المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ نفي تمسك الخليل بعلم النجوم - كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام

[سليمان بن سحمان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌فصل: مبدأ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌فصل: شيء من سيرة الشيخ رحمة الله

- ‌فصل: مناظرة مع علماء مكة

- ‌فصل: ترجمة الشيخ محمد رحمة الله

- ‌رسالة من الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في قبوله الدعوه السلفية

- ‌بعض مفتريات أعداء الدعوة

- ‌ التجسيم وبراءة السلفية منه

- ‌ التقليد والاجتهاد

- ‌ حقيقة الفرقة الناجية

- ‌تحذير الأئمة لاربعة من تقليدهم

- ‌ الناس بالنسبة إلى الهدى ثلاث طبقات

- ‌ التوسل وزيارة القبور

- ‌ مشركوا هذا الزمان كمشركي العرب الاقدمين

- ‌ إتخاذ القبور مساجد

- ‌ نفي تمسك الخليل بعلم النجوم

- ‌الاحاديث الموضوعة في زيارة قفبر النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌دحض فرية القول باجماع المسلمين على جواز شد الرحال للقبور

- ‌ الشيخ ابن تيمية لم يحرم زيارة القبور مطلقا

- ‌ التوسل والاستشفاع

- ‌ أحاديث ضعيفة أوردها المعترض وبيان بطلانها

- ‌بطلان جواز التوسل من الناحية العقلية

- ‌ الصلاة على النبي صلى الله علية وسلم وحكمها

- ‌ احمد بن زيني دحلان من أئمة الضلال

- ‌مسائل هامة

- ‌مدخل

- ‌ الكفر الذي يخرج من الملة

- ‌ حكم التحاكم إلى الطاغوت

- ‌ الحب والبغض

- ‌ الهجر المشروع وغير المشروع

- ‌ اتخاذ بعض الطبقات البسة خاصة تميزهم عن غيرهم

- ‌ ابن تيمية لم يقل بفضل العامة

- ‌ المعترض نقل من مجموع المنقور ماله وترك ماعليه

- ‌ سنية التحنيك وذؤابة

- ‌باب فهارس

الفصل: ‌ نفي تمسك الخليل بعلم النجوم

وعكفوا عند قبورهم وذبحوا لهم الذبائح وقربوا لهم القرابين ودعوهم والتجأوا إليهم واستغاثوا بهم في المهمات والملمات لكشف الكربات وإغاثة اللهفات وطلبوا منهم قضاء الحاجات إلى غير ذلك من أنواع العبادات التي صرفها المشركون لغير فاطر الأرض والسماوات فهذا هو حقيقة ما ذكره شيخ الإسلام في "الجواب الصحيح في الرد على عباد المسيح" من المشابهة فإذا تحققت ذلك وعرفته فتذكر لك أنموذجاً من معتقد عباد القبور والصالحين وحقيقة ما هم عليه من الدين ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن، وإن كان الواقف ممن اختصه الله بالفضل والمن، لئلا يلتبس الأمر عليه بتسميتهم لكفرهم ومحالهم تشفعاً وتوسلاً ونذكر قبل ذلك ما ذكره شمس الدين ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" مما شابهت فيه زنادقة هذه الأمة من قبلها من عباد الكواكب والشمس والقمر وأنهم ساروا على آثارهم واقتفوا مناهجهم كما أخبر به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، قال -رحمه الله تعالى-:

ص: 224

فصل:‌

‌ نفي تمسك الخليل بعلم النجوم

وأما ما ذكره عن إبراهيم خليل الرحمن أنه تمسك بعلم النجوم حين قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} فمن الكذب والافتراء على خليل الرحمن –صلى الله عليه وسلم فإنه ليس في الآية أكثر من أنه نظر نظرة في النجو ثم قال لهم إني سقيم فمن ظن من هذا أن علم أحكام النجوم من علم الأنبياء وأنهم كانوا يراعونه ويعانونه فقد كذب على الأنبياء ونسبهم إلى ما لا يليق وهو من جنس من نسبهم إلى الكهانة والسحر وزعم أن تلقيهم الغيب من جنس تلقي غيرهم وإن كان فوقهم في ذلك لكمال نفوسهم وقوة استعدادها وقبولها لفيض العلويات عليها وهؤلاء لم يعرفوا الأنبياء

