المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌من سورة القمر

‌من سورة القمر

{إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} .

***

سأل سائل: لِمَ وحّد تعالى: (النَّهَر) في هذه الآية ولم يجمعه مع أن الجناتِ قبله جَمْعٌ بخلاف المواضع الأخرى من القرآن الكريم، فإنه إذا جمع الجنة، جمع النهر أيضاً فيقول:{جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ؟

والجواب: أنه جمع في لفظ (النهَر) عدة معان وأعطى أكثر من فائدة لا يفيدها فيما لو قال: (أنهار) . ذلك أنه علاوة على أن فواصل الآيات، تقتضي (النهَر) لا (الأنهار) لأن آيات السورة على هذا الوزن فقد جاء قبلها:{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} وجاء بعدها: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} فإن المعنى أيضاً يقتضي ذلك من جهات أخرى منها:

أن النهَر اسم جنس بمعنى الأنهار، وهو بمعنى الجمع. وقد يؤتى بالواحد للدلالة على الجمع والكثرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"أهلكَ الناسَ الدينارُ والدرهم". والمراد بالدينار والدرهم الجنس لا الواحد.

وجاء في (معاني القرآن) للفراء: "ونهَر معناه أنهار. وهو في مذهبه كقوله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} . وزعم الكسائي أنه سمع العرب يقولون: أتينا فلاناً فكنا في لحمة ونبيذةٍ. فوحّد ومعناه الكثير".

ص: 170

ومنها: أن معاني (النهر) أيضاً السَّعة. والسَّعة ههنا عامة تشمل سعة المنازل وسعة الرزق والمعيشة، وكل ما يقتضي تمام السعادة السعة فيه. جاء في (البحر المحيط) :"ونَهَر: سَعة في الأرزاق والمنازل".

وجاء في (روح المعاني) : "وعن ابن عباس تفسيره بالسعة

والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر، وقيل: سعة الرزق والمعيشة، وقيل: ما يعمهما".

ومنها: أن من معاني (النهر) أيضاً الضياء.

جاء في (لسان العرب) : "وأما قوله عز وجل: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} فقد يجوز أن يعني به السعة والضياء، وأن يعني به النهر الذي هو مجرى الماء، على وضع الواحد موضع الجميع.. وقيل في قوله: {جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أي: في ضياء وسعة، لأن الجنة ليس فيها ليل، إنما هو نور يتلألأ".

وجاء في (معاني القرآن) للفراء: "ويقال: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} في ضياء وسعة".

وهذه المعاني كلها مُرادةٌ مطلوبة، فإنَّ المتقين في جنات وأنهار كثيرة جارية، وفي سعة من العيش والرزق والسكن وعموم ما يقتضي السعة، وفي ضياء ونور يتلألأ ليس عندهم ليل ولا ظلمة.

ص: 171

فانظر كيف جمعت هذه الكلمة هذه المعاني كلها، إضافة إلى ما تقتضيه موسيقى فواصل الآيات بخلاف ما لو قال (أنهار) ، فإنها لا تعني إلا شيئاً واحداً.

ثم انظر كيف أنه لما كان المذكورون هم من خواص المؤمنين، وهم المتقون وليسوا عموم المؤمنين أعلى أجرَهم ودرجتهم، فقال:(ونهر) ولم يقل: (وأنهار) . ولما أعلى أجرهم ودرجتهم وبالغ في إنعامهم وإكرامهم جاء بالصفة والموصوف بما يَدلُّ على المبالغة فقال: {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} ولم يقل: (ملك قادر) فإن (مليك) أبلغ من (ملك) و (مقتدر) أبلغ من (قادر) فإن كلمة (مليك) على صيغة (فعيل) وهي أبلغُ وأثبتُ من صيغة (فعِل) .

جاء في (روح المعاني) : "عند مليك، أي: ملك عظيم الملك، وهو صيغة مبالغة، وليست الياء من الإشباع".

ولما جاء بالصيغة الدالة على الثبوت، قال:{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} "ذلك لأن هذا المقعد ثابت لا يزول، فهو وحده مقعد الصدق، وكل المقاعد الأخرى كاذبة، لأنها تزول إما بزوال الملك صاحبه، وإما بزوال القعيد، وإما بطرده، وهذا المقعد وحده الذي لا يزول، وقد يفيد أيضاً أنه المقعد الذي صدقوا في الخبر به".

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن معنى الصدق ههنا يفيد معنى الخير أيضاً والجودة والصلاح فجمعت كلمة (الصدق) ههنا معنيي الخير

ص: 172

والصدق معاً، كما جمع (النهر) أكثر من معنى. ثم انظر كيف أنهم لما صدقوا في إيمانهم وعملهم، كان لهم مقعد الصدق.

و (المقتدر) أبلغ أيضاً من (القادر) ذلك أن (المقتدر) اسم فاعل من (اقتدر) وهذا أبلغ من (قدر) فإن صيغة (افتعل) قد تفيد المبالغة والتصرف والاجتهاد والطلب في تحصيل الفعل بخلاف فَعَل ومنه اكتسب واصطبر واجتهد قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] .

جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "فإن قلت: لم خصَّ الخير بالكسب والشر بالاكتساب؟

قلت: في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي منجذبةٌ إليه وأمّارة به كانت في تحصيله أعملَ وأَجدَّ، فجُعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال".

وجاء في (البحر المحيط) : "والذي يظهر لي أن الحسنات، هي مما تُكتسب دون تكلف

والسيئات تكتسب ببناء المبالغة".

وقال سيبويه: "كسب: أصاب، واكتسب: تصرف واجتهد".

فجاء ههنا، أي: في قوله: (مقتدر) بالصيغة الدالة على القدرةِ البالغة مع الملك الواسع الثابت.

ص: 173

فانظر كيف بالغ وأعظمَ في الأجر، وبالغَ وأعظمَ في المُلك، وبالغ وأعظمَ في القدرة لمن بالغ وجدّ في عمله وصدق فيه وهم المتقون.

ونريد أن نشير إلى أمر، وهو إطلاق وصف (المبالغة) على صفات الله نحو علام، وعليم، وغفور، وما إلى ذلك. فقد توهم بعضهم أنه ينبغي أن لا يطلق على صفات الله وَصْفُ المبالغة، لأنها صفات حقيقة وليست مبالغاً فيها. وقد اعترضَ عليَّ معترضٌ ذات مرة بنحو هذا. مع أنه من الواضح أن ليس المقصود كما ظن الظان أو توهم. فالمقصود أن هذا البناء يفيد كثرةَ وقوع الفعل، وليس المقصود أن الأمرَ مبالَغٌ فيه. فـ (عليم) أبلغ من (عالم) و (صبور) أبلغ من (صابر) ذلك أن الموصوف بعليم معناه أنه موصوف بكثرة العلم، وليس المقصود أن صاحبه وُصف بهذا الوصف وهو لا يستحق أن يُوصَفَ به فكان الوصف به مبالغة.

ولا نريد أن نطيل في كشف هذه الشبهة، فإنها فيما أحسب لا تستحق أكثر من هذا.

ص: 174