الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل:
التقليد والاجتهاد
ثم إن المعترض بعد أن فرغ من تلفيق هذه الموضوعات وتقرير ما حرره من المخرقة والترهات بما لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من العلماء المحققين الذين لهم قدم صدق في العالمين وغنما اعترض على الوهابية بأقوال أعداء الله ورسوله الذين ما عرفوا دين الإسلام ولا ما ينبني عليه من الأحكام لأنهم نشأوا في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء وقد ألفوا ما كان عليه أسلافهم وطواغيتهم من الشرك بالله وما اعتادوه من تعظيم قبور الأنبياء والأولياء والصالحين ودعائهم والاستغاثة بهم في الشدائد والالتجاء إليهم في جميع الطلبات والرغبات والتعلق عليهم في جميع المهمات والملمات فلما أظهر الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ودعا الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه من الأنبياء والأولياء والصالحين والأشجار والأحجار وبين لهم أن هذه العبادات التي صرفوها لغير الله هي محض حق الله لا يصلح منها شيء لغير الله لا لملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما أنكروا ذلك عليه وكفروه وضللوه وبدعوه ورموه بهذه الأكاذيب التي يستحي العاقل من ذكرها ولا تتفق إلا عند من أعمى الله بصيرة قلبه والخصومة بينهم وبينه عند الملك الحق العدل الذي لا يظلم أحداً وما ربك بظلام للعبيد.
إلى ديان يوم الدين نمضي
…
وعند الله تجتمع الخصوم
قال المعترض: ولنرجع إلى المقصود من هذه الرسالة وبالله الاستعانة، المسألة الأولى: في الاجتهاد وقد تبين لك ما تقدم أن من أصول الوهابية إباحة التعبد بالاجتهاد بشرط الاستنباط من القرآن العظيم فقط وإنكار الإجماع الذي اتخذه علماؤنا أصلاً من الأصول التي تبني عليها الأحكام وحيث إن هذا
الأصل من أصول مذهب دعاة الاجتهاد في هذا الزمان فإيضاحاً لفساد قولهم هذا التكلم إن شاء الله عن كل فرع منه على حدة.
والواجب وبالله التوفيق أن نقول: قد بينا فيما تقدم أن هذا ليس من أصول الوهابية وأنه من الكذب الموضوع عليهم ونذكر هاهنا أيضا ما ذكره الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد دخول مكة المشرفة لما سأله بعض المسلمين عن غالب هذه الموضوعات فأجابه عن هذه المسألة فقال رحمه الله تعالي: ونحن أيضا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم لا نقرهم ظهرا على شيء من مذاهبهم الفاسدة بل بخبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة ولا نستحق بمرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد منا يدعبها إلا أنا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من الكتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة فإنا نقدم الجد بالإرث وإن خالف مذهب الحنابلة ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه إلا إذا اطلعنا على نص جلي مخالف لمذهب أحد الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعائر ظاهرة كإمام الصلاة فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح دليل ذلك بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة فلا نأمره بالإسرار وشتان ما بين المسألتين فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص وإن خالف المذهب وذلك يكون نادراً جداً ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض ولا مناقضة لعدم الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من أئمة
المذاهب الأربعة لاختيارات لهم في بعض المسائل مخالفة لمذهب الملتزمين تقليد صاحبه، ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة ومن أجلها لدينا تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذلك البغوي والبيضاوي والخازن والجلالين وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين كالعسقلاني والقسطلاني على البخاري والنووي على مسلم والمناوي على الجامع الصغير ونحرص على كتب الحديث خصوصاً الأمهات الست وشروحها، ونعتبر بسائر الكتب في سائر الفنون أصولاً وفروعاً وقواعداً وسيراً ونحواً وصرفاً وجميع علوم الأمة ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلاً إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك كروض الرياحين إلى آخر كلامه، فانظر أيها المنصف أولاً ما ذكره الشيخ –رحمه الله حيث قال: ونحن في الفروع على مذهب أحمد وليسوا منه في شيء وأنه يرى منهم بالدعوى المجردة والتحكم بالباطل، ثانياً قوله: ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم إلى آخره وهؤلاء يزعمون أنا نحرم التقليد ولا نرى إلا الاجتهاد، ثالثاً قوله: ولا نستحق بمرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد منا يدعيها، وهذا يبطل دعوى هؤلاء المفترين حيث قالوا: إنهم يتعبدون بالاجتهاد بشرط الاستنباط من القرآن العظيم فقط، رابعاً قوله: إلا أنا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه إلى آخره، وهذا هو الحق الذين ندين الله به لإجماع العلماء على ذلك.
