الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من سورة المائدة
سأل سائل عن قوله تعالى:
{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} .
لِمَ ختم الآية بقوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} وكان المناسب لقوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} أن يقول: (فإنك أنت الغفور الرحيم) ؟ ولِمَ لم يقل سيدنا عيسى كما قال سيدنا إبراهيم، عليهما السلام:{فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] .
إن الشِقَّ الأول من السؤال قديم: "قال أبو بكر بن الأنباري، وقد طعن على القرآن مَنْ قال: إن قوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} لا يناسب قوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} لأن المناسب، فإنك أنت المغفور الرحيم". وأجاب عنه.
وجاء في (الإتقان) : "من مشكلات الفواصل، قوله تعالى:{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فإن قوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} يقتضي أن تكون الفاصلة (الغفور الرحيم) .
والذي نريد أن نقوله أولاً: إنه لا يَصحُّ اقتطاعُ جزء من آية أو جزء من السياق، وبناءُ الحكمِ عليه، بل الذي ينبغي هو أن يُنظرَ في السياقِ كله، ثم ينظر في ملاءمة الكلام بعضه لبعض. ولو نظر السائل أو المعترض في السياق لما أثار هذا السؤالَ أصلاً، فإنه لا يصح ختم الآية بالمغفرة
والرحمة ههنا، لأن السياق لا يمكن أن يقتضيهما، ولو فعل ذلك لكان نظير ما روي من أن:"بعض الأعراب سمع قارئاً يقرأ: والسارق والسارقة إلى آخرها، وختمها بقوله: (والله غفور رحيم) فقال: ما هذا كلام فصيح. فقيل له: ليس التلاوة كذلك، وإنما هي: {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال: بَخٍ بخ عَزَّ فحكمَ فقطعَ".
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، إنه ليس كل موطن تُذكر فيه المغفرةُ أو الرحمة، ينبغي أن تُختمَ الآيةُ بهما، وإنما يعود ذلك إلى الموطن والسياق.
ومن المعلوم أنه وردت في القرآن مواطن ذكرت فيها المغفرة والرحمة، ولم تختم الآيات بهما لأن الموطن لا يقتضي ذلك، بل يقتضي أمراً آخر يدل عليه السياق، وذلك نحو قوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ واغفر لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [الممتحنة: 5] فإنه لم يختم بالمغفرة مع أنه ورد طلب المغفرة، ذلك لأن مَدارَ الطلب في الآية هو أنْ لا يجعلهم فتنة للذين كفروا، وهو مَحطُّ الاهتمام كما هو واضحٌ من السياق، وذلك يقتضي الختم بالعزة والحكمة، كما هو ظاهر فختم بهما.
ونعود إلى سياق الآية التي هي مثار السؤال، فنقول: إن الآية وردت في سياق التبرؤ من قولٍ قالته طائفةٌ من النصارى ونسبته إلى عيسى عليه السلام، حكاه الله تعالى بقوله: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلاهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ
إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَاّمُ الغيوب * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} .
فنسب إلى عيسى أنه طلب من الناس أن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله. وأظنُّ أن هذا المقام يمنع عيسى من طلب المغفرة، أو تَرجِّيها لهؤلاء الذين جعلوا الله دون منزلة عيسى وأمه.
لقد ردّ علماؤنا الأوائل على مَنْ ظن أن المناسب ختم الآية بالمغفرة والرحمة بردودٍ عدة منها:
1-
أنه لو ختم الآية بالمغفرة والرحمة لضعف المعنى، لأن هذا ينفرد بالشرط الثاني، ولا يكون له تَعلُّقٌ بالشرط الأول، في حين أن ختمه بالعزة والحكمة متعلق بالشرطين، فإن تعذيبه ومغفرته مَنُوطان بعزته وحكمته "فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان، لعمومه وأنه يجمع الشرطين، ولم يصلح (الغفور الرحيم) أن يحتمله ما احتمله العزيز الحكيم".
وجاء في (روح المعاني) : "وادعى بعضهم أنهما متعلقان بالشرطين لا بالثاني فقط، وحينئذ وجه مناسبتهما لا سترة عليه، فإنَّ مَنْ له الفعل والترك عزيز حكيم".
ومعنى ذلك، أن اختيار العزيز الحكيم متعلقٌ بالثواب والعقاب جميعاً، وليس بحال واحدة.
