المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من سورتي المؤمنون والمعارج - لمسات بيانية في نصوص من التنزيل - كتاب

[فاضل صالح السامرائي]

الفصل: ‌من سورتي المؤمنون والمعارج

‌من سورتي المؤمنون والمعارج

من سورة (المؤمنون)

{قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ * والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولائك هُمُ العادون * والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أولائك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

من سورة (المعارج)

{إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً * إِلَاّ المصلين * الذين هُمْ على صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ * والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم * والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين * والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولائك هُمُ العادون * والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ على صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أولائك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} .

***

هناك تشابه كبير بين النصين، كما أن هناك اختلافاً بينهما كما هو ظاهر:

1-

فقد قال في سورة المؤمنون: {الذين هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .

وقال في سورة المعارج: {الذين هُمْ على صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ} .

ص: 126

2-

وقال في سورة المؤمنون: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} .

ولم يذكر ذلك في سورة المعارج.

3-

وقال في سورة المؤمنون: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .

وقال في سورة المعارج: {والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم} .

4-

وقال في سورة المعارج: {والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين * والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} .

ولم يذكر مثل ذلك في آيات المؤمنون.

5-

وقال في سورة المعارج: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} .

ولم يذكر نحو ذلك في سورة المؤمنون.

6-

وقال في سورة المؤمنون: {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، بالجمع.

وقال في سورة المعارج: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، بالإفراد.

7-

وقال في سورة المؤمنون: {أولائك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس} .

وقال في سورة المعارج: {أولائك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} .

8-

قال في سورة المؤمنون: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

ولم يقل مثل ذلك في سورة المعارج.

فما سببُ ذلك؟

نعود إلى هذين النصين، لنتلمَّسَ سِرَّ التعبير في كل واحد منهما.

إن آيات النص الأول، هي مفتتح سورة (المؤمنون) ، وارتباطها بآخر السورة قبلها ظاهر، فقد قال تعالى في أواخر السورة التي قبلها:{ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] . وختمها بقوله: {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الحج: 78] .

ص: 127

فأنتَ ترى من الأمر بالركوع والسجود وعبادة الله، وفِعْلِ الخير وتأكيد ذلك بالأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة ما يتناسب مناسبة ظاهرة مع مفتتح السورة، وما ذكر فيها من صفات المؤمنين من الصلاة والزكاة، وغيرها من الصفات.

لقد ابتدأت السورة بقوله تعالى:

{قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} . وفي هذا النص تقرير لفلاح المؤمنين، وإخبار بحصوله في حين كان الفلاح مرجوّاً لهم في السورة قبلها. فقد قال ثمة:{ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فقد أمرهم بالركوع والسجود، لِيُرجى لهم الفلاحُ، وهنا تحقق الفلاح بعد أن فعلوا ما أمرهم به ربهم. فهناك طَلَبٌ وتَرجٍّ وهنا تنفيذ وحصول، فانظر التناسب اللطيف في التعبير، وكيف وضعه وضعاً فنياً بديعاً. فقد بدأ بالأمر والطلب من الذين آمنوا أن يفعلوا ما يأمرهم به ربهم، فاستجاب الذين آمنوا، ففعلوا ما أمرهم به، فوقع لهم الفلاح على وجه التحقيق، ثم انظر كيف طلب منهم ربهم وكيف استجابوا؟

قال: {ياأيها الذين آمَنُواْ} ، فناداهم بالصيغة الفعلية الدالة على الحدوث، فاستجابوا واتصفوا بذلك على وجه الثبات، فوصفهم بالصيغة الاسمية (المؤمنون) .

ثم قال: {اركعوا واسجدوا} ، وقال:{فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} ، فاتصفوا بما أمرهم به ربهم على وجه الثبات، فوصفهم بالصيغة الاسمية فقال:{الذين هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ * والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .

ص: 128

ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بصيغة ترجّي الفلاح. ثم أخبر أنهم بعد أن قاموا بما أمرهم به ربهم، أن الفلاح قد وقع على جهة التحقيق والتأكيد، فجاء بـ (قد) الداخلة على الفعل الماضي، وهي تفيد التحقيق والتوقع والتقريب. فقد كان الفلاح متوقعاً مرجوّاً لهم، فحصل ما توقعوه وتحقق عن قريب. فما أَسرعَ ما نَفَّذُوا وما أسرعَ ما تَحقَّقَ لهم الفلاح! فانظر كيف اقتضى التعبير (قد) من جهات عدة، وانظر ارتباط كل ذلك بالسورة قبلها.

جاء في (البحر المحيط) في هذه السورة: "ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهر، لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا} الآية وفيها: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وذلك على سبيل الترجية فناسب ذلك قوله: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} إخباراً بحصول ما كانوا رَجَوْهُ من الفلاح".

لقد ابتدأ بالصفة التي تستدعي الفلاح، ولا فلاح من دونها وهي الإيمان، وكل ما عداها من الصفات، إنما هي تَبَعٌ لها فإن لم يكن إيمان فلا فلاح أبداً، كما قرر في آخر السورة، فقد قال في أول السورة:{قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} ، وقال في خاتمتها:{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكافرون} . فانظر التناسب بين مفتتح السورة وخاتمتها، وانظر التناسب بين هذا المفتتح وخاتمة السورة قبلها.

ثم ذكر أولَ صفة للمؤمنين، وهي الخشوع في الصلاة فقال:{الذين هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} والخشوع في الصلاة، يعني خشية القلب وسكون الجوارح، وهو روح الصلاة، والصلاة من غير خشوع، جسد بلا روح.

ص: 129

وهو - أي الخشوع - أمر مشترك بين القلب والجوارح، سكونها وتَرْكُ الالتفات، وغض البصر وخفض الجناح. وخشوع القلب خضوعه وخشيته وتذلله وإعظام مقام الرب، وإخلاص المقال وجمع الهمة.

"وكان الرجل إذا قام إلى الصلاة، هاب الرحمنَ أن يشدّ بصره إلى شيء، أو يُحَدِّثَ نفسه بشأنٍ من شؤون الدنيا".

وتقديم الوصف بالخشوع في الصلاة على سائر الصفات المذكورة بعده "ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع".

وللبدء بذِكْرِه أكثرُ من سببٍ يدعو إلى ذلك، فهو علاوة على أهميته، وأنه روح الصلاة، مرتبط بما ورد في ختام السورة السابقة من ذكر الركوع والسجود، فقد قال:{ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا} فذكر ركني الصلاة الظاهرين، وههنا ذكر الركنَ الباطن، فاستكمل ما ذكره هناك.

ثم إن السورة مشحونةٌ بجو الخشوع بشقيه سواء ما يتعلق بالقلب، وما يتعلق بالجوارح وبالدعوة إليه بكل أحواله. فقد كرر الدعوة إلى التقوى، والتقوى أمرٌ قلبي، وهي من لوازم الخشوع فقال:{أَفَلَا تَتَّقُونَ} .

وقال: {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} .

وقال: {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} . والخشية والإشفاق أمر قلبي، وهما من لوازم الخشوع.

ص: 130

وقال: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} . والوجَلُ أمرٌ قلبي وهو من لوازم الخشوع أيضاً.

وذكر الكفار وذَمَّهم بقوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} ، وهذه الغمرة تمنعها من الخشوع والخضوع والإعراض عما سِوى الله تعالى. وذكرُ القلوب ههنا أمرٌ له دلالته، فلم يقل:(هم في غمرة)، كما قال في مكان آخر من القرآن الكريم (الذاريات 11) بل قال:(قلوبهم في غمرة) والقلبُ هو موطن الخشوع ومكانه، فإن كان هذا القلب في غمرة فكيف يخشع؟

وقال في ذم الكفار: {فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} فلم يخشعوا، لأن الخاشع مستكين لربه متضرع متذلل إليه.

وقال: {فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ} والاستكبارُ والعُلوُّ مناقضان للخشوع، إذ الخشوع، تَطَامنٌ وتَذلُّلٌ وخضوعٌ لله رب العالمين.

فبدءُ السورةِ بالخشوع، هو المناسب لجو السورة.

ثم إنَّ البدءَ به له دلالةٌ أخرى، ذلك أنه ورد في الآثار، أن الخشوع أول ما يُرفَعُ من الناس، وقد جاء عن عبادة بن الصامت أنه قال:"يوشك أن تدخل المسجد، فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً". وعن حذيفة أنه قال: "أولُ ما تَفقدون من دينكم الخشوع، وآخرُ ما تفقدون من دينكم الصلاة، وتنقض عُرى الإسلام عروة عروة".

فبدأ بما يُرفع أولاً، وختم بما يرفع آخراً، وهو الصلاة، فقال:{والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .

