الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة البلد
سُئلت مرة: ما علاقة القَسَم بمكة على خَلْق الإنسان في كَبَد في قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بهاذا البلد} ؟
فقلتُ له ابتداء: إن الله أقسم بمكة حالَ كونِ الرسول فيها والرسول كان يلاقي فيها عنتاً ومشقة وهو يبلّغ الدعوة، فقال الله تعالى: إن الله خلق الإنسان مكابداً في دنياه، ليسلّيه ويصبّره. ثم رأيتُ أن أنظر في السورة وأُدوِّنَ ما أجدُ فيها من لمسات فنية.
إن مناسبة هذه السورة لما قبلها - أعني سورة الفجر - قوله تعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ * كَلَاّ بَل لَاّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلَا تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين * وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} [الفجر: 15-20] .
فقد ذكر فيها صنفي الإنسان: الغني والفقير. الصنف الذي أكرمه ربه ونعّمه، والصنف الذي ابتلاه وضيّق عليه الرزق، وهو ما ذكره في سورة البلد. فقد ذكر الإنسان الذي أهلك المال الكثير، وذكر المسكين ذا المتربة واليتيم ذا المقربة.
ووصف الله الإنسان بأنه لا يكرم اليتيم، ولا يحضّ على طعام المسكين في سورة الفجر، وأوصانا بالرحمة وحضّنا على الإنفاق في سورة البلد ذاكراً هذين الصنفين اللذين ذكرهما في سورة الفجر فقال:{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} فذكر الصنفين المذكورين في سورة الفجر، اليتيم والمسكين. ولما وصف الله الإنسان بأنه يحب المال حباً شديداً ويأكل التراث أكلاً لمّاً في سورة الفجر، ذكر في سورة البلد أن هذه عقبة لا يجتازها إلا من أعان الآخرين بماله وسمح لهم به.
ثم انظر إلى علاقة قوله: {وَتَأْكُلُونَ التراث} بقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} وأنه كما يأكل ينبغي أن يُطعم الآخرين، فانظر إلى قوة المناسبة وجمال الارتباط. وقد انتبه المفسرون رحمهم الله إلى علاقة هذه السورة بما قبلها.
جاء في (البحر المحيط) : "لما ذكر تعالى ابتلاءه للإنسان بحالة التنعيم، وحالة التقدير وذكر من صفاته الذميمة ما ذكر وما آل إليه حالهُ وحال المؤمن أتبعه بنوع من ابتلائه ومن حاله السيىء، وما آل إليه في الآخرة".
وجاء في (روح المعاني) : "ولما ذم سبحانه فيما قبلها مَنْ أحبَّ المال، وأكل التراث أكلاً لمّاً، ولم يحض على طعام المسكين، ذكر جلّ
وعلا فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة، وإطعام في يوم ذي مسغبة. وكذا لما ذكر عز وجل النفس المطمئنة هناك ذكر سبحانه بعض ما يحصل به الاطمئنان".
ثم انظر من ناحية أخرى، كيف أن هذه السورة - أعني سورة البلد - استوفت عناصرَ البلاغ والإرسال، فقد ذكرت موطنَ الرسالة، والرسول، والمرسَل إليهم، والرسالة. فقد ذكرت (مكة) وهي المرادة بقوله:{بهاذا البلد} ، والرسول: وهو المراد بقوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} وذكرت المرسل إليه وهو {الإنسان} ويدخل فيه أيضاً: (الوالد وما ولد) ، وذكرت الرسالة، وهي الإيمان والعمل الصالح، وهو ما ذكرته من فك الرقبة ونحوه من الأعمال الصالحة. وذكرت أصنافَ الخَلْقِ بالنسبة للاستجابة إلى الرسالة، وهم أصحاب الميمنة الذين اقتحموا العقبة وأصحاب المشأمة، وهم الكفرة. فانظر أيّ عموم واستيفاء وشمول في هذه السورة المباركة؟
لقد أقسم الله تعالى بما ذكر "على أن الإنسان خُلق مغموراً في مكابدة الشدائد والصعاب".
