الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
يا رب لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهك وعظيم سلطانك.
وبعد:
فهذه جملة من نصوص التنزيل العزيز سُئلتُ عن سِرِّ التعبير في بعضها واخترتُ بعضها الآخر من سور متعددة لأبيّن طرفاً مما فيها من أسرار تعبيرية ولمسات فنية لعلَّ فيها نفعاً لدارسي القرآن ولتكون خطوةً أخرى بعد كتاب (التعبير القرآني) في بيان شيء من أسرار هذا السِّفْر العظيم كتاب الله الخالد.
قال لي بعضهم بعد أن اطّلع على كتاب (التعبير القرآني) ، لو أَسميتَهُ (الإعجاز القرآني) .
فقلتُ له: هذا العنوان أكبرُ مني وأنا لا أستطيع أن أنهض ببيان الإعجاز القرآني ولا بشيءٍ منه، وإنما هو دراسة في بيان شيء من أسرار التعبير القرآني العظيم الذي لا تنتهي عجائبه.
إن هذا الكتاب - وكذلك الكتاب الذي قبله أعني كتاب (التعبير القرآني) ليس في بيان الإعجاز القرآني، وليس هو خطوة واحدة في هذا الطريق، وإنما هو خطوة في طريق قد يُوصِلُ السالكَ إلى طريق الإعجاز أو شيء من الإعجاز.
إن إعجاز القرآن أمرٌ متعدد النواحي متشعبُ الاتجاهات ومن المتعذر أن ينهض لبيان الإعجاز القرآني شخصٌ واحد ولا حتى جماعة في زمنٍ ما مهما كانت سَعَةُ علمهم واطلاعهم وتعدد اختصاصاتهم إنما هم يستطيعون بيانَ شيءٍ من أسرار القرآن في نواحٍ متعددة حتى زمانهم هم، ويبقى القرآن
مفتوحاً للنظر، لمن يأتي بعدنا في المستقبل ولِمَا يَجِدُّ من جديد. وسيجد فيه أجيالُ المستقبل من ملامح الإعجاز وإشاراته ما لم يخطر لنا على بال.
وأضرب مثلاً لتعدد نواحي الإعجاز، فإني سمعتُ وقرأت لأشخاص مختصين بالتشريع والقانون، يُبَيِّنون إعجازَ التشريع القرآني، ويبينون اختيارات الألفاظ التشريعية في القرآن ودقتها في الدلالة على دقة التشريع ورفعته ما لا يصحُّ استبدال غيرها بها، وإن اختيار هذه الألفاظ في بابها أَدقُّ وأعلى مما نُبيِّنُ نحن من اختياراتٍ لغوية وفنية وجمالية.
وقرأتُ وسمعت لأشخاص متخصصين بعلم التشريح والطب في بيان شيء من أسرار التعبير القرآني من الناحية الطبية التشريحية ودقتها يفوق ما نذكره في علم البلاغة. فألفاظهُ مختارة في منتهى الدقة العلمية. من ذلك على سبيل المثال أن ما ذكره القرآن من مراحل تطور الجنين في الرحم هي التي انتهى إليها العلمُ مما لم يكنْ معروفاً قبل هذا العصر مما دعا علماء أجانب إلى أن يعلنوا إسلامهم. وليس ذلك فقط؛ بل إن اختيار تعبير (العلقة) و (المضغة) - مثلاً أعجب اختيار علمي.
فاختيار التعبير بـ (العلقة) اختيارٌ له دلالته، فإن المخلوق في هذه المرحلة أشبه شيء بالعلقة، وهي الطفيلية المعروفة. وكذلك التعبير بـ (المضغة) ، فالمضغة كما قرأنا في كتب التفسير، هي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ. ولكن لاختيار كلمة (مضغة) سببٌ آخر، ذلك أن (المضغة) هي قطعة اللحم الممضوغة أي التي مضغتها الأسنان، وقد أثبت العلمُ الحديث أن الجنين في هذه المرحلة ليس قطعة لحم عادية بل هو كقطعة اللحم التي مضغتها الأسنان، فاختيار لفظ (المضغة) اختيارٌ علمي دقيق. إنه لم يقل "قطعة لحم صغيرة" ولو قال ذلك لكان صواباً ولكن قال:(مضغة) لِمَا ذكرتُ ورُبَّما لغيرهِ أيضاً، والله أعلم.