ص: 131

ثم انظر كيف جاء بالخشوع بالصيغة الاسمية الدالة على الثبات ولم يقل: (يخشعون) للدلالة على أنه وصف لهم دائم في الصلاة غير عارض، فإن الصلاة إذا ذهب منها الخشوع كانت ميتة بلا روح.

ثم انظر كيف أنه لما وصفهم بالإيمان على جهة الثبوت، وصفهم بالخشوع في الصلاة على جهة الثبوت والدوام أيضاً. فإنه لو قال:(يخشعون) لَصحَّ الوصفُ لهم وإن حصل لحظة في القلب أو الجارحة في حين أنه يريد أن يكون لهم الاتصاف بالخشوع في القلب والجوارح ما داموا في الصلاة.

وتقديم الجار والمجرور (في صلاتهم) على (خاشعون) له دلالته أيضاً، ذلك أن التقديم يفيد العناية والاهتمام، فقدَّمَ الصلاةَ لأنها أَهمُّ ركنٍ في الإسلام حتى أنه جاء في الأثر الصحيح، أن تاركها كافرٌ هادمٌ للدين، وحتى أن الفقهاء اختلفوا في كفر تاركها فمنهم مَنْ قال: إن تاركها كافر وإنْ نطق بالشهادتين.

في حين أنه لو قدم الخشوع لكان المعنى أن الخشوع أهم، وليس كذلك فإن الصلاة أهم. والصلاةُ من غير خشوع أكبرُ وأعظم عند الله من خشوعٍ بلا صلاة، فإن المصلي، وإن لم يكن خاشعاً أسقط فرضه وقام بركنه بخلاف من لم يصلّ.

وقد تقول: وكيف يكون خشوع بلا صلاة؟

فنقول: إن الخشوع وَصْفٌ قلبي وجسمي، يكون في الصلاة وغيرها، ويوصف به الإنسان وغيره. قال تعالى:{وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمان فَلَا تَسْمَعُ إِلَاّ هَمْساً} [طه: 108] ، فوصف الأصوات بالخشوع.

ص: 132

وقال: {خاشعة أبصارهم تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} . فوصف الأبصار بالخشوع.

وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية: 2] . فوصف الوجوه به.

وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} [الحديد: 16] . فوصف القلب بالخشوع.

وليس ذلك مقصوراً على الصلاة كما هو واضح. قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خاشعين للَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 199] .

وقال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] .

وقال: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذل يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] .

فتقديم الصلاة ههنا أهم وأهم.

وقال بعدها:

{والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} .

اللغو: "السقط، وما لا يُعتَدُّ به من كلام وغيره ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع". وفي (الكشاف) : "إن اللغو ما لا يعنيك من قولٍ أو فعل، كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه واطّراحهُ".

وقال الزجاج: "اللغو: هو كل باطل ولهو وهزل ومعصية، وما لا يَجْملُ من القول والفعل..

ص: 133

وقال الحسن: إنه المعاصي كلها".

فاللغو جِماعٌ لما ينبغي اطّراحه من قول وفعل. ووضع هذه الصفة بجنب الخشوع في الصلاة ألطف شيء وأبدعه، فإنَّ الخاشعَ القلبِ الساكنَ الجوارح أبعدُ الناس عن اللغو والباطل. إذ الذي أخلى قلبه لله وأسكن جوارحه، وتَطامنَ وهدأ ابتعد بطبعه عن اللغو والسقط وما تُوجب المروءة اطراحه.

جاء في (الكشاف) : "لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمعَ لهم الفِعْلَ والتركَ الشاقَّين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف". ويعني بالفعل الخشوع، وبالترك الإعراض عن اللغو.

والحق أن الخشوع أمرٌ يجمع بين الفعل والترك، ففيه من الفعل جمع الهمة وتذلل القلب وإلزامه التدبر والخشية، وفيه من الترك السكون وعدم الالتفات وغض البصر وما إلى ذلك.

جاء في (التفسير الكبير) : "فالخاشع في صلاته، لا بد وأن يحصل له مما يتعلق بالقلب نهاية الخضوع والتذلل للمعبود. ومن التروك أن لا يكونَ مُلتفتَ الخاطر إلى شيءٍ سوى التعظيم. ومما يتعلق بالجوارح، أن يكون ساكناً مُطْرِقاً ناظراً إلى موضع سجوده، ومن التروك أن لا يلتفت يميناً وشمالاً".

وما بعده من الصفات المذكورة موزعة بين الفعل والترك، أو مشتركة فيهما كما هو ظاهر.

ص: 134

ولوضع هذه الصفة - أعني الإعراض عن اللغو - بجنب الخشوع له دلالة أخرى، فإن السورة كما شاع فيها جو الخشوع، كما أسلفنا فإنها شاع فيها أيضاً جو الترك والإعراض، وذم اللغو بأشكاله المختلفة.

فمن ذلك أنه قال: {كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً} والعملُ الصالح مناقضٌ للغو وعمل الباطل.

وقال: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} ، والغمرة هي ما هُمْ فيه من لغوٍ وباطل.

وقال: {أولائك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} ، والمسارعة في الشيء ضد الإعراض عنه. و (الخيرات) ضد اللغو والباطل.

وقال في وصف الكفار: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} ، والنكوص هو الإعراض، والهُجْر من اللغو، وهو القبيح من الكلام والفحش في المنطق.

وقال: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} وقولهم: (به جِنة) من اللغو. وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} من الإعراض، إذ الكُرْةُ للشيء، إعراضٌ نفسيٌّ عنه.

وقال في وصف الكفار: {وَإِنَّ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ} ، وتَنَكُّبُ الصراط، إعراض عن الحق.

وقال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} .

وقال فيهم: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، والطغيان هو الباطل وهو من اللغو.

ص: 135

وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى الله الملك الحق لَا إلاه إِلَاّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} ، والعبث هو الباطل، وهو من اللغو واللهو، ووصف الله نفسه بالحق، والحقُّ نقيضُ الباطل والباطل من اللغو.

وقال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، والحق نقيض الباطل واللغو والكذب من اللغو في القول، إلى غير ذلك.

فأنتَ ترى أن السورة مشحونة بجو الدعوة إلى الحق وذَمِّ اللغو في القول والعمل.

فوضعُ هذه الآية في مكانها له دلالته في جو السورة، كما هو في الآية قبلها.

ثم انظر بناء هذه الآية، فإنه جعلها اسمية المسند، فلم يقل:(والذين لا يلغون) ، أو (عن اللغو يعرضون)، وقدم الجار والمجرور {عَنِ اللغو} على اسم الفاعل {مُّعْرِضُونَ} ولكلٍّ سببٌ. فإن قوله:{عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} أبلغ من (لا يلغون) ذلك أن الذي لا يلغو قد لا يُعرض عن اللغو بل قد يستهويه ويميل إليه بنفسه ويحضر مجالسه، أما الإعراض عنه فإنه أبلغُ من عدمِ فِعْلهِ، ذلك أنه أبعد في التَّرك، فإنَّ المُعرض عن اللغو علاوة على عدم فعله ينأى عن مشاهدته وحضوره وسماعه، وإذا سمعه أعرض عنه كما قال تعالى:{وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] . فهم لم يكتفوا بعدم المشاركة فيه، بل هم ينأون عنه.

ثم إن التعبير باسمية المسند يشير إلى أن إعراضهم عن اللغو، وصفٌ ثابت فيهم، وليس شيئاً طارئاً. وهو مع ذلك متناسب مع ما ذكر فيهم من الصفات الدالة على الثبوت.

ص: 136

وأما تقديم الجار والمجرور (عن اللغو) فهو للاهتمام والحصر، إذ المقام يقتضي أن يقدَّم المُعرَضُ عنه لا الإعراض. فإن الإعراض قد يكون إعراضاً عن خير كما قال تعالى:{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} . فتقديم الباطل من القول والفعل ليخبر أنهم معرضون عنه هو الأوْلى. كما أن فيه حصراً لما يُعرَضُ عنه، إذ الإعراض لا ينبغي أن يكون عن الخير، بل الخير ينبغي أن يُسارَع فيه، فتقديم الجار والمجرور ليس لفواصل الآيات فقط، وإن كانت الفاصلة تقتضيه بل لأن المعنى يقتضيه أيضاً.

جاء في (روح المعاني) : إن قوله: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} "أبلغ من أن يقال: (لا يلغون) من وجوه: جعل الجملة اسمية دالة على الثبات والدوام، وتقديم الضمير المفيد لتقوّي الحُكْم بتكريره، والتعبير في المسند بالاسم الدال كما شاع على الثبات، وتقديم الظرف عليه المفيد للحصر، وإقامة الإعراض مقام التَّرك ليدلَّ على تباعدهم عنه رأساً مباشرة وتسبباً وقيلاً وحضوراً، فإن أصله أن يكون في عرض أي ناحية غير عرضه".