فقد أقسم سبحانه بالبلد الحرام في حال حلول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه وإقامته به يُبلِّغ دعوته.
وقد تقول: ولِمَ قال: {وَأَنتَ حِلٌّ} ولم يقل: وأنت حالٌّ أو مقيمٌ بهذا البلد؟
والجواب: أنه جمع بالعدول إلى كلمة {حِلٌّ} عدة معان في آن واحد كلها مرادة مطلوبة. ذلك أن كلمة {حِلٌّ} تحتمل معاني عدة:
منها: أنها تأتي بمعنى الحالّ والمقيم.
وقالوا: إن المقصود، تعظيم المقسم به، وهو أنه لما حل الرسول بمكة جمعت شرفين، شرفها هي الذي شرَّفها الله به، وشرف الرسول فازدادت تعظيماً على تعظيم وشرفاً على شرف، واستحقت بذلك القسم.
جاء في (البحر المحيط) : "إنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين شرفها بإضافتها إلى الله تعالى، وشرفها بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقامته فيها فصارت أهلاً لأن يقسم بها".
وجاء في (تفسير البيضاوي) : "أقسم سبحانه بالبلد الحرام، وقَيَّده بحلوله عليه السلام فيه، إظهاراً لمزيد فضله وإشعاراً بأن شرفَ المكان بشرفِ أهله".
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن) : "إنه إذا كان الحل من الحلول، فهو متضمنٌ لهذا التعظيم مع تضمنه أمراً آخر، وهو الإقسام ببلده المشتمل على رسوله وعبده، فهو خيرُ البِقاع، وقد اشتمل على خير العباد. فجعل بيته هدى للناس ونبيه إماماً وهادياً لهم، وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه".
وقيل: هو نفي للقسم. والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه".
ومن معاني (الحِلّ) : أنها تأتي بمعنى اسم المفعول، أي: مُستَحَلّ، فعلى هذا يكون المعنى: وأنت مستَحلٌّ قتلك لا تُراعَى حرمتُكَ في هذا البلد الحرام الذي يأمنُ فيه الناس على دمائهم وأموالهم والذي يأمن فيه الطير والوحش.
جاء في (الكشاف) : "ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك، يُستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم. عن شرحبيل: يُحَرِّمونَ أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ويستحلُّون إخراجَك وقتلك.
وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته.
أو سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد".
وجاء في (روح المعاني) : "وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة الاستهلال، وإدماج لسوء صنيع المشركين، ليصرّح بذمهم على أن الحِلّ بمعنى المستَحلّ بزنة المفعول الذي لا يحترم، فكأنه قيل: ومن المكابدة أن مثلك على عِظَمِ حُرمته يُستحَلُّ بهذا البلد ولا يُحتَرمُ كما يستحل الصيد في غير الحرم
…
وفي تأكيد كون الإنسان في كبد، بالقسم
تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على أن يطامن نفسه الكريمة على احتماله، فإن ذلك قدر محتوم".
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن) : "وفي الآية قول ثالث، وهو أن المعنى: وأنت مُستحَلّ قتلُك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذي يأمن فيه الطير والوحش والجاني، وقد استحل قومُكَ فيه حرمتك، وهم لا يعضدون به شجرةً ولا ينفرون به صيداً
…
وعلى كل حال فهي جملة اعتراض في أثناء القسم موقعها من أحسن موقع وألطفه.
فهذا القسم متضمن لتعظيم بيته ورسوله".
ومن معاني (الحِلّ) أنها تأتي بمعنى الحلال ضد الحرام، أي:"وأنت حلال بهذا البلد يحل لك فيه قتلُ مَنْ شئت. وكان هذا يوم فتح مكة".
وجاء في (الكشاف) : "يعني وأنت حِلّ به في المستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر
…
فإن قلت أين نظير قوله: {وَأَنتَ حِلٌّ} في معنى الاستقبال؟ قلتُ: قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] ومثله واسع في كلام العباد".