وقرأتُ فيما توصَّلَ إليه علم التاريخ وما دَلَّتْ عليه الحفرياتُ الحديثة من أخبار ذي القرنين أدق الكلام وأدق الأخبار ما لم يكن يعرفهُ جميع مفسري القرآن فيما مضى من الزمان. وأن الذي اكتشفه المؤرخون والآثاريون وما توصلوا إليه في هذا القرن منطبقٌ على ما جاء في القرآن الكريم كلمةً كلمة ولم يكن ذلك معلومًا قبل هذا القرن البتة.
وقرأتُ في اختيار التعبير القرآني لبعض الكلمات التاريخية كـ (العزيز) في قصة يوسف، وكاختيار تعبير (الملك) في القصة نفسها، واختيار كلمة (فرعون) في قصة موسى، فعرفتُ أن هذه ترجمات دقيقة لما كان يُستعمل في تلك الأزمان السحيقة فـ (العزيز) أدقُّ ترجمةٍ لمن يقوم بذلك المنصب في حينه، وأن المصريين القدامى كانوا يفرقون بين الملوك الذين يحكمونهم فيها إذا كانوا مصريين أو غير مصريين، فالملكُ غير المصري الأصل، كانوا يسمونه (الملك) ، والمصري الأصل يسمونه (فرعون) وأن الذي كان يحكم مصر في زمن يوسف غير مصري، وهو من الهكسوس فسماه (الملك) ، وأن الذي كان يحكمها في زمن موسى هو مصري فسماه (فرعون) ، فسمى كل واحد بما كان يُسمى في الأزمنة السحيقة.
وعرفت من الإشارات الإعجازية في مختلف العلوم كما في أسرار البحار والضغط الجوي وتوسع الكون وبداية الخلق ما دعا كثيراً من الشخصيات العلمية إلى إعلان إسلامهم.
بل إن هناك أموراً لم تُعرفْ إلا بعد صعود الإنسان في الفضاء، واختراقه الغلاف الجوي للأرض، وقد أشار إليه القرآن إشارات في غاية العجب ذلك أن الإنسانَ إذا اخترق الغلاف الجوي للأرض، وجد نفسه في ظلام دامس وليل مستديم ولم تُرَ الشمسُ، إلا كبقية النجوم التي نراها في الليل. فالنهارُ الذي نعرفه نحن، لا يتعدى حدودَ الغلاف الجوي فإن
تجاوزناه كنا في ظلام لا يعقبه نهار. وقد أشار إلى ذلك القرآن إشارة عجيبة في قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} [يس: 37] فجعل النهار كالجلد الذي يُسلخ وأما الليل: فهو الأصل، وهو الكل، فشبَّه الليلَ بالذبيحة، والنهار جلدها؛ فإن سُلخ الجلد ظهر الليل فجعل النهار غلافاً والليل هو الأصل.
وقال: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 14-15] . أي: لو مكنّاهم من الصعود إلى السماء، لانتهوا إلى ظلام وقالوا:{سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} ، وغير ذلك وغيره.
وعلى هذا فالإعجاز القرآنيّ متعدِّدُ النواحي، متشعب الاتجاهات، ولا يزال الناس يكتشفون من مظاهر إعجازه الشيء الكثير، فلا غرو أن أقول إذن: إن الإعجاز أكبر مما ينهضُ له واحد، أو جماعة في زمن ما.
إن التعبير الواحد، قد ترى فيه إعجازاً لغوياً جمالياً، وترى فيه في الوقت نفسه، إعجازاً علمياً، أو إعجازاً تاريخياً، أو إعجازاً نفسياً، أو إعجازاً تربوياً أو إعجازاً تشريعياً، أو غير ذلك.
فيأتي اللغوي، ليبين مظاهرَ إعجازهِ اللغوي، وأنه لا يمكن استبدالُ كلمةٍ بأخرى، ولا تقديم ما أُخِّرَ أو تأخير ما قُدِّمَ، أو توكيد ما نُزعَ منه التوكيد، أو عدم توكيدِ ما أُكِّدَ. ويأتيك العالم في الطب ليقول من وجهة نظر الطب، ألطف وأدق مما يقوله اللغوي. ويأتيك العالم في التشريع، ليقول مثل ذلك من وجهة نظر التشريع والقانون. ويأتيك المؤرخ ليقول مثل ذلك من وجهة نظر التاريخ، ويأتيك صاحب كل علم، ليقول مثل ذلك من وجهة نظر علمه.