ثم قال بعدها: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .

إن هذا التعبير يجمع معاني عدة كلها مرادة لا تُؤدَّى في أي تعبيرٍ آخر. فإنه لو حذف اللام من (الزكاة) لكونها زائدة مقوية، كما ذهب بعضهم، أو قدم (فاعلون) على (الزكاة) فحذف اللام أو أبقاها، أو بدل

ص: 137

(مؤتون) بـ (فاعلون) لم يؤدِّ المعاني التي يؤديها هذا التعبيرُ البليغ، وهذا النَّظْمُ الكريم، وهي معانٍ جليلة مرادة كلها.

فإن (الزكاة) اسم مشترك بين عدة معانٍ، فقد يطلق على القَدْر الذي يخرجه المزكّي من ماله إلى مستحقه، أي: قد تطلق على المال المخرَج.

وقد يطلق على المصدر بمعنى: التزكية، وهو الحدث، والمعنى: إخراج القدْر المفروض من الأموال إلى مستحقه.

وقد تكون بمعنى العمل الصالح، وتطهير النفس من الشرك والدنس، كما قال تعالى:{فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف: 81] .

وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} [الأعلى: 14-15] .

وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10] . أي: أفلح من طهّر نفسه وخلَّصها من الدنس والسوء.

وهذه المعاني مجتمعة يصح أن تكون مرادة في هذا التعبير.

ذلك أنه يصح أن يكون المعنى: والذين هم يؤدون الزكاة، وذلك على تضمين (فاعلون) معنى (مؤدّون) أو على تقدير مضاف محذوف، أي: والذين هم لأداء الزكاة فاعلون. فأصلُ الكلام على هذا: (والذين هم فاعلون الزكاة) . فالزكاة مفعولٌ به لاسم الفاعل (فاعلون)، ثم قدم المفعول للاختصاص فصار (الزكاةَ فاعلون) كما تقول:(أنا زيداً ضارب) ، ثم زيدت اللام لتوكيد الاختصاص، وهو قياس مع مفعول اسم الفاعل تقدم أو تأخر، كما قال تعالى:{وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] . ونسمي هذه اللام لام التقوية. وبهذين التقديرين يكون المقصود بالزكاة اسم العين، وهو المال الذي يُخرج لمستحقه.

ص: 138

ويصح أن تكون (الزكاة) بمعنى التزكية وهو الحدث، أي: فِعْل المزكّي، فيكون (فاعلون) بمعناها فيكون أصل التعبير (فاعلون الزكاة) ومعنى (فعلَ الزكاة) زكّى، أو أخرج الزكاة، كما يقال للضارب فعلَ الضرب.

جاء في (الكشاف) : "الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى. فالعين القدْر الذي يُخرجه المزكّي من النصاب إلى الفقير. والمعنى: فعل المزكّي الذي هو التزكية، وهو الذي أراده الله فجعل المزكّين فاعلين له. ولا يسوغ فيه غيره، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل. ويقال لمحدثه: فاعل، تقول للضارب: فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل، وللمزكّي: فاعل التزكية، وعلى هذا الكلامُ كله.

والتحقيق أنك تقول في جميع الحوادث: مَن فاعلُ هذا؟ فيقال لك: فاعله الله أو بعض الخلق. ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها (فاعلون) لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل، ولكن لأن الخلق ليسوا بفاعليها.. ويجوز أن يراد بالزكاة العين، ويُقدّر مضافٌ محذوفٌ وهو الأداء".

وجاء في (البحر المحيط) : "والزكاة إن أريد بها التزكية صَحَّ نِسبةُ الفعل إليها، إذ كل ما يصدر صح أن يقال فيه فعل، وإن أريد بالزكاة قدر ما يخرج من المال للفقير، فيكون على حذف: أي لأداء الزكاة فاعلون، إذ لا يصح فعل الأعيان من المزكي أو يُضَمَّن (فاعلون) معنى (مؤدون) وبه شرحه التبريزي".

ص: 139

وجاء في (روح المعاني) : "الظاهر أن المراد بالزكاة المعنى المصدري - أعني التزكية - لأنه الذي يتعلق به فعلهم. وأما المعنى الثاني، وهو القَدْرُ الذي يُخرجه المزكي فلا يكون نفسه مفعولاً لهم فلا بد إذا أريد من تقدير مضاف، أي لأداء الزكاة فاعلون. أو تضمن (فاعلون) معنى (مؤدون) وبذلك فسره التبريزي إلا أنه تُعُقِّب بأنه لا يقال: (فعلت الزكاة) ، أي: أدَّيتها. وإذا أريد المعنى الأول أدى وصفهم بفعل التزكية إلى أداء العين بطريق الكناية التي هي أبلغ، وهذا أحدُ الوجوه للعدول عن (والذين يزكون) إلى ما في النظم الكريم".

وجاء في (فتح القدير) : "ومعنى فِعلهم للزكاة تأديتهم لها فعبَّر عن التأدية بالفعل لأنها مما يصدق عليه الفعل، والمراد بالزكاة هنا المصدر، لأنه الصادر عن الفاعل. وقيل: يجوز أن يراد بها العين على تقدير مضاف، أي: والذين هم لتأدية الزكاة فاعلون".

ويصح أن تكون الزكاة بمعنى العمل الصالح وتطهير النفس، فيحتمل أن تكون اللام زائدة مقوية دخلت على المفعول به (الزكاة) فيكون معنى (فعل الزكاة) فعل العمل الصالح وتطهير النفس كما يقال:(فعل خيراً، أو فعل شراً) فيكون معنى الآية: (الذين هم فاعلون العمل الصالح وتطهير النفس) واللام زائدة في المفعول ويسمّونها مقوية وهي تفيد توكيد الاختصاص في المفعول المقدم، أي: لا يفعلون إلا ذاك.

ويحتمل أن تكون اللام لام التعليل، أي: يفعلون من أجل الزكاة، أي: هم عاملون من أجل تزكية نفوسهم وتطهيرها والمفعول محذوف، فيكون الفعل عاماً، وهو كل ما يؤدي إلى الخير وتطهير النفس.

ص: 140

جاء في (روح المعاني) : "وعن أبي مسلم أن الزكاة هنا بمعنى العمل الصالح كما في قوله تعالى: {خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً} [الكهف: 81] . واختار الراغب أن الزكاة بمعنى الطهارة، واللام للتعليل والمعنى: والذين يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله تعالى، أو يزكوا أنفسهم

قال صاحب "الكشاف"، معنى الآية، الذين هم لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير. ويرشد إلى ذلك قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} [الأعلى: 15] . و {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] ".

وجاء في (البحر المحيط) : "وقيل (للزكاة) للعملِ الصالح كقوله: {خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً} ، أي: عملاً صالحاً. قاله أبو مسلم. وقيل: الزكاة هنا: النماء والزيادة. واللام لام العلة ومعمول فاعلون محذوف. التقدير: والذين هم لأجل تحصيل النماء والزيادة فاعلون الخير".

فالزكاة إذن تحتملُ العبادة المالية، وتحتملُ العملَ الصالح والتطهير والنماء، واللام تحتمل التقوية، وتحتمل التعليل، وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فهو يريد الذين يؤدون الزكاة، ويفعلون العمل الصالح وتطهير النفس ويفعلون من أجل ذلك. ولا تجتمع هذه المعاني في أي تعبير آخر. فلو أبدل كلمة (مؤتون) مكان (فاعلون) لاقتصر الأمر على زكاة المال، ولو حذف اللام لم يفد معنى التعليل، فانظر كيف جمع عدة معانٍ بأيسر سبيل.

جاء في (تفسير ابن كثير) : "الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فُرضت الزكاةُ بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة. والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب

ص: 141

والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة.. وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زكاةُ النفس من الشرك والدنس كقوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} .. وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا، والله أعلم".

وتقديم الزكاة للاهتمام والعناية والقصر، أي: لا يفعلون إلا الخير، والزكاة منها.

وقد تقول: ولِمَ لم يقل: (والذين هم للصلاة فاعلون)، كما قال:{والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} ؟

والجواب: أن إخراج النصاب إلى مستحقه كافٍ لأداء فريضة الزكاة، وليس وراءه شيء يتعلق بها، فإن لم يفعل ذلك فلا زكاة. أما فعل الصلاة من قيام وقعود وركوع وسجود مع هيئاتها الأخرى فليس بكافٍ، بل ينبغي أن يكون مع ذلك خشوعٌ وتدبر وحضورُ قلبٍ وسنن وآداب تكمل هذه الأفعال الظاهرة وتتمها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"لكَ من صلاتك ما عقلتَ منها"، فاتضح الفرق بينهما.