وعلى هذين القولين الأخيرين تكون (لا) نافية، أي: لا أقسم بهذا البلد في حين أن أهلُه يستحلون حرمتك، ولا يرعون لك قدراً، أو لا أقسمُ به وقد جاء أهله بأعمال تستحل حرمتهم والوقيعة بهم في هذا البلد الأمين. فعلى كلا القولين: تكون (لا) نافية.
جاء في (البحر المحيط) : "وقال ابن عطية: وهذا يتركب على قول مَنْ قال: (لا) نافية، أي: أن هذا البلد لا يقسم الله به، وقد جاء أهلُه بأعمالٍ توجب الإحلال، إحلال حرمته".
وقيل: المعنى: "وأنت حِلّ بهذا البلد مما يقترفه أهله من المآثم مُتَحرِّجٌ بريء منها"، كما تقول: أنا في حِلّ من هذا.
وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فهو صلى الله عليه وسلم حالٌّ بهذا البلد الكريم يبلِّغُ رسالة ربه متحرجٌ من آثامهم بريءٌ من أفعال الجاهلية، وقد استُحلّت حرمته وأُريد قتله في حين حلولهِ به وتبليغ دعوة ربه. وأنه حَلَّ لهذا الرسول أن يقتلَ ويأسرَ في هذا البلد يومَ الفتح ما لا يحلُّ لغيره. وهذا على الاستقبال وعلى الوعد بنصره.
فانظر كيف جمعت كلمة {حِلٌّ} هذه المعاني المتعددة بخلاف ما لو قال: (حالّ) أو مقيم، أو حلال، أو ما إلى ذلك مما يقصر الكلام على معنى واحد. فإنها جمعت اسم الفاعل وهو الحالّ، واسم المفعول وهو المستحَلّ، والمصدر وهو الحلال. فانظر أيّ اتساع في المعنى؟
وهي في هذه المعاني كلها مرتبطة بالمقسم عليه، وهو قوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} أحسن ارتباط وأوثقه كما سنبين ذلك.
وقد تقول: ولِمَ لم يقل: (لا أقسم بهذا البلد الأمين) كما أقسم في سورة التين؟
والجواب: أنه لما جرى ذِكْرُ المكابدة في هذا البلد، وما استحل به من الحرمات وما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم من المشقة والعنت والتعذيب لم يناسب ذلك ذكر الأمن.
كما لا يصح ذكر ذلك على معنى أنه حِلٌّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصنع فيه ما يشاء من القتل والأسر كما حدث في فتح مكة، فإن ذلك لا يناسب ذكر الأمن أيضاً.
كما أن جو السورة لا يناسب ذكر الأمن، فإن جو السورة في المكابدة والمشقة حتى أنه لم يذكر جزاء المؤمنين في الآخرة، بل ذكر جزاء الكافرين وهذا الجزاء لا يأمن معه الكافر أبد الآبدين. فلم يناسب ذلك ذكر (الأمين) .
وقد تقول: ولِمَ كرر {بهاذا البلد} في الآيتين فقال: {وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} ولم يقل: (وأنت حِلٌّ به) ؟
والجواب: أن هذا أجمل تكرير وأحسنه ولا يقع الضمير موقعه في الحسن. إذ من المعلوم أن العرب إذا عُنيت بلفظٍ كررته وذلك كأن يكون في موطن التشويق أو التحسر أو التعظيم أو التهويل وغير ذلك من مواطن العناية والاهتمام وذلك نحو قول الشاعر:
يا مُوقد النار بالهنديِّ والغارِ
…
هيّجت لي حَزَناً يا مُوقد النارِ
فأنتَ ترى أن تكرار (يا موقد النار) من أجمل التكرار وأحسنه.
ومثل ذلك التكرارُ للتحسر نحو قوله:
فيا قبرَ معنٍ أنت أول حفرة
…
من الأرض خطّت للسماحة موضعا
ويا قبر معنٍ واريت جُودَهُ
…
وقد كان منه البر والبحر مترعا
ونحوه قول أبي العتاهية:
مات والله سعيد بن وهب
…
رحم الله سعيد بن وهب
يا أبا عثمان أبكيت عيني
…
يا أبا عثمان أوجعت قلبي
ومن التكرير للتعظيم والتهويل قوله تعالى: {الحاقة * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة} [الحاقة: 1-2] و: {القارعة * مَا القارعة} [القارعة: 1-2] و: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] .
