الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المبحث الثاني قبول النفوس للحق]
المبحث الثاني
قبول النفوس للحق النفوس المستمعة أصناف، منها المعرض الممتنع، ومنها من سمع ولم يفقه المعنى، ومنها من فقه ولم يقبل، ومنها من سمع سماع فقه وقبول (1) وهذا الأخير هم الذين تتهيأ نفوسهم للقبول، وقد ذكرهم الله بقوله:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83](2) .
وبشرهم وأثنى عليهم بقوله سبحانه: {فَبَشِّرْ عِبَادِ - الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18](3) وبشرهم صلى الله عليه وسلم وأثنى عليهم بقوله: «نضّر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه» (4) . هذا الصنف المستمع سماع فقه وقبول هم الذين تدرج الشارع في دعوتهم، فكانت التشريعات الإلهية والتوجيهات النبوية تتدرج في تهيئة نفوسهم للقبول شيئًا فشيئًا.
تصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هذا التدرج فتقول: ". . . «إنما
(1) انظر: ابن تيمية، التفسير الكبير 6 / 312.
(2)
سورة المائدة، الآية:83.
(3)
سورة الزمر، الآيتان: 17 و 18.
(4)
محمد ناصر الدين الألباني، صحيح سنن ابن ماجه 1 / 44، 45.
نزل أول ما نزل منه - أي القرآن - سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا. . . .» الحديث (1) .
لا شك أن الحكمة في هذا التدرج الحكيم تهيئة النفوس للقبول، وإلى ذلك يشير ابن حجر في قوله:". . . فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: «ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندعها» وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف "(2) .
ويفهم من هذا أن عدم التدرج لا يؤدي إلى القبول بل يؤدي إلى النفرة غالبا، وقد أشار جماعة من العلماء إلى هذا بقولهم:" إن الله تبارك وتعالى لعظم حكمته في التشريع إذا أراد أن يشرع أمرًا شاقًّا على النفوس كان تشريعه له على سبيل التدرج، لأن إلزامه بغتة في وقت واحد من غير تدرج فيه مشقة عظيمة على الذين كلفوا به "(3) وبالتالي فلا تتهيأ نفوسهم لقبول ذلك التشريع، وقد أشارت إلى ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها:«ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندعها» (4) .
فدل على أن التدرج يهيئ النفوس للقبول والتلقي وقد بين ابن حجر
(1) البخاري، صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن (ك 69 ح 4707) 4 / 1910.
(2)
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 10 / 48.
(3)
الشنقيطي، أضواء البيان 5 / 700.
(4)
انظر: الهامش رقم (1) .
ذلك بقوله: " وكذلك تعلّم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلا، حبب إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط. . . "(1) .
ذلك أن ترك التشديد على من قرب إسلامه في الابتداء، والتلطف في الزجر عن المعاصي يهيئ النفوس للقبول (2) .
هذا ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم مع مدعويه، وقد شهد بهذا أحد الصحابة الكرام إذ يقول رضي الله عنه:«. . فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني» (3) ولا ضربني، ولا شتمني قال:«إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (4) .
، يقول النووي:" فيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته، وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه، واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه "(5) .
والنفوس التي سمعت ولم تقبل كان صلى الله عليه وسلم يهيئها للقبول بشيء مما تحبه النفوس كالعطاء أو غيره، يدل على ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح، ثم خرج بمن معه من المسلمين فاقتتلوا
(1) ابن حجر، فتح الباري 1 / 220.
(2)
انظر: ابن حجر، فتح الباري 1 / 220.
(3)
الكهر: الانتهار وقد كهره يكهره إذا زبره واستقبله بوجه عبوس. ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث 4 / 212.
(4)
مسلم، صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة (ك5 ح 537) 1 / 381.
(5)
مسلم، شرح صحيح مسلم 5 / 20.
بحنين، فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة، قال صفوان:«والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ فما زال يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليّ» (1) .
فصفوان رضي الله عنه ممن سمع كثيرا ولم يقبل، ولكن حينما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم هذا العطاء كان سببا في قبوله وتغير مشاعره نحو الرسول صلى الله عليه وسلم ونحو الإسلام، يدل على ذلك قول أنس رضي الله عنه:«إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها» (2) .
(1) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال لا، وكثرة عطائه (ك5 ح537) 1 / 381.
(2)
مسلم، المرجع السابق (ك 43 ح 2412) 4 / 1806.