المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة القيامة سألني ولدي ذات يوم: ما مناسبةُ قولهِ تعالى: {لَا - لمسات بيانية في نصوص من التنزيل - كتاب

[فاضل صالح السامرائي]

الفصل: ‌ ‌سورة القيامة سألني ولدي ذات يوم: ما مناسبةُ قولهِ تعالى: {لَا

‌سورة القيامة

سألني ولدي ذات يوم: ما مناسبةُ قولهِ تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} لِمَا قبله وهو قوله تعالى: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} .

فقلتُ له: دَعْني أنظر في أول السورة، لعلي أجد مفتاحَ الجواب. فقرأت: بسم الله الرحمن الرحيم: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة * وَلَا أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} .

ص: 201

فقلت له: المناسبة ظاهرة، وهي أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوامة، ومن أبرزِ سِماتِ النفس اللوامة أن تعجل في الأمر، ثم تندم عليه، فتبدأ بلومِ نفسها على ما فعلت. وهو في الآيات التي ذَكَرْتَها ذَكَرَ النفسَ، فقال:{بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} وذَكَرَ العجلةَ فقال: (لتعجلَ به) فالمناسبة ظاهرة.

ثم بدأتُ أقرأُ السورةَ متأملاً فيها فوجدت من دقائق الفن والتناسب والتناسق ما يدعو إلى العجب فآثرتُ أن أُدَوِّنَ شيئاً من هذه اللمسات الفنية.

لقد ذكر المفسرون مناسبة هذه السورة لما قبلها أعني سورة (المدّثّر) وارتباطها بها. فقد قالوا: إنه سبحانه قال في آخر سورة المدثر: {كَلَاّ بَل لَاّ يَخَافُونَ الآخرة * كَلَاّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} [المدثر: 53-54] ، وفيها كثير من أحوال القيامة "فذكر هنا يوم القيامة وجُمَلاً من أحوالها" فكان بينهما مناسبة ظاهرة.

إن هذه السورةَ قطعةٌ فنية مترابطة متناسقة مُحْكَمةُ النَّسْجِ، وليس صواباً ما جاء في (الإتقان) أن "من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها، من ذلك قوله تعالى في سورة القيامة: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عَسِرٌ جداً".

إنَّ ترابطَ آيات هذه السورة ترابط محكم وتناسبها فيما بينها لا يخفى على المتأمل.

لقد أقسم الله سبحانه بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوامة على رأي الأكثرين، أو أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس باللوامة على رأي

ص: 202

آخرين. وسِرُّ هذا الاختلافِ، أنَّ ثَمَّة قراءة بإثبات القسم بيوم القيامة أي (لأقسم) إلا أنهم اتفقوا على إثبات حرف النفي مع النفس اللوامة فكلهم قرأ {وَلَا أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} .

ولا نريدُ أن نطيل الكلامَ على اقتران فعل القسم بـ (لا) ودواعيه فقد تكلم فيه المفسرون والنحاة بما فيه الكفاية. والذي نريد أن نقوله ههنا: إنَّ كل أفعال القسم المُسْندةِ إلى الله في القرآن الكريم مسبوقة بـ (لا) إذ ليس في القرآن الكريم (أقسم) بل كلها (لا أقسم)، وذلك نحو قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] وقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بالشفق} [الانشقاق: 16] وقوله: {لَا أُقْسِمُ بهاذا البلد} [البلد: 1] وما إلى ذلك. فليس القَسَمُ ههنا بِدْعاً من التعبير.

وباختصار كبير نُرجِّحُ أن هذا التعبير إنما هو "لونٌ من ألوان الأساليب في العربية تُخبر صاحبك عن أمرٍ يَجهله أو ينكره، وقد يحتاج إلى قَسَمٍ لتوكيده، لكنك تقول له: لا داعي أن أحلف لك على هذا، أو لا أريد أن أحلف لك أن الأمر على هذه الحال، ونحوه مستعملٌ في الدارجة عندنا نقول: ما أحلف لك أن الأمر كيت وكيت. أو ما أحلف لك بالله لأن الحلف بالله عظيم، إن الأمر على غيرِ ما تَظُنُّ

فأنت تخبره بالأمر، وتقول له: لا داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر".

أو كما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطىء، وهو أنَّ القصدَ من ذلك هو التأكيد "والتأكيد عن طريق النفي، ليس بغريبٍ عن مألوفِ استعمالنا، فأنت تقولُ لصاحبك: لا أُوصيكَ بفلان تأكيداً للوصية ومبالغةً في الاهتمام

ص: 203

بها، كما تقول: لن أُلِحَّ عليك في زيارتنا. فتبلغ بالنفي ما لا تبلغه بالطلب المباشر الصريح".

ومهما كان الرأي في دخول (لا) على فعل القسم، فإن هذا لا يُغَيِّرُ شيئاً من أصل المسألة، وهي أنه ابتدأ السورةَ بالقسَمِ بيوم القيامة والنفس اللوامة نفياً أو إثباتاً. وقد حاول المفسرون أن يجدوا المناسبة لاجتماعهما في القسم فقالوا:"المقصود من إقامة القيامة، إظهار أحوال النفوس اللوامة، أعني سعادتها وشقاوتها، فقد حصل بين القيامة والنفوس اللوامة هذه المناسبة الشديدة".

وجاء في (التبيان في أقسام القرآن) : "وجمع سبحانه في القسم بين محلِّ الجزاء وهو يومُ القيامة، ومحلِّ الكَسْبِ وهو النفس اللوامة

ولما كان يومُ معادها هو محل ظهور هذا اللوم وتَرتُّبِ أثرهِ عليه، قَرَنَ بينهما في الذِّكْرِ".

إن السورة مبنية على ما ابتدأت به من القسم، فهي مبنية على أحوال يوم القيامة، وعلى النفس، ولا تكاد تخرج عن ذلك.

هذا أمر. والأمرُ الآخر أنه تعالى لم يقسم بالنفس على صفة الإطلاق، بل أقسم بنفسٍ مخصوصة، وهي النفس اللوامة، وهذا له طابعهُ الواضح في السورة كما سنبين.

إن الإنسان يلومُ نفسه لأحدِ سببين:

إما أن يتعجل فيفعل ما لا ينبغي له فعله، فيندم على ذلك فيبدأ يلوم نفسه، لِمَ فعلت ذاك؟ لِمَ لَمْ أتروَّ؟

وإما أن يتراخى عن فِعْل كان الأَوْلى له أن يفعله، وأن يَغتنم الفرصة التي سنحت له، ولكنه قعد عن ذلك مُسَوِّفاً، ففاته نفعٌ كبير، وقد لا تسنح له فرصة، كالتي فاتت، فيبدأ بلوم نفسه. لم تباطأتُ، لمَ لم أفعل؟ لمَ لم أغتنم الفرصة؟ ونحو ذلك.

والسورة مطبوعة أيضاً بهذين الطابعين من صفات النفس اللوامة، طابع العجلة التي تدعو إلى الندم واللوم، وطابع التباطؤ وتفويت الفرص الذي يؤدي إلى الندم واللوم أيضاً.

فالسورة مبنية على ما ابتدأت به.

يوم القيامة، والنفس اللوامة في حاليها: العجلة والتباطؤ.

أما يوم القيامة، فقد تكررت أحواله في السورة في تناسق لطيف، إلى أن ختمت بقوله:{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} فتناسب بَدْءُ السورةِ مع خاتمتها.

ثم قال بعد القسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة:

{أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} فعاد إلى القيامة.

والملاحظ في هذا التعبير أنه جمع بين نفس الإنسان ويوم القيامة، أيضاً كما ابتدأت السورة فقال:{أَيَحْسَبُ الإنسان} أي: أَيظنُّ ذلك في نفسه؟ والحسبانُ أمرٌ نفسي داخلي، ولم يقل مثلاً:(لنجمعنك إلى يوم القيامة) أو (لتبعثن) ونحو ذلك فجمع بينهما في تناسق لطيف مع بداية السورة، وهو اختيار فني رفيع.

ص: 204

ومن الملاحظ أننا لا نجد جواباً للقسم الذي ابتدأت به السورة، وإنما نجد ما يدل عليه وهو هذه الآية. فجوابُ القسم محذوف ويُقَدِّرهُ النحاةُ (لتبعثن) .