ص: 224

ولا آمنوا بهم وإنما هم عندهم بمنزلة أصحاب الرياضات الذين خصوا بقوة الإدراك وزكاء النفوس وزكاة الأخلاق ونصبوا أنفسهم لإصلاح الناس وضبط أمورهم لا ريب أن هؤلاء أبعد الخلق عن الأنبياء وأتباعهم ومعرفتهم ومعرفة مرسلهم وما أرسلهم به هؤلاء في شأن آخر بل هم ضدهم في علومهم وعمالهم وهديهم وإرادتهم وطرائقهم ومعادهم وفي شأنهم كله ولهذا تجد أتباع هؤلاء ضد أتباع الرسل في العلوم والأعمال والهدي والإرادات ومتى بعث الله رسولاً يعاني التنجيم والنيرجات والظلمات والأوفاق والتدخين والنجورات ومعرفة القرانات والحكم على الكواكب بالسعود والنحوس والحرارة والبرودة والذكورة والأنوثة وهل هذه إلا صنائع المشركين وعلومهم وهل بعثت الرسل إلا بالإنكار على هؤلاء ومحقهم ومحق علومهم وأعمالهم من الأرض وهل للرسل أعداء بالذات إلا هؤلاء ومن سلك سبيلهم وهذا معلوم بالاضطرار لكل من آمن بالرسل –صلوات الله وسلامه عليهم- وصدقهم فيما جاءوا به وعرف مسمى رسول الله وعرف مرسله وهل كان لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام عدو مثل هؤلاء المنجمين الصائبين و "حران" كانت دار مملكتهم والخليل أعدى عدو لهم وهم المشركون حقاً والأصنام التي كانوا يعبدونها كانت صور وتماثيل للكواكب وكانوا يتخذون لها هياكل وهي بيوت العبادات لكل كوكب منها هيكل فيه أصنام تناسبه فكانت عبادتهم للاصنام وتعظيمهم لها تعظيماً منهم للكواكب التي وضعوا الأصنام عليها وعبادة لها وهذا أقوى السببين في الشرك الواقع في العالم وهو الشرك بالنجوم وتعظيماً واعتقاد أنها أحياء ناطقة ولها روحانيات تتنزل على عابديها ومخاطبيها فصوروا لها الصور الأرضية ثم جعلوا عبادتها وتعظيمها ذريعة إلى عبادة تلك الكواكب واستنزال روحانياتها وكانت الشياطين تتنزل

ص: 225

عليهم وتخاطبهم وتكلمهم وتريهم من العجائب ما يدعوهم إلى بذلك نفوسهم وأولادهم وأموالهم لتلك الأصنام والتقرب إليها وكان مبدأ هذا الشرك تعظيم الكواكب وظن السعود والنحوص وحصول الخير والشر في العالم منها وهذا هو شرك خواص المشركين وأرباب النظر منهم وهو شرك قوم إبراهيم –عليه الصلاة والسلام والسبب الثاني عبادة القبور والإشراك بالأموات وهو شرك قوم نوح –عليه الصلاة والسلام وهو أول شرك طرق العالم وفتنته أعم وأهل الابتلاء به أكثر وهم جمهور أهل الإشراك وكثيراً ما يجتمع السببان في حق المشرك يكون مقابرياً نجومياً قال تعالى عن قوم نوح {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} وقال البخاري في "صيحيحه" قال ابن عباس كان هؤلاء رجالاً صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا على مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت ولهذا لعن النبي –صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ونهى عن الصلاة إلى القبور وقال:"اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وقال: "لقد كان من قبلكم كانوا يتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" وأخبر أن هؤلاء شرار الخلق عند الله يوم القيامة وهؤلاء هم أعداء نوح كما أن المشركين بالنجوم هم أعداء إبراهيم، فنوح عاداه المشركون بالنجوم والطائفتان صوروا الأصنام على صور معبوديهم ثم عبدوها وإنما بعثت الرسل بمحق الشرك من الأرض ومحق أهله وقطع أسبابه وهدم بيوته ومحاربة أهله فكيف يظن بإمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وخليل رب الأرض والسماء أنه