وقال بعدها:

{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولائك هُمُ العادون} .

قيل: المعنى: أنهم مُمْسِكون لفروجهم على أزواجهم وما ملكت أيمانهم.

ص: 142

جاء في (البحر المحيط) : " (حفظ) لا يتعدى بعلى.. والأولى أن يكون من باب التضمين ضُمِّنَ (حافظون) معنى ممسكون أو قاصرون، وكلاهما يتعدى بعلى كقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] ".

وجاء في (فتح القدير) : "ومعنى حفظهم لها أنهم ممسكون لها بالعفاف عما لا يَحلُّ لهم.. وقيل: إن الاستثناء من نفي الإرسال المفهوم من الحفظ. أي: لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم. وقيل: المعنى: إلا والين على أزواجهم وقَوَّامين عليهم".

إن اختيار هذا التعبير اختيار عجيب، وفيه آياتٌ عظيمة لمن تدبر ونظر. ذلك أنه قال:{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} ، ولم يقل (ممسكون) أو نحو ذلك مما فسر به. وفي اختيار (الحفظ) سر بديع، ذلك أن الذي يمسك فرجه عما لا يحل يكونُ حافظاً لنفسه ولفرجه من الآفات والأمراض والأوجاع التي تصيبه، وهي أمراضٌ وبيلة وخيمةُ العاقبة. ومَنْ أرسله في المُحَرَّمات، فإنما يكون قد ضَيَّعه وضَيَّعَ نفسه.

جاء في الحديث: "لم تظهر الفاحشةُ في قوم قط حتى يُعْلِنُوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا"

واختيار {غَيْرُ مَلُومِينَ} في قوله: {إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} اختيار لطيف، ذلك أنه علاوة على ما يفيده ظاهر النص من أن الذي يعتدي على أعراض الناس مَلُومٌ على ما فعل، فإنه يفيد أيضاً أن الذي يبتغي وراء ما ذكر ملوم من نفسه ومن الناس لما يُحدث في

ص: 143

نفسه وفيهم من أضرارٍ وأمراض فهو يلوم نفسه على ما أحدث فيها من أوجاع وعاهات مستديمة، وعلى ما أحدث في زوجه وعائلته. وحتى ولده الذي لا يزال جنيناً في بطن أمه قد يصيبه من عقابيل ذلك ما يجعله شقياً مُعذَّباً طوال حياته، وملوم من المجتمع على ما أحدثه في نفسه وعلى ما يُحْدِثُه فيهم من أمراض معدية مهلكة. فمن حفظ فرجه فهو غير ملوم، وإلا فهو ملوم أشد اللوم.

ثم قال: {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولائك هُمُ العادون} .

و {العادون} هم المعتدون، ومعنى الآية: أن هؤلاء هم "الكاملون في العدوان المتناهون فيه". فإنه لم يقل: (فأولئك عادون) أو (من العادين) بل قال: {فأولائك هُمُ العادون} للدلالة على المبالغة في الاعتداء من جهة أن العِرْضَ أثمن وأغلى من كل ما يُعتدى عليه ويُنال منه، ومن جهة أن هؤلاء هم أَولى مَن يوصف بالعدوان، لأنهم يعتدون على أنفسهم بما يجرّون عليها من وبال وأوجاع وعاهات مستديمة، قد تصل إلى الجنون، ويعتدون على أزواجهم وعوائلهم، بما ينقلونه إليهم من هذه الأوجاع والأمراض، ويعتدون على أولادهم وعلى الجيل اللاحق من أبنائهم، ممن لم يظهر إلى الدنيا بما يُلحقونه بهم من هذه الآفات المستديمة، ويعتدون على المجتمع الذي يعيشون فيه، بما ينقلونه إليه من أمراض معدية مرعبة وما (الإيدز) إلا واحد من هذه الأمراض الوبيلة المرعبة. أفهناكَ عدوانٌ أوسعُ من هذا العدوان وأخطر منه؟

نحن نعرف أن المعتدي قد يعتدي على بيت أو قبيلة، أما أن يمتد العدوان إلى الإنسان نفسهِ وأولاده وزوجه وربما إلى طبيبه الذي يعالجه،

ص: 144

وإلى الجيل الذي لم يظهر بعد، وإلى المجتمع على وجه العموم، فهذا شر أنواع العدوان وأوْلى بأن يوسم صاحبه به.

أفرأيتَ العلو في الاختيار والجلالة فيه، إنه لا يؤدي تعبيرٌ آخر مُؤدَّاه.

إنه لم يقل: (فأولئك هم الضالون) أو (أولئك هم الخاطئون) أو (الفاسقون) ، وما إلى ذلك مع أنهم منهم، لأن هذه الصفات فردية، وليس فيها إشارة إلى العدوانية، كما ليس فيها إشارة إلى الخطر الهائل الذي يحيق بالمجتمع من جراء ذلك.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إن ذلك أنسب مع قوله:{غَيْرُ مَلُومِينَ} فإن المعتدي مَلُومٌ على عدوانه أكثر من صاحب الأوصاف التي ذكرناها.

وهناك أمر آخر لاءم بين ذِكْرِ هذه الصفات، وهو أن الصفات المذكورة كلها ذات علاقة بالآخرين، وليست فردية، فالذي لا يحفظُ فرجه، إنما يرسله فيما لا يَحِلُّ له من أفراد المجتمع، وقوله:{غَيْرُ مَلُومِينَ} كذلك فإن الملوم يقتضي لائماً، وقد فعل ما يقتضي اللومَ من الآخرين، وقوله:(هم العادون) كذلك. فإن العادي يقتضي معتدى عليه، ولا يسمى عادياً حتى يكون ثَمَّةَ معتدى عليه. فالصفات هذه كلها كما ترى ليست فردية. فانظر التناسب اللطيف بينها.

ثم انظر كيف اختار التعبير عن هذه الصفات بالصيغة الاسمية فقال: (حافظون) و (ملومين) و (العادون) للدلالة على ثبات هذه الصفات. فقوله: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} ، يفيد ثبات الحِفْظ ودوامه وعدم انتهاكه على سبيل الاستمرار، لأن هذا لا ينبغي أن يخرم ولو مرة واحدة.

ومن فعل ذلك على وجه الدوام فإنه غير ملوم على وجه الدوام، أيضاً فإن خالف لِيْمَ على ذلك. والذي يبتغي وراء ذلك، ويلهث وراء

ص: 145

الفاحشة، فهو معتدٍ على وجه الثبات أيضاً، وقد يثبت هذا العدوان، فلا يمكن إزالته أبداً، وذلك ببقاء آثاره على نفسه وعلى الآخرين.

فانظر رِفْعةَ هذا التعبير وجلاله.

ثم قال بعدها:

{والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} .

وجهُ ارتباط هذه الآية بما قبلَها ظاهر، إذ أن كلاًّ من الفروج والأمانات ينبغي أن يُحفَظَ، فالفروج ينبغي أن تُحفظ وتصان وكذلك الأمانات. ومن لم يحفظ الأمانة والعهد، فهو مَلُومٌ كما هو شأن من لم يحفظ فرجه. ومن ابتغى ما لا يحلُّ له من الفروج عادٍ، وكذلك الباغي على الأمانة عادٍ ظالم.

وقد قدم الأمانة على العهد، وجمع الأمانة وأفرد العهد. أما جمع الأمانة، فلتعددها وتنوعها فهي كثيرة جداً، فمن ذلك ما يُؤْتَمنُ عليه الشَخصُ من ودائع الناس وأموالهم، ومنها ما يطّلع عليه من أسرار الناس وأحوالهم، ومنها الأقوال التي يسمعها ويُستأمنُ عليها مما لا يصح أن يذيعه منها، ومنها أن يودع شخصٌ أهلاً له عند شخصٍ حتى يعودَ ويقول له: هؤلاء أهلي وصغاري عندك أمانة حتى أعود، أو حتى يكبروا، فهو يتولى أمرهم ويرعاهم، والزرعُ قد تجعله أمانةً عند شخص فيرعاه ويتعهده ويحفظه، والحكم أمانة، والرعية أمانة عند أميرهم ومتولِّي أمرهم، والقضاء أمانة ثقيلة، والشرع أمانة، قال تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال} [الأحزاب: 72] .