وهذا الحذف يتناسب هو والعجلة التي دلّت عليها النفس اللوامة وجَوّها - أعني جو العجلة - الذي طبعت به السورة.

ومن الملاحظات الأخرى في هذه الآية، أنها مرتبطةٌ بما ورد في آخر السورة وهو قوله:{أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} أجملَ ارتباط حتى كأنهما آيتان متتابعتان تأخذُ إحداهما بحجز الأخرى.

ثم قال بعدها:

{بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} .

إن هذه الآية تتناسب هي وما ورد في آخر السورة من قوله تعالى: {فَخَلَقَ فسوى} إلا أن هذه تسويةٌ مخصوصة بالبنان وتلك تسويةٌ عامة. وكل آية موضوعة في مكانها المناسب فآية {نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} مرتبطة بقوله: {نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} فإن البنان عظام، فناسب ذلك بأن يكون بجنب {نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} . أما الآية الأخرى وهي {فَخَلَقَ فسوى} فهي مرتبطة بالخلق العام للإنسان، فناسب ذلك الإطلاق والعموم فناسبت كل آية موضعها.

وملاحظة أخرى في هذا التعبير، وهي أنه حذف منه عامل الحال، فقال:{بلى قَادِرِينَ} ولم يذكر عامله، ويقدره النحاة بقولهم:(بلى نجمعها قادرين) وهذا الحذف يتناسب أيضاً والعجلة التي دلّت عليها النفس اللوامة.

ص: 205

ثم قال بعد ذلك:

{بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} .

ومعنى الآية أن الإنسان يريد المداومةَ على شهواته ومعاصيه، ويقدم الذنب ويؤخر التوبة.

جاء في (الكشاف) في تفسير قوله تعالى: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} "ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه. وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه يقدم الذنب ويؤخر التوبة، ويقول: سوف أتوب، سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شَرِّ أحواله وأسوأ أعماله".

وجاء في (البحر المحيط) : "إن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه، يمضي فيها أبداً قُدُماً راكباً رأسه مطيعاً أمله ومُسَوِّفاً بتوبته".

وارتباطُ الآية بالنفس اللوامة واضح، فإن الإنسان ههنا يسوّف التوبة، ويتباطأ عنها ويغرّه الأمل حتى يموت، فيدركه الندم ويقع تحت مطرقة اللوم.

وانظر بعد ذلك كيف جاء باللام الزائدة المؤكدة في مفعول الإرادة، فقال:{بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ} والأصل أن يقال: (بل يريد الإنسان أن يفجر) لأن فعل الإرادة متعدٍّ بنفسه لا باللام كما قال: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] . غير أنه جاء باللام للدلالة على قوةِ إرادةِ الفجور والشهوات عند الإنسان وشدة الرغبة فيها. وهذه مَدْعاةٌ إلى الندم البالغ، وكثرة لوم الإنسان لنفسه. فارتبط ذلك أحسن ارتباط بالنفس اللوامة.

ص: 206

ثم انظر كيف أنه لما بالغ في إرادة الفجور والرغبة فيه، بالغ في اللوم فجاء بصيغة المبالغة، فقال:{اللوامة} ولم يقل (اللائمة) للدلالة على كثرة اللوم، فانظر المناسبة بين المبالغة في الفجور والمبالغة في اللوم، وكيف أنه لَمَّا بالغَ في أحدهما بالغ في الآخر.

ثم قال بعد ذلك:

{يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} .

وهذا "سؤال مُتعنِّتٍ مُسْتبعدٍ لقيام الساعة" وقد جاء بأداة الاستفهام (أيّان) التي تدل على شدة الاستبعاد. وهذا المتعنِّت المستبعد لقيام الساعة هو الذي يقدم الفجور والمعصية ويؤخر التوبة، وهو المذكور في الآية السابقة.

وقال بعد ذلك:

{فَإِذَا بَرِقَ البصر * وَخَسَفَ القمر * وَجُمِعَ الشمس والقمر * يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر} .

وهذه الآيات كأنها جواب السائل عن موعد القيامة المستبعد لوقوعها. وقد بدأ التعبير بـ (إذا) الدالة على الزمان لأن السائل إنما سأل عن زمنها وموعدها، فكان الجواب بالزمان كما كان السؤال عن الزمان.

ومعنى: {بَرِقَ البصر} دهش فلم يبصر، وقيل:: تَحيَّر فلم يطرف. وبرق بصره، أي: ضعف.

ص: 207

وذكرُ البصر مع ذكر الشمس والقمر له سببه ومناسبته، فإن البصر يعمل مع وجود الشمس والقمر، أي: مع النور؛ فإذا لم يكن ثَمَّةَ نورٌ فلا يعمل شيئاً كما قال تعالى: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لَاّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] .

وفي هذا اليوم قد تعطَّلَ البصرُ كما تعطّل الشمس والقمر، فالبصرُ بَرِقَ، والقمر خُسِفَ، وجُمعَ الشمسُ والقمر.

ثم انظر كيف قال: {بَرِقَ البصر} ولم يقل (عَمِيَ) أو نحو ذلك، فإن المراد تعطيله مع وجوده، كما فعل بالشمس والقمر، فإنه لم يُزِلْهُمَا ويُذهبْهما، وإنما عَطَّلهما فهو تناسب لطيف.

ثم انظر كيف قال: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} إشارة إلى تعطيل الحياة الرتيبة إذ إن استمرار الشمس والقمر على حالهما دليل على استمرار الحياة. والدنيا إنما هي أيامٌ وليال، وآيةُ النهار الشمس وآية الليل القمر، فجمعُهما معاً دليلٌ على تعطيل الحياة التي كان يرجوها مُسَوِّفُو التوبةِ، والمغترُّون بالأمل والذين يقدّمون الفجور ممن تقدم ذِكْرُهم بقوله:{بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ثم انظر بعدُ علاقة ذلك بالنفس اللوامة التي كانت تقدّم الفجور، وتغتر بالدنيا ففاجأها ما يستدعي كثرة اللوم.

ثم انظر مناسبة ذلك القسم بـ (يوم القيامة) ، و (اليومُ) يُستعمل في أحد مَدْلوليهِ لمجموعِ الليل والنهار فناسب ذلك ذكر الشمس والقمر، إذ هما دليلا اليوم وآيتاه في الدنيا، أما يوم القيامة فهو يوم لا يتعاقبُ فيه الشمس والقمر، بل يُجمعان فيه فلا يكون بعدُ ليلٌ ونهار بل هو يومٌ متصل طويل.

وفي هذا اليوم يطلب الإنسان الفرار، ولكن إلى أين؟

ويبقى السؤال بلا جواب. ثم يجيب رب العزة بقوله: {كَلَاّ لَا وَزَرَ} والوزَر: الملجأ، فلا ملجأ يفر إليه الإنسان ويحتمي به وإنما {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ

ص: 208

المستقر} والفارُّ يطلب ملجأ يأوي إليه ويعتصم به ويطلب الاستقرار ولكن لا استقرار إلا إلى الله، فإليه وحده المستقَرُّ.

وتقديم الجار والمجرور يفيد القصرَ والاختصاص، فليس ثمة مستقر إلى سواه. وهذا التقديم يقتضيه الكلام من جهتين:

من جهة المعنى وهو الاختصاص والقصر، وتقتضيه فاصلةُ الآية أيضاً.

وتقديم (يومئذ) كذلك يقتضيه الكلام من هاتين الجهتين أيضاً. فالمستقَرُّ في ذلك اليوم خاصةً إلى الله سبحانه، أما في الدنيا فالإنسان قد يجد مستقراً يأوي إليه ويستقر فيه، أما في ذلك اليوم، فلا مستقرَّ إلا إلى الله.

وتقديم {إلى رَبِّكَ} على {يَوْمَئِذٍ} له سببه أيضاً ذلك أن الإنسان في تلك الحالة، يبحث عن مكان يفر إليه ويستقر فيه، فقدم له ما يبحث عنه، وقال له:{إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} لأنه هو الأهم، وهو المقصود.

