المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌من سورة المنافقون

‌من سورة المنافقون

{ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولائك هُمُ الخاسرون * وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} .

***

في هاتين الآيتين - كما هو شأن الآيات القرآنية كلها - أسرار تعبيرية بديعة. والذي دعاني إلى الكتابة فيهما، أن سائلاً سألني مرة: لماذا قال تعالى: {فَأَصَّدَّقَ} بالنصب وعطف بالجزم، فقال:(وأكنْ) ولم يجعلهما على نسقٍ واحد؟ فآثرتُ أن أكتب في هاتين الآيتين لارتباطهما.

{ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولائك هُمُ الخاسرون} .

لقد نهى الله في هذه الآية عن الانشغال بأمر الأموال والتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها، والانشغال بأمر الأولاد إلى حَدِّ الغفلة عن ذكر الله، وإيثار ذلك عليه ومن يفعل ذلك كان خاسراً خسارة عظيمة.

هذا معنى الآية على وجه الإجمال، إلا أن هناك أسراراً تعبيرية تدعو إلى التأمل منها:

1-

إنه قال: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ} ومعنى (لا تُلهكم) : لا تَشْغلكم.

وقد تقول: لماذا لم يقل: (لا تشغلكم) ؟

ص: 178

والجواب: أنَّ من الشغل ما هو محمودٌ فقد يكون شغلاً في حق كما جاء في الحديث: "إن في الصلاة لشغلاً" وكما قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس: 55] . أما الإلهاء فمما لا خيرَ فيه وهو مذمومٌ على وجه العموم، فاختار ما هو أحق بالنهي.

2-

لقد أسند الإلهاء إلى الأموال والأولاد فقال: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} . فقد نهى الأموال عن إلهاء المؤمن، والمراد في الحقيقة نهي المؤمن عن الالتهاء بما ذكر. والمعنى: لا تلتهوا بالمال والأولاد عن ذكر الله. وهذا من باب النهي لشيءٍ والمرادُ غيره، وهو كقوله تعالى:{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} [لقمان: 33] ، فقد نهى الحياة الدنيا عن غرّ المؤمن والمراد نهي المؤمن عن الاغترار بالدنيا.

إن المَنْهي في اللغة: هو الفاعل نحو قولك: (لا يضربْ محمودٌ خالداً) فـ (محمود) هو المنهي عن أن يضرب خالداً، ونحو قولك:(لا يسافرْ إبراهيمُ اليوم) فإبراهيم منهي عن السفر. ونحو قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: 11] . فالقوم هم المنهيون وكذلك النساء. وكما تقول: (لا تضربْ خالداً) و (لا تضربي هنداً) فالفاعل هو المنهي وليس المفعول به. والفاعل في الآية هو الأموال والأولاد. أما المخاطبون فمفعول به. فالمنهي إذن هي الأموال والأولاد، وهي منهية عن إلهاء المؤمن.

وقد تقول: ولِمَ لم يعبر بالتعبير الطبيعي فيقول: لا تلتهوا بالأموال والأولاد، على أصل المعنى؟

والجواب: أن في هذا العدول عدة فوائد:

ص: 179

منها: أنه نهى الأموال عن التعرض للمؤمن وإلهائه عن ذكر الله فكأنه قال: أيها الأموال لا تُلْهي المؤمن عن ذِكْري. فكأن الله يريد حماية المؤمن وذلك بنهي السبب عن أن يتعرض له فيكفّ عن التعرض.

وفي هذا النهي مبالغة إذ المراد نهي المؤمن ولكنه بدأ بأصلِ المسألة وهي الأموالُ والأولاد فنهاها هي عن التعرض للمؤمن بما يلهيه. فقد جعل الله المؤمن كأنه مطلوب من قبل الأموال والأولاد تسعى لإلهائه وفتنته فنهاها عن السعي لهذا الأمر لينقطع سبب الالتهاء ويقمعه.