ومن التكرير للإنذار قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بياتا وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 97-98] .
فانظر حُسْنَ هذا التكرير وجمال موقعه.
وقد يكون التكرير للإنكار وذلك كأن تقول لشخص أساء إلى مَنْ أحسن إليه في حين تنكَّرَ له الأقربون وطرده الناس أجمعون: أتعادي خالداً الذي أكرمك، وآواك وأنت حينذاك طريدٌ مُهان لا أحد يؤويك؟ أتهين خالداً الذي أكرمك وآواك من أجلِ شخص رذيلٍ؟ أتسرق خالداً الذي أكرمك وآواك، وقد وثق بك وائتمنك؟ ثم أتتّهم خالداً الذي أكرمك وآواك بما تعلم أنه كذبٌ وزور؟ أيسيء أحدٌ إلى هذا الشخص الذي أكرمه وآواهُ؟ أيفعل أحد كل هذا مع الشخص الذي أكرمه وآواه؟ أيّ فعل هذا. وأيّ إنسان ذلك الإنسان؟!
والتكرار في الآية لتعظيم بلد الله الحرام فقد قال: {لَا أُقْسِمُ بهاذا البلد * وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} أي: وأنت حالّ بهذا البلد تَلقى العنتَ والظلم والأذى، بهذا البلد الذي يأمن فيه الخائف، ويأمن فيه الوحش والطير، فأيّ انتهاك لحرمة هذا البلد، وأيّ جور يقع بهذا البلد؟
وما إلى ذلك من المعاني الأخرى، التي تقال في تفسير كلمة {حِلٌّ} .
جاء في (ملاك التأويل) : "للسائل أن يسأل عن تكرير لفظ (البلد) وجعله معطوفاً وفاصلة في الآيتين وكيف موقع ذلك في البلاغة، وعند الفصحاء.
والجواب: أنه قد تقدم أن العرب مهما اعتنت بشيء وتَهمَّمت به كررته، وإن ذلك من فصيح كلامهم وأن منه قوله:
وإن صخراً لوالينا وسيدنا
…
وإن صخراً إذا نشتو لنحار
وإن صخراً لتأتمّ الهُداةُ به
…
كأنه علَم في رأسه نار
…
وذكره ظاهراً لما يحرز هذا المعنى من تعظيمه، لما فيه من تعظيمه لما فيه من التنبيه والتحريك".
وقيل إن التكرير جيء به لفائدة أخرى وهي أن هذا البلد حرام لا تُستحل حرمته، ولا يسفك فيه دم ولا يروَّع فيه آمن، ولكن الله أحل لنبيه يوم فتح مكة ما لم يحلّه لغيره من قتلٍ وأسر فكأن هذا البلد في هذا اليوم غيره في سائر الأيام وأنه أصبحت له صفة أخرى، وهي صفة الحل فجمع صفتي الحرم والحل فتكرر لتكررِ الوصفين، وكأنه أصبح بلدين لا بلداً واحداً.
جاء في (درة التنزيل) : "للسائل أن يسأل عن تكرير {البلد} وجعله فاصلة بين الآيتين..
والجواب أن يقال: إذا عني بالثاني غير المقصود بالأول من وصف يوجب له حكماً غير حكم الأول كان من مختار الكلام. فالبلد الأول قصد به وصف لم يحصل في الثاني وهو مكة. لأن معنى أقسم بالبلد المحرم
الذي جُبلت على تعظيمه قلوبُ العرب، فلا يحل فيه لأحد ما أُحِلَّ للنبي صلى الله عليه وسلم، فقوله:{وَأَنتَ حِلٌّ} أي: مُحَلٌّ أُحِلَّ لك منه ما حرم على غيرك. فصار المعنى: أقسم بالبلد المحرم تعظيماً له، وهو مع أنه محرم على غيرك مُحَلّ لك إكراماً لمنزلتك. فالبلد في الأول محرم وفي الثاني محلل".