جاء في (الكشاف) : "وإن تغفر لهم، فإنك أنت العزيز، القوي، القادر على الثواب والعقاب، الحكيم الذي لا يُثيبُ ولا يعاقب إلا عن حكمةٍ وصواب.
فإن قلت: المغفرة لا تكون للكفار، فكيف قال:{وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} .
قلت: ما قال إنك تغفرُ لهم، ولكنه بنى الكلام على إنْ غفرتَ لهم فقال: إنْ عذبتهم عدلتَ، لأنهم أحقاء بالعذاب، وإن غفرتَ لهم مع كفرهم، لم تعدم في المغفرة وجه حكمة، لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في العقول، بل متى كان الجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن".
2-
الآية مبنية على التسليم لله سبحانه، وتفويض الأمر إليه وليس على التعريض بطلب المغفرة.
جاء في (ملاك التأويل) : "أما آية المائدة فمبنية على التسليم لله سبحانه وأنه المالك للكل، يفعلُ فيهم ما شاء، فلو ورد هنا عقب آية المائدة: "وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم" لكان تعريضاً بطلب المغفرة، ولم يقصد ذلك في الآية، وإنما قيل ذلك على لسان عيسى، عليه السلام، تبرّياً وتسليماً لله سبحانه، وليس موضع طلب مغفرة لهم، وإنما هو تَنصُّلٌ من حالهم، وتسليم لله فيهم. قال الغزنوي رحمه الله: لم يقل: (الغفور الرحيم) لأن مخرجه على التسليم، ولأن في ذكر العفو تعريضاً للسائل، والكلام لتسليم الأمرين، والحكمة تقتضيهما وكأنه قال: المغفرةُ لا تُنقِصُ من عِزِّكَ، ولا تَخرجُ عن حكمتك".
وجاء في (البرهان) : "وقيل: ليس هو على مسألة الغفران، وإنما هو معنى تسليم الأمر إلى مَنْ هو أملك لهم، ولو قيل: (فإنك أنت
الغفور الرحيم) لأوهم الدعاء بالمغفرة، ولا يسوغ الدعاء بالمغفرة لمن مات على شِرْكهِ لا لنبي ولا لغيره".
وجاء في (تفسير ابن كثير) : "هذا الكلام يتضمنُ رَدَّ المشيئة إلى الله، عز وجل، فإنه الفَعَّالُ لما يشاء".
3-
وقيل إن ذكر العزيز الحكيم من باب الاحتراس، وذلك أنه "لا يغفر لمن استحق العذاب إلا مَنْ ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، فهو العزيز، أي: الغالب، والحكيم: هو الذي يضع الشيء في محله. وقد يَخْفى وجه الحكمة على بعض الضعفاء في بعض الأفعال، فيتوهم أنه خارج عنها، وليس كذلك، فكان في الوصف بالحكيم احتراسٌ حسن، أي: وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا معترضَ عليك لأحدٍ في ذلك والحكمةُ فيما فعلته".
وجاء في (روح المعاني) : "وقيل: إن ذكرهما من باب الاحتراس، لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز في القدرة، أو لإهمال ينافي الحكمة، فدفعَ تَوهُّمَ ذلك بذكرهما".
وجاء في (تفسير البيضاوي) : {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فلا عجزَ ولا استقباح، فإنك القادرُ القوي على الثواب والعقاب، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمةٍ وصواب".
وخلاصة الاحتراس، أن العفو عن المستحق للعذاب العظيم، قد يكون عن عجز وضعف، لا عن استطاعةٍ وقدرة، أو قد يكون عن سوء تدبير وتقدير، أو عن كليهما، فلو قال:(فإنك أنت الغفور الرحيم) لما دفع هذين الوصفين عنه، فإن الغافر الراحم قد يكون إنما يفعل ذلك لضعفه، أو لسوء تدبيره. فقال:{فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} ليدفع ذلك عنه، وليقول إنه إن عفا وغفرَ فعن كمالِ العزةِ والقدرة، وعن غايةِ الحكمة والتدبير، فكان الختم بهما أولى مما ذكر المعترض.
4-
وقيل: إن المقام مقام تَبرؤٍ مما نُسِبَ إليه، وليس مقام طلبِ عفوٍ ومغفرة فلا يصح في هذا المقام الصفح والمغفرة.