قال الإمام الشافعي –رحمه الله أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان، وهؤلاء يوجبون
تقليد أحد الأئمة المقلدين وإن خالف قوله كتاب الله وسنة رسوله والأئمة الأربعة منعوا من تقليدهم مع وجود النص بخلاف ما قالوا، خامساً قوله ثم إن نستعين على فهم كتاب الله بالتفسير إلى آخره، وهذا يبطل دعوى هؤلاء الزنادقة حيث زعموا أنا نبيح التعبد بالاجتهاد بشرط الاستنباط من القرآن العظيم فقط، وأنا نفسر القرآن من عند أنفسنا وبما نهواه وأنا لا نلتفت إلى السنة ولا نعمل بها، وأنا نتلف كتب الحديث وسائر كتب أهل السنة إلى غير ذلك مما نسبوه إلينا وافتروه علينا ظلماً وعدواناً وتنفيراً للناس عن الدخول في دين الله ورسوله بهذا الهذيان والزور والبهتان.
فإذا تبين لك أيها المنصف أنا لا ندعي أنا نستحق بمرتبة الاجتهاد وأنه لا أحد منا يدعيها، فلا لوم علينا ولا عيب يتوجه إلينا بعد هذا البيان فنضرب عن الكلام في هذه المسألة صفحاً ونطوي عليها كشحاً، اللهم إلا وقفنا على بعض الخطأ الواضح والكلام المتناقض مما عثر به قدمه وزل به قلم من هذه المباحث التي لا يسع السكوت لمسلم عندها ننبه عليها بعض التنبيه، فإن أبى أهل الشقاق والنفاق إلا إلزامنا ما لا يلزمنا والتحكم بالباطل على ما يهضمنا فلا عجب من ذلك، فقد زعموا أنا ننتقص الرسل والأنبياء والصالحين والأولياء لما جردنا التوحيد وأخلصنا العبادة لله وحده لا شريك له ولم نجعل فيها شركة لأحد سواه كائناً من كان وتجريدنا متابعة الرسول فلم نقدم على قوله قول أحد كائناً من كان وبالله المستعان وعليه التكلان.
فصل
قال المعترض في الفصل الأول في الإجماع، أما الوهابية وإخوانهم الذينسول لهم الشيطان التكبر عن الأئمة العظام وأفاضل العلماء كما سولت له نفسه التكبر على آدم إلى آخر كلامه.
والجواب أن نقول: قد قدمنا قريباً أنا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله، وبينا أنا لا نستحق بمرتبة الاجتهاد ولا أحد منا يدعيها، فدعوى هؤلاء الزنادقة أنا نتكبر عن تقليد الأئمة العظام كذب وافتراء علينا ولله الحمد والمنة على صراط مستقيم ومنهج قويم، بل نحن أحق بالأئمة وأولى بهم منهم وقد امتثلنا على ما أمرنا به أئمتنا العظام وانتهينا عما نهونا عنه من هذا المرام، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنه لا يجوز دعاء الخلق إلى طاعة رجل معين في كل ما يأمر به وينهى عنه ويبيحه إلا رسول الله –صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأئمة أنفسهم قد نهوا الناس على اتباعهم إلا بحجة إلا إذا ظهرت الحجة في غير قولهم، فقال أبو حنيفة: هذا رأي فمن جاءنا برأي خير منه قبلنا، وقال مالك: إنما أنا بشر فأعرضوا قولي على الكتاب والسنة أو كما قال، وقال أيضاً: ما منا إلا راد أو مردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله –صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي: إذا رأيتم الحجة ملقاة على الطريق فاعلموا أني آخذ بها، وقال إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط.
