الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد قال حمَّاد مرة: عن عمرو بن عطيَّة، قال عبد الرحمن: فقلت: رحمك الله يا أبا عبد الله. كنت إذا حفظت الشَّيء لا تبالي من خالفك» (1) .
وقال أيوب السَّختياني: «إذا أردت أن تعرف خطأ معلمك فجالس غيره» (2) .
وبما ذُكر ظهرَ علم الجرح والتَّعديل وعلم العلل.
قال أبو زرعة: «نظرت في نحو من ثمانين ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر، وفي غير مصر، ما أعلم أني رأيت له حديثاً لا أصل له» (3) .
ومن رام - في هذا الزمن - جمعَ عُشْرِ ما ذكر أبو زرعة لما استطاع.
فبرواية الغير تظهر علة الحديث غالباً كما قال أبو حاتم الرازي في حديث: «وروى أبو معاوية الضَّرير عن هشام بن عروة فأظهر علة هذا الحديث» (4) .
* * *
6 - طرق معرفة علة الحديث:
الأمر الثاني:
- وهو تحديد المدار الذي حصل عليه الخلاف، فيكون بالنَّظر في الرَّاوي المشترك بين الطُّرق، ومعرفة الوجه الإسنادي الذي يأتي بعد ذكر اسمه، وتحديد الرُّواة الذين اختلفوا عليه في كل إسناد وضمِّ كل راوٍ إلى الرَّاوي الذي وافقه في روايته عن ذلك الشَّيخ نفسه، لذلك الوجه الإسنادي، وتكرار ذلك حتى تتمَّ معرفة الأوجه التي اختلف فيها على ذلك
(1) تاريخ بغداد (9/168) .
(2)
سنن الدارمي (649) ، وهذا النص يصلح قاعدة لكل العلوم.
(3)
الجرح والتعديل لابن أَبي حاتم (1/335) ، كذا ذكر أبو زرعة، بينما قال أحمد في رواية المروذي (456) :«إيش كان عنده من الحديث» ، ولعله يعني به المرفوع.
(4)
المراسيل (ص118) .
الشَّيخ ومعرفة عددها، والتَّنبُّه إلى احتمال وجود خلاف على التَّلاميذ أيضاً، واستبعاد ما قد يظنُّ أنه اختلاف وهو خلاف ذلك، كما لو ذكر أحد الرُّواة الاسم، والآخر ذكر كنيته، فيظنُّ من لا يعرفه التَّعدد.
ومن شواهد هذا الأمر في طلب تحديد المدار قول أبي حاتم في حديثٍ رواه الحُميديُّ عن ابن عيينة: «هذا عندي من ابن عيينة، وابن الطَّبَّاع ثبت، فقال ابنه عبد الرحمن: قلت أنا: حدثنا ابن المقريء عن ابن عيينة كما رواه الحُميديُّ، وحدثنا سعد بن محمد البيروتي قال: حدثنا حامد بن يحيى عن ابن عيينة كما رواه الحُميديُّ. فدلَّ - لاتفاق هؤلاء الثلاثة - أنَّ الخطأ من ابن الطَّبَّاع» (1) .
الأمر الثالث: - الموازنة بين هذه الطُّرق بالفهم والمعرفة، وتطبيق قواعد وطرائق المحدِّثين السَّابقين في التَّرجيح بين الرِّوايات المختلفة، وتنزيل كلامهم في الجزئيات على تلك الرِّوايات، حيث إنَّ كلامهم في تلك الجزئيات بمجموعه يدلُّ على قواعد منهجية ساروا عليها دون خلاف أو اختلاف منهم لها من حيث الأصل، ولا يعني ذلك أنَّ بعض الحفاظ قد لا يخالف إحدى القواعد في حديث ما، فإذا خالف رجعنا إلى الأصل الذي أُخذ من خلال التَّطبيقات المتكرِّرة المتعدِّدة من ذلك الحافظ وبقية الحفاظ الآخرين. ومعرفة هذه القواعد والضوابط والإحاطة بمراتب الرُّواة في شيوخهم ليس بالأمر اليسير.
