المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2- أهمية علم العلل وصعوبته: - قواعد العلل وقرائن الترجيح

[عادل الزرقي]

فهرس الكتاب

- ‌(مقدمة وتعريف)

- ‌1- تَعْرِيفُ العِلَّةِ:

- ‌2- أهمية علم العلل وصعوبته:

- ‌3- أقسام الحديث المعل:

- ‌4 - المؤلفات في العلل:

- ‌5 - طرق معرفة علة الحديث:

- ‌6 - طرق معرفة علة الحديث:الأمر الثاني:

- ‌7 - من مهمات علم العلل:

- ‌8 - قرائن التَّرجيح والموازنة بين الرِّوايات المختلِفة:

- ‌أ- قرائن أغلبية

- ‌1. العدد:

- ‌2. الحفظ:

- ‌3. الاختصاص:

- ‌4. سلوك الجادة:

- ‌5. غرابة السند واتفاق البلدان:

- ‌6. اتفاق البلدان:

- ‌ب - قرائن خاصة

- ‌1) رواية الراوي عن أهل بيته:

- ‌2) الرواية بالمعنى:

- ‌3) اختلاف المجلس:

- ‌4) سعة رواية المختلف عليه:

- ‌5) شذوذ السند:

- ‌6) فقدان الحديث من كتب الراوي:

- ‌7) مخالفة الراوي لما روى:

- ‌8) وجود تفصيل أو قصة في السند أو المتن:

- ‌9) التفرد:

- ‌10) غرابة المتن:

- ‌11) اختلاف ألفاظ الروايتين:

- ‌12) اضطراب إحدى الروايتين:

- ‌13) وجود أصل للرواية:

- ‌14) وجود رواية تجمع الوجهين المختلفين:

- ‌15) تصحيح الحفاظ لإحدى الروايات:

- ‌16) تشابه الاسمين:

- ‌17) رواية أهل المدينة:

- ‌18) احتمال التدليس ممن وصف به:

- ‌19) التصريح بالسماع:

- ‌تعارض القرائن:

- ‌عِلَلُ أَلْفَاظِ حَدِيثِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه في المَسْحِ

- ‌أما بعد:

- ‌ ترجمة موجزة لراوي الحديث:

- ‌ بيان لتلك الألفاظ، وطرقها وتخريجها وبيان عللها

الفصل: ‌2- أهمية علم العلل وصعوبته:

‌2- أهمية علم العلل وصعوبته:

يعتبر علم العلل من أجلِّ أنواع علوم الحديث (1) ، وأدقِّها وأشرفها. وإنَّما يضطَّلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثَّاقب (2) .

قال ابن حجر عن هذا العلم: «هو من أغمض أنواع علوم الحديث، وأدقِّها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله فهما ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفة بمراتب الرُّواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون. ولذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشَّأن كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة الرَّازيَّين والدَّارقطني» ، قال:«وقد تقصر عبارة المعلِّلِ عن إقامة الحجَّة على دعواه، كالصَّيرفيِّ في نقد الدِّينار والدِّرهم» (3) .

قال ابن المديني: «لأنْ أعرف علة حديث هو عندي أحب إليَّ من أن أكتب عشرين حديثاً ليس عندي» (4) .

وقال ابن مهدي: «لأَنْ أعرفَ علةَ حديثٍ واحدٍ أحبُّ إليَّ من أن أستفيد عشرة أحاديث» (5) .

وقال الحاكم: «هو عِلْمٌ برأسه غير الصَّحيح والسَّقيم، والجرح والتَّعديل» .

(1) قاله الخطيب في الجامع (2/450) .

(2)

علوم الحديث لابن الصلاح (ص 116) .

(3)

نزهة النظر لابن حجر (ص 89) ، وقوله بقصور العبارة أمر نسبي نادر، والنص كرره في النكت (2/711) بنحوه.

(4)

العلل لابن أَبي حاتم (1/10) .

(5)

المعرفة للحاكم (ص112) والجامع للخطيب (2/452) والسير (9/206) وشرح العلل (1/199) .