اختلف في الوالد هذا وما ولد، فقيل: هو آدم وذريته "وعلى هذا فقد تضمن القسم، أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة ومرجع العباد إلى آدم".
وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وآباؤه فعلى هذا "أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه ومنشأ أبيه إسماعيل وبمن ولده وبه. فإن قلت: لِمَ نكّر؟ قلتُ: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب".
وقيل: هو كل والد وما ولد من العقلاء وغيرهم "لا يراد به مُعيَّن، بل ينطلق على كل والد. وقال ابن عباس ذلك. قال: هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان".
وهذا الذي يترجح عندي فهو يشمل كل والد وولده يدخل فيه ما ذكره الأولون ولا يخصهم.
ووجه ارتباطها بالمقسَم عليه ظاهر، ذلك أن الولادة مشقة وتعب ومكابدة، فارتباطها بقوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} بَيِّن.
وكما هي مرتبطة بالمُقْسَمِ عليه في أول السورة هي مرتبطةٌ أيضاً بآخر السورة، وهو قوله:{وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} ذلك أن الوالد من الأناسي والبهائم، يحتاج في تربية ولده وحفظه وإطعامه والقيام عليه إلى صبر ورحمة. فاتضح بذلك قوة ارتباط الآية بأول السورة وآخرها.
ثم انظر كيف انتقل من الوالد وما ولد إلى خلق الإنسان - وهو من جملة الوالد وما ولد - فَخَصَّهُ من بين هذا العامّ لأن مدارَ الكلام معقودٌ عليه.
ثم انظر كيف قال: {وَمَا وَلَدَ} ولم يقل: (ومن ولد) ولذلك أكثر من سبب.
فإن {مَا} عامة و (من) خاصة، فإن (ما) تقع لذوات غير العاقل، وتقع لصفات مَنْ يعقل، فتقول:(أركبُ ما تركبُ) و (آكلُ ما تأكل) فهي هنا لذوات غير العاقل. وتقع لصفات العقلاء قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3] . وقال: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] . وقال: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3] . وهو الله سبحانه. وتقول: (زيد ما زيد) قال تعالى: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] .
فهي تكون للعاقل وغيره، فهي أَعمُّ وأشمل من (من) قال الفراء:"وصلحت (ما) للناس، ومثله {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} وهو الخالقُ للذكر والأنثى. مثله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} ولم يقل: من طاب".
ثم إن لفظها يوحي بالسعة والشمول، ذلك أنها منتهية بحرف الإطلاق وهو الألف، وهو الذي يمتد فيه النَفَس بخلاف (من) الذي ينتهي بحرف مقيد، وهو النون الساكنة. فجعل المنتهي بحرف مطلق للمطلق الكثير، والمنتهي بحرف مقيد للقليل المقيد بالعقل.
فجاء بـ (ما) لتناسب العموم والشمول في الآية.
ثم إن هذه الآية مناسبة لجو السورة على وجه العموم، فهي مرتبطة بإطعام المحتاجين في اليوم ذي المسغبة، فإن الوالد يسعى إلى إطعام ولده ويلاقي من أجل ذلك ما يلاقي من مشقة ومكابدة. إن جو السورة تسيطر عليه المكابدةُ والمشقة والصبر والرحمة وكل ذلك يعانيه الوالد لحفظ ولده ورعايته.
ثم انظر من ناحية أخرى، كيف يحتمل قوله:{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} وما تحتمله كلمة {حِلٌّ} من السَّعةِ في احتمالات المعنى، وكيف ناسب ذلك سعة (ما) نُطقاً ومعنى.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} .
الكبد: الشدة والمشقة. ومعنى {فِي كَبَدٍ} أنه "يكابد مشاقّ الدنيا والآخرة. ومشاقُّه لا تكاد تنحصر من أول قَطْعِ سُرَّته إلى أن يستقر قراره، إما في جنة، فتزول عنه المشقات، وإما في نار فتتضاعف مشقاته وشدائده".