ومنها: أن فيه إهابة للمؤمن ألا يقع في شَرَكِ الأموال والأولاد بحيث تلهيه وهو غافل مسلوب الإرادة، فنسب الإلهاء إليها ليأخذ المؤمنُ حَذَره منها، فكأن الأموال والأولاد ينصبون الشَّرَك ليلهوه عن ذكر الله، فعليه أن يحذر من أن يقع فيه كما تقول:(لا يخدعْك فلان) فإن فيه إهابةٌ لأخذِ الحذر منه.

هذا إضافة إلى ما فيه من التعبير المجازي اللطيف، وهو إسناد الإلهاء إلى الأموال فجعلها عاقلة مريدة تنصب الشرَك لوقوع المؤمن في الفخ.

جاء في (روح المعاني) : "والمراد بنهي الأموال وما بعدها نهي المخاطبين، وإنما وجه إليها للمبالغة لأنها لقوةِ تَسَبُّبها للهو وشدة مدخليتها فيه، جُعلت كأنها لاهية وقد نُهيت عن اللهو، فالأصل لا تلهوا بأموالكم.. إلخ. فالتجوُّزُ في الإسناد. وقيل: إنه تَجُوُّزٌ بالسبب عن المسبب كقوله: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2] أي: لا تكونوا بحيث تلهيكم أموالكم.. ".

وجاء في (تفسير البيضاوي) : "توجيه النهي إليها للمبالغة".

ص: 180

3-

جاء بـ (لا) بعد حرف العطف فقال: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} ولم يقل: (أموالكم وأولادكم) ذلك أن كلاً من الأموال والأولاد داعٍ من دواعي الإلهاء، فالمال داع من دواعي الإلهاء وكذلك الأولاد. ولو قال:(أموالكم وأولادكم) لاحتمل أن النهي عن الجمع بينهما، فلو لم يجمع بينهما جاز، فلو انشغل بالمال وحده جاز، أو انشغل بالأولاد وحدهم جاز، وهو غير مراد. إذ المراد عدم الانشغال بأيِّ واحدٍ منهما على سبيل الانفراد أو الاجتماع.

4-

قدم الأموال على الأولاد لأن الأموال تلهي أكثر من الأولاد، فإن الانشغال فيها وفي تنميتها يستدعي وقتاً طويلاً وقد ينشغل المرء بها عن أهله، فلا يراهم إلا لماماً فقدم الأموال لذلك.

5-

قدم المفضول على الفاضل، فالأولاد أفضل من الأموال، لأن المال إنما يكون في خدمتهم ويترك لهم وذلك لأكثر من سبب.

منها: أن المقام مقام إلهاء كما ذكرنا فاستدعى تقديمها.

ومنها: أن المقام يقتضي ذلك من جهة أخرى، فإن هذا التقديم نظير التقديم في الآية اللاحقة من تقديم المفضول وهو قوله:{فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} فقدم الصدقة على كونه من الصالحين.

ولما قدم النهي عن الالتهاء بالمال قدم الصدقة. والصدقة إنما هي إخراجٌ للمال من اليد والقلب، والالتهاء إنما هو انشغال به بالقلب والوقت والجارحة.

ولما قال: {عَن ذِكْرِ الله} قال: {وَأَكُن مِّنَ الصالحين} لأنَّ المُنشغلَ عن الفرائضِ وذِكْرِ الله ليس من الصالحين. فهو تناظرٌ جميل.

ص: 181

لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم

فأصّدّق.

عن ذكر الله

وأكن من الصالحين.

والملاحظ أنه حيث اجتمع المالُ والولد في القرآن الكريم، قُدِّمَ المالُ على الولد إلا في موطن واحد، وذلك نحو قوله تعالى:

{شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11] .

وقوله: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} [الكهف: 46] .

وقوله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر: 12-13] ، ونحو ذلك، لأن المال في هذه المواطن أدعى إلى التقديم، إما لأن الانشغال به أكثر كما ذكرنا، أو لأنه أدعى إلى الزينة والتفاخر وما إلى ذلك من المواطن التي تقتضي تقديم الأموال.

أما الموطن الذي قدم فيه الولد على المال، فهو قوله تعالى:

{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ والله لَا يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 24] . وذلك لأن المقام مقام حب. ولا شك أن المتقدمين من الأبناء والأزواج وغيرهم أَحبُّ إلى المرء من الأموال لأنه إنما ينفقُ المالَ عليهم ويُبقيه لهم بعد رحيلهِ عن هذه الدار.