ص: 13

وقال أيضاً: «معرفة علل الحديث من أجلِّ هذه العلوم» (1) .

ولأهمية هذا العلم كان بعض المحدِّثين يعقدون مجالس خاصة به.

قال ابن عبد الحكم: «ما رأينا مثل الشَّافعي كان أصحاب الحديث ونقَّاده يجيئون إليه فيعرضون عليه فربما أعلَّ نقد النُّقاد منهم ويوقفهم على غوامض من علل الحديث لم يقفوا عليها فيقومون وهم يتعجَّبون منه» (2) .

وقال الخطيب: «أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصَّرف ونقد الدِّنانير والدِّراهم، فإنه لا يعرف جودة الدِّينار والدِّراهم بلون ولا مسٍّ ولا طراوة ولا دنس ولا نقش ولا صفة تعود إلى صغر أو كبر ولا إلى ضيق أو سعة، وإنَّما يعرفه النَّاقد عند المعاينة، فيعرف البَهْرَجَ الزَّائِفَ والخالص والمغشوش، وكذلك تمييز الحديث، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب بعد طول الممارسة له والاعتناء به» (3) .

واقترن بهذه الأهمية صعوبات كثيرة لا يكاد يدركها إلا الحافظ ومن خاض غمار هذا الأمر وعاناه.

قال ابن المديني: «أخذ عبد الرحمن بن مهدي على رجل من أهل البصرة - لا أسميه - حديثاً، قال فغضب له جماعة، قال: فأتوه، فقالوا: يا أبا سعيد من أين قلت هذا في صاحبنا؟ قال فغضب عبد الرحمن بن مهدي وقال: أرأيت لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي فقال: انتقد

(1) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص112و119) .

(2)

تاريخ دمشق (51/335) ، والنص يحتمل أن المراد بالعلة فيه الفقهية ونحوها.

(3)

الجامع (2/382) .

ص: 14

لي هذا. فقال: هو بهرج. يقول له: من أين قلت لي: إنه بهرج؟ الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم» (1) .

قال ابن نمير: قال عبد الرحمن بن مهدي: «معرفة الحديث إلهام. لو قلت للعالم يعلِّل الحديث من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة» ، قال ابن نمير:«وصدق، لو قلت له من أين قلت؟ لم يكن له جواب» (2) .

وعقَّب السخاوي على قول ابن مهدي الأخير: «يعني يعبر بها غالباً، وإلا ففي نفسه حجج للقبول والرفض» (3) .

وقال ابن مهدي أيضاً: «إنكارنا للحديث عند الجهَّال كهانة» (4) .

وقال ابن نمير: «معرفة الحديث بمنزلة الذهب، إنما يبصره أهله، وليس للبصير فيه حجة

» (5) .

ومما يدلُّ على قولِ ابنِ مهدي ما حكاه أبو زرعة الرَّازي، وسأله رجل:«ما الحجَّة في تعليلكم الحديث» ؟ قال: «الحجَّة أن تسألني عن حديث له علَّة، فأذكر علته. ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميِّز كلام كلٍ مِنَّا على ذلك الحديث، فإن وجدَّت بيننا خلافاً في علته، فاعلم أنَّ كلاً مِنَّا تكلَّم على مراده، وإن وجدَّت الكلمة متَّفقة فاعلم حقيقة هذا العلم» . قال: ففعل

(1) الجامع للخطيب (2/383) .

(2)

العلل لابن أَبي حاتم (1/10) والجامع للخطيب (2/383) .

(3)

فتح المغيث (1/236) .

(4)

المصدران السابقان، وعني بالجهال من لا علم لهم بالعلل.

(5)

الجامع للخطيث (2/384) .

ص: 15

الرجل فاتفقت كلماتهم. فقال: «أشهد أن هذا العلم إلهام» (1) .

وقال نعيم بن حماد لابن مهدي: «كيف تعرف صحيح الحديث من سقيمه؟ قال: كما يعرف الطبيبُ المجنونَ» (2) .