جاء في (البرهان) : "وقيل لأنه مقام تَبرٍّ، فلم يذكر الصفةَ المقتضيةَ استمطارَ العفوِ لهم، وذكر صفة العدل في ذلك، بأنه العزيز الغالب، وقوله: (الحكيم) الذي يضع الأشياء في مواضعها فلا يعترض عليه، إن عفا عمن يستحق العقوبة".
5-
وقيل: إنه لا يجوز المغفرة والرحمة، أو التعريض بهما لهؤلاء لأن هؤلاء مقطوع لهم بالعذاب، وعدم المغفرة، لأنهم مشركون قال:{إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48] .
وكما قال الله: إنه لا يغفر للمشركين، قال: إنه لا يصح سؤال المغفرة للمشركين لا من نبيٍّ، ولا من غيره، قال تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} [التوبة: 113] .
فلا يجوز التعريض بالمغفرة، بل الذي يصح هو تفويض الأمر إليه، وتركه إلى حكمته سبحانه، بل إنَّ ما دان به هؤلاء أكبر من الشرك وأعظم،
فإن الشرك أن تجعل لله نداً، وكان المشركون في الجاهلية يجعلون مع الله آلهةً أخرى يعبدونهم، ليقربوهم إليه زلفى. وأما هؤلاء فقد عبدوا المسيح وأمه من دون الله، فإنهم جعلوه أقل من الشريك، فهم أوْلى بعدم المغفرة ورجائها لهم.
6-
ولا يَحْسنُ طلبُ المغفرة لهم، أو التعريض بها من السيد المسيح من جانب آخر، ذلك أن الأمر يتعلق به هو، أعني بعيسى، عليه السلام، فإنه مسؤول مستنطق عما ادُّعيَ عليه أنه قاله وهو أنه طلب من الناس أن يعبدوه وأمه، وأن يتركوا عبادة الله. وقد ذكر السيد المسيح أن هذا افتراء عليه، فكيف يصح أدباً أن يطلب المغفرة أو يعرض بها لهؤلاء المفترين الذين أعلَوه وأمه على الله سبحانه؟
إنه لو كان الأمر يتعلق بغيره، لكان من السماجة الشفاعة لهم، لأن ما فعلوه أعظم من الشرك، فكيف والأمر يتعلق به هو؟ إن طلب المغفرة لهم يعني التغاضي أو التهوين من شناعة هذا الأمر ويوهِمُ الرضا به والارتياح له. ألا ترى أنه لو اتُّهمَ مسؤول الشرطة مثلاً بأنه أصدر أمراً للإطاحة بالملك، ليكون هو مكانه، ثم قبض على هذا المسؤول واستجوب، فنفى أن يكون له علمٌ بذلك، أكان يصح أن يَطلبَ من الملك العفو عن هؤلاء الذين خلعوا سلطانه، وأعلنوا العصيان عليه، وادعوا أن هذا بأمرِ مسؤول الشرطة نفسه؟
إنه الآن في مقام دفع التهمة عن نفسه، وإثبات براءته، فكيف يصح أن يطلب العفو عن هؤلاء الجناة المفترين؟ إنه الآن في موقفٍ يحتاجُ إلى الشفاعة لا أن يشفع هو.
فتبين من هذا أن ختم الآية بما ختم من العزة والحكمة هو الأولى.
ونشير إلى جانب لطيف آخر في الآية وهو قوله: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} ، فإنه لم يقل (إن تعذبهم فإنهم أحقاء بذلك) أو (فذلك عدل) ذلك أن كونهم عبادة، معناه أنه المستحقُّ للعبادةِ دون غيره، وأنه الإله الحق. فمستحق العبادة مَنْ كان الخَلْقُ عباده دون مَنْ ليس له عباد. فإنه لو قال:(فإنهم أحقاء بذلك) أو قال: (فذلك عدل) لم يعن ذلك أنهم عباده. فالناسُ ليسوا عباداً لمن يعدل، كما أنهم إذا كانوا أحقاء بالعذاب، فليس معناه أنهم عباد لمن عذّب. فالذي يعذّب شخصاً أو جماعة لا يعني أن المعذبين عباده. فاختيار لفظ العبودية أنسب شيء في هذا المقام.