واختيار كلمة (رب) ههنا اختيار مقصود، فالرب هو المالك والسيّد والمدبّر والمربّي والقيّم والمنعم. وربُّ كلِّ شيء مالكهُ ومستحقه.

والفارُّ إلى مَنْ يلتجىء؟ هل يلتجىء إلا إلى سيده ومالكه وصاحب نعمته ومدبّر أمره والقيّم عليه؟

فهو وزَرهُ وإليه مستقرُّه، فهل ترى أنسب من كلمة (رب) ههنا؟

ثم إن اختيار كلمة (مستقر) اختيار دقيق محكم أيضاً، ذلك أن هذه الكلمة تدل على المصدر بمعنى الاستقرار، وتدل على اسم المكان بمعنى مكان الاستقرار، وتدل على اسم الزمان، بمعنى الاستقرار.

ص: 209

وهي هنا تفيد هذه المعاني كلها، فهي تفيد (الاستقرار)، أي: إلى ربك الاستقرار، وتفيد موضع الاستقرار وهو الجنة والنار أي إن ذلك إلى مشيئته تعالى.

جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} : "إلى ربك خاصة (يومئذ) مستقرُّ العباد، أي: استقرارهم، يعني أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره وينصبوا إليه. أو إلى حكمه ترجع أمورُ العباد لا يحكم فيه غيره كقوله: {لِّمَنِ الملك اليوم} [غافر: 16] أو إلى ربك مستقرّهم، أي: موضع قرارهم من جنة أو نار".

وجاء في (البحر المحيط) : "المستقر، أي: الاستقرار أو موضع استقرار من جنة أو نار إلى مشيئته تعالى: يُدْخِلُ مَنْ شاء الجنة، ويدخل من شاء النار بما قدم وأخر".

وتفيد زمان الاستقرار أيضاً، أي أن وقت الفصل بين الخلائق، وسَوقهم إلى مستقرهم عائد إلى مشيئته تعالى. فهم يمكثون في ذلك اليوم ما يشاء الله أن يمكثوا، ثم هو يحكم بوقت ذهابهم إلى مواطن استقرارهم، فكلمة (مستقر) أفادت ثلاثة معان مجتمعة علاوةً على ما تقتضيه الفاصلةُ في نهاية الآيات. ولا تغني كلمةٌ أخرى عنها، فلو أبدلت بها (الاستقرار) ما أدّت تلك المعاني، فهي أنسبُ كلمة في هذا الموضع.

ثم قال بعد ذلك:

{يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} .

والمعنى أن الإنسان يُنَبَّأُ بما قدّم من عملِ خيرٍ أو شر، وبما أخّر من عملٍ كان عليه أن يعمله، فلم يعمله.

ص: 210

وهذه الآية متناسبة مع ذكر النفس اللوامة، في أول السورة في حالتيها اللتين تدعوان إلى اللوم.

أنْ تفعلَ فعلاً ما كان ينبغي لها أن تفعله، فتلوم نفسها عليه، وهذا يدخل فيما قدّم.

أو تقعدَ عن عملٍ كان ينبغي لها أن تعمله، فلم تعمله وهو يدخل فيما أخّر.

ثم قال بعدها: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} .

بعد أن أخبر عن أحوال يوم القيامة فيما تقدم، عاد إلى النفس مرة أخرى. وهو اقترانٌ يذكِّرنا بالاقتران بين يوم القيامة والنفس اللوامة في مفتتح السورة.

والمعنى: أن الإنسان يعرف حقيقة نفسه، ولو جاء بالحجج والأعذار.

وقال بعدها: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .

وجهُ ارتباط هذه الآية بما قبلها، أن الحجج والمعاذير، إنما تلقى باللسان فارتبطت بقوله:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} .

والضمير في (به) يعود على القرآن، ولم يجرِ له ذِكْرٌ، وهو مفهومٌ من المعنى "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي، نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى أنْ يُتِمَّها مسارعةً إلى الحِفْظِ وخوفاً من أن يتفلَّتَ منه، فأمر بأن

ص: 211

يستنصت إليه ملقياً إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضى إليه وحيه.. (لتعجل به) لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلَّت منك".

وأما قوله: {لِتَعْجَلَ بِهِ} فهو تعليل لتحريك اللسان، فالعجلة علة لفعله هذا صلى الله عليه وسلم.

إن العجلة المذكورة هنا تتناسب مع جو العجلة في السورة، ثم إن ذكر ضمير القرآن من دون أن يجري له ذِكْرٌ اختصارٌ وإيجاز في الكلام مناسب لجو العجلة هذه، فقد تعاون كلٌّ من التعبير والتعليل لبيان هذا الغرض.

وقال بعدها: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} .

الملاحظ في هذا التعبير أنه قدم الجار والمجرور على الاسم، وذلك للاختصاص والقصر. والمعنى أننا نحن المتكفِّلُونَ بجمعه في صدرك وتلاوته للناس صحيحاً كاملاً. وهذا موطن من مواطن القصر، لأنه لا يمكن لأحدٍ غير الله أن يفعل ذلك. فإن تثبيت النصوص في النفس وحفظها بمجرد سماعها وعدم نسيانها، وإلقاءها كما هي على مَرِّ الزمن، إنما هو فِعْلِ الله وحده فهو الذي يثبت في النفوس أو يمحو منها ما يشاء.

إذن فإن ذلك عليه وحده.

وهذا التقديم اقتضاه المعنى كما اقتضته الفاصلة.

ولو أخر الجار والمجرور لأخلَّ بالمعنى، ذلك أنه يقتضي عدم القصر ومعنى ذلك أنه يخبر بأنه مُتكَفِّلٌ بجمع القرآن في صدره، وليس المتكفل

ص: 212

الوحيد وذلك كما تقول: (يشرح خالدٌ لكَ هذا الأمر) فإنك ذكرت أن خالداً يشرح له الأمر ولم تُفِدْ أن خالداً يخصه بالشرح لأحدٍ غيره. ولو قال: (لكَ يشرحُ خالد هذا الأمر) لأفاد أنه يخصه بالشرح ولا يشرح لأحد آخر. فتقديم الجار والمجرور على عامله يفيد القصر غالباً.

وهذا موطن قصر، إذ لا يمكن أن يفعل ذلك غير الله تعالى، أعني التكفل بتثبيت القرآن في النفس بمجرد سماعه.

وإدخال (إنّ) يقتضيه المعنى أيضاً في أكثر من جهة:

من ذلك أنها تفيد التعليل كما في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] . فهنا أفادت التعليل وبَيَّنت سبب النهي عن تحريك اللسان. فقد قال: لا تحرك به لسانك، لأن جمعه في صدرك نحن نتكفل به. ولو لم يدخل (إنّ) لم يرتبط الكلام ولانتفى معنى التعليل إذ لو قال:(لا تحرك به لسانك لتعجل به علينا جمعه وقرآنه) لم تجد له هذا الحُسْنَ الذي تجد، ولانفصل الكلام بعضه عن بعض. فـ (إن) ربطت الكلام بعضه ببعض وأفادت التعليل.

ومن ذلك أنها تفيد التوكيد، وهذا الموطن يقتضي التوكيد إذ إن حفظ الإنسان لكل ما يُلْقى إليه بمجرد سماعه أمرٌ غريب والتكفُّلُ به يحتاج إلى توكيد. ولذا جاء بـ (إنّ) المؤكدة.

وقال بعد ذلك: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .

ومعنى: {فاتبع قُرْآنَهُ} أي: اتّبعه بذهنك وفكرك، أي: فاستمع له.

ص: 213

والإسناد إلى ضمير الجمع هنا له دلالة إضافة إلى التعظيم الذي يفيده ضمير الجمع ذلك أن القارئ هو جبريل، وليس الله.

جاء في (التفسير الكبير) في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} "جعل قراءة جبريل عليه السلام قراءته

ونظيره في حق محمد عليه الصلاة والسلام {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] . وجاء في (البحر المحيط) : "فإذا قرأناه، أي: الملَك المُبلِّغ عنا".