ص: 226

كان يتعاطى علم النجوم ويأخذ منه أحكام الحوادث سبحانك هذا بهتان عظيم وإنما كانت النظرة التي نظرها في علوم النجوم من معاريض الأفعال كما كان قوله {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وقوله {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله عن امرأته "سارة" هذه أختي من معاريض المقال ليتوصل بها إلى غرضه من كسر الأصنام كما توصل بتعريضه بقوله "هذه أختي" إلى خلاصها من يد الفاجر ولما غلظ فهم هذا عن كثير من الناس وكشفت طباعهم عن إدراكه ظنوا أن النظرة في النجوم ليستنبط منها علم الأحكام وعلم أن نجمه وطالعه يقضي عليه بالسقم وحاشا لله أن يظن ذلك بخليله –صلى الله عليه وسلم أو بأحد من أتباعه وهذا من جنس معارض يوسف الصديق –صلى الله عليه وسلم حين تفتيش أوعية أخيه عن الصاع فإن المفتش بدأ بأوعيتهم مع علمه أنه ليس فيها وأخر وعاء أخيه مع علمه أنه فيها تعريضاً بأنه لا يعرف فيها أي وعاء وهي ونفياً للتهمة عنه بأنه لو كان عالماً في أي أوعية هي لبادر إليها ولم يكلف نفسه تعب التفتيش لغيرها فلهذا نظر الخليل –صلى الله عليه وسلم في النجوم نظر تورية وتعريض محض ينفي به عنه تهمة قومه ويتوصل به إلى كيد أصنامهم. انتهى.

فهذا ما ذكره شمس الدين ابن القيم –رحمه الله تعالى- في مشابهة زنادقة هذه الأمة لمن قبلها من الأمم من عبادة الأجرام العلوية واعتقاد التأثيرات منها في العلوم السفلية، وأما ما ذكره في الزيارات من الاعتقادات التي ضاهوا بها اليهودية والنصرانية فنذكر شيئاً يسيراً منه قال ابن القيم –رحمه الله تعالى- في "إغاثة اللهفان" فمن مفاسد اتخاذها أعياداً للصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترباتها وعبادة أصحابها والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً وقد نزلوا عن الأكوار

ص: 227

والدواب إذا رأوها من مكان بعيد فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج ورأوا أنهم أربوا في الربح على الحجيج فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد ونادوا ولكن من مكان بعيد حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسراناً لغير الله بل للشيطان ما يرق ههلك من العبرات ويرتفع من الأصوات ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات وأغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولي العاهات والبليات ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد بيت الله الحرام ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود الذي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق وقربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير لله رب العالمين فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضهم ويقول أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظاً، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثوب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام فيقول لا ولو بحجك كل عام؟ وهذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم إذ هي فوق ما يخطر بالبال ويدور في الخيال وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم وكل من شم أدنى رائحة العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه وأن الهدي والخير في اتباعه وطاعته والشر

ص: 228

والضلال في معصيته ومخالفته، ثم ذكر –رحمه الله كلاماً طويلاً، وأما ما ذكر الملحد من المخرقة وصريح الإفك والزندقة بقوله فانظر ما في هذا الكلام من التلاعب والتقلب والقياس الفاسد والتهور الذي أدخله في زمرة محرفي كلام رسول الله عن مواضعه، فنقول معاذ الله وحاشا لله أن يكون في كلامه تلاعب وتقلب وقياس فاسد أو تهور بل هو كلام إمام عالم بالله ورسوله ودينه وشرعه وإنما التهور والكلام الباطل والتلاعب بدين الله ورسوله والقياس الفاسد منكم بدأ وإليكم يعود لأنكم أهله ومقره ومحله ومستقره ويل لك من خانع ما أقل عنايتك ودرايتك وما كشف طبعك وما أشد غباوتك أي تلاعب في كلامه وجوابه وأي تهور وتقلب في خطابه وأي قياس فاسد أورده ليس بصحيح وأي كلام ذكره في كتابه غير صريح؟ ذلك في قوله –صلى الله عليه وسلم:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، وقوله –صلى الله عليه وسلم:"ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"، وقوله –صلى الله عليه وسلم:"لا تجلسوا على القبور ولاتصلوا إليها" فأي تحريف في هذا وأي تلاعب؟ {هَاتُوْا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتْبِعُونَ إِلَّا الْظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} ، أما ثبت في الصحيحن أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم قال:"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " أما وقع مصداق ما أخبر به –صلى الله عليه وسلم فبنوا تلك القباب على القبور وجعلوا لها السدنة وقربوا لها القرابين وأوقدوا فيها السرج وقد قال –صلى الله عليه وسلم: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" وفعل فيها وعندنا من الأمور الشركية التي