ثم لا تنسَ أنه قدم مجموع القرابات من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، ولا شك أن هؤلاء بمجموعهم أحبّ إلى المرء من المال. فالأبناء وحدهم أثقل في ميزان الآباء من الأموال، فكيف إذا اجتمع معهم ما اجتمع مِمَّنْ يُحبّ؟

أما مسألة تقديم الأموال على وجه العموم، فلعلَّ الله يُيَسِّر لنا البحثَ فيها.

ص: 182

6-

قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} ولم يقل: (ومن تُلْههِ تلك) فنسب الفعل إلى الشخص، لينال بذلك جزاءه ولئلا يفهم أنه ليس بمقدور الشخص الانصراف عن اللهو، وأنه غير مسؤول عن هذا الالتهاء. فقال:(ومن يفعل ذلك) للدلالة على أن ذلك بمقدوره، وأنَّ هذا من فِعْلهِ وكَسْبه. فالالتهاء ليس أمراً سلبياً، بل هو فِعْلٌ يقوم به الشخص وينال جزاءه عليه.

7-

ثم انظر كيف جاء لذلك بالفعل المضارع فقال: {وَمَن يَفْعَلْ} للدلالة على استمرار الحدث وتَكَرُّرهِ ولم يقل: (ومن فعل) بالماضي، ذلك لأن الالتهاء بالأموال والأولاد أمرٌ يومي متكرر، ولذا عبر عنه بالفعل المضارع الذي يدل على التكرار والتطاول.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أنه لو قال:(ومن فعل) لاحتمل أن ذلك الخسران الكبير، إنما يقعُ ولو فعلَهُ مرةً واحدة وهو غير مراد. ثم ليتناسب الفعل والجزاء إذ ليس من المعقول أن يكون ذلك الخسران الكبير الثابت المدلول عليه بالجملة الاسمية والقصر إنّما يكون لما وقع مرة واحدة من الالتهاء، بل المناسب أن يكون ذلك لما تكرر حصوله وتطاول.

8-

ثم قال بعد ذلك: {فأولائك هُمُ الخاسرون} ، واختيار الخسران نهاية للآية أنسب شيء ههنا فإنه المناسب للالتهاء بالأموال والانشغال بها. فإن الذي ينشغلُ بالمال إنما يريد الربح، ويريد تنمية ماله فقال له: إن هذا خسرانٌ وليس ربحاً حيث باع "العظيمَ الباقي بالحقيرِ الفاني".

9-

ثم إن الإتيان بضمير الفصل (هم) بين المبتدأ والخبر وتعريف (الخاسرون) بأل، إنما يفيدان القصر والتأكيد، أي أن هؤلاء لا غيرهم

ص: 183

هم الخاسرون حقاً. وهم أولى مَنْ يُسمَّون خاسرين. فإنه لم يقل: (فأولئك خاسرون)، أو من الخاسرين. ولو قال لأفاد أن خسارتهم قد تكون قليلة أو قد يشاركهم فيها غيرهم بل قال:{فأولائك هُمُ الخاسرون} للدلالة على أنهم هم الخاسرون دون غيرهم وهم المتصفون بالخسارة إلى الحد الأقصى.

جاء في (روح المعاني) : "وفي التعريف بالإشارة والحصر للخسران فيهم، وفي تكرير الإسناد وتوسيط ضمير الفصل ما لا يخفى من المبالغة".

10-

اختار الإلهاء عن ذكر الله دون غيره من العبادات فلم يقل مثلاً: لا تلهكم عن الصلاة أو عن الجهاد أو عن غير ذلك من العبادات، ذلك أن ذكر الله يشمل جميع الفرائض، فكل عمل تعمله لا يكون لله إلا إذا كنت ذاكراً لله في نفسك أو على لسانك أو مستحضراً له في قلبك. والذكر قد يكونُ في القلب كما يكون في اللسان، قال تعالى:{واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] . وقال: {وَأَقِمِ الصلاة لذكريا} [طه: 14] . فذِكْرُ الله "عام في الصلاة والثناء على الله تعالى بالتسبيح والتحميد وغير ذلك والدعاء.. وقال الحسن: جميع الفرائض".