جاء في (البحر المحيط) : "والأمانة الظاهر أنها كل ما يُؤْتَمَنُ عليه من أمر ونهي، وشأن ودين ودنيا، والشرع كله أمانة، وهذا قول

ص: 146

الجمهور ولذلك قال أبيّ بن كعب: من الأمانة أن اؤتمنت المرأةُ على فَرْجها".

وفي الحديث "المؤذّن مؤتمن" يعني: أن المؤذن أمينُ الناس على صلاتهم وصيامهم، فصلاةُ الناس وصيامهم أمانةٌ عنده. وفي الحديث أيضاً:"المجالس بالأمانة" و "هذا نَدْبٌ إلى تركِ إعادة ما يجري في المجلس من قولٍ أو فعل، فكان ذلك أمانة عند مَنْ سمعه أو رآه. والأمانة تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان، وقد جاء في كل منها حديث"، وفي الحديث:"الإيمانُ أمانة ولا دِينَ لمن لا أمانةَ له". وفي حديث آخر: "لا إيمان لمن لا أمانة له". وفي الحديث: "أستودع الله دينَكَ وأمانتكَ". أي: أهلك، ومَنْ تخلفه بعدك منهم، ومالك الذي تودعه".

جاء في (روح المعاني) في قوله تعالى: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} : "الآية عند أكثر المفسرين عامة في كل ما ائتُمِنُوا عليه، وعوهدوا من جهة الله تعالى، ومن جهة الناس كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والأيمان والنذور والعقود ونحوها. وجمعت الأمانة دون العهد قيل: لأنها متنوعة متعددة جدّاً بالنسبة إلى كل مكلف من جهته تعالى، ولا يكاد يخلو مكلف من ذلك ولا كذلك العهد".

وجاء فيه أيضاً: "وكأنه لكثرة الأمانة، جُمعت ولم يُجمع العهدُ، قيل: إيذاناً بأنه ليس كالأمانة كثرة، وقيل: لأنه مصدر، ويدل على كثرة

ص: 147

الأمانة ما روى الكلبي: كلُّ أحدٍ مؤتمن على ما افتُرض عليه من العقائد والأقوال والأحوال والأفعال، ومن الحقوق في الأموال، وحقوق الأهل والعيال وسائر الأقارب والمملوكين والجار وسائر المسلمين، وقال السدي: إن حقوق الشرع كلها أمانات قد قَبِلَها المؤمن وضمن أداءها بقبول الإيمان. وقيل: كل ما أعطاه الله تعالى للعبد من الأعضاء وغيرها أمانة عنده، فمن استعمل ذلك في غير ما أعطاه لأجله، وأذن سبحانه له به، فقد خان الأمانة.

فقد رأيت من تَعَدُّدها وتَنوُّعِها وتشعبها، ما يدعو إلى جمعها وليس كذلك العهد، فأفرد العهد وجمع الأمانة. وأما تقديمها على العهد، فلأهميتها كما رأيت، وحسب ذلك أن تكون الشرعَ كله كما مر، وحسبك من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان أمانة، ولا دين لمن لا أمانة له". وقوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له"

وجاء في (فتح القدير) : "والأمانةُ أعم من العهد، فكلُّ عهدٍ أمانة".

أما اختيار كلمة (راعون) مع الأمانة والعهد دون (الحفظ) الذي استُخدم مع الفروج، فله سبب لطيف ذلك أن (راعون) اسم فاعل من (رعى) وأصل الرعي حفظ الحيوان، وتولي أمره وتفقد شأنه.

جاء في (الكشاف) : "والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح، كراعي الغنم وراعي الرعية. ويقال: مَن راعي هذا الشيء؟ أي: مُتولِّيه وصاحبه".

ص: 148

وجاء في (روح المعاني) تفسير (راعون) : "قائمون بحفظها وإصلاحها. وأصل الرعي، حفظ الحيوان؛ إما بغذائهِ الحافظِ لحياته أو بذبِّ العدو عنه، ثم استعمل في الحفظ مطلقاً".

فالرعي ليس مجرد الحفظ؛ بل هو الحِفْظُ والإصلاح والعناية بالأمر وتولي شأنه، وتفقد أحواله وما إلى ذلك. وهذا ما يتعلق بالأمانة كثيراً وليس مجرد الحفظ كافياً. فمن ائتمن عندك أهله وصغاره، فلا بد من أن تتفقد أمورهم وتنظر في أحوالهم وحاجاتهم علاوة على حفظهم، وكذلك مَنْ تولى أمرَ الرعية، ونحوه مَن اؤتمن على زرعٍ أو ضرع، وكذلك ما حمّله الله للإنسان من أمر الشرع يحتاج إلى قيام به وتحرٍّ للحق فيما يُرضي الله وما إلى ذلك من أمور لا يصح معها مجرد الحفظ، فالرعاية أشمل وأعم.

ثم إن هناك فرقاً آخر بين رعي الأمانة وحفظ الفروج، ذلك أن الفروج جزء من الإنسان، وهي لا تندّ عنه، أما الأمانات فقد تكون في أماكن متعددة، وربما تكون أماكن حفظها نائية عنه، فهي تحتاج إلى تفقد ورعاية كما يحتاج الحيوان إلى حفظه من الذئاب والوحوش الضارية. وقد يصعب على الإنسان المحافظة على الأمانة، من العادين واللصوص فيضطر إلى تَخْبئتها في أماكن لا ينالها النظرُ ولا يَطُولها التفتيشُ، فكان على المؤتمن أن ينظر في حفظها كما ينظر الراعي في أمرِ ما يرعاه. فاختيار الرعي لها أنسب من الحفظ.

ثم إن اختيار كلمة (راعون) بالصيغة الاسمية دون الفعلية له سببه، فإنه لم يقل:(يرعون) ذلك ليدلَّ على لزوم ثبات الرعي ودوامه وعدم الإخلال به البتة.

ص: 149

وأما تقديم الأمانة والعهد على (راعون) فللاهتمام والعناية بأمرهما، وللدلالة على أنهما أَولى ما يُرْعى في هذه الحياة.

وزيادة اللام، تفيد الزيادة في الاختصاص وتوكيده. وتفيد فائدة أخرى إلى جانب ما ذكرت، ذلك أن كلمة (الراعي) قد تكون بمعنى الصاحب، تقول:(مَنْ راعي هذه الدار؟) و (من الراعي لهذه الدار؟) أي: من صاحبها ومتولي أمرها؟

فيكون المعنى على هذا: والذين هم أصحاب الأمانات والعهود، أي: هم أهلها ومتولّوها. ولو قيل بدل ذلك: الذين هم يرعون الأمانة والعهود، لم تُفِدْ هذه الفائدة الجليلة.

ثم قال بعد ذلك:

{والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .

فختم بالمحافظة على الصلاة، وهي آخر ما يُفْقَدُ من الدين، كما في الحديث الشريف، فلعلَّ الختمَ بالمحافظة عليها إشارة إلى ذلك، أي أنها خاتمة عُرى الإسلام.

إن ذكر الصلاة في البدء والخاتمة تعظيم لأمرها أيما تعظيم.

جاء في (روح المعاني) : "وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها. وتقديم الخشوع للاهتمام به، فإن الصلاة بدونه كلا صلاةٍ بالإجماع، وقد قالوا: صلاةٌ بلا خشوع جَسَدٌ بلا روح".

فقد بدأ بالخشوع في الصلاة، وكأنه إشارة إلى أول ما يرفع، وختم بالمحافظة عليها إشارة إلى آخر ما يبقى، والله أعلم.

ص: 150

والخشوع غير المحافظة، فالخشوعُ أمرٌ قلبي متضمن للخشية والتذلل، وجمع الهمة والتدبر، وأمرٌ بدني وهو السكونُ في الصلاة كما سبق ذكره فهو صفة للمصلي في حال تأديته لصلاته. وأما المحافظة فهي المواظبة عليها، وتأديتها في أوقاتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وإقامة أركانها وإتمام ركوعها وسجودها وقراءتها والمشروع من أذكارها، وأن يوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها، وبما ينبغي أن تتم به أوصافها. وقيل:"المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يُحْبِطُها ويبطلُ ثوابها". وكل ذلك مراد، لأنه من المحافظة عليها.

وذُكِرتِ الصلاة أولاً بصورة المُفْردِ ليدل ذلك على أن الخشوع مطلوب في جنس الصلاة، ففي كل صلاة ينبغي أن يكون الخشوع، أيّاً كانت الصلاة فرضاً أو نافلة، فالصلاة ههنا تفيد الجنس.

وذُكرت آخراً بصورة الجمع للدلالة على تعددها من صلوات اليوم والليلة إلى صلاة الجمعة والعيدين وصلاة الجنازة، وغيرها من الفرائض والسنن، فالمحافظة ينبغي أن تكون على جميع أنواع الصلوات.