وكذلك المبيِّن في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فالذي يبيّن للرسول ويوضح هو الملَك، فهو يقرأ بأمر الله ويبيّن بأمر الله فالأمر مشترك. الله يأمر والملك يبلّغ، ولذا عبر بأسلوب الجمع، والله أعلم، وأظن أن الفرق واضح بين قوله:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} والقول: (فإذا قرأتُه فاتّبع قرآنه) .

والقول في التقديم في {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} هو هو في الآية قبلها. فإن تقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص أيضاً ذلك أن تبيين ما أشكل منه مختص به تعالى.

وقال بعد ذلك: {كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة} .

والعاجلة يُؤثِرها بنو آدم على وجه العموم، ويقدمونها على الآخرة. وارتباطها بما قبلها وهو قوله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} ظاهر. فكلتاهما في العجلة وإيثارها، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان ينازع جبريل القراءة ولا يصبر حتى يتمها ليأخذه على عجل، والناس على وجه العموم يؤثرون

ص: 214

العاجلةَ على الآخرة، فهو طبعٌ عام في البشر خُلقوا عليه كما قال تعالى:{خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] فالموضوع إذن موضوع واحد هو العجلة.

وكلاهما يتعجَّلُ ما هو أثيرٌ لديه ومُفصَّلٌ عنده.

جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة} ، كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتكم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة: {وَتَذَرُونَ الآخرة}

فإن قلت: كيف اتصل قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} إلى آخره بذكر القيامة؟ قلت: اتصاله به من جهة التخلص منه إلى هذا التوبيخ بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة".

وجاء في (روح المعاني) في هذه الآية: {كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة} تعميم الخطاب للكل كأنه قيل: بل أنتم يا بني آدم لما خُلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ويتضمن استعجالك، لأن عادة بني آدم الاستعجال ومحبة العاجلة.. ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه:{بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} فإن الإنسان يسوفّ بتوبته ويغرّه أَملُه ويُؤثِرُ ما بين يديه ويغمسُ نفسه في شهواته، ويَستحبُّ عاجلَ حياته ولا ينظر فيما وراء ذلك من أمور الآخرة، فهي متصلة بما قبلها وبقوله:{بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} أتَمَّ اتصال.

ص: 215

كما أنها متصلة بالنفس اللوامة التي بنيت عليها السورة اتصالاً ظاهراً. فالنفس اللوامة كما ذكرنا تلومُ نفسها لأحد سببين:

ص: 216

إما أن تعجل فتعمل عملاً تندم عليه، فتلوم نفسها على ذلك، وهذا ما يفيده قوله:{كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة} ، وإما أن تؤخر عملاً كان ينبغي لها عمله فيفوتها خيره، فتندم عليه، فتلوم نفسها على ذلك وهذا ما يفيده قوله:{وَتَذَرُونَ الآخرة} فهو هنا عجّل أمراً وترك آخر فندم من الجهتين ولام نفسه في الحالتين، لام نفسه في العجلة ولام نفسه في التَّرك.

وما أحرى أن تسمى هذه النفس بالنفس اللوامة، لأن دواعي اللوم متكاثرة عليها.

ثم انظر كيف اختار الفعل: {وَتَذَرُونَ} على (تتركون) ذلك أن في (تذرون) حذفاً وأصله (تَوذَرون) من (وَذِرَ) ليدل ذلك على طابع العجلة الذي يريد أن ينتهي من الشيء في أقرب وقت. فاختيار هذا الفعل المحذوف الواو، مناسبٌ لجو العجلة.

وقد تقول: ولِمَ لم يقل: (تَدَعون) وهو فيه حذف كما في {وَتَذَرُونَ} ؟

والجواب - والله أعلم - أن اختيار (تَذَرون) على (تَدَعون) له سببه ذلك أن الفعل (وذر) في عموم معانيه يفيد الذم، ومنه قولهم: امرأة وذِرة أي: رائحها رائحة الوذْر، وهو اللحم، وقولهم:(يا ابنَ شامَّةِ الوذر) وهو سَبٌّ يكنى به عن القذف. وفي الحديث: "شَرُّ النساء الوذِرة المذِرة" بخلاف (ودع) فإن من معانيه الرائحة والدعة وخفض العيش. وقد يفيد المدح ومنه قولهم: رجل وديع، أي: هادئ ساكن. في حين أن

ص: 217

الموقف موقف ذم فإنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، فاختار الفعل الذي يقال في عموم معانيه للمدح. وهو اختيار فَنيٌّ رفيع.

ثم قال بعد ذلك: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .

هذان الصنفان هما ما يؤولُ إلى أحدهما الناسُ يوم القيامة. الذي يؤثر الآخرة ويعمل لها، والذي يحب العاجلة ويذر الآخرة. وهذه الآيات مرتبطة بأول السورة وهو القَسَمُ بيوم القيامة أتمَّ ارتباط. فإنه في يوم القيامة ينقسم الناس إلى هذين الصنفين.

ثم إن لاختيار كلمة (رب) وتقديم الجار والمجرور سببه أيضاً.

أما اختيار كلمة (رب) فهو أنسب شيء ههنا، فإن وجوه أهل السعادة تنظرُ إلى وليّ نعمتها في الدنيا والآخرة ومربيها وسيدها الذي غذاها بالنعم وهداها إلى طريق السعادة، وأوصلها إليه ولم تكن قد رأته من قبل. ولم يرد في هذه السورة من أسماء الله تعالى غير لفظ (الرب) .

وأما تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فللاختصاص، فإن هذه الوجوه لا تنظر إلا إليه، فإن النظر إليه يُذْهِلُهَا عن كلِّ ما عداه وينسي أهلها ما عداه من النعيم، فإن أهل الجنة ما أُعطُوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إليه كما في الحديث الصحيح. فهذا من أوجب مواطن الاختصاص. فالتقديم اقتضاه المعنى كما اقتضته موسيقى الفاصلة. وهذا الجمع بين النضرة وسعادة النظر إلى وجهه الكريم، يشبه الجمع بين النضرة والسرور في قوله تعالى:{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 11] .

ص: 218

ثم قال بعدها في الصنف الشقيّ: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .

وهذه بمقابل الوجوه الناضرة، وهي وجوهُ مَنْ آثرَ العاجلة، وترك الآخرة، وجوهُ مَنْ يريد ليفجرَ أمامه، الوجوه التي ينبغي لأصحابها أن يُكْثِرُوا اللومَ لأنفسهم ويبالغوا في اللوم.

وتقديم {يَوْمَئِذٍ} في الآيتين يفيد الاختصاص وهو ما يقتضيه المعنى والفاصلة، فإن نضرة أصحاب النعيم خاصة بذلك اليوم، أما في الدنيا فربما لم تعرف وجوههم النضرة. وكذلك أصحاب الوجوه الباسرة، فإن البُسُورَ مختصٌّ بذلك اليوم، وربما كانت وجوههم من أنضر الوجوه في الدنيا.

{تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .

والفاقرة: الداهيةُ العظيمة التي تقصم فقار الظهر وأصلها من الفقرة والفقارة كأن الفاقرة تكسر فقار الظهر.

واختيار فعل الظن مناسب أحسن مناسبة لجو السورة والسياق مع أن الموطنَ موطنُ علمٍ ويقين، وقد فسره أكثر المفسرين بالعلم واليقين، ذلك أن الإتيان بفعل الظن متناسب مع تأخير التوبة وإيثار العاجلة وتقديم الفجور، فإنه في الحياة الدنيا بنى حياته على الظن، فهو يظن أنه سيمتد به العمر ويطول به الأجل، فيسوّف بتوبته ويقدم شهوته. وهذا الظن يرافقه إلى اليوم الآخر، فهو إلى الآن يظن وقوع الداهية ظناً، وهو إلى الآن في حالِ ظنٍّ وأملٍ لا في حالِ علمٍ وبصيرة، فهو لا يرى إلا اللحظة التي هو

ص: 219

فيها، وما بعدها فهو عنده ظنٌّ لا يقين كما كان شأنه في الدنيا يقدم شهوته ويؤثر عاجلته ويقول: أيَّانَ يوم القيامة؟

فانظر هذا الاختيار الرفيع لفعل الظن في هذا الموقف، وانظر تناسب ذلك مع النفس اللوامة التي لا ترى إلا ما هي عليه حتى تفوتها الفرصة، ويفوتها معها الخير، ويدركها سوء العاقبة، فتلوم نفسها على ما فرطت في جنب الله.