وقال الحاكم: «إن الصَّحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنَّما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السَّماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة، ليظهر ما يخفى من علة الحديث، فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصَّحيحة غير المخرَّجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم، لزم صاحب الحديث التَّنقير عن علته، ومذاكرة أهل المعرفة لتظهر علته» (3) .

وقال ابن رجب عن الحفَّاظ: «فإنَّ هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث مختصون بمعرفته كما يختصُّ البصير الحاذق بمعرفة النُّقود، جيِّدها ورديئها ومشوبها

، وكلٌّ من هؤلاء لا يمكن أن يعبِّر عن سبب معرفته، ولا يقيم عليه دليلاً لغيره» ، قال: «وبكل حال، فالجهابذة النُّقاد والعارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جداً

» (4) .

وقوله: «لا يقيم عليه دليلاً لغيره» ، أراد به الدَّليل القطعي اليقيني على ما ذكر من وَهْمٍ أو خطأ للراوي. أما الدليل بالقرائن والخبرة فهذا ما لا

(1) المعرفة للحاكم (ص113) والجامع للخطيب (2/384)، وقد عبر السخاوي عن ذلك بتعبير آخر فقال:«أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم ردُّه، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها» - فتح المغيث (1/274) ، وفي عبارته شيء، فلو عبر بما عبر السلف لكان أولى وأدق.

(2)

الجرح (1/252) والمجروحين (1/32) .

(3)

المعرفة للحاكم (ص59-60) .

(4)

جامع العلوم (27) .

ص: 16

يُنفى علمهم به.

وقال ابن قيِّم الجوزية: «وربَّما يظنُّ الغالط الذي ليس له ذَوق القوم ونقدهم أَنَّ هذا تناقضٌ منهم، فإنهم يحتجُّون بالرَّجل ويوثقونه في موضع، ثم يضعِّفونه بعينه ولا يحتجُّون به في موضع آخر. ويقولون: إن كان ثقة وجب قبول روايته جملة، وإن لم يكن ثقة وجب ترك الاحتجاج به جملة. وهذه طريقة فاسدة مُجمعٌ بين أهل الحديث على فسادها، فإنهم يحتجُّون من حديث الرجل بما تابعه غيره عليه وقامت شهوده من طرقٍ ومتونٍ أخرى، ويتركون حديثه بعينه إذا روى ما يخالف النَّاس أو انفرد عنهم بما لا يتابعونه عليه. إذِ الغلط في موضع لا يوجب الغلط في كل موضعٍ والإصابة في بعض الحديث أو في غالبه لا توجب العصمة من الخطأ في بعضه ولا سيَّما إذا عُلم من مثل هذا أغلاطٌ عديدةٌ ثم روى ما يخالف النَّاس ولا يتابعونه عليه فإنَّه يغلب على الظن أو يجزم بغلطه.

وهنا يعرِض - لمن قَصُرَ نقدُهُ وذَوقه عن نقد الأئمَّة وذوقهم في هذا الشَّأن - نوعان من الغلط ننبِّه عليهما لعظيم فائدة الاحتراز منهما:

1.

أحدهما: - أن يرى مثل هذا الرَّجل قد وثق وشهد له بالصدق والعدالة أو خرج حديثه في الصَّحيح فيجعل كلَّ ما رواه على شرط الصَّحيح، وهذا غلط ظاهر فإنه إنَّما يكون على شرط الصَّحيح إذا انتفت عنه العلل والشُّذوذ والنَّكارة وتوبع عليه فأما مع وجود ذلك أو بعضه فإنه لا يكون صحيحاً ولا على شرط الصَّحيح. ومن تأمَّل كلام البخاري ونظرائه في تعليله أحاديث جماعة أخرج حديثهم في صحيحه، علم إمامته وموقعه من هذا الشأن وتبيَّن به حقيقة ما ذكرنا.

2.