ولذلك كان الخسران كبيراً فهو متناسب مع عظم المعصية، والله أعلم.

{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} .

ص: 184

1-

تبدأ الآية بقوله: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} وهذا الأمر بالإنفاق مقابل النهي عن الإنفاق على أصحاب رسول الله من المنافقين. فالمنافقون يقولون لأوليائهم: {لَا تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} . والله يقول لأوليائه: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} فانظر كيف قابل النهي بالأمر.

2-

قال: {مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} فجاء بـ (من) الدالة على التبعيض ولم يقل: (أنفقوا ما رزقناكم) ، للدلالة على أن الإنفاق إنما يكون في قسم من المال ولا يشمل المالَ كله، فتستسهلُ النفوسُ التخلي عن قسم من المال، استجابةً لأمر ربها بخلاف ما إذا سألها المال كله، فإنها تستعظمُ ذلك وتبخلُ به، قال تعالى:{وَلَا يَسْأَلْكُمْ أموالكم * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36-37] .

3-

أسند الرزق إلى نفسه فقال: {مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} للدلالة على أن هذا المال إنما هو من رزق الله سبحانه، ملّكه عبادَهُ، فتطيب النفوس لإخراج بعض ما رزقه الله، استجابةً لأمرِ الله الرازق.

وهذا التعبير اللطيف مَدْعاةٌ إلى الخروج عن الشح والاستجابة لأمر الله.

4-

ثم قال: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت} فجاء بـ (من) ولم يقل: (قبل أن يأتي أحدكم الموت) إشارة إلى قرب الموت من الإنسان، وأنه على الإنسان أن يسابق الموتَ ويبادر بالعمل الصالح. فإن (من) هذه تفيد ابتداء الغاية الزمانية، ومعناه الزمن القريب من الموت بل المتصل به، وأن حذفها يفيد الوقت الذي هو قبل الموت سواء كان قريباً أم بعيداً ويفيد إعطاء المهلة مع أن الأجل إذا جاء لا يمهل، فالمجيء

ص: 185

بها يفيد طلب التعجيل بالتوبة والإنفاق إذ كل ساعة تمر بالإنسان، تحتمل أن تكون هي ساعة الموت، وهي التي ذكرها بقوله:{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت} فانظر حُسْنَ التعبير ودقته.

5-

قدم المفعول به على الفاعل، فقال:{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت} ولم يقل: (يأتي الموت أحدكم) ذلك لأن المفعول به هو المهم ههنا، إذ هو المعنيُّ بالتوبةِ والصلاح، وهو المدعوّ للإنفاق وهو المُتحسِّرُ النادم إذا عاجله الموت.

فالعناية والاهتمام منصبان على المفعول الذي يأتيه الموت، وهو كل واحد منا.

6-

جاء بالفاء في قوله: {فَيَقُولُ رَبِّ} ولم يأت بثم أو الواو، ذلك لأن الفاء تفيد معنيي السبب والعطف، في حين أن ثم أو الواو لا تفيد السبب، بل تفيد العطف وحده.

ومن ناحية أخرى، إن الفاء تفيد التعقيب بلا مهلة في حين أن (ثم) تفيد التراخي، والواو تفيد مطلق الجمع.

فجاء بالفاء لجمع معنيي السبب والعطف، أي أن الموت سبب لهذا الندم وطلب التأخير لِمَا ينكشفُ له من سوء المنقلب والعياذ بالله.

ثم إن طلب التأخير يأتي رأساً بلا مهلة، ففي ساعة الموت وعند حضوره يطلب التأخير ليسلك سبيلَ الصالحين، ولو جاء بـ (ثم) لَمَا أفاد ذاك، بل يفيد أن طلب ذاك إنما يكون بعد مهلة وتراخٍ، وكذلك الواو لا تفيد ما أفادته الفاء.