جاء في (الكشاف) : "وقد وُحّدت أولاً لِيُفادَ الخشوعُ في جنس الصلاة، أي صلاة كانت، وجُمعت آخراً لتفاد المحافظة على أعدادها وهي: الصلوات الخمس والوتر والسنن المرتبة على كل صلاة، وصلاة الجمعة والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف، وصلاة الضحى والتهجد وصلاة التسبيح وصلاة الحاجة وغيرها من النوافل".

ص: 151

واستعمالُ الجمع مع المحافظة أنسبُ شيء للدلالة على المحافظة عليها بأجمعها. وقد جيء بالفعل المضارع، فقال:{والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، بخلاف ما مَرَّ من الصفات للدلالة على التجدد والحدوث، لأن الصلوات لها مواقيت وأحوال تحدث وتتجدد فيها فيصلى لكل وقت وحالة، فليس فيها من الثبوت ما في الأوصاف التي مرت، فهناك فرق مثلاً بينها وبين قوله:{الذين هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، لأن الخشوع ينبغي أن يكون مستمراً ثابتاً في الصلاة لا ينقطع، فهو صفة ثابتة فيها. وكذلك قوله:{والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} فإنه ينبغي أن يكون الإعراض عن اللغو دائماً مستمراً لا ينقطع، وكذلك قوله:{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} فإن حفظ الفروج ثابت دائم.

وأما العطف بالواو في كل صفة من هذه الصفات، فللدلالة على الاهتمام بكل صفة على وجه الخصوص، وهذا ما تفيده الواو من عطف الإخبار والصفات.

وكذلك ذكر الاسم الموصول مع كل صفة، فإنه يدل على الاهتمام والتوكيد، فإنه لم يقل مثلاً: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، وعن اللغو معرضون وللزكاة فاعلون

إلخ) بل كَرَّرَ الموصول مع كل صفة للدلالة على توكيد هذه الصفات، وأهمية كل صفة.

جاء في (تفسير فتح القدير) : "وكرر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته، يستحق أن يستقل بموصوف متعدد. ثم قال بعد ذلك:

ص: 152

{أولائك هُمُ الوارثون} .

فجاء بضمير الفصل والتعريف في الخبر، للدلالة على القصر، أي: هؤلاء الجامعون لهذه الأوصاف، هم الوارثون الحقيقيون وليس غيرهم. ثم فسر هذا الإبهام، فبين ماذا يرثون، فقال:{الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ففي هذا الإبهام ثم الإيضاح بعده من الفخامة ما فيه.

جاء في (الكشاف) : " (أولئك) الجامعون لهذه الأوصاف (هم الوارثون) الأحقّاء بأن يُسَمّوا وُرّاثاً دون مَنْ عداهم. ثم ترجم الوارثين بقوله: {الذين يَرِثُونَ الفردوس} فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر".

ثم انظر إلى تقديم الجار والمجرور على الخبر، في قوله:{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} للدلالة على القصر وتناسب ذلك مع التقديم في الأوصاف السابقة: في صلاتهم خاشعون، للزكاة فاعلون، لفروجهم حافظون، لأماناتهم وعهدهم راعون، فجازاهم من جنس عملهم، فإن أولئك الذين قصروا أعمالهم على الخير، قصر الله خلودهم في أعلى الجنة، وهو الفردوس، فلا يخرجون عنه إلى ما هو أدنى درجة منه، فكان خلودهم في الفردوس لا في غيره. والفردوسُ أعلى الجنةِ وأفضلها ومنه تَتفجَّرُ أنهارُ الجنة كما جاء في الحديث.

ثم نأتي إلى سورة المعارج.

قال تعالى: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً * إِلَاّ المصلين * الذين هُمْ على صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ * والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم * والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين * والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ

ص: 153

عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولائك هُمُ العادون * والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ على صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أولائك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} .

قال تعالى: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} .

بنى الفعل (خلق) للمجهول، ذلك أن المقام مقام ذم لا تكريم. مقام ذكرِ جانبٍ مظلمٍ من طبيعة البشر. والله سبحانه لا ينسب الفعل إلى نفسه في مقام السوء والذم.

قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] . فنسب الفعل إلى ذاته في مقام المدح. وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} [الأعراف: 11] .

وقال: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181] .

في حين قال: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [النساء: 28] .

وقال: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] .

وقال: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} .

والهلع فَسَّره ربنا بقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} ، فهو الجزع عند مَسِّ الشر والمنع عند مس الخير.

جاء في (الكشاف) : "الهلع سرعة الجزع عند مَسِّ المكروه وسرعة المنع عند مَسِّ الخير.. و (الخير) : المال والغنى. و (الشر) : الفقر، أو

ص: 154

الصحة والمرض. إذا صَحَّ الغنيُّ مَنَعَ المعروف وشَحَّ بماله، وإذا مرض جزع وأخذ يوصي".

وجاء في (تفسير ابن كثير) : "أي: إذا مَسَّهُ الضُّرُّ فَزِعَ وجزع وانخلع قلبهُ من شدة الرعب، وأَيِسَ أنْ يحصلَ له بعد ذلك خير. {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} أي: إذا حصلت له نعمة من الله، بخل بها على غيره، ومنعَ حقَّ الله - تعالى - فيها".

وجاء في (فتح القدير) : "قال في الصحاح: الهلع في اللغة: أَشَدُّ الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه.. أي: إذا أصابه الفقر والحاجة، أو المرض ونحو ذلك، فهو جَزُوع، أي كثير الجزع. وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة ونحو ذلك، فهو كثير المنع والإمساك".

والجزع ضد الصبر ونقيضه، وقد قابله الله بالصبر فقال:{سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم: 21] . وجاء في (لسان العرب) : "الجزوع ضد الصبور على الشر، والجزع نقيض الصبر

وقيل: إذا كثر منه الجزع، فهو جزوع وجُزاع".

وقد بدأ بالشر قبل الخير، فقال:{إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} وذلك لأن السياق يقتضي ذلك، فقد بدأت السورةُ بالعذاب، وهو قوله تعالى:{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} . وذكر قبل هذه الآية مشهداً من مشاهد العذاب، فقال: {يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ

. كَلَاّ إِنَّهَا لظى * نَزَّاعَةً للشوى} .

ص: 155

فالمناسبُ إذن هو البدء بالشر، وهو الذي يقتضيه السياقُ وجَوُّ السورة. فالإنسانُ خُلق هلوعاً لا يصبر إذا مسه الشر بل يجزع. وذِكْرُ الجزع ههنا وهو عدم الصبر مناسب لقوله تعالى في أوائل السورة:{فاصبر صَبْراً جَمِيلاً} . فهو يأمر نبيه بالصبر الجميل. والصبرُ طاردٌ للجزع المقيت الذي طُبع عليه الإنسان وتحرر منه مَنْ أراد الله له الخير.

واستثنى من الاتصاف بصفة الهلع هذه بشقيها: الجزع والمنع للخير، مَن ذكرَهم بعد هذه الآية بقوله:{إِلَاّ المصلين * الذين هُمْ على صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ} .

والدوام على الصلاة معناه المواظبةُ عليها والانهماكُ فيها حتى تنتهي، وعدم الانشغال عنها، وليس المراد أنهم يصلون أبداً.

جاء في (البحر المحيط) : "ديمومتها، قال الجمهور: المواظبة عليها.

وقال ابن مسعود: صلاتها لوقتها.

وقال عقبة بن عامر: يقرّون فيها ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً".

وجاء في (فتح القدير) : "أي لا يَشغلهم عنها شاغل، ولا يصرفهم عنها صارف، وليس المراد بالدوام أنهم يصلّون أبداً".

وجاء في (روح المعاني) : "أخرج ابن المنذر عن أبي الخير أن عقبة قال لهم: مَنِ الذين هم على صلاتهم دائمون؟ قال: قلنا: الذين لا يزالون

ص: 156

يصلون. فقال: لا ولكن الذين إذا صلّوا لم يلتفتوا عن يمينٍ ولا شمال".

وقد فرق صاحب (الكشاف) بين الدوام والمحافظة على الصلاة، فقال:"فإن قلت: كيف قال: {الذين هُمْ على صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ} ثم {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ؟ قلت: معنى دوامهم عليها: أن يواظبوا على أدائها ولا يخلّون بها، ولا يشتغلون عنها بشيءٍ من الشواغل، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ العملِ أدومُه وإنْ قَلَّ".. ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها، ومواقيتها ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وآدابها ويحفظوها من الإحباط باقتراف المآثم. فالدوام يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة على أحوالها".