وحكي المزني عنه أنه نهى الناس عن تقليده وتقليد غيره من العلماء وله كلام كثير في هذا المعنى ذكره ابن القيم في الإعلام، وقال أحمد لا تقلد دينك
الرجال فإنهم لن يسملوا من أن يغلطوا وقال تقلد دينك أحداً وعليك بالأثر وقال لا تكتب رأيي ولا رأي إسحاق ولا سفيان ولا الشافعي ولا مالك وعليك بالأصل، وقال عجب لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبوا إلى رأي سفيان والله تعالى يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك لعله أن يرد بعض قوله فيهلك. فإذا كان هؤلاء الأئمة ينهون من تقليدهم مطلقاً فمن قلدهم مطلقاً فعليه أن يقلدهم في أن لا يقلدهم في وذلك جمع بين الضدين، وإذا كنا لا نستحق بمرتبة الاجتهاد ولا أحد منا يدعيها ولسنا نقلدهم مطلقاً، فالواجب علينا وعلى كل مسلم أنه إذا صح الدليل واستنبانت السنة أن لا نقلد أحداً مع سنة سنها رسول الله –صلى الله عليه وسلم قال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له السنة فليس له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان، وإذا لم يتبين لنا مثلاً نص من الكتاب والسنة ساغ لنا أن نقلد فيها إمامنا أحمد لما تقدم بيانه من الأدلة، ولما كان عليه أئمتنا، وما ذكر هذا الملحد سوى ما أجبنا عليه من هذيانه فلا نجيب عنه ولا حاجة بنا إلى المناقشة فيما لا طائل تحته لأنه جعجعة بلا طحن وهذيان بارد ولا يستفز به كل ذي قلب سليم ولا ينخدع به إلا الخب اللئيم، ومن كان لا يستحي قال ما يشتهي، والله المستعان.
وأما ما ذكره في الفصل الثاني في أسباب اختلاف الأئمة فالذي نعتقده وندين الله به أن الأئمة الأربعة وسائر علماء أهل السنة والجماعة لم يختلفوا في أصل دينهم بل كلهم متفقون على إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه وعلى تقديم قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد كائناً من كان ولا شك أنهم قد اختلفوا في الفروع وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله
-صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق، فمن وافق قوله ما في الكتاب والسنة فقوله مقبول على الرأس والعين، ومن خالف قوله ما في الكتاب والسنة فقوله مردود، وقد كان من المعلوم أنهم رضي الله عنهم قد بذلوا الوسع في الجد والاجتهاد وبذلوا النصح لنفع العباد واجتهدوا في ذلك غاية الاجتهاد، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر لأجل اجتهاده، وهم معذورون فيما لم تبلغهم فيه سنة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم فعلينا أن نتولاهم ونعتقد فيهم ما ينبغي أن يعتقد وتكون محبتنا لمن نحب منهم تبعاً لمحبة رسول الله –صلى الله عليه وسلم ونكون في ذلك على عدل وعلم ونعتقد أنهم كانوا على الصراط المستقيم، فعلينا أن نحقق قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فإن المغضوب عليهم اليهود والضالين والنصارى وقد ذمهم الله بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} وإذا كان العلماء ورثة الأنبياء وقد أمرنا الله أن لا نفرق بين أحد من رسوله فنؤمن ببعض ونكفر ببعض، ونهانا النبي –صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء إذا كان فيه انتقاص لمفضول فعلينا أن لا نفعل في ورثتهم كذلك، فإيثار بعض أو روايته بلا برهان من الله تفريق بينهم كما فعله أهل الكتاب في الأنبياء، فالواجب علينا أن نجتهد في طاعة الله ورسوله وندعو إلى سبيله على بصيرة ونتعاون على البر والتقوى ولا نتعاون على الإثم والعدوان، وأيضاً فإن الله فرض علينا طاعته وطاعة رسوله والمقصود من الأئمة أن يدلونا على طاعة الله وطاعة رسوله، فلو أطعنا أحدهم فيما قاله لا لأن الله أمر بذلك لم نثب على ذلك بل ربما عوقبنا عليه، ولو اجتهدنا في طاعة الله ورسوله فأخطأنا أئمتنا على ذلك فكم ممن ينصر قولاً صحيحاً وهو آثم بنصره لق0صيده الفاسد وخروجه عن الدليل الشرعي، ومن ينصر قولاً ضعيفاً وهو
مثاب لقصده الصالح وسلوكه الطريق المرشد لمثله. انتهى. فهذا الذي نعتقده وندين الله به وما سوى ذلك مما لفقه هذا الملحد وألزمنا به مما لا يلزمنا أو انتحل فيه طريقة أو مقالة تخالف ما عليه أهل السنة والجماعة فنحن نبرأ إلى الله من ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعتقد أن الإجماع حق وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة وأن القياس منه حق وباطل وصحيح وفاسد فما وافق الحق منه فهو صحيح وما خالفه فهو من قسم الفاسد وقد ذكر ذلك العلماء، ومن أحسن من تكلم فيه من العلماء شمس الدين ابن القيم في "إعلام الموقعين" فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه هناك.