7-

ثم انظر كيف ناسب المجيء بالفاء الدالة على قصر الوقت حذف حرف النداء، فقال:(ربّ) ولم يقل: (يا رب) لأن الوقت لم يعد يحتمل

ص: 186

التضييع في الكلام فيأتي بـ (يا) بل يريد أن يستعجل في طلبه، فيختصر من الكلام ما لا حاجةَ له به ليفرغ إلى مراده.

8-

جاء بـ (لولا) فقال: {لولا أخرتنيا} ولم يقل: (لو أخرتني) لأن (لولا) أَشَدُّ في الطلب من (لو) وقائلها أكثر إلحاحاً من قائل: (لو) فإن (لو) تكون للطلب برفق، وأما (لولا) فتكون للطلب بشدةٍ وحَثٍّ، ومعنى ذلك أن ما هو فيه يستدعي الإلحاح في الطلب، وأن يجأر به وأن يأتي بما هو من أشدِّ أدواتِ الطلب قوةً، كما أنها من أدوات التنديم وفيها تنديمٌ للنفس على ما فرط، ولو جاء بـ (لو) لأفاد العرض الخفيف.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن (لو) قد تفيد التمني، والتمني قد يكون ميؤوساً منه ليس لصاحبه فيه مَطْمع نحو (لو يعود الميت إلى الحياة، فيخبر الناس بما هو فيه) في حين أن هذا القائل ليس متمنياً، بل هو طالبٌ للعودة، سائلٌ لها فلو جاء بـ (لو) لأفاد أن هذا من باب التمني الذي يتمناه الإنسان، ولا يرجو وقوعه كقول القائل:(ألا ليتَ الشبابَ يعود يوماً) والتمني قد يكون في حال العافية كما يكون في غيرها في حين أن هذا طالب للتأخير وليس متمنياً.

9-

جاء بالفعل الماضي بعد (لولا) فقال: {لولا أخرتنيا} ولم يقل: (لولا تؤخرني) ذلك أن المحذور وقع في حين أن الفعل المضارع قد يفيد أن الأمر لم يقع بعد، وأن في الأمر سَعَةً وذلك نحو قوله تعالى:{لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 70] . وقوله: {قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46] .

هذا علاوة على ما يفيدُ دخولُ (لولا) على الماضي من قوةِ الطلب وشدته، وإن كان مستقبل المعنى.

ص: 187

10-

ثم انظر كيف طلب مهلة قصيرة لإصلاح حاله، مع أنه كان يتقلب في الأرض من دون أدنى تفكير أو اهتمام بمآله في الآخرة أو بالأوقات التي يضيعها هدراً من دون اكتراث، فقال:{إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} ، ولم يقل:(إلى أجل) فيحتمل القريب والبعيد، فطلب مهلة قصيرة وأجلاً قريباً لتداركِ ما فات.

فانظر كيف جاء بالفاء الدالة على قصر الزمن بين إتيانِ الموت وطلب التأخير، وحذف (يا) النداء اختصاراً للزمن ليفرغ إلى طلبه، وجاء بـ (لولا) الدالة على الإلحاح في الطلب، كل ذلك ليحصلَ على مهلةٍ قليلة ليصلح شأنه. فانظر أية إشارات هذه إلى هَولِ ما هو فيه؟

وقد تقول: ولمَ قال ههنا: {أخرتنيا} بالياء وقال في سورة الإسراء: {أَخَّرْتَنِ} فحذف الياء واجتزأ بالكسرة؟

والجواب: أن المقام يوضح ذلك.

فقد قال في سورة الإسراء على لسان إبليس: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هاذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَاّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62] .

وقال ههنا: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} .

وهنا نسأل: أيّ الطلبين يريده المتكلِّمُ لنفسه على وجه الحقيقة، وأيهما يعودُ بالنفع عليها ودفع الضرر عنها أهُوَ قولُه:{لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} أم قوله: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَاّ قَلِيلاً} ؟

والجواب ظاهر. فإنَّ طلبَ إبليس لا يريدهُ من أجل نفسه، ولا لأنه محتاجٌ إليه، وإنما يريده ليُضِلَّ ذريةَ آدم. ثم إن هذا الطلب لا يعود عليه

ص: 188

بنفع، ولا يدفع عنه ضراً وليست له مصلحة فيه؛ بل العكس هو الصحيح بخلاف الطلب الآخر، فإنه يريده لنفسه حقاً وإنه لا شيء ألزم منه لمصلحته هو ودفع الضرر عنه.