وذُكِرَ لاختيار فِعْلِ الظن سببٌ آخر هو أن الظانّ لا يعلم نوع العقوبة، ولا مقدارها فيبقى وَجِلاً أشد الوجل، خائفاً أعظم الخوف من هذا الأمر الذي لا يعلم ما هو ولا مداه ولا كيف يَتَّقيه. ألا ترى أن الذي يعلم ما سيحلُّ به يكونُ مُوطِّناً نفسه على ذلك الأمر بخلاف الذي لا يعلم ماذا يتّقي، وما مداه وما نوع تلك الفاقرة.

جاء في (روح المعاني) : "وجيء بفعل الظن ههنا، دلالة على أن ما هُمْ فيه، وإن كان غاية الشر يتوقع بعده أشد منه وهكذا أبداً

وإذا كان ظانّاً كان أشدّ عليه مما إذا كان عالماً موطِّناً نفسه على الأمر".

ولاختيارِ الفاقرةِ دون غيرها سببٌ سنذكره في مكانه.

واختيار تعبير {أَن يُفْعَلَ بِهَا} بالبناء للمجهول دون أن يقول مثلاً: (أن تصيبها فاقرة) أو (تحلّ بها) أو نحو ذلك له سبب لطيف. ذلك أن قوله: {أَن يُفْعَلَ بِهَا} معناه أن هناك فاعلاً مُريداً يفعلُ بفقار الظهر ما يريد من تحطيمٍ وقصم. أما القول: (أن تصيبها) أو (تحل بها) فكأن ذلك متروك للمصادفات والظروف، فقد تكون الفاقرة عظيمة أو هينة والفواقر بعضها

ص: 220

أدهى من بعض. فقوله: {أَن يُفْعَلَ بِهَا} أنسب اختيار في هذا السياق إذ لا يترك ذلك للمصادفات والموافقات، بل كان ذلك بقدر.

ثم إنه لم يقل: (أن نفعل بها) بإسناد الفعل إلى ذاته العلية، لأنه لم يُرِدْ أن ينسبَ إيقاع هذه الكارثة والشر المستطير إلى نفسه كما هو شأن كثير من التعبيرات التي لا ينسب الله فيها السوء إلى ذاته العلية نحو قوله:{وَأَنَّا لَا ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10] . وقوله: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً} [الإسراء: 83] . فلم ينسب الشر إلى ذاته.

ثم قال بعدها: {كَلَاّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} .

"والضمير في {بَلَغَتِ} للنفس وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ". وعدم ذكر الفاعل ولا ما يدل عليه مناسب لجو العجلة الذي بنيت عليه السورة. ونحوه ما مر في حذف جواب القسم في أول السورة، وحذف عامل الحال {قَادِرِينَ} ، وعدم ذكر ما جرى عليه الضمير في قوله:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وغيره مما سنشير إليه.

{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} وحذف الفاعل وإبهامه في (قيل) مناسبٌ لإضماره وعدم ذكره في {بَلَغَتِ التراقي} كلاهما لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، وكذلك الإبهام في (راق) مناسب لسياق الإبهام هذا، فإن كلمة (راق) مشتركة في كونها اسم فاعل للفعل (رقَى يرقي) وهو الذي يقرأ الرقية على المريض ليشفى، وفي كونها اسم فاعل للفعل (رقي يرقَى) بمعنى (صعد) ومنه قوله تعالى:{أَوْ ترقى فِي السمآء} [الإسراء: 93] .

ص: 221

واختلف في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين:

مَن يرقيه فيشفيه وينجيه من الموت؟

أو مَن يَرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟

فالقائل مجهول، أَهُمْ أهلهُ ومن يتمنى له الشفاء أم هم الملائكة الذين حضروه أثناء الموت؟

فانظر جو الحذف والإبهام وكيف ناسب ما قبله؟

وقال بعدها: {وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق} .

واختيار فعل الظن اختيار مناسب غاية المناسبة لما قبلها ولجوِّ السورة كما ذكرنا، فهو إلى اللحظة الأخيرة في حالِ ظنٍّ وأمل ولا يزال فِراقُ الحياة عنده ظناً من الظنون لا يقيناً، ومناسب لقوله:{تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} فهو في الموطنين، يفترض أن يكون في موقف علم ويقين ولكن مع ذلك لا يزال في موقف ظن.

جاء في (روح المعاني) : "والظن هنا عند أبي حيان على بابه وأكثر المفسرين على تفسيره باليقين. قال الإمام: ولعله إنما سُمِّيَ اليقينُ ههنا بالظن لأن الإنسان ما دامت روحهُ متعلقةً ببدنه يطمعُ في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة".

ص: 222

قوله: {والتفت الساق بالساق} .

قيل: معناه لَفُّهما في الكفن، وقيل: انتهاء أمرهما بالموت، وكل ما قيل في تفسير الآية يراد به حالة من حالات الموت الذي حصل يقيناً لا ظناً.

{إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} .

إن تركيب هذه الآية نظير آية {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} ، فإن تقديم {إلى رَبِّكَ} يفيد القصر والاختصاص، فإن الناس يُساقون إلى ربهم وليس إلى مكان أو ذاتٍ أخرى، فسَوقهم مختص بأنه إلى الله وحده لا إلى غيره.

وكذلك تقديم (يومئذ) فالمساق إليه سبحانه يكون في ذلك اليوم خصوصاً، وهو يوم مفارقة الدنيا.

وقدم {إلى رَبِّكَ} على {يَوْمَئِذٍ} لأنه هو المهم لأنها جهة المساق ومُنتهاه ومستقره. وقد قال في آية سابقة: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} وقال هنا: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} فاختير لفظ (المساق) ههنا لأن الآية في مفارقة الروح الجسد عند الموت، فيذهب بالميت بعد ذلك ويساق إلى ربه، ثم يوضع في القبر، والقبر ليس مستقرّاً ولا موطن إقامة، وإنما هو موطن زيارة كما قال تعالى:{أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر} [التكاثر: 1-2] فسماها زيارة ولم يسمها مكثاً أو إقامة.

أما الآية الأولى فهي في يوم القيامة، يوم قيام الناس من قبورهم والذهاب بهم إلى مستقرهم في الجنة أو النار. وقد سمى الله الجنة مستقرّاً وكذلك النار قال تعالى:{أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] . فالمساق ينتهي إلى المستقر كما قال تعالى: {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ

ص: 223

خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذا قَالُواْ بلى ولاكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين * قِيلَ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين * وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً} [الزمر: 71-73] . فهذه غاية المساق ومنتهاه، وكل ذلك إلى الله رب العباد.

ثم قال بعدها: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى * ولاكن كَذَّبَ وتولى * ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى * أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} .

هذه الآيات فيها حشد من الفن عظيم عسى أن أُوفَّقَ إلى بيانِ شيء من مظاهره. فمن ذلك:

1-

أن هذه الآيات وقعت بعد قوله: {والتفت الساق بالساق * إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} وهذا النفي والإخبار فيها، إنما هو في الآخرة وهي من أحوال الآخرة وأخبارها، فارتبطت بقوله:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} .

2-

كما ارتبطت بالنفس اللوامة من جهتيها الداعيتين إلى اللوم، فقد ذكرنا أن النفس اللوامة إنما تلوم نفسها لسببين:

إما أن تقوم بعمل لا ينبغي أن تقوم به فتندم فتلوم نفسها على ذلك، أو تترك عملاً ما كان ينبغي لها أن تتركه، فيفوتها خيره فتندم فتلوم نفسها على ذلك. والنفس هنا قدّمت التكذيب والتولّي:{ولاكن كَذَّبَ وتولى} وأخَّرت التصديقَ والصلاة {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى} فندمت في الحالتين فاقتضى ذلك أن تلوم نفسها من الجهتين، وأن تكثر ذلك وتبالغ في الملامة.

3-

كما ارتبطت بقوله: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ذلك أنه كذّب وتولى، فقدم شهواته ومعاصيه.

ص: 224

4-

وارتبط قوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى} بقوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} فهو مُسْتَبعِدٌ له مكذب به فهو لم يصدِّق ولم يصلِّ.