وقيل: "يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء لا يخلو عن أحدهما".
لقد عبر عن هذا المعنى بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} ولم يقل: (يكابد) أو (مكابداً) ونحو ذلك، ذلك أن (في) تفيد الظرفية والوعاء. ومعناه: أن الإنسان خلق مغموراً في المشاق والشدائد والصعاب منغمساً فيها كما ينغمر الشيء في الماء، وكما يكون الشيء في الوعاء. فالشدائد والمشاق تحيط بالإنسان لا تنفكُّ عنه إلى أن يموت. وبعد الموت إما أن يجتازَ العقبةَ، فيدخل الجنة فتزول عنه الشدائد والمصائب، وإما أن لا يجتازها فيبقى في المشقات والشدائد أبد الآبدين منغمراً في النار وهي أكبر الشدائد وأعظمهن.
ومن معاني (الكبد) أيضاً القوة والشدة والصلابة.
جاء في (لسان العرب) : "وكبد كل شيء عِظَم وسطه وغلظه كبِدَ كَبَداً وهو أكبد، ورملةٌ كبداء عظيمة الوسط.. والكبداء: الرَّحى التي تُدار باليد، سميت كبداء لما في إدارتها من المشقة. وفي حديث الخندق: فعرضت كبدة شديدة، وهي القطعة الصلبة من الأرض. وأرض كبداء وقوس كبداء: أي شديدة".
وهذا المعنى من لوازم المعنى الأول، فإن الذي خُلِقَ مكابداً للشدائد والمصائب متحملاً مشاق الدنيا لا بد أن يكون خلق مستعداً لذلك قوياً عليه شديد التحمل له.
إن هذه الآية هي جواب القسم الذي تقدم، فقد أقسم بالبلد الحرام في وقت حلول الرسول الأعظم فيه، وأقسم بالوالد وما ولد على أن الإنسان خلق مغموراً في الشدائد والمشاقّ.
والسورة كلها مَبْنيةٌ على هذا الأمر، فهي مبنية على مكابدة الإنسان للشدائد والمصائب والمشاق. وكل لفظة وكل تعبير في هذه السورة مبني على ذلك ويخدم هذا الشيء.
أما ارتباط القسم بالجواب، فهو واضح فقد ذكرنا ارتباط قوله تعالى:{لَا أُقْسِمُ بهاذا البلد * وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} بهذه المكابدة وكيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يَلْقى ما يلقى من قومه من مشقة وشدة وهو يبلّغ دعوة ربه. وفي هذا إشارة إلى أن الدعاة ينبغي أن يوطنوا أنفسهم على المكابدة والصبر، وتحمل المشاق، فإن هذا من لوازم الدعوة إلى الله تعالى، فقلَّما يكون الداعية في عافية من ذاك. قال تعالى:{الاما * أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 1-3] .
والفتنة مشقة كبيرة وشدة بالغة، نسأل الله العافية. وعلى الإنسان أن يكابد ويجاهد للنجاة منها. ثم انظر من ناحية أخرى كيف ارتبطت مفردات القسم بكل معانيها بقوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} .
فالحِلّ كما ذكرنا لها أكثرُ من معنى، وهي في كل معانيها مرتبطة بهذا الأمر. فهي إذا كانت بمعنى الحالِّ والمقيم فهي مرتبطة به، ذلك أن الرسول في أثناء حلوله بمكة كان يكابد ويتحمل من أصناف الأذى والمشاق الشيء العظيم فهو في كبد من ذلك، وكان يتلقَّى ذلك بصبرٍ وثبات وقوة وشدة، فهي مرتبطة بالكبد بمعنييه، المشقة والقوة.
وإذا كانت بمعنى اسم المفعول، أي: مستَحَلٌّ قتلُكَ وإيذاؤك لا تراعى حرمتك، فهي مرتبطة بذلك ارتباطاً واضحاً كله مشقة ونصب.