فلما كان طلب التأخير لمصلحة الطالب حقاً، وأنه ابتغاء لنفسه على وجه الحقيقة أظهر الضمير. ولما كان طلب إبليس ليس من أجل نفسه ولا يعود عليها بالنفع حذف الضمير واجتزأ بالكسرة.

ثم في الحقيقة، إن كلام إبليس ليس طلباً، وإنما هو شرطٌ دخل عليه القَسَم فقال:{لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} فهو من باب الطلب الضمني، وليس من باب الطلب الصريح. وأما قوله:{لولا أخرتنيا} فهو طلب صريح ففرق تبعاً لذلك بين التعبيرين. فصرّح بالضمير وأظهر نفسه في الطلب الصريح، وحذف الضمير واجتزأ بالإشارة إليه في الطلب غير الصريح. وهو تناظرٌ جميل، ففي الطلب الصريح صَرَّحَ بالضمير، وفي الطلب غير الصريح لم يصرح بالضمير.

11-

وهنا نأتي إلى سؤال السائل وهو: لِمَ عطفَ بالجزم على النصب، فقال:(فأصّدّقَ) بالنصب ثم قال: (وأكنْ) بالجزم ولم يجعلهما على نسق واحد؟

والجواب: أن هذا مما يسميه النحاة (العطف على المعنى) وقد يسمى في غير هذا القرآن (العطف على التوهم) . ذلك أن (أصّدّق) منصوب بعد فاء السببية، و (أكن) مجزوم على أنه جواب للطلب، والمعنى: إنْ أخرتني أكن من الصالحين. ونحو ذلك أن تقول: (هلاّ تدلّني على بيتك أَزُرْك) ، فـ (أزرك) مجزوم بجواب الطلب والمعنى، إن تدلني على بيتك أزرك ولو جئت بفاء السبب لنصبت، فقلت:(هلا تدلني على بيتك فأزورَك) ، وإن أسقطت الفاء وأردت معنى الشرط جزمت.

ص: 189

جاء في (البحر المحيط) : "وقرأ جمهور السبعة (وأكن) مجزوماً. قال الزمخشري: (وأكن) مجزوماً على محل (فأصدق) كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. وقال ابن عطية: عطفاً على الموضع لأن التقدير إن تؤخرني أصّدّق وأكن".

ففي الآية الكريمة جاء بالمعطوف عليه على إرادة معنى السبب وجاء بالمعطوف على معنى الشرط فجمع بين معنيي السبب والشرط. فالعطف إذن ليس على إرادة معنى الفاء بل على إرادة معنى جديد.

جاء في (معاني النحو) : "عطف (أكن) المجزوم على (أصدّق) المنصوب، وهو عطف على المعنى وذلك أن المعطوف عليه يراد به السبب والمعطوف لا يراد به السبب، فإنَّ (أصدّق) منصوب بعد فاء السبب وأما المعطوف فليس على تقدير الفاء ولو أراد السبب لنصب، ولكنه جزم لأنه جواب الطلب نظير قولنا: (هل تدلني على بيتك أزرك؟) كأنه قال: إن تدلّني على بيتك أزرك. فجمع بين معنيي التعليل والشرط، ومثل ذلك أن أقول لك: (احترم أخاك يحترمْك) و (احترم أخاك فيحترمَك) فالأول جواب الطلب والثاني سبب وتعليل. وتقول في الجمع بين معنيين (أكرمْ صاحبك فيكرمَك ويعرفْ لك فضلك) وهو عطف على المعنى".