وهذه الآية مرتبطة بقوله تعالى قبل هذه الآيات في صفة جهنم: {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} ومرتبطة بقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} .

أما ارتباطها بقوله: {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} فهو واضح، فإن ذلك الذي تدعوه جهنم، قد أدبر عن الطاعةِ وتولَّى عن الحق، وهذا مُقْبِلٌ على الطاعة، مواظب عليها، لا يلتفت عنها، فهو ناجٍ من عذاب جهنم. ثم انظر إلى قوله تعالى:{تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} فقد ذكر أمراً ووكَّده فقال:

{تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} وقابله بقوله: {إِلَاّ المصلين} .

وقال: (وتولى) وهو توكيد للإدبار والانصراف عن الطاعة، وقابله بقوله:{الذين هُمْ على صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ} أي: مقبلون على الطاعة مستمرون عليها. فهو مرتبط بها أحسن ارتباط. وهذا الصنف مقابلٌ لأولئك المُدْبرين العُصاة.

ص: 157

وأما ارتباطها بقوله: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} فهو أجملُ ارتباط وأحسنه ذلك أن الدوام على الصلاة علاجٌ للجزع، وعلاج لمنع الخير. فإن الجَزُوعَ شخصٌ لا يصبر.

وعلاج هذه الصفة أن يتعلم الصبر ويتعوده، والدوام على الصلاة والمواظبة عليها والاستمرار عليها من أحسن ما يعوّد على الصبر، فإن هذه الأعمال تقتضي صبراً متواصلاً، ولذا لا يدومُ عليها كثيرٌ من الناس، فهم يصلون ولكن لا يدومون على صلاتهم؛ بل ينشغلون عنها بأنفسهم وقلوبهم وتسرح في دواخلهم صوارفُ تنالُ كثيراً من صلاتهم. فالدوام عليها علاج من أنجع الأدوية للتعويد على الصبر والمعافاة من الجزع.

وهي كذلك علاج لمنع الخير ذلك أن الدائم في صلاته يتعود أن يُعطي من نفسه ووقته لربه، بل يعطيه نَفْسَهُ كُلَّها ووقته في الصلاة، وأن يتحرر من العبودية لرغبته وشهوته فيدوم على أمر ليس فيه مصلحة دنيوية ظاهرة له، بل قد تفوّت عليه شيئاً عاجلاً كما ذكر ربنا في قوله في صلاة الجمعة:{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] .

فالدوام على الصلاة علاج ناجع لهذه النفوس الجاسية لتسمح من وقتها ومالها وكلِّ ما يربطها برغباتها وشهواتها، ولذا لم يكتف بقوله {إِلَاّ المصلين} بل قال:{الذين هُمْ على صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ} .

ثم قال بعد ذلك:

{والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم} .

قيل: إن المراد بالحق المعلوم الزكاة لأنها مُقَدَّرةٌ معلومة، وقيل: غير ذلك.

ص: 158

وعلى أية حال فإن هؤلاء وضعوا في أموالهم حقاً معلوماً لِمُستحقِّه.

وهذه الآية مرتبطة بقوله تعالى في أصحاب جهنم: {وَجَمَعَ فأوعى} ومرتبطة بقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} .

أما ارتباطها بقوله تعالى: {وَجَمَعَ فأوعى} فهو ظاهر، ذلك أن الله وصف أصحاب جهنم بقوله:{تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى * وَجَمَعَ فأوعى} ، ومعنى جمع فأوعى: أنه جمع المال بعضه على بعض فأوعاه، أي: فجعله في وعاء وكنزه ومنع حَقَّ الله الواجب فيه من مستحقيه. أما هؤلاء المعافَون من النار، فقد جعلوا في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم، فهم لم يمنعوا حق الله، فلم يكونوا ممن أدبر وتولى وجمع فأوعى.

وأما ارتباطها بقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} ، فهو ظاهر أيضاً ذلك أن معنى {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} أنه إذا أصابه الخير والمال والغنى بَخِلَ ومنعَ حقَّ الله تعالى فيه كما ذكرنا. وهؤلاء جعلوا في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم فهم معافَون مستثنَون من صفة الهلع المذكورة؛ بل إنهم مُسْتثنون من صفة الهلع بشقيها: الجزع عند مسِّ الشر والمنع عن مس الخير. ذلك أن قسماً من البخلاء إذا خرج شيء من مالهم، جزعوا وحزنوا كأنما حلّت بهم مصيبة، وكان المال ألصق بقلوبهم من أي شيءٍ آخر، فهؤلاء الذين جعلوا في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم، لم يجزعوا عند خروج المال منهم ولم يُعقبوه أنفسهم، ولم يمنعوا السائل والمحروم منه؛ فإخراجُ المال إلى الفقراء والمساكين علاجٌ وشفاء لهذا الداء الوبيل.

ص: 159

وهناك لمسة فنية لطيفة في اختيار نوع العذاب في هذا السياق، ذلك أنه قال:{كَلَاّ إِنَّهَا لظى * نَزَّاعَةً للشوى * تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى * وَجَمَعَ فأوعى} .

ومن معاني (الشوى) جلد الإنسان فهي، أي: جهنم تنزعُ جلدَ الإنسان وتُبقي الأحشاءَ بلا جلد. والجلدُ للأحشاء كالوعاء للمال يحفظُ ما في داخله، فإن هذا الشخص كما أوعى ماله ومنعه حقه، سيمزقُ اللهُ وعاء جسمه ويخرج ما في داخله. ولا شك أن جلده ووعاء نفسه أحبّ إليه من المال ومن كل شيء، ألا ترى أنه يقال للمطلوب:(انجُ بجلدك) ؟ فانظر التناسقَ الجميلَ بين المعصية والعذاب، والجزاء من جنس العمل.

ثم قال بعد ذلك:

{والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين} .

ويوم الدين يوم القيامة، واختيار ذكر التصديق بيوم الدين دون غيره من أركان الإيمان ههنا له سَببهُ، ذلك أن جَوَّ السورة في الكلام على هذا اليوم، فقد قال في أوائل السورة:{تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وهذا اليوم هو يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح.

وقال عن هذا اليوم: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} أي: أن الكفار يستبعدون وقوعه ويرونه محالاً، في حين أن هؤلاء المعافَين يُصدِّقون به.

وقال: {يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل * وَتَكُونُ الجبال كالعهن} .

ص: 160

وقال: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خاشعة أبصارهم تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} .

فجو السورة والسياق في الكلام على يوم الدين، وختم السورة بالكلام عليه، فكان مناسباً لأن يَخصَّهُ بالذِّكْرِ من بين أركانِ الإيمان الأخرى، فقال:{والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين} .

ثم قال: {والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} .

وذكرُ الإشفاق من العذاب مناسبٌ لجو السورة أيضاً، فإن السورة مشحونةٌ بذكر العذاب والكلام عليه فقد بُدئت السورةُ به وخُتمت به، فقال في أول السورة:{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} ، وقال في خاتمتها:{خاشعة أبصارهم تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} كما ذكر فيها مشهداً آخر من مشاهد العذاب، فقال:{يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَاّ إِنَّهَا لظى * نَزَّاعَةً للشوى * تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى * وَجَمَعَ فأوعى} .

فاختيار الإشفاق من العذاب أنسبُ اختيارٍ ههنا.

ولا شك أن الذين يصدّقون بيوم الدين، ويخشون عذاب ربهم مستثنَون معافَون من صفة الهلع. فالتصديقُ بيوم الدين مُدْعاةٌ للطمأنينة والأمن في النفوس، فهو يصبر إذا مَسَّهُ الشر احتساباً لأجرِ ذلك عند الله، وأنه سيعوضه خيراً مما فقد أو مما ابتُليَ به، وإذا مسه الخير، لا يمنع، لأن الله سيعطيه أضعافَ ما يعطي.

ص: 161

ثم قال بعد ذلك:

{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولائك هُمُ العادون} .

وقد مر تفسير ذلك في آيات سورة (المؤمنون) فلا حاجة إلى إعادة ما مر.

غير أن الذي نقوله ههنا: إنَّ هذه الآيات مرتبطةٌ بما قبلها أجمل ارتباط. وهي مع ما ذُكِرَ معها من الأوصاف مَنْجاةٌ من الهلع وعلاج له. ذلك أن الذي يصبر على شهوته ولا يندفع وراء رغبته يعوّد نفسه على الصبر، فلا يجزع إذا رأى ما يستثير شهوته ثم لا يلهث وراءها حتى يهتبل هذه الفرصة للتلذذ بها.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية إن حفظ الفروج وعدم إرسالها إلا على مستحقيها، أولى من حِفْظِ المال وكنزه ومنع مستحقه منه.