إننا ندلُّ على شيء من مواطن الفن والجمال، في هذا التعبير الفني الرفيع، ونضع أيدينا على شيء من سُمُوِّ هذا التعبير، ونبين أن هذا
التعبير، لا يقدر على مجاراته بشر، بل ولا البشر كلهم أجمعون، ومع ذلك لا نقول: إن هذه هي مواطن الإعجاز، ولا بعض مواطن الإعجاز وإنما هي ملامح ودلائل، تأخذ باليد وإضاءات توضع في الطريق، تدل السالكَ على أن هذا القرآن كلامٌ فنيٌّ مقصود، وُضع وضعاً دقيقاً ونُسج نسجاً مُحْكماً فريداً، لا يشابهه كلام، ولا يرقى إليه حديث {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ} [الطور: 34] .
أما شأن الإعجاز، فهيهات هيهات، إنه أعظمُ من كل ما نقول، وأبلغ من كل ما نَصِفُ، وأعجبُ من كل ما نقف عليه من دواعي العجب.
إن هذا القادم من الملأ الأعلى، والذي نزل به سيدٌ من كبار سادات الملأ الأعلى، فيه من الأسرار، ودواعي الإعجاز، ما تنتهي الدنيا ولا ينتهي.
قد ترى أن في قولي مبالغةً وادعاءً أو انطلاقاً من عاطفةِ دينٍ أو التهابِ وجدانٍ، وليس بوسعي أن أمنعكَ من هذا التصور، ولا أن أردَّ عنك ما ترى.
ولكن، لو فُتح القلبُ المقفل، وأُوقد السراجُ المُعطَّل، وأشرقت بالنور حنايا لم تكن تعرف النور، ولامست فؤادك نفحةٌ من روح الملك القدوس، وهبَّت على أوديةِ نفسك، نسمةٌ من عالم الروح، وسمعتَ صوتاً يملأ نفسك، قادماً من بعيد، من الملأ الأعلى يقول:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} [الحديد: 16] . {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17] . فقفَّ شعرُ بدنك، واقشعرّ جلدك، ومار فؤادك، وتحركت السواكن، واضطرب بين جنبيك ما اضطرب، والتهب فيه ما التهب، وانهمرت الدموع تسيلُ في شعاب القلوب التي قتلها الظمأ،
وأقفرها الجفاف، تغسل الأوضار وتروي حبات القلب وتُندِّي اليَبَسَ وتُحيي المواتَ فعند ذاك تذوقُ ما لم تَعهدْ له مَذَاقاً ولا طعماً، وتحسُّ ما لم يكن لك فيه سابقُ معرفةٍ، ولا إحساس، وتصيحُ بكل جوارحك قائلاً: والله لقد آن! والله لقد آن! وعند ذاك تعرفُ ما أقول وتفهمُ ما أُشير إليه، ولكن أنّى لي أنْ أُوصِلَكَ إلى هذا؟!
وكيف أُوصلُكَ وأنا المنقطعُ، وأُعطيك وأنا المحروم؟ ولا حولَ ولا قوة إلا بالله.
إنما هي دلائلُ أضعها في الطريق وإشارات وصُوى، وشيء من خافت النورِ في مصباحٍ ناضبِ الزيت، غير ناقعِ الفتيل، عسى اللهُ أن ينفع بها سالكاً، ويجنِّب العثار سارياً في الليل البَهيم؛ فتنالنا منه دعوةٌ صالحة تنفعنا في عَرَصات القيامة.
وفي الختام لا أجدُ خيراً من أن أُوصيك ما أوصى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا ذر، وليكن ذلك منك على ذِكْرٍ وإياك أن تنساه:
يا أبا ذر أَحْكمِ السفينةَ فإنَّ البحرَ عميق
وخَفِّفِ الحملَ فإنَّ العَقبةَ كَؤُود
وأكثرِ الزادَ فإنَّ السفرَ طويل
وأخلصِ العملَ فإنَّ الناقدَ بصير.