5-

كما ارتبط ذلك بقوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} فإنه قدّم التكذيب والتولّي وأخّر التصديق والصلاة.

6-

وارتبط قوله: {فَلَا صَدَّقَ} بقوله: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} ذلك أن التصديق أمر إيماني، وهو من دخائل النفوس التي لا يطلع عليها إلا الله. والإنسان أعلم من غيره بما في نفسه فهو على نفسه بصيرة، ثم إن الإيمان كما يقال: تصديقٌ بالجَنانِ وقولٌ باللسان وعمل بالأركان، فهو لم يصدّق بالجنان {فَلَا صَدَّقَ} وكذّب باللسان، كما قال تعالى:{ولاكن كَذَّبَ} فأظهر التكذيب و {وتولى} ولم يعمل بالأركان فانتفت عنه حقيقة الإيمان.

7-

وارتبط عدم الصلاة والتولّي بإلقاء المعاذير، فإنه سَيُسأل عن ذلك، فيحاول أن يدفع عن نفسه بالمعاذير.

8-

وارتبط قوله: {فَلَا صَدَّقَ} وقوله: {ولاكن كَذَّبَ} بقوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} فإنه لم يؤمن، والإيمان باليوم الآخر من أهم أركان الإيمان.

9-

وارتبطت هاتان الآيتان أعني قوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى * ولاكن كَذَّبَ وتولى} بقوله: {كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة} فهو قد أحب العاجلة، فكذّب وتولى وترك الآخرة.

10-

وارتبطتا بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} فإنه لو صدّق وصلّى لكان من أصحاب الوجوه الناضرة، ولكن كذّب وتولى فأصبح من أصحاب الوجوه الباسرة.

ص: 225

قوله: {ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى} .

يتمطى، يتبختر وأصله من المطا، وهو الظهر، أي: يَلْوي مطاه تبختراً. وقيل أصله يتمطّط، أي: يتمدد في مشيته ومَدِّ منكبيه قلبت الطاء فيه حرفَ عِلَّة كراهة اجتماع الأمثال مثل تظنَّى من تظنّن.

وهذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .

والفاقرة هي الداهية التي تقصم فقار الظهر. فهذا الذي يتبختر في مشيته ويلوي ظهره، سيقصم فقار ظهره، فلا يستطيع حراكاً. وهو جزاءٌ من جنس العمل، أفلم يكن يلوي ظهره ويتبختر، فسيحطّم هذا الظهر الذي طالما لواه وتبختر به.

وهذا أنسبُ عقابٍ له. ولو قال بدل ذلك مثلاً: ستصيبه داهيةٌ أو تحل به كارثة أو قارعة لم تجده يَحْسُنُ هذا الحُسْنَ، ولا يرتبط به مثل هذا الارتباط، فإن ذلك لا يجانس تَمطّيه.

وهي مرتبطة أيضاً بقوله تعالى: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} فهو كان يذهب إلى أهله وينقلب إليهم متى شاء، أما الآن فإنه يُساق سَوقاً إلى ربه وسيده على الرغم من أَنْفِهِ.

ثم انظر كيف قدم الجار والمجرور في السَّوق فقال: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} لأنه ليس له اختيار، وإنما هو مَذهوبٌ به إلى جهة واحدة. أما في الدنيا فهو ينقلب إلى أهله وإلى عمله، وإلى أصدقائه وإلى من شاء،

ص: 226

فليس ثمة حصر، ولذا لم يقدم الجار والمجرور في الدنيا، فقد كانت له فيها الحرية. أما الآن فهو مَسُوقٌ سوقَ العبدِ إلى مولاه وربه وسيده.

ثم انظر كيف أنه لم يذكر (يومئذ) في الدنيا بخلاف يوم موته وسَوقه. فإنه كان في الدنيا يذهب كل يوم وليس في يوم معيّن، أما سَوقه إلى ربه فذلك في يوم معين وهو يوم الفراق فلم يحتج إلى ذكر اليوم في الدنيا بخلاف يوم المساق.

فانظر كيف تقابل التعبيران والمشهدان.

قوله: {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} .

{أولى لَكَ} عبارة تقال على جهة الزجر والتوعّد والتهديد. تقول لمن تتوعده وتتهدده، (أولى لك يا فلان) أي: ويل لك. واشتقاقها من (الوَلْي) وهو القرب، فهو اسم تفضيل يفيد قرب وقوع الهلاك.

جاء في (الكشاف) : {فأولى لَهُمْ} [محمد]"وعيدٌ بمعنى: فويلٌ لهم، وهو أفعل من الوَلْي وهو القرب ومعناه: الدعاء عليهم بأن يَلِيَهم المكروه".

وجاء في (روح المعاني) : {أولى لَكَ فأولى} "من الوَلْي بمعنى القرب، فهو للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء، كأنه قيل: هلاكاً أَولى لك بمعنى: أهلككَ اللهُ تعالى هلاكاً أقرب لك من كل شر وهلاك.. وفي الصحاح عن الأصمعي، قاربَهُ ما يُهْلِكُه: أي نزل به

وقيل: اسم فعل مبني ومعناه: وَلِيكَ شَرٌّ بعد شر".

ص: 227

واختيار هذا الدعاء أنسب شيء ههنا، فهو دعاء عليهم وتهديد لهم بالويل القريب والشر الوشيك العاجل، فهو مناسب لإيثارهم العاجلة وتقديمهم الفجور والشهوات وتأخيرهم الطاعات، فكما عجّلوا في فجورهم وشهواتهم ومعاصيهم عجل لهم الويل والثبور. وهو مناسب لجو العجلة في السورة الذي ذكرنا قسماً من مظاهره.

لقد ورد هذا الدعاء في سورة محمد فقال: {فأولى لَهُمْ} غير أننا نلاحظ الفروق التعبيرية الآتية بينهما:

1-

إنه كرر الدعاء في سورة القيامة في الآية الواحدة فقال: {أولى لَكَ فأولى} ولم يكرره في سورة محمد بل قال: {فأولى لَهُمْ} .

2-

ثم إنه عاد فكرر الآية: {أولى لَكَ فأولى} كلها في سورة القيامة، فكان تكراران: تكرار جزئي في الآية، وتكرار كلي للآية.

3-

في آية {أولى لَكَ فأولى} كرر لفظ {أولى} ولم يكرر {لَكَ} .

4-

فَصَلَ بين الدعاءين في الآية الواحدة بالفاء.

5-

فصل بين الآيتين بـ (ثم) .

وبالتأمل في السياقين نجد السبب واضحاً.

قال تعالى في سورة محمد: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت فأولى لَهُمْ} [محمد: 20] .

وقال في سورة القيامة: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى * ولاكن كَذَّبَ وتولى * ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى * أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} .

ص: 228

وكل سياق يقتضي ما ذكر فيه من جهات متعددة منها:

1-

إن المذكور في آية القيامة أشد كفراً وضلالاً من المذكورين في آية محمد، ذلك أنه قال في آية محمد:{رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} وهؤلاء من ضَعَفَة الدين.

جاء في (الكشاف) : " {الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} هم الذين كانوا على حرف غير ثابتي الأقدام".

وجاء في (روح المعاني) : {رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي: نفاق. وقيل: ضعف في الدين".

في حين قال في سورة القيامة: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى * ولاكن كَذَّبَ وتولى} وربما أظهر الأول التصديق والصلاة في حين أن الثاني أظهر التكذيب والتولّي، ثم ذهب إلى أهله متبختراً بذاك فهو إذن أولى بالوعيد الشديد.

2-

إن المذكورين في سورة محمد أخبر عنهم وهم أحياء، والأحياء تُرْجى لهم التوبة، وبابُ التوبة مفتوح، أما المذكور في سورة القيامة فأخبر عنه بعد الموت وقد مات على التكذيب والتولي وتحقق عليه الوعيد الشديد.

3-

اذكر في آية سورة محمد صفة واحدة، وهي الجبن عن القتال، فهدَّدهم مرة واحدة في حين ذكر أكثر من صفة من صفات الكفر في سورة القيامة فكرر تهديده.