النوع الثاني من الغلط: - أن يرى الرَّجل قد تكلِّم في بعض حديثه

ص: 17

وَضُعِّفَ في شيخ أو في حديث فيجعل ذلك سبباً لتعليل حديثه وتضعيفه أين وجد كما يفعله بعض المتأخِّرين من أهل الظَّاهر وغيرهم وهذا أَيضاً غلط. فإن تضعيفَه في رجل أو في حديث ظهر فيه غلطُه لا يوجب التَّضعيف لحديثه مطلقاً. وأئمَّة الحديث على التَّفصيل والنَّقد واعتبار حديث الرَّجل بغيره، والفرق بين ما انفرد به أو وافق فيه الثِّقات. وهذه كلمات نافعة في هذا الموضع، تبيِّن كيف يكون نقد الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه ومعلوله من سليمه (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورَاً فَمَا لَهُ من نُورٍ) » (1) .

والنَّص التالي عن أبي حاتم الرَّازي - على طوله - يبيِّن أهمية هذا العلم وصعوبته، بل وغرابته أَيضاً على عموم النَّاس، حيث قال: «جاءني رجل من جلِّة أصحاب الرَّأي من أهل الفهم منهم، ومعه دفتر فعرضه عليَّ، فقلت في بعضها: هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح، فقال: من أين علمت أَنَّ هذا خطأ وأَنَّ هذا باطل وأَنَّ هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأنَّي غلطت وأنَّي كذبت في حديث كذا؟ فقلت: لا! ما أدري هذا الجزء من رواية مَن هو؟ غير أني أعلم أَنَّ هذا خطأ، وأَنَّ هذا الحديث باطل، وأَنَّ هذا الحديث كذب فقال: تدَّعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادِّعاء الغيب، قال: فما الدَّليل على ما تقول؟ قلت: سلْ عمَّا قلتُ مَنْ يحسن مثلَ ما أحسنُ فإن اتفقنا علمت أنَّا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم. قال: من هو الذي يحسن مثلَ ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة. قال: ويقول أبو زرعة مثلَ ما قلتَ؟ قلت: نعم. قال: هذا

(1) الفروسية (ص44-45) ، وفي النسخة أغلاط كثيرة أصلحت من طبعة أخرى.

ص: 18

عجبٌ! فأخذ فكتب في كاغدٍ (1) ألفاظي في تلك الأحاديث ثم رجع إليَّ وقد كتب ألفاظ ما تكلَّم به أبا زرعة في تلك الأحاديث. فما قلت: إنه باطل، قال أبو زرعة: هو كذب. قلت: الكذب والباطل واحد، وما قلت: إنه كذب قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت: إنه منكر قال: هو منكر، كما قلت، وما قلت: إنه صحاح قال أبو زرعة: هو صحاح فقال: ما أعجب هذا! تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما. فقلت: فقد دلَّك، أنَّا لم نجازف، وإنَّما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدَّليل على صحة ما نقوله، بأنَّ ديناراً نَبَهْرَجاً (2)

يحمل إلى النَّاقد فيقول: هذا دينار نَبَهْرَج، ويقول لدينار: هو جيد فان قيل له: من أين قلت أَنَّ هذا نبهرج! هل كنت حاضراً حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا فان قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار قال: لا، قيل: فمن أين قلت: أَنَّ هذا نَبَهْرَج؟ قال: علماً رزقت. وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك. قلت له: فتحمل فصَّ ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين فيقول: هذا زجاج ويقول لمثله: هذا ياقوت، فان قيل له: من أين علمت أَنَّ هذا زجاج وأَنَّ هذا ياقوت هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج؟ قال: لا قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجاً؟ قال: لا، قال: فمن أين علمت؟ قال: هذا علم رُزقت. وكذلك نحن رُزقنا علماً لا يتهيَّأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأَنَّ هذا الحديث كذب وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه» اهـ.