ص: 229

تقدم بيانها آنفاً ولم تعرف من ذلك إلا التصريح بالنهي عن الجلوس على القبور والصلاة إليها وهو من الوسائل والذرائع المفضية إلى محظورات الشرائع وبأبعد ما بينهما فإن هذه وسائل وتلك غايات.

وأما زعمه أنه ليس فيها نهي عن الزيارة ولا تشبيه من يزور قبر نبي أو غيره بعابد الشمس والقمر وغيرهما.

فأقول: بل هذا من سوء فهمك وقصور علمك أليست العلة المحذورة المشبه بها من عباد الكواكب والشمس والقمر وهي اعتقادهم أن أرواح تلك الأفلاك العلوية إذا تعلقت بها النفس الناطقة تفيض عليه الأنوار فلما اعتقدوا ذلك ورجوه منها واعتقدوا فيها بنوا لها الهياكل والبيوت وصوروا فيها تلك الصور وجعلوا لها السدنة والحجاب وقربوا له القرابين وكذلك اليهود والنصارى لما اعتقدوا ما اعتقدوه في أنبيائهم وغلوا فيهم وصرفوا لهم من حق الله ما صرفوه اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصوروا فيها تلك الصور وجعلوا لها السدنة والحجاب وقربوا الهم القرابين والنذور، فلما علم نبينا –صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تأخذ مآخذ الأمم قبلها نهى عن ذلك وهذه العلة المذكورة موجودة في هذه الأمة من عباد قبور الأنبياء والصالحين حتى بنوا عليها القباب وجعلوا عندها سدنة وقصدها المجاورون وأقدوا عندها السرج وعكفوا عندها واعتقدوا أن لأرواح الأنبياء والأولياء والصالحين تصرفات في الحياة وبعد الممات استغاثوا بهم في الشدائد والبليات واعتقدوا أن بهممهم تكشف المهمات فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات مستدلين أن ذلك منهم كرامات وقد نهى النبي –صلى الله عليه وسلم أمته أن تفعل كما فعلت اليهود والنصارى وحذرهم من ذلك غاية التحذير فجاء ورثة الأنبياء والرسل الذين هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى فنهوها ما نهى عنه نبيهم –صلى الله عليه وسلم وجردوا

ص: 230

التوحيد لله رب العالين فزعم هؤلاء الزنادقة أن هذا تلاعب بالدين وأن ذلك تهور وقياس فاسد فبعداً للقوم الظالمين.

فصل

قال الملحد: وأما كلامه الثاني فإنه بعد ما نقل آيات نزلت في حق المشركين، قال: وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} فالمسيح –صلوات الله عليه ومن قبله من الرسل- إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وبالتوراة من ذلك ما يعظم وصفه لم يأمر أحد من الأنبياء بأن يعبد ملك ولا نبي ولا كوكب ولا وثن ولا تسأل الشفاعة إلا من الله لا ميت ولا غائب لا نبي ولا ملك، فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعوا الملائكة ويقولوا اشفعوا لنا إلى الله. انتهى فانظر ما في هذا الكلام من الخلط والضلال "أولاً" قياسه التوسل والاستشفاع والتوسل بهذا على عبادة النصارى والوثنيين للصور والأوثان. "ثانياً" جعل الاستشفاع والتوسل بهذا القياس من المكفرات. "ثالثاً" استثناء الأحياء والحاضرين وحصر الحريم بالأموات والغائبين وإدخال الملائكة مع الأموات والغائبين مع أن الملائكة ليسوا أمواتاً ولا غائبين والتوسل والاستشفاع بالحي أقرب لمظنة الشرك من الميت وجميع الفرق المشركة ما قالوا بألوهية حدثت لميت بعد موته بل كلهم قالوا بألوهية وكلهم ينكرون موت آلهتهم، وسيأتي في البحث الثالث إن شاء من كلام الله تعالى وكلام رسوله ما يثبت به ضلال هذا المضل ويدحض افتراءه على الله وأنبيائه، فلعمر الحق أن كلام هذا الرجل إن لم يكن عن فسق وزيغ فهو أجدر بالجنون واختلال العقل إلى آخر كلامه.