وإذا كانت بمعنى الحلال ضد الحرام، أي: يحلُّ لك أنْ تقتلَ من تشاء وتأسر من تشاء، وذلك في يوم الفتح فارتباطها بها كذلك واضح ذلك لأن الكفار آنذاك في كبد ومشقة وأنت والمسلمون في قوة وغلبة ونصر، فعند ذلك تكون مرتبطة بالكبد بمعنييها، المشقة والقوة.
وإذا كانت بمعنى أنك حلٌّ من أعمالهم متحرجٌ من آثامهم بريء منها فهي مرتبطة بها كذلك، ذلك أنه يكابد ويجاهد ليخرج عن مألوفِ عاداتِ قومه وأفعالهم، ويكابد للقيام بفضائل الأعمال وجلائلها، وهي أمور مستكرهة على النفس ثقيلة عليها، تحتاج إلى مكابدة وقوة للقيام بها، قال تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] . وقال صلى الله عليه وسلم: "حُفّت الجنةُ بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات".
فهي في كل معانيها مرتبطة بالجواب أحسن ارتباط وأتمه.
وكذلك قوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} مرتبط بالجواب أحسن ارتباط وأتمه، كما ذكرنا فهو مرتبط بـ (الكبد) بمعنييه: المشقة والقوة. فقد ذكرنا أن الولادةَ مشقةٌ وعنت، وهي تحتاج إلى قوة ومثابرة ومكابدة لحفظ المولود وتربيته وبقائه وتوفير غذائه.
كما أن هذه الآية مرتبطة بما بعدها من اقتحام العقبة، ومشاقّ الجوع وغيرها أتم ارتباط، كما هو ظاهر وكما سنبين ذاك.
{أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} .
قيل: إن المعنيَّ بقوله: {أَيَحْسَبُ} بعضُ "صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد. والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوي
في قومه المتضعف للمؤمنين أنْ لن تقوم قيامة، ولن يقدر على الانتقام منه وعلى مكأفاته بما هو عليه".
وقيل: إن التهديد "مصروف لمن يستحقه".
وقيل: إن المعنيَّ به الإنسان، أي: أيظن هذا الإنسان الذي خلق مكابداً شديداً، أنْ لن يقدر عليه أحد؟
جاء في (البحر المحيط) : "والظاهر أن الضمير في {أَيَحْسَبُ} عائد على الإنسان، أي: هو لشدة شكيمته وعزته وقوته، يحسب أن لا يقاومه أحد، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بُعدَدِه وعَدَدِه.
وجاء في (التبيان) : "ثم أنكر سبحانه على الإنسان ظنه وحسبانه أن لن يقدر عليه مَن خَلَقه في هذا الكبد والشدة والقوة التي يكابد بها الأمور. فإن الذي خلقه كذلك أَوْلى بالقدرة منه وأحق. فكيف يقدر على غيره مَنْ لم يكن قادراً في نفسه. فهذا برهان مستقل بنفسه. مع أنه متضمن للجزاء الذي مَناطهُ القدرةُ والعلم فنبَّه على ذلك بقوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} وبقوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} فيحصي عليه ما عمل من خير وشر ولا يقدر عليه فيجازيه بما يستحقه".
وارتباط هذه الآية بما قبلها واضح، فالذي خُلق يكابد المصائب والمشاق لا بد أن يكون خُلق مستعدّاً لاحتمال ذلك ولا بد أن يكون شديد الخَلْق قوياً، وهو من معاني (الكبد) كما ذكرنا.
قال تعالى: {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] . فهذا الذي خُلق شديداً قوياً ويكابد المصائب والمشاق قد يسبق إلى وهمه أنْ لن يقدر عليه أحد، فيهدده ربه ويتوعده إذا كان عنده هذا الحسبان بأن الذي خلقه وزَوَّده بهذه القوة والشدة أقدر منه على نفسه.