ثم قال: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} .

وقد مر ذلك في آيات سورة (المؤمنون) .

وهذا علاج للهلع أيضاً، ذلك أن الأمانة والعهد ربما يُلْحِقان بالمؤتمن ضرراً من سلطة أو متنفِّذ، ذلك لأن صاحب الأمانة قد يكون مطلوباً لهما فالمؤتمن كأنه يعينه على ما هو عليه أو لغير ذلك من الأسباب. وقد يُفَوِّتانِ عليه خيراً كبيراً، وهو مع ذلك يَفِي بالعهدِ ويؤدي الأمانة مُوطِّناً نفسه على الصبر على ما سيحيقُ به محتسباً أجرَ ما يفوتُه من الخير العاجل عند الله. ولا شك أن هذا مما يكسر الهلع ويضعفه ويعافي منه.

ص: 162

ثم قال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} .

"والشهادة من جملة الأمانات وخَصَّها من بينها، إبانةً لفضلها لأن في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها في زيّها تضييعها وإبطالها".

والقيام بالشهادة معناه: إقامتها على "مَنْ كانت عليه من قريب أو بعيد، أو رفيع أو وضيع، ولا يكتمونها ولا يغيرونها" ولا يُخْفون ما عَلِموه منها.

والإتيان بها مجموعة إشارة "إلى اختلاف الشهادات وكثرة ضروبها، فحسن الجمع من جهة الاختلاف".

والقيام بالشهادات من أنفع الأشياء في علاج الهلع بشقيه، ذلك أن القيام بالشهادة، قد يعرض صاحبها للأذى والنيل منه أو قد يُفَوِّتُ عليه فرصةً من فرص الخير المادي، والنفع العاجل، فالقيام بها توطينٌ للنفس على استقبال الشر والصبر عليه، وتوطين لها على السماح بالخير، وبذله وعدم منعه.

ثم قال بعد ذلك:

{وَالَّذِينَ هُمْ على صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .

فختم بالمحافظة على الصلاة، كما افتتح بالدوام عليها، وهذا نظير ما جاء في سورة (المؤمنون) من الافتتاح بالصلاة والختم بها.

ص: 163

والمحافظة على الصلاة غير الدوام عليها: "فإن معنى الدوام هو أن لا ينشغل عنها بشيء من الشواغل"، وأن ينهمك بها ويواظب على أدائها. أما المحافظة عليها فتعني مراعاة شرائطها وإكمال فرائضها وسننها وأذكارها، كما سلف بيان ذلك.

وارتباط هذه الآية بما قبلها واضح فهي مرتبطة بقوله: {وَجَمَعَ فأوعى} ذلك أن القصد من جعل المال في وعاء، هو المحافظة عليه. والصلاة أدعى وأولى بالمحافظة عليها.

ومرتبطةٌ بصفة الهلع أيضاً ذلك أنها علاج لهذه الصفة المستهجنة بشقيها. فالمحافظة على الصلاة في مختلف الأوقات وتباين الأزمان في أوقات الرخاء والشدة، والعسر واليسر، والمرض والعافية، والشر والخير من المنجيات من هذه الصفة، ذلك أن المحافظة عليها تحتاج إلى الصبر الطويل، لذلك قال تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132] ، وتحتاج إلى البذل والسماح بالخير، وقد وصف الله تعالى رجالاً من المؤمنين بقوله:{رِجَالٌ لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة} [النور: 37] . فالصلاةُ إذا حضرت أهمُّ من التجارة والبيع، فهم يفرطون بالصفقات واحتمال الربح في جنب الصلاة.

إن الصفات المذكورة أنفع علاج لصفة الهلع المقيت، وإن القائمين بهذه الصفات إنما هم ناجون منها مستثنَون من أهلها معافَون من بَلْواها.

ثم قال بعد ذلك:

{أولائك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} .

ص: 164

وقد تقول: ولماذا قال في آيات (المؤمنون) : {أولائك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقال ههنا: {أولائك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} .

فذكر هناك أنهم يرثون الفردوس، والفردوس أعلى الجنة وربوتها، وأفضلها، ومنه تنفجر أنهارُ الجنة. ثم ذكر أنهم فيها خالدون. في حين قال هنا أنهم في جنات، ولم يقل أنهم في أعلى الجنان، كما لم يقل أنهم فيها خالدون كما قال في الأولين.

ونظرة إلى ما في النصين توضح سبب ذلك.

إن آيات سورة (المؤمنون) في ذِكْرِ فلاح المؤمنين وآيات سورة المعارج في ذكر المعافَين من الهلع وقد جعل كل صفة في موطنها.

1-

فقد قال في سورة (المؤمنون) : {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} فذكر صفة الإيمان على وجه العموم.

وقال في آية (المعارج) : {والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين} فذكر ركناً من أركان الإيمان، وهو التصديق بيوم الدين. وثَمَّةَ فَرْقٌ بين الحالين.

جاء في (روح المعاني) في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} "والمراد بالمؤمنين قيل: إما المُصَدِّقون بما عُلِمَ ضرورةً أنه من دينِ نبينا صلى الله عليه وسلم من التوحيد والنبوة، والحشر الجسماني والجزاء ونظائرها".

فذكر في آية (المؤمنون) المؤمنين بيوم الدين وغيره، وذكر في سورة المعارج التصديق بيوم الدين. فما ذكره في سورة (المؤمنون) أكمل.

2-

قال في آية (المؤمنون) : {الذين هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .

ص: 165

وقال في آية (المعارج) : {الذين هُمْ على صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ} .

والخشوع أعَمُّ من الدوام ذلك أنه يشمل الدوام على الصلاة وزيادة فهو روحُ الصلاة، وهو من أفعالِ القلوب والجوارح من تَدَبُّرٍ وخضوع وتذلل وسكونٍ وإلبادِ بصرٍ وعدم التفات. والخاشع دائم على صلاته منهمك فيها حتى ينتهي.

3-

قال في (المؤمنون) : {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} وهو كل باطل من كلامٍ وفِعْلٍ وما توجب المروءة إطراحه كما ذكرنا.

ولم يذكر مثل ذلك في سورة المعارج، فهذه صفةُ فضلٍ لم ترد في المعارج.

4-

قال في (المؤمنون) : {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .

وقال في سورة (المعارج) : {والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم} .

وما في سورة (المؤمنون) أعمُّ وأشملُ إذ الزكاة تشمل العبادة المالية كما تشمل طهارة النفس فهي أعلى مما في المعارج وأكمل فإنه ذكر في المعارج أنهم يجعلون في أموالهم حقاً للسائل والمحروم. أما الزكاة فإنها تشمل أصنافاً ثمانية وليس للسائل والمحروم فقط، هذا علاوة على ما فيها من طهارة النفس وتزكيتها كما سبق تقريره.

5-

قال في سورتي (المؤمنون) و (المعارج) : {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولائك هُمُ العادون * والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} .

ص: 166

6-

قال في آية (المعارج) : {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} .

ولم يذكر ذلك في آيات (المؤمنون) ذلك أنه في سياق المعافاة من الهلع. وقد ذكرنا مناسبة ذلك وعلاقته بالنجاة منه. فاقتضى ذلك ذكره وتخصيصه من بين الأمانات.

7-

قال في آيات (المؤمنون) : {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} بالجمع.

وقال في (المعارج) : {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} بإفراد الصلاة. والصلوات أعم من الصلاة وأشمل. والمحافظة على الصلوات أعلى من المحافظة على الصلاة لما فيها من التعدد والتنوع والفرائض والسنن.

فلما كانت الصفات في آيات سورة (المؤمنون) أكمل وأعلى كان جزاؤهم كذلك، فجعل لهم الفردوسَ ثم ذكر أنهم خالدون فيها، في حين قال في سورة (المعارج) :{أولائك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} ولم يذكر أنهم في الفردوس، ولم يذكر الخلود؛ فانظر كيف ناسب كل تعبير موطنه.

ثم انظر كيف ذكر في سورة (المؤمنون) المؤمنين وهم المُصَدِّقون بيوم الدين وزيادة، وذكر الخشوع في الصلاة، وهو الدوام عليها وزيادة، وذكر فِعْلهم للزكاة وهي العبادة المالية وزيادة. ومستحقوها هم السائل والمحروم وزيادة، وذكر الإعراض عن اللغو وهو زيادة. وذكر الصلوات وهي الصلاة وزيادة، ثم ذكر الفردوس وهي الجنة وزيادة في الفضل والمرتبة، وذكر الخلود فيها وهو الإكرام وزيادة.

فانظر ما أجمل هذا التناسب والتناسق، فسبحان الله رب العالمين.

ص: 167