فإنَّ «حذَّاق النُّقاد من الحفَّاظ لكثرة ممارستهم للحديث - ومعرفة بالرِّجال وأحاديث كل واحد منهم - لهم فهمٌ خاص يفهمون به أَنَّ هذا
(1) العلل لابن أَبي حاتم (1/215) .
الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعلِّلون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنَّما يرجع فيه أهله إلى مجرد الفهم والمعرفة التي اختصوا بها عن سائر أهل العلم» (1) .
واللهُ عز وجل قد خصَّ بمعرفة هذا العلم «نفراً يسيراً من كثيرٍ ممن يدَّعي علم الحديث، فأما سائر النَّاس ممن يدَّعي كلام الحارث المحاسبي (2) والجنيد (3) وذي النُّون (4) وأهل الخواطر، فليس لهم أن يتكلموا في شيء من علم الحديث إلا من أخذه عن أهله وأهل المعرفة به، فحينئذٍ يتكلَّم بمعرفته» (5) .
فإذا ظهر لنا صحة حديث بعد النَّظر في إسناده وطرقه، ووجدنا أن جماعةً من حفَّاظ الحديث على تضعيفه أو تعليله بعلة، بدون خلاف معتبر بينهم، فإنَّه من المتحتِّم علينا الأخذ بقولهم وترك ما عداه، حيث إنَّ «اتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة» (6) .
قال ابن حجر: «فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمَّة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا
(1) شرح العلل لابن رجب (2/757-758) .
(2)
هو أبو عبد اللهِ الحارث بن أسد البغدادي شيخ زاهد، مات سنة 243هـ - السير (12/110) .
(3)
هو الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي البغدادي القواريري، إمام زاهد، تفقه على أبي ثور، ومات سنة 298هـ - السير (14/66) .
(4)
هو ثوبان بن إبراهيم، وقيل فيض بن أحمد النوري أبو الفيض، روى عن مالك والليث، وروى عنه الجنبد، مات سنة 245هـ - السير (11/532) .
(5)
شرح العلل لابن رجب (1/34) .
(6)
قاله أَبُو حاتم فيما نقله عنه ابنه في المراسيل (307) .
صحَّحه
…
، وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلَّل
…
، وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك، والتسليم لهم فيه» (1) .
قال ابن تيمية: «وقد يترك- أي البخاريَّ أو مسلماً - من حديث الثِّقة ما علم أنه أخطأ فيه، فيظنُّ من لا خبرة له أنَّ كلَّ ما رواه ذلك الشَّخص يحتجُّ به أصحاب الصَّحيح، وليس الأمر كذلك. فإن معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمَّة الفن
…
» (3) .
وقال أيضاً: «
…
فإنهم أيضاً يضعِّفون من حديث الثِّقَة الصَّدوق الضَّابط أشياء تبيَّن لهم أنه غلط فيها بأمور يستدلُّون بها، ويسمُّون هذا "علم العلل"، وهو أشرف علومهم، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط، وغلط فيه، وغلطه قد عُرِفَ» (4) .
(1) النكت لابن حجر (2/711) .
(2)
فتح المغيث للسخاوي (1/274) ، وقوله بالتقليد، أراد به المحمود منه وهو الاقتداء!
(3)
مجموع الفتاوى (18/42) .
(4)
مجموع الفتاوى (13/352-353) .
وقال ابن القيِّم عند حديث عن مطر الورَّاق: «ولا عيب على مسلمٍ في إخراج حديثه، لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضَّرب ما يعلم أنه حفظه (1) ، كما يطَّرح من أحاديث الثِّقة ما يعلم أنه غلط فيه، فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثِّقة، ومن ضعَّف جميع حديث سيِّء الحفظ. فالأولى طريقة الحاكم وأمثاله، والثانية طريقة أبي محمد ابن حزمٍ وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشَّأن، والله المستعان» (2) .