وفيه معنى آخر، وهو أنهم لما كانوا عباده، فليس هناك من معترض على ما يفعل بهم من تعذيب أو مغفرة، فالأمر كله إليه، ومتروك لمشيئته، ومناط بعزته وحكمته وحكمه، فإنه هو العزيز الحكيم.
وكذلك فعل سيدنا عيسى، عليه السلام، فقد أناط الأمرَ بعزته وحكمته وحكمه وفَوَّضَهُ إليه.
وانظر من ناحية أخرى إلى الضمير (أنت) وتعريف {العزيز الحكيم} للدلالة على توكيد الحكم، وقصر العزة والحكمة عليه والكمال فيما وصف به، فإنه في الحقيقة لا عزيزَ، ولا حكيمَ ولا حاكم سواه. فإنه لم يقل:(فإنك عزيز حكيم) ذلك أن هذا التعبير لا يفيد قَصْرَ الصفتين عليه - سبحانه - ولا كمالهما فيه. فإنك إذا قلت لأحد: (إنك كريم سمح) فلا يفيد ذلك قصر الصفتين عليه؛ بل يفيد إثبات الوصفين له بخلاف ما إذا قلت (إنك أنت الكريم السمح)، فإنَّ ذلك يفيد القصر أو الكمال فيما وصفت. فقوله:{فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} يفيد قصر هذين الوصفين عليه، وكمالهما فيه دون غيره بمعنى: إنه لا عزيزَ ولا حكيم على وجه الكمال والحقيقة سواك.
وهذا التعبير أولى في هذا الموطن، لأنه في موطن نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها له، فهو المتفرد بذاته وصفاته لا يشاركه ولا يشابهه فيهما أحد.
فهو الإله حصراً، وهو العزيز الحكيم حصراً.
وأما الشق الثاني من السؤال وهو: لماذا لم يقل سيدنا عيسى كما قال سيدنا إبراهيم عليهما السلام: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] . فإنه سأل المغفرة والرحمة أو عرّض بهما لمن عصاه، فهذا يُجابُ عنه من أوجه:
منها: أن إبراهيم، عليه السلام، لم يقل:(ومن عصاكَ فإنك غفور رحيم)، بل قال:{وَمَنْ عَصَانِي} ومعصية العبد دون معصية الله.
ومنها: أن إبراهيم، عليه السلام، ذكر المعصية، ولم يذكر الشرك، فقد قال:{وَمَنْ عَصَانِي} ولم يقل: (ومَنْ أشركَ بك) والمعصية درجات، أما الشرك فهو أكبر الكبائر، فإن الله قد يغفر للعاصي غير المشرك، أما المشرك فإن الله لن يغفر له، وقد قال تعالى عن سيدنا آدم، عليه السلام:{وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] ثم قال: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} [طه: 122] .
وهنا أود أن أسأل سؤالاً فأقول: هل يظن أحد أن سيدنا إبراهيم، عليه السلام، كان يمكن أن يقول: ومَن اتَّخذني إلهاً من دونك، فإنك غفور رحيم؟
فهذا ما قالته الفرقة المفترية على عيسى.
إن إبراهيم، عليه السلام، وإنْ كان أوّاهاً حليماً، كما وصفه الله تعالى، تَبرَّأَ من أبيه لما تَبيَّنَ أنه عدوٌّ لله، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] .
فاتضح الفرق بين المقامين.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الأنبياء ليسوا على طبيعة واحدة، ولا ضير في ذلك ما دام كلٌّ منهم تدفعه طبيعته إلى ابتغاء رضوان الله.
فطبيعة نوح وسجيته غير طبيعة إبراهيم وسجيَّتِه، وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر بإبراهيم، وعمر بنوح، وفي كل ذلك خير. ولم أجد في القرآن الكريم أنه وصف موسى بما وصف إبراهيم عليهما السلام، فلم يقل فيه:(إن موسى لأوَّاهٌ حليم) ، كما قال في إبراهيم، ولا عيبَ في ذلك ولا قصور، فصفاتهم كلها صفاتُ الكمال، ولنا في رسول الله، وفيهم أُسوةٌ حسنة، فلا ضير أن تتنوع الاستجابات وتتعدد المواقف ما دام كل ذلك في سبيل الله وفيما يرضي الله.