وقد تقول: ولماذا لم يُسَوِّ بينهما، فيجعلهما نسقاً واحداً؟

والجواب أنهما ليسا بمرتبة واحدة في الأهمية، فالصلاح أهم من الصدقة ذلك أن الذي ينجي من العذاب، هو كونه من الصالحين لا كونه متصدقاً فإن المؤمن قد لا يتصدق بصدقة أصلاً ومع ذلك يدخل الجنة بصلاحه فقد يكون ليس معه ما يتصدق به. فالذي ينجيه من العذاب،

ص: 190

ويدخله الجنة، هو أن يكون من الصالحين، والتصدق إنما يكون من الصلاح. والذي يدلك على ذلك قوله تعالى في سورة (المؤمنون) :{حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون * لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} [المؤمنون: 99-100] . فإنه ذكر الصلاح ولم يذكر الصدقة، لأن الآية لم تقع في سياق الكلام على الأموال وإنفاقها، وذلك يدل على أن الصلاحَ هو مناطُ النجاة وأنه هو الأهم. فعبّر عن كونه من الصالحين بأسلوب الشرط، لأنه أقوى في الدلالة على التعهد والتوثيق، فقد اشترط على نفسه أن يكون من الصالحين، وقطع عهداً على نفسه بذلك. فأعطى الأهم والأولى أسلوبَ الشرط الدال على القوة في الأخذ على النفس والالتزام. وأعطى ما هو دونه في الأهمية والأولوية، أسلوب التعليل ولم يجعلهما بمرتبة واحدة.

وقد تقول: إذا كان الأمر كذلك فَلِمَ قَدَّمَ الصدقة على الصلاح؟

والجواب: أن السياق هو في إنفاق الأموال، فقد قال تعالى في هذه الآية:{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} فدعا إلى الإنفاق، فكان تقديم الصدقة مناسباً للمقام. ثم إنه تردد في السورة ذِكْرُ الأموال والانشغالُ بها، وما إلى ذلك، فقد جاء قبل هذه الآية قوله:{ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولائك هُمُ الخاسرون} فنهى عن الانشغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله، وجاء قبلها قوله في المنافقين:{هُمُ الذين يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض} .

فأنتَ ترى أن تقديم الصدقة، هو المناسب للسياق الذي وردت فيه الآية وللجو الذي تردد فيه ذِكْرُ الأموال والانشغال بها، والتوصية من المنافقين بعدم إنفاقها في سبيل الخير.

وقد تقول: ولِمَ قال: {فَأَصَّدَّقَ} ولم يقل: (فأتصدق) الذي هو الأصل؟

ص: 191

والجواب: أن هناك أكثر من سبب يدعو إلى هذا الاختيار.

منها أن مقاطع (فأتصدق) أكثر من مقاطع (فأصّدّق) . فإن مقاطع (فأتصدق) ستة ومقاطع (فأصّدّق) خمسة:

فَ + أَ + تَ + صد + دَ + قَ = ستة مقاطع.

فَ + أص + صد + دَ + قَ = خمسة مقاطع.

وهو طلب التأخير إلى أجل قريب فاختار اللفظة التي هي أقصر لتناسب قصر المدة.

ثم إن في (فأصّدّق) تضعيفين أحدهما في الصاد، والآخر في الدال في حين أن في (فأتصدق) تضعيفاً واحداً موطنه الدال، والتضعيف مما يدل على المبالغة والتكثير، ولذا كان في قوله:(فأصّدّق) من المبالغة والتكثير في الصدقة ما ليس في (فأتصدق) فدلّ بذلك أنه أراد أجلاً قريباً ليكثر من الصدقة ويبالغ فيها.

فهذا البناء أفاد معنيين:

الأول: قصر المدة وذلك لأنه طلب التأخير مدة قصيرة.

والآخر: هو الإكثار من الصدقة في هذه المدة القصيرة فكان ذلك أنسب.

من هذا ترى أنه وضعَ كلَّ تعبير في مكانه الذي هو أليقُ به، وأعطى كلاً منهما حقه الذي هو له. فانظر كيف جمع بين معنيي التعليل والشرط. وقدم الصدقة مناسبة للمقام وأعطى الصلاح أهميةً تفوقُ الصدقة، وجاء بلفظةٍ تدلُّ على قِصَرِ المدة والإكثار من الصدقة فجمعت معنيين مناسبة للمقام؛ كلُّ ذلك بأوجز عبارة وأبلغها. والله أعلم.

ص: 192