وتقوم قواعد المحدِّثين في التعليل والتَّرجيح على قاعدة عامة مهمة تجمع علوم الحديث كلَّها، وهي:«إعمال القرائن للجمع أو الترجيح» .
وهذه القاعدة قد نَصَّ على فحواها جماعةٌ من علماء الحديث والمصطلح.
قال ابن الصَّلاح عن العلل: «ويستعان على إدراكها بتفرُّد الرَّاوي، وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضمُّ إلى ذلك تنبِّه العارف بهذا الشَّأن
…
» (3) .
وبنحوه قال العراقيُّ (4) .
فظهر من كلامهما أن العلَّة تدرك بثلاثة أمور هي:
1.
التَّفرد، وهو أمر غالبي، فكم من حديث معل رواه اثنان أو ثلاثة، وقد لا يكون فيه مخالفة، فهو أخص من المخالفة من وجه.
(1) يعضده قول الإمام أحمد في حسين بن قيس: «متروك الحديث، وله حديث واحد حسن» - الكامل لابن عدي (3/218) .
(2)
زاد المعاد (1/364) .
(3)
مقدمة ابن الصلاح (ص116-التقييد والإيضاح) .
(4)
التبصرة والتذكرة للعراقي (1/226) .
2.
المخالفة، وهو أخص من التفرد من وجه، فقد يتفرد راوٍ بحديث يعله الحفاظ، ولا يخالف في إسناده أحدٌ، فبينهما عموم وخصوص وجهي.
3.
القرائن.
وقال العلائي عند كلامه عن الاختلاف: «فإن استوى مع استواء أوصافهم وجب التَّوقف حتى يترجَّح أحد الفريقين بقرينة من القرائن، فمتى اعتضدت إحدى الطَّريقين بشيء من وجوه التَّرجيح حكم بها، ووجوه التَّرجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها، بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كلُّ حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن، الذي أكثر من الطرق والروايات» (1) .
وقال ابن عبد الهادي عند ذكر زيادة الثِّقات: «
…
وتقبل في موضع آخر لقرائن تخصُّها، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم» (2) .
فَفُهِم مما قال الفرقُ بين الحكم العام والقاعدة الكلية.
(1) النكت لابن حجر (2/712) وتوضيح الأفكار (2/38) ، وسيأتي ضابط هذه الأوجه - من حيث علم العلل - (ص 36) .
(2)
نصب الراية (1/336) .
(3)
نزهة النظر (ص89) بتصرف.
وقال أيضاً: «والذي يجري على قواعد المحدِّثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والردِّ، بل يرجِّحون بالقرائن» (1) .
أما قول ابن دقيق العيد عن قبول الزِّيادة: «ذلك ليس قانوناً مطرداً، وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول» (3) ، فلا يفهم منه خلاف ما سبق. لأنه نفى الحكم المطرد (العام)، وهو ما عبر عنه بقوله:«قانوناً» .
ويوضحه قول البقاعي: «لا يحكمون فيها بحكم مطرد، وإنَّما يديرون ذلك على القرائن» (4) .
وخلاصة ما سبق نقله، أنَّ الحكم في علل الحديث ليس قولاً واحداً مطرداً في كلِّ حديث، بل كلُّ حديث له حكم خاص به، يعرف ذلك من قواعد عامة كلية استقرائية، مجموعة من كلام الحفَّاظ، من خلال أحكامهم على الجزئيات، بتلمس الأسباب التي دعتهم إلى ترجيح رواية على أخرى مع سلامة المرجوح ابتداءً.
قال العلائي: «التعليل أمر خفي، لا يقوم به إلا نقاد أئمَّة الحديث
(1) النكت لابن حجر (2/687) .
(2)
النكت لابن حجر (2/607) .
(3)
النكت لابن حجر (2/604) .
(4)
توضيح الأفكار (1/340) .