قال ابن أبي حاتم عَقِبَ ذلك: «تعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره فإن تخلف عنه في الحمرة والصَّفاء علم أنه مغشوش ويعلم جنس الجوهر بالقياس

ص: 19

إلى غيره فان خالفه بالماء والصَّلابة علم أنه زجاج ويقاس صحة الحديث:

أ- بعدالة ناقليه.

ب- وأن يكون كلاماً يصلح (1) أن يكون من كلام النُّبوة.

ويعلم سقمه وإنكاره بتفرُّد مَن لم تصحَّ عدالته بروايته، والله أعلم» (2) .

فأشار رحمه الله إلى قرائن معرفة ذلك بالقياس على رواية بقية الرواة، والقياس لا يحسنه كل أحد، ولا يصبر عليه السِّنين إلا القليل.

وقال العلائي: «التَّعليل أمر خفي، لا يقوم به إلا نقاد أئمة الحديث دون من لا اطلاع له على طرقه وخفاياه» (3) .

ومما سبق يتبيَّن أَنَّ هذا العلم شاقٌّ وأنَّ معرفة علة الحديث قد لا تظهر إلا بعد سنين.

قال الخطيب: «فمن الأحاديث ما تخفى علته، فلا توقف عليها إلا بعد النَّظر الشَّديد، ومضي الزَّمن البعيد» ، ثم أسند عن ابن المديني قوله:«ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة» (4) .

وقال ابن أبي حاتم عن أبيه في حديث ذكره: «ولم أزل أفتِّش عن هذا الحديث، وهمَّني جدَّاً حتى رأيته في موضع

» (5) .

(1) هذا القيد مهم جداً في تصحيح الأحاديث التي أسانيدها قوية في الظاهر، وقد غفل عنه كثير من المعاصرين.

(2)

الجرح (1/349-351) .

(3)

النكت لابن حجر (2/782) .

(4)

الجامع للخطيب (2/385) .

(5)

العلل لابن أَبي حاتم (2/270) .

ص: 20

وقال أيضاً: «قلت لأبي زرعة: أيهما عندَك أشبه؟ قال: الله أعلم. ثم تفكَّر ساعةً، فقال: حديث الدَّراوردي أشبه

» (1) .

ولربما رجَّح العالم ما خفي على من هو أعلم منه بالحديث أو ما خالفه هو بعد زمن، كما حصل لأبي حاتم الرَّازي، حيث سأله ابنه عن حديث اختلف فيه، هل هو عن ابن مسعود رضي الله عنه أو عن جابر رضي الله عنه قال: «قلت لأبي أيهما أصحُّ؟ قال: عبد الله أصحُّ

ثم قال ابن أبي حاتم: سألت أبي مرةً أخرى عن هذا الحديث فقال: يحيى القطَّان ومعتمر وغيرهما يقولون عن التَّيمي عن أبي نضرة عن جابر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو أشبه بالصَّواب» (2) .

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه احمد بن حنبل وفضل الأعرج عن هشام بن سعيد أبي أحمد الطَّالقاني عن محمد بن مهاجر عن عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمى وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سموا أولادكم أسماء الأنبياء وأحسن الأسماء عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة وارتبطوا الخيل وامسحوا على نواصيها وقلدوها ولا تقلدوها الأوثان) . قال أبي: سمعت هذا الحديث من فضل الأعرج وفاتني من أحمد، وأنكرته في نفسي وكان يقع في قلبي أنه أبو وهب الكلاعي صاحب مكحول، وكان أصحابنا يستغربون فلا يمكنني أن أقول شيئاً لما رواه أحمد، ثم قدمت حمص فإذا قد حدثنا ابن المصفى عن أبي المغيرة قال حدثني محمد بن مهاجر قال حدثني عقيل بن سعيد عن أبي وهب الكلاعي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم

(1) العلل لابن أَبي حاتم (2/266) .

(2)

العلل لابن أَبي حاتم (2/416) .