ص: 229

4-

ذكر صفتين للمذكور في سورة القيامة وهما: عَدَمُ التصديق وعدم الصلاة: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى} ولكل منهما ذكر تهديدًا:

فلا صدّق

أولى لك.

ولا صلّى

فأولى.

ثم كرر هاتين الصفتين وأكَّدهما بمعناهما، فقال:{ولاكن كَذَّبَ} وهي بمعنى {فَلَا صَدَّقَ} ثم قال: {وتولى} وهي إثباتٌ لعدم الصلاة وغيرها من الطاعات. فالآية الثانية تكرير وتوكيد لما نفاه عنه في الآية الأولى. ولذا كرر التهديد وأعاده، لأنه أعاد الصفتين كلتيهما بمعناها فقال:{ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} .

وعلى هذا فهو ذكر عدم التصديق وأكده بالتكذيب، وذكر عدم الصلاة وأكده بالتولّي، ولكلٍّ تهديدٌ ووعيد فكرره أربع مرات كل وعيد مقابل صفة.

5-

لقد ذكر صفتين كما أسلفنا في سورة القيامة، وهاتان الصفتان ليستا بدرجة واحدة من الضلال بل إحداهما أشدّ من الأخرى.

فالأولى: هي التكذيب أو عدم التصديق.

والأخرى: التولي ومنه عدم الصلاة.

وعدم التصديق أو التكذيب هو إنكار للإيمان من أساسه، فهو لم يصدّق بالرسالة ولا ببقية أركان الإيمان.

والثانية: عدم الصلاة. جاء في (فتح القدير) : {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى} أي: لم يصدّق بالرسالة ولا بالقرآن ولا صلى لربه.. وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه".

ص: 230

ولا شك أن عدم التصديق، هو أكبر جرماً وضلالاً لأن صاحبه لم يؤمن أصلاً. أما عدم الصلاة فهو أخف. ذلك أن المؤمن إذا قصّر في الطاعات تكاسلاً فقد يغفر الله له أو يتجاوز عنه، لأنه لا يزال في دائرة الإسلام. وقد قال أكثر الفقهاء أن المسلم إذا ترك الصلاة تهاوناً وتكاسلاً غير جاحدٍ لفرضيتها لا يُخْرِجُه ذلك عن الإسلام.

أما إذا لم يؤمن ولم يصدق فلا ينفعه شيء، وإن فعل ما فعل من مظاهر الطاعة. ولذا كانت قوة التهديد بمقابل قوة الوصف. فقال مقابل {فَلَا صَدَّقَ} {أولى لَكَ} فذكر {لَكَ} ومقابل {وَلَا صلى} {فأولى} بحذف (لك) إشارة إلى عظم الإيمان وأهميته، وإشارة إلى أن الصفتين المذكورتين ليستا بدرجة واحدة في الضلال.

فهذا الحذف ليس للفاصلة فقط، وإن كانت الفاصلة تقتضيه أيضاً، وإنما هو للمعنى وللفاصلة.

6-

إن الصفتين لم يكررهما بلفظهما بل بمعناهما ومقتضاهما، وهما في لفظ الإعادة والتوكيد أشد سوءاً ونُكراً مما ذكرهما أولاً.

فإنه قال أولاً: {فَلَا صَدَّقَ} وقال في التأكيد والإعادة: {ولاكن كَذَّبَ} والتكذيب إنما يكون بالإعلان والإشهار. أما عدم التصديق فلا يستلزم الإعلان، وقد تقول:(هو لا يصدّق غير أنه لا يعلن تكذيبه) ، فربما لا يصدّق إنسانٌ بأمرٍ غير أنه لا يكذّبُ به.

فالتكذيب إذن أشد سوءاً أو ضلالاً من عدم التصديق.

وكذا قوله: {وَلَا صلى} فقد كرره وأكده بقوله: {وتولى} ، والتولّي أعمُّ من عدم الصلاة وأشد.

وعلى هذا فآية التوكيد أشد من الآية المؤكَّدة.

ص: 231

وقد فرق بين الآيتين بـ (ثم) وذلك لجملة أسباب:

منها أن {ثُمَّ} قد تفيد عموم البعد والتباين وليس المقصود بها التراخي في الزمن فقط، ومن ذلك قولهم:(أعجبني ما صنعته اليوم، ثم ما صنعته أمس أعجب) .

ونحو ذلك قوله تعالى: {فَلَا اقتحم العقبة * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} [البلد: 11-17] .

دخلت {ثُمَّ} لبيان تفاوت رتبة الفك والإطعام من رتبة الإيمان.

فما بعد (ثم) أبعد من الرتبة مما قبلها، وكذلك ههنا فإن التهديد أقوى من الأول.

وقيل: إن التكرار ههنا مبالغة في التهديد والوعيد.

ومنها: إنه جاء بـ (ثم) لتوكيد الكلام، إذ أن جملة التوكيد قد يفصل بينها وبين المؤكدة بحرف العطف، تقول: والله ثم والله. وفي (روح المعاني) : "إنها كُرِّرت للتأكيد".

وربما جاء بـ (ثم) للتراخي الزمني أيضاً، إذ هناك عذاب في القبر وعذاب في الآخرة، وبينهما مدة مديدة كما قال تعالى في آل فرعون:{النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] .

ص: 232

فهم يعرضون على النار غدواً وعشياً في القبر، ويوم تقوم الساعة لهم عذابٌ أشد.

وعلى هذا يكون التهديد الأول في القبر والثاني في الآخرة، وجاء بينهما بـ (ثم) الدالة على المهلة والتراخي. والدالة على بُعْدِ ما بين التهديدين والعذابين في الشدة.

ونحوه ما قيل في قوله: {كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3-4] . قيل: تأكيدٌ لحصول العلم كقوله: {كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4-5] وقيل: ليس تأكيداً بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت، والعلم الثاني في القبر، وهذا قول الحسن ومقاتل. ورواه عطاء عن ابن عباس.

ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه:

أحدها: أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل، وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته، وعدم الإخلال بالفصاحة.

الثاني: لتوسط (ثم) بين العلمين، وهي مؤذنة ما بين المرتبتين زماناً وخطراً".

وجاء في (فتح القدير) في قوله: {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} "قيل: ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات: الويلُ لك حياً

ص: 233

والويلُ لك ميتاً، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار".

7-

لذا جاء بالفاء بين الأوليين لقربهما وتعجيلهما فقال: {أولى لَكَ فأولى} فإن ما بين العذابين قريب، وهو عذاب الدنيا وعذاب القبر.

وكذلك جاء ما بين العذابين الآخرين بالفاء، لقربهما من بعضهما وهو {أولى لَكَ فأولى} الثانية فإنهما متصلان بيوم القيامة ودخول النار. فكل عذابين قريبين من بعضهما فصل بينهما بالفاء. وقد فصل بـ (ثم) للفاصل الزمني البعيد بين كل منهما.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، أنه جيء بالفاء الدالة على التعقيب بلا مهلة لمناسبة العجلة التي بنيت عليها السورة في قوله:{كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة} وقوله: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} وغير ذلك من السياقات التي تدل على العجلة.

ثم قال بعد ذلك: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} .

هذه الآية مرتبطة بأول السورة، وهو القَسم بيوم القيامة، ومرتبطة بقوله تعالى:{أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} ومرتبطة بقوله: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ذلك أنه مجزيٌّ عن عمله ولا يترك سدى، بل سيعاقب على فعله، ومرتبطة بالآية قبلها وهي {أولى لَكَ فأولى} ذلك أن معناها: أنه لا يترك سدى بل سيعاقب على فعله، ومرتبطة بما بعدها وبآخر السورة، وهو قوله:{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} .

وغنية هذه الوثاقة في الارتباط عن كل قول.

ص: 234

قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى} .

حذف نون (يكن) لسببين والله أعلم:

الأول: مراعاة لجانب العجلة التي طُبعت به السورةُ، وتكررت مظاهره في أكثر من موطن، فحذف نون (يكن) للفراغ من الفعل بسرعة وهو الملائم لجو العجلة في السورة.

