الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل:
حقيقة الفرقة الناجية
ومن خطئه الواضح وخزيه الفاضح ما قاله في الفصل الأول في الإجماع حيث قال: ولو نصحتم أنفسكم لعرفتم أن الإجماع الذي أنعم الله به علينا معشر أهل السنة لم يكن مثله لأمة من الأمم أو نحلة من النحل، نحن أهل السنة البالغ عددنا نحو مائتين وخمسين مليوناً منتشرين في كل جهة من كرة الأرض لم نزل متفقين على أخذ أصول ديننا وفروعه عن الأئمة الأربعة العظام وبواسطتهم إلى نبينا –عليه الصلاة والسلام إلى آخر كلامه.
والجواب أن نقول: قد كان من المعلوم بالضرورة عند من له أدنى مسكة من عقل أن هذه الدعوى التي ذكرها هذا الملحد من أمحل المحال وأضل الضلال فإن أحداً من الناس لا يستطيع أن يضبط هذا العدد من اتباع الأئمة المنتشرين في كل جهة من كرة الأرض وأنهم جميعهم مائتين وخمسين مليوناً، وأنهم كلهم متفقون على أخذ أصول دينهم وفروعه عن الأئمة الأربعة العظام وبواسطتهم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن ادعى هذا فهو من أحمق الخق وأقلهم عقلاً وأفسدهم مزاجاً، فإن هذا ليس في العقل ولا في الممكن ضبطه بهذا العدد المحصور بل يكذبه الحس والعقل والشرع، قال الله تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ الْنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الْشَّكُورُ} وقال تعالى: {إِلا الّّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الْصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} وفي الحديث الصحيح أنه –صلى الله عليه وسلم قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار
إلا واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" فبين أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين إلا فرقة واحدة وهي أهل السنة والجماعة، ومن المعلوم أن الثنتين والسبعين فرقة من أمة محمد كلهم أو أكثرهم من أهل الأهواء والبدع ومن المتفقهة والمتكلمين والمنتسبين إلى العبادة من المتصوفة والمتفقرة ونحو ذلك منهم أو المتعصبون لطائفة على طائفة، بل وسائر أهل الأهواء أنهم كلهم على الحق لم يزالوا متفقين على أخذ أصول دينهم وفروعه عن الأئمة الأربعة العظام وبواسطتهم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام على زعم هذا الملحد، ولو سلمنا ذلك لهذا الملحد لكانت الأهواء والبدع مأخوذة عن الأئمة الأربعة وبواسطتهم إلى النبي –صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يقوله إلا من هو من أكفر الخلق وأضلهم عن سواء السبيل، قال شيخ الإسلام في أثناء كلام له: ولهذا اختلف الناس في الفقهاء هل هم من أولي الأهواء؟ فأدرجهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني والقاضي أبو يعلى بن الفراء وغيرهم في أهل الأهواء لما في نفوس كثير منهم من الهوى في الأحكام، وأخرجهم جماعة منهم ابن عقيل من أهل الأهواء وكلاهما صادق فإن الأصل فيهم أنهم ليسوا من ذوي الأهواء، ثم قد فشا فيهم الهوى فصار لهم نصيب من ذلك حتى يظهر فيهم من البغضاء لغير طائفتهم وإن كانوا من أهل العلم والإيمان ومن الموالاة لذوي طائفتهم وإن كانوا من أهل العلم والإيمان ومن الموالة لذوي طائفتهم وإن كانوا بخلاف ذلك ما يكرهه الله ورسوله وحتى إن المسائل التي اتفقوا فيها على الجواز وإنما اختلفوا في الاستحباب أو الكراهة كمسألة الترجيح في الأذان وشفع الإقامة والاستفتاح والبسملة والقنوت ونحو ذلك لما صارت شعار أظهر فيها من الهوى ما لم يظهر في غيرها، وحتى إن الرجل يحرص على ضبط مقالة
طائفة ويعرض عن الآخرين كأنهم أهل صلة أخرى وإن كانوا قد يكونون أولى بالله ورسوله في كثير مما يعرض عنهم فيه هذا وكتابهم واحد ودينهم واحد ونبيهم واحد. انتهى. فتبين أن الاختلاف الواقع إنما كان بين اتباع الأئمة الأربعة أما في اختلاف التنوع ويكون سببه تارة فساد النية لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض ونحو ذلك فيجب لذلك ذم قول غيره أو فعله أو غلبته التميز أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة ونحو ذلك لما في قيام قوله من حصول الشرف لهما لهما والرياسة، وما أكثر هذا في بني ىدم "وهذا ظلم" ويكون سببه تارة جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعون فيه والجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر أو جهل أدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم أو في الدليل، وإن كان عالماً بما مع نفسه من الحق حكماً ودليلاً والجهل والظلم هما أصل كل شر، كما قال سبحانه وتعالى:{وَحمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومَاً جَهُولاً} انتهى.
فهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر أو من له أدنى معرفة أو إلمام بالعلوم الشرعية أن ما وقع في نفوس بعضهم من الجهل بين المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه والجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر وجهل أحدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم أو في الدليل، أن أصل هذا الاختلاف كله مأخوذ عن الأئمة الأربعة وبواسطتهم إلى النبي –صلى الله عليه وسلم سبحانك هذا بهتان عظيم وأما اختلاف التضاد فلم يقع ذلك بين الأئمة الأربعة فيما نعلم، وإنما يقع بين اتباع الأئمة، كما يكون ذلك مثلاً في أوصاف الله سبحانه وأفعاله القائمة بذاته، فبعضهم يثبت
استواء الله على عرشه ويثبت كلامه وسمعه وبصره وإرادته وحبه وبغضه وسخطه ومقته ورضاه ونزوله إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً إلى غير ذلك من أوصافه وأفعاله الثابتة في الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، وبعضهم ينكر هذا كله ويرى أن ذلك مما ينزه الله عنه وهذا يكون بين اتباع الأئمة الأربعة وقد يكون بين أهل المذهب الواحد منهم، وهذا معلوم مشهور مذكور في الكتب المدونة لا ينكره أحد، فهل يقول أحد أن هذا الاختلاف بينهم مأخوذ عن الأئمة الأربعة وأن من أصول دينهم الذي أخذوه بواسطة الصحابة عن النبي –صلى الله عليه وسلم، هذا لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس وأجرأهم على الكذب على الله ودينه وشرعه ثم اعلم أن الصحابة –رضوان الله عنهم- لم يختلفوا في شيء من قواعد الإسلام لا في الصفات ولا في القدر ولا في مسائل الأحكام، بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه، نافين عنها تمثيلها بصفات المخلوقين، مثبتين للقدر كما أخبر الله به ورسوله، مثبتين للأمر والنهي والوعد والوعيد، مثتبتين لحكوة الله في خلقه وأمره، مثبتين لقدرة العبد واستطاعته ولفعله مع إثباتهم للقدر، ثم لم يكن في زمنهم ومن يحتج للمعاصي بالقدر، ويجعل القدر حجة لمن عصى أو كفر ولا من يكذب بعلم الله ومشيئته الشاملة وقدرته التامة وخلقه لكل شيء، وينكر فضل الله وإحسانه وخصهم بهذه النعمة ومنه على أهل الإيمان والطاعة وأنه هنو الذي أنعم عليهم بالإيمان والطاعة وخصهم بهذه النعمة دون أهل الكفر والمعصية، ولا يمن ينكر افتقار العبد إلى الله في كل طرفة عين وأنه لا حول ولا قوة إلا به في كل دق وجل، ولا من يقول إن الله يجوز أن يأمر بالكفر والشرك وينهى عن عبادته وحده، ويجوز أن يدخل إبليس وفرعون الجنة ويدخل
الأنبياء النار وأمثال ذلك، فلم يكن فيهم من يقول بقول القدرية النافية ولا القدرية الجبرية، ولا كان فيهم من يقول بتخليد أحد من أهل القبلة في النار، ولا من يكذب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، في أهل الكبائر ولا من يقول إيمان الفساق كإيمان الأنبياء بل ثبت عنهم بالأقوال الصحيحة، القول بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار، وأن إيمان الناس يتفاضل، وأن الإيمان يزيد وينقص إلى غير ذلك من هذه القواعد الدينية التي اختلف فيها من بعد الصحابة، لم يختلفوا فيها بالقول ولا بالخطوبات كما اختلف فيها من بعدهم، وكثير من أتباع الأئمة الأربعة قد خاضوا في هذه الأحداث التي خالفوا فيها السلف، ودخلوا بها في جملة أهل الأهواء والبدع فهل يقول من له عقل أو دين أو أدنى ممارسة للعلوم أنهم إنما أخذوها عن الأئمة الأربعة والأئمة الأربعة أخذوها من الصحابة والصحابة أخذوها عن النبي –صلى الله عليه وسلم، سبحان الله ما أعظم شأنه كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون، ونزيد هذا المقام أيضاً بما ذكره شمس الدين ابن القيم في ديباجة كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين ليتبين لك ضلال هذا المتنطع الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها، قال –رحمه الله تعالى-: ولما كان التلقي عنه –صلى الله عليه وسلم على نوعين نوع بواسطة ونوع بغير واسطة، وكان التلقي بلا واسطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق واستولوا على الأمد لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم واقتفى منهاجهم القويم والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، وذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال، فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها، وأي خطة رشد لم يستولوا عليها "تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذباً صافياً زلالاً، وأيدوا قواعد الإسلام
فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً، فتحوا القلوب بعد لهم بالقرآن والإيمان والقرى بالجهاد بالسيف والسنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصاً صافياً، وكان سندهم فيه عن نبيهم –صلى الله عليه وسلم عن جبرائيل عن رب العالمين سنداً صحيحاً عالياً، وقالوا هذا نبينا وقد عهدنا إليكم وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم، فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد، وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد، وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين:{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخَرِينَ} ثم جاء الأئمة من القرن الرابع المفضل في إحدى الروايتين كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وعمران بن حصين فسلكوا على آثارهم اقتصاصاً واقتبسوا هذا الأمر عن مشكاتهم اقتباساً وكان دين الله سبحانه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليه رأياً أو معقولاً أو تقليداً أو قياساً، فطار لهم الثناء الحسن في العالمين وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين، ثم سار على آثارهم الرعيل الأول ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم زاهدين في التعصب للرجال واقفين مع الحجة والاستدلال يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه وينقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحداناً وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألون على ما قال برهاناً ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس أو يعارضوها برأي أو قياس، ثم خلف من بعدهم خلوف فرقوا وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون، وتقطعوا أمرهم بينهم زبراً وكل
إلى ربهم راجعون جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون ورؤوس أموالهم التي بها يتجرون، وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد وقالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، والفريقان بمعزل عما ينبغي اتباعه من الصواب ولسان الحق يتلو {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} قال الشافعي –رحمه الله تعالى-: أجمع المسلمون أن من استبانت سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، قال أبو عمر وغيره من العلماء: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم وأن العلم معرفة الحق بدليله، وهذا كما قال ابن عمر –رحمه تعالى- فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد فقد تضمن هذا أن الإجماعان إخراج المتعصب بالهوى والمقلد الأعمى عن زمرة العلماء. وسقوطهما باستكمال من فوقهما الفروض من وراثة الأنبياء فإن العلماء هم ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما وروثا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر وكيف يكون من ورثة الرسول –صلى الله عليه وسلم من يجهد ويكدح في رد ما جاء به إلى قول مقلده ومتبوعه ويضيع ساعات عمره في التعصب والهوى ولا يشعر بتضييعه تالله إنها فتنة عمت فأعمت ورمت القلوب فأصمت ربا عليها الضمير وهرم فيها الكبير واتخذ لأجلها القرآن مهجوراً وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطوراً ولما عمت بها البلية وعظمت بسببها الرزية بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها ولا يعدون العلم إلا إياها فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون ومؤثرة على ما سواه عندهم مغبون نصبوا لمن خالفهم في طريقهم الحبائل وبغواله الغوائل ورموه عن قوس الجهل والبغي والفساد وقالوا لإخوانهم إنا نخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد فحقيق بمن لنفسه عنده قدر
وقيمة أن لا يلتفت إلى هؤلاء ولا يرضى لهم بما لديهم وإذا رفع له علم السنة النبوية شمر إليه ولم يحبس نفسه عليهم فما هي إلا ساعة حتى يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدر وتساوي أقدام الخلائف في القيام لله وينظر كل عب ما قدمت يداه ويقع التمييز بين المحقين والمبطلين ويعلم المعرضون عن كتاب ربهم وسنة نبيهم أنهم كانوا كاذبين. انتهى. فتأمل ما ذكره ابن القيم –رحمه الله تعالى- في شأن الخلوف الذين خلفوا الرعيل الأول من أصحاب الأئمة الأربعة وأنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون إلى آخر كلامه ليتبين لك ما في كلام هذا الملحد من الخطأ الواضح والخزي الفاضح الذي لم يسبقه إليه سابق فنعوذ بالله من رين الذنوب وانتكاس القلوب وقد تبين لك الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال والله المستعان.