والظاهر أن هذا الحسبان واقرٌ في نفوس البشر فهم يتصورون أنه لا يَتمكَّنُ منهم أحدٌ ولا يقدر عليهم أحد، ولذا تراهم يعيشون في غطرسة وكبرياء وظلم بعضهم لبعض معتصمين بجبروتهم وقوتهم لا يحسبون لمن خلقهم حساباً، ولو حسبوا حساباً لخالقهم وربهم القوي القادر لتطامنوا وتواضعوا.
ثم إن هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} أي: ألَا يتصور هؤلاء الذي ينتهكون محارم البلد الحرام ولا يراعون لكَ حُرمةً فيؤذونك ويعذبونك مستندين إلى قدرتهم وجبورتهم ألا يظنون أن هناك من هو أقدر عليهم منهم عليك؟
فهي مرتبطة بما قبلها أتم ارتباط وأحسنه.
جاء في (تفسير الرازي) : "اعلم أنا إن فسرنا (الكبد) بالشدة في القوة، فالمعنى أيحسب ذلك الإنسان الشديد أنه لشدَّتهِ لا يقدرُ عليه أحد، وإن فسرناه بالمحنة والبلاء، كان المعنى تسهيل ذلك على القلب. كأنه يقول: وَهَبْ أنَّ الإنسان كان في النعمة والقدرة، أَفيظنُّ أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه أحد؟ ".
اللبد: هو الكثير المجتمع من تَلَبَّدَ الشيءُ إذا اجتمع.
ومعنى الآية: إنه يقول إنه أنفق مالاً كثيراً، وهو يقول ذاك إما على جهة الافتخار أو على جهة التحسر.
جاء في (الكشاف) : "يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها، مكارمَ ويَدْعونها معاليَ ومفاخر".
وجاء في (روح المعاني) : "أي: يقول ذلك وقت الاغترار فخراً ومُباهاةً وتَعظُّماً على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياءً وسمعة
…
وقيل: المراد ما تقدم أولاً، إلا أن هذا القول وقت الانتقام منه، وذلك يوم القيامة. والتعبير عن الإنفاق بالإهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ".
وقد عبر عن الإنفاق بالإهلاك، فإنه لم يقل:(أنفقت مالاً) كما هو الشائع في استعمال القرآن الكريم. واختيار تعبير الإهلاك في هذا الموطن أحسن اختيار وأجمله، فإنه المناسب لجو السورة، وذلك أنه مناسب لجو المشاق والشدائد التي تؤدي إلى الهلاك وتفضي إليه. وهو متناسبٌ مع ما يعانيه الرسول وأصحابه في البلد الحرام من الشدائد والمحن التي قد أدت ببعضهم إلى الهلاك كياسر وسمية، ومتناسبٌ مع حسبان الإنسان أنْ لن يقدِر عليه أحد فيهلكه، ومتناسب مع ذكر العقبة التي قد تفضي إلى الهلاك. ومتناسب مع ذوي المسغبة من اليتامى والمساكين وهلاكهم من الجوع إن لم يُطْعَمُوا، ومتناسب مع خاتمة أصحاب المشأمة التي هي هلاك مقيم.
وعَبَّر عن الإنفاق بالإهلاك لأسباب أخرى غير هذه.
جاء في (روح المعاني) : "وعبر عن الإنفاق بالإهلاك إظهاراً لعدم الاكتراث، وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً.
وجاء في (التبيان) : "ثم أنكر سبحانه على الإنسان قوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} وهو الكثير الذي يلبد بعضه فوق بعض، فافتخر هذا الإنسان بإهلاكه وإنفاقه في غير وجهه، إذ لو أنفقه في وجوهه التي أُمِرَ بإنفاقه فيها ووضعه مواضعه لم يكن ذلك إهلاكاً له بل تَقرُّباً به إلى الله وتوصلاً به إلى رضاه وثوابه وذلك ليس بإهلاكٍ له. فأنكر سبحانه افتخاره وتبجحه بإنفاق المال في شهواته وأغراضه التي إنفاقه بها إهلاك له".
فانظر أي اختيار هذا. ثم انظر أَيَحْسُنُ (أنفقتُ) مكان {أَهْلَكْتُ} ههنا