الثاني: أن الإنسان لا يكون إنساناً من المنيّ وحده حتى يُراقَ في الرحم، ويلتقي بالبويضة. فبالمنيّ والبويضة يكتمل الخَلْقُ وبهما يتم الإنسان، أما المنيّ وحده، فلا يكون منه إنسان وكذلك البويضة وحدها. فنقَصَ من فعل الكون إشارة إلى أن التطوير المذكور في الآيات هذه لا يكون إلا بهما معاً، أما المني فهو جزء من السبب. ولم يُتِمَّ الفعل إشارة إلى ذلك.

ومعنى (يُمنَى) : يراق في الرحم، فإن لم يُمنَ فلا تكوين. وهذا من مواطن الحذف البديعة.

ثم قال: {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} .

الملاحظ أنه لم يذكر فاعل الخلق ولا التسوية ولا الجعل، ولم يُجرِ له ذِكْراً، فقد قال:{ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى * فَجَعَلَ} وقد كان بنى الفعل قبلها للمجهول، فلم يذكر فاعله أيضاً، وهو قوله:{أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} فلم يذكر فاعل التَّرك، وعَدَمُ ذِكْرِ فاعلِ الخَلْقِ وما بعده مناسبٌ لحذف فاعل التَّرك. وكل ذلك مناسب لجو العجلة في السورة.

ص: 235

والهاء في {مِنْهُ} تعود على المنيّ، فمن ماء الرجل يكون الذكر والأنثى، وليس للأنثى فيه دخل، ولم يكن هذا الأمر معلوماً حتى العصر الحديث، فقد ثبت أن الذكر هو المسؤول عن الجنس وليس الأنثى. وقد ذكره القرآن الكريم قبل اكتشاف قوانين الوراثة وعلم الأجنّة فقال:{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} فأعاد الضمير على المنيّ، ولو أعاده على العلقة لقال:(منها) . ولم يُعده على النطفة مع أنها هي القطرة من المنيّ، لئلا يحتمل إعادته على العلقة، وهذا إعجاز علمي علاوة على الإعجاز الفني.

ثم قال بعد ذلك: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} .

اسم (ليس) مكنيٌّ غير مصرّح به وهو اسم الإشارة (ذلك) . وقد أشار به إلى ذاتٍ غير مذكورةٍ في الكلام، فناسب ذلك عدم التصريح بالفاعل فيما تقدم من الأفعال.

وناسب آخر السورة أولها، فقد أقسم في مفتتح السورة بيوم القيامة، وختمها بإحياء الموتى.

وقد تقول: ولِمَ قال ههنا: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ} على سبيل التقرير، وقال في أوائل السورة:{بلى قَادِرِينَ} على سبيل الإثبات؟

والجواب أن إحياء الموتى أصعب وأعسر من تسوية البنان في القياس العقلي، وإن كانت الأفعال بالنسبة إلى الله كلها سواء، فجاء في آية إحياء الموتى بأسلوب التقرير الاستفهامي الدال على الأهمية وأكّد القدرة بالباء الزائدة فقال:{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ} في حين جاء بالإثبات في تسوية البنان،

ص: 236

فقال: {بلى قَادِرِينَ} . ثم إنه حذف الفعل وصاحب الحال، وجاء بالحال وحدها، فقال:{قَادِرِينَ} ولم يقل: (نجمعها قادرين) فأخلاها من كل توكيد في حين ذكر الجملة تامة، مؤكدة في إحياء الموتى فدلَّ ذلك على الفرق بين المقامين.

وفي ختام هذه اللمسات، نقول: إن هناك أكثر من خط فني في هذه السورة.

منها: خَطُّ مراعاة العجلة، ومنها: مراعاة جانب القيامة، ومراعاة الازدواج. في التعبير وغيرها من الخطوط.

أما مراعاة جانب القيامة وجانب النفس اللوامة، فالسورة مبنية عليهما أصلاً كما بيّنا. وسنشير إلى جانبين آخرين هما: مراعاة جانب العجلة، ومراعاة الازدواج في التعبير. أما بقية الجوانب، فهي ظاهرة لا تحتاج إلى إيضاح.

فمن مراعاة جانب العجلة:

1-

حذف جواب القسم الذي افتتحت به السورة وهو {لَا أُقْسِمُ} .

2-

حذف عامل الحال وهي {قَادِرِينَ} .

3-

عدم ذكر مرجع الضمير في قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فالهاء لا تعود على مذكور.

4-

عدم ذكر الفعل {بَلَغَتِ} في قوله: {كَلَاّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي} ولم يَجر له ذكر.

5-

عدم ذكر فاعل الظن في قوله: {وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق} ولم يجر له ذكر.

ص: 237

6-

عدم ذكر فاعل {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى} .

7-

حذف نون (يكون) في قوله: {أَلَمْ يَكُ} .

ومن السياقات الواردة في العجلة:

1-

قوله: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} والمعنى: أنه يؤثر العاجلة، فيقدم شهواته.

2-

قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} .

3-

قوله: {كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة} .

أما ظاهرة الازدواج أو الاقتران بين الأمرين المتناظرين أو المتقابلين، فإن السورة مبنية كما يبدو على هذا الازدواج والاقتران.

فالسورة تبدأ بالقسم بشيئين هما: يوم القيامة، والنفس اللوامة، ثم تستمر السورة على هذا النحو من الاقتران والازدواج، فمن ذلك مثلاً:

1-

أنها أقسمت بشيئين هما يوم القيامة والنفس اللوامة.

2-

وجمعت بين آيتين من آيات الله الكونية: آية الليل وآية النهار، وهما الشمس والقمر وذلك في قوله:{وَجُمِعَ الشمس والقمر} .

3-

وذكرت نوعين من العمل يُنبأ بهما الإنسان، وهما ما قدّم وما أخر {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} .

4-

وذكرت ما خفي في النفس وما يظهره الإنسان من الحجج والمعاذير وذلك في قوله: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} .

5-

وذكرت العاجلة والآخرة وذلك في قوله تعالى: {كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة} .

ص: 238

6-

وذكرت الحُبَّ والتَّرْكَ وذلك في قوله: {تُحِبُّونَ} و {وَتَذَرُونَ} .

7-

وذكرت نوعين من الوجوه: الوجوه الناضرة، والوجوه الباسرة.

8-

ونفت اثنتين من الطاعات في قوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى} .

9-

وأثبتت اثنتين من المعاصي وذلك في قوله: {ولاكن كَذَّبَ وتولى} .

10-

وكررت آية واحدة مرتين وهي قوله: {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} .

11-

وذكرت نعمتين من نعم أهل الجنة: نضرة الوجوه والنظر إلى الرب {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .

12-

وذكرت عقوبتين من عقوبات أهل النار، بُسور الوجه وقاصمة الظهر:{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .

13-

وذكرت نوعين من الجمع، جمعاً في يوم القيامة وجمعاً في الدنيا. أما الجمع في يوم القيامة فهو قوله:{أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} وقوله: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} .

وأما جمع الدنيا فهو جمع القرآن، وهو قوله:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} .

14-

وذكرت نوعين من القدرة:

القدرة على تسوية البنان وهو قوله: {بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} والقدرة على إحياء الموتى، وهو قوله:{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} .

ذكرهما بطريقتين من الإثبات.

الإثبات الصريح: وهو قوله: {بلى قَادِرِينَ} .

والإثبات عن طريق التقرير {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ} .

ص: 239

وإحداهما بحرف الجواب هو: {بلى} ، والأخرى بحرف السؤال وهو الهمزة:{أَلَيْسَ ذَلِكَ} .

15-

وذكر نوعين من التسوية:

تسوية جزئية مقيدة وهي تسوية البنان وهو قوله: {نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} .

وتسوية عامة مطلقة وهو قوله: {فَخَلَقَ فسوى} .

16-

وذكر طورين من أطوار خلق الإنسان، وهما النطفة والعلقة.

17-

وذكر الجنسين وهما الذكر والأنثى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} .

18-

وذكر طريقتين من التعبير عن الله.

التعبير بالجمع {بلى قَادِرِينَ} و {نَّجْمَعَ} و {نُّسَوِّيَ} .

والتعبير بالإفراد وذلك نحو قوله: {فَخَلَقَ فسوى} .

إلى غير ذلك من مظاهر الازدواج.

ص: 240