ص: 231

والجواب: أن يقال لهذا الملحد نظرنا في كلامه فوجدنا على أقوم منهج وطريق وقد سلك فيه مسلك أحق والتحقيق ووجدنا كلامك واعتراضك هو الخبط والهمط والتخليط الواضح المشتمل على أنواع من الإفراط والتفريط فقصر بك الجهل والغباوة المفرطة عن غدراك حقائق العلوم النافعة الدينية وانحسرت بك في مهامه الغي والضلال فلم تلحق بأهل الملة الحنيفية وتجارى بكل الغلو والإفراط حتى أوغلت في الشر والاختلاط فكان ما أنت بصدده هو الخلط والضلال لاهل الإيمان بالله ورسوله من ذوي الفضل والكمال.

فأما قوله: "أولاً قياس التوسل والاستشفاع على عبادة النصارى والوثنيين للصور والأوثان" فأقول نعم ن قياس التوسل والاستشفاع على عبادة النصارى والوثنيين للصور والأوثان هو القياس الصحيح الموافق للنص الصريح قال الله تعالى: {وَيَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَيَنْفَعُنَا وَيَقُولُونَ هُؤلَاءِ شُفَعَاؤنَا عِنْدَ اللهِ} الآية وقد بينا فيما تقدم أن التوسل على عرف عباد القبور اليوم هو دعاء الأنبياء والأولياء والتشفع بهم في قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وبينا أن هذا هو محض حق الله وأن من صرفه لغير الله كان مشركاً كما ذكر ذلك أهل العلم وإذا كان المشركون الأولون إنما عبدوا من عبدوه من دون الله بصرف هذه العبادة لغير الله وسموه تشفعاً وتقرباً إلى الله فكفرهم الله بذلك ولم تنفعهم ذلك تشفعاً وتقرباً مع وجود الحقيقة فإن الحقائق لا تتغير بتغيير أسمائها، وقد ذكر أهل العلم أشياء من دين النصارى كقول بعضهم: يا والدة المسح اشفعي لنا إلى الإله أو يا عيسى أعطني كذا وافعل بي كذا فإذا كان هو حقيقة الشرك بالله الذي كفر الله به النصارى وكان من غلاة هذه الأمة من يقول كما تقول النصارى وكما يقوله المشركون الأولون كمن يقول

ص: 232

يا علي، أو يا حسين، أو يا عباس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو يا أحمد البدوي، أو فلان وفلان أعطني كذا وأجرني من كذا وأنا في حسبك أو نحو ذلك من الألفاظ الشركية التي تتضمن العدل بالله والتسوية به تعالى وتقدس فهذا لا تأتي شريعة ولا رسالة بإباحته فقط بل هو من شعب الشرك الظاهرة الموجبة للخلود في النار ومقت العزيز الغفار، فكان من قياس شيخ الإسلام ما فعله غلاه الأمة على ما فعلته النصارى والمشركون الأولون من أصح القياس المطابق له في اللفظ والمعنى فلا عيب عليه ولا لوم يتوجه إليه، وأما قوله: ثانياً جعل الاستشفاع والتوسل بهذا القياس من المكفرات فأقول: نعم وجوابه ما تقدم وتأويل الجاهلين والميل إلى شبه المبطلين هو الذي أوقع هؤلاء وأسلافهم الماضين من أهل الكتاب والأميين في الشرك بالله ورب العالمين فبعضهم يستدل على شركه بالمعجزات والكرامات وبعضهم برؤيا المنامات وبعضهم بالقياس على السوالف والعادات وبعضهم بقول من يحسن به الظن وكل هذه الأشياء ليست من الشرع في شيء وعند رهبان النصارى وعباد الصليب والكواكب من هذا الضرب شيء كثير وما أشبه الليلة بالبارحة فإنا لله وإنا له راجعون {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .

وأما قوله: ثالثاً استثناء الأحياء والحاضرين وحصر التحريم بالأموات والغائبين والتوسل والاستشفاع بالحي أقرب لمظنة الشرك من الميت وجميع الفرق المشركة ما قالوا بألوهية حدثت لميت بعد موته بل كلهم قالوا بألوهية أحياء وكلهم ينكرون موت آلهتهم.

فالجواب أن نقول: أما استثناؤه الأحياء والحاضرين وحصره التحريم بالأموات والغائبين فلقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} فإن الطلب

ص: 233

والاستشفاع من الحي الحاضر القادر على ما يقدر عليه من الأمور الظاهرة العادية التي أجرى الله على أيدي العباد أن ينفع بها بعضهم بعضا جائز لا نزاع فيه بين العلماء وأما الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله وليست في مقدور البشر فلا يجوز أن تطلب إلا من الله ومن طلبها من الأموات والغائبين والأحياء فقد أشركهم بالله فيما لا يقدر على فعله إلا الله وهذا هو الشرك بإجماع العلماء وأما حصره التحريم بالأموات والغائبين فإن الميت قد انقطع عمله بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال "إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث. فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة أو نقصان فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة {قُلْ أََأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} هذا ملخص ما ذكره الإمام صنع الله الحلبي الحنفي، وأما الملائكة فلا يقول عاقل أنهم حاضرون وإن كانوا أحياء فهم في حكم الغائبين إلا ما كان من الملائكة الموكلين ببني آدم جائز.

وأما قوله: والتوسل والاستشفاع بالحي أقرب لمظنة الشرك من الميت فقد تقدم الجواب عنه قريباً، وأما وأما قوله: وجميع الفرق المشركة ما قالوا بألوهية حدثت لميت بعد موته بل كلهم قالوا بألوهية أحياء وكلهم ينكرون موت آلهتهم.

فالجواب أن نقول: من جعل في مخلوق نوعاً من الإلهية مثل أن يقول يا سيد فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو أنا في حسبك ونحو ذلك كان مشركاًَ سواء

ص: 234

كان ذلك المدعو حياً أو ميتاً فقد اتخذه إله وهؤلاء النصارى عليهم لعائن الله يعبدون عيسى بن مريم ويتخذونه إله مع الله وهو حي قد رفعه الله إليه والمشركون الأولون كانوا يعبدون وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً وهم أموات ولا يعتقدون أن الإلهية حدثت لهم بعد موتهم ولكن كانوا يعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله وأن يقربوهم إليه زلفى وكذلك النماردة والفراعنة الأولى كان قومهم يعبدونهم وهم أحياء ويدعون فيهم الإلهية بل الربوبية والسبئية قد ادعوا الإلهية في علي بن أبي طالب فاستتابهم ثلاثاً فلما لم يتوبوا ولم يرجعوا خدّ لهم الأخاديد عند باب كندة فقذفهم فيها وقال:

لما رأيت الأمر أمراً منكراً

أججت ناري ودعوت قنبرا

فالمشركون كانوا يعبدون آلهتهم أحياء وأمواتاً فلا أدري ما هذه المخرقة التي يمخرق بها هذا الضال المضل.

فصل

ثم قال الملحد: وسيأتي في البحث الثالث إن شاء الله تعالى من كلام الله تعالى وكلام رسوله ما يثبت به ضلال هذا المضل ويدحض افتراء على الله وأنبيائه فلعمر الحق إن كلام هذا الرجل إن لم يكن عن فسق وزيغ فهو أجدر بالجنون واختلال العقل إلى ما آخر ما هذي به.

والجواب أن نقول: وسيأتي الكلام على كلامه إن شاء الله تعالى بما يدحض ضلاله ويبين سفاهته وجهالته، وأما تسمية شيخ الإسلام والضال المضل فأين هذا من قوله لما ذكر كلام شيخ الإسلام في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" قال فانظر رحمك الله إذا كان حال الخلفاء الراشدين وأجلاء الصحابة –رضي الله عنهم على ما سمعت وشهادة عن عشر شهادات من إمام جليل مقتدى به عند السادة

ص: 235