ص: 21

قال أبي: فعلمت أن ذلك باطل وعلمت أن إنكاري كان صحيحاً وأبو وهب الكلاعى هو صاحب مكحول الذي يروى عن مكحول واسمه عبيد الله بن عبيد وهو دون التابعين يروى عن التابعين وضربه مثل الأوزاعي ونحوه فبقيت متعجباً من أحمد بن حنبل كيف خَفِيَ عليه فإني أنكرته حين سمعت به قبل أن أقف عليه» (1) .

وهذا الحافظ ابن حجر على سعة علمه بالعلل وطرق التَّرجيح فيه يقول في حديث: «وقد رجَّح البخاري أنه عن جابر، وخالفه أبو مسعود والبيهقي فرجَّحا أنه عن أبي هريرة، ولم يظهر لي في ذلك ترجيح، والله أعلم» (2) .

وكان هذا العلم ذا أهمية وصعوبة لعدَّة أمور منها:

1-

أنه يتعلق بكلام رسول صلى الله عليه وسلم، «والثقة إذا حدَّث بالخطأ، فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ، يعمل به على الدَّوام للوثوق بنقله، فيكون سبباً للعمل بما لم يقله الشرع» (3) .

2-

ظهور صحة الحديث بالنَّظر إلى ظاهر السَّند والمتن، وفي هذه الحالة يبعد لدى النَّاظر احتمال وجود علة خفية، ويكثر وقوعه ممن أكثر من الحكم على الأحاديث من المتأخِّرين كالسّيوطي ومن سار على نهجه في التَّصحيح بظواهر الأسانيد فحسب، أو بتتبع الشَّواهد دون تمحيصها وتتبع عللها الخفيَّة، أو أهمل إعلال الأئمَّة لها اتكالاً على قوة الطُّرق عنده وكثرة الشَّواهد.

(1) العلل لابن أبي حاتم (2/312) .

(2)

الفتح (2/611) .

(3)

الفتح (1/265) حديث (107) .

ص: 22

3-

اختلال العمل بمنهج المحدثين قرناً بعد قرن، باعتماد كثير من المتأخِّرين على ظواهر الأسانيد من حيث لا يشعرون، ودخول علم المنطق في علوم الحديث من خلال كتب المصطلح المتأخِّرة خاصَّة، فأهمية إبراز علة الحديث تزداد بقدر ذلك الاعتماد المشار إليه.

4-

تفرُّق كثير من الأحاديث المعلَّة في بطون عشرات الكتب، ولا شكَّ أن التَّنقير عن ذلك واستخراجه من الصُّعوبة بمكان.

وهذا العلم قد قلَّ من يفهمه ويُعنى به في العصور السَّابقة، فكيف بهذا الزمن قال أبو حاتم: «جرى بيني وبين أبي زرعة يوماً تمييز الحديث ومعرفته، فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها، وكذلك كنت أذكر أحاديث خطأ وعللها وخطأ الشيوخ، فقال لي: يا أبا حاتم قلَّ من يفهم هذا، ما أعزَّ هذا. إذا رفعت هذا من واحد واثنين فما أقلَّ أن تجد من يحسن هذا

» (1) .

وقال ابن حجر: «لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم» (2) .

ولا يفهم من النصوص السابقة في صعوبة علم العلل وغرابته أنه لا قيام لشأنه بعد رحيل أهله الأوائل. فإن أصوله وقواعده باقية وطرائق أصحابه متداولة، تعتمد على الفهم والذكاء والخبرة وطول الممارسة ودقة التنقير.

وقد تصعب العلة وتدق، بحيث لا يقدر على حل رمزها وكشف

(1) الجرح (1/356) .

(2)

النكت (2/711) .

ص: 23

غامضها إلا القليل من أهل هذا العلم.

وليتنبه إلى أن أهمية علم العلل لا يعني نشر هذا العلم بين العامة، لعدم فهمهم حقيقته، ولاحتمال ورود الشك عندهم في الحديث وأصوله.

قال أبو داود: «ضررٌ على العامة أن يكشف لهم كلُّ ما في هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث، لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا» (1) .

* * *

(1) رسالة أبي داود لأهل مكة (ص30) .

ص: 24