاة والسلام كان يبدءوهم بالسؤال أولا ثم يلقي عليهم المسألة، يدل على ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: «يا أيها الناس أي يوم هذا؟ " قالوا: يوم حرام، قال:" فأي بلد هذا؟ " قالوا: بلد حرام، قال:" فأي شهر هذا؟ " قالوا: شهر حرام، قال:" فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا» . . . "(2) .
فكرر صلى الله عليه وسلم السؤال ثلاث مرات ليكون أبلغ في فهمهم وإقبالهم على كلامه، يشير إلى ذلك ابن حجر رحمه الله بقوله:" قال القرطبي: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم وليقبلوا عليه بكليتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذلك قال بعد هذا: فإن دماءكم. . . إلخ، مبالغة في تحريم هذه الأشياء انتهى "(3) .
(1) ابن حجر، فتح الباري 1 / 294.
(2)
البخاري، صحيح البخاري، كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى (ك 32ح 1652) 2 / 619.
(3)
ابن حجر، فتح الباري 1 / 214.
ويقول صاحب تيسير العزيز الحميد في شرح هذا الحديث مبينا الحكمة في البدء بالسؤال: " وأخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم، فإن الإنسان إذا سئل عن مسألة لا يعلمها ثم أخبر بها بعد الامتحان بالسؤال عنها فإن ذلك أوعى لفهمها وحفظها، وهذا من حسن إرشاده وتعليمه صلى الله عليه وسلم "(1) .
وتأمل موقفه صلى الله عليه وسلم مع ثمامة بن أثال رضي الله عنه حيث أبقاه مربوطًا في سارية في المسجد ثلاثة أيام، وقد أكرمه صلى الله عليه وسلم غاية الإكرام ثم منّ عليه، فكان لهذا التعامل أثره في تهيئة نفسه لسماع القرآن، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة تعامله مع أصحابه، فانقلب بغضه للرسول صلى الله عليه وسلم حبًّا في ساعة واحدة (2) .
ومما كان يهيئ به صلى الله عليه وسلم النفوس للسماع الترحيب بالقادم والتلطف معه وتأنيسه والثناء عليه كما فعل صلى الله عليه وسلم مع وفد عبد القيس، حيث أثنى عليهم وأخبر أنهم خير أهل المشرق، فاستقبلهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبشرهم بذلك، ثم بعد وصولهم رحب بهم صلى الله عليه وسلم (3) حيث قال لهم:«مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى» (4) .
(1) الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص 65.
(2)
انظر: ابن حجر، فتح الباري 8 / 421.
(3)
انظر: ابن حجر، فتح الباري 1 / 178، 179.
(4)
سبق تخريجه، انظر: ص 108 من هذا البحث.
فدل ذلك على أن الاهتمام بالمدعوين مدخل طبيعي إلى نفوسهم (1) وله أثره في تلقي النفوس للحق وقبوله (2) وبالتدرج في الدعوة تظهر أهمية مراعاة العوامل النفسية لدى المدعوين (3) وبهذا الاهتمام وتلك المراعاة تتهيأ نفوسهم لسماع الحق ومن ثَمَّ قبوله.
(1) انظر: د. سيد محمد ساداتي الشنقيطي، وظيفة الأخبار في سورة الأنعام، ص 459.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 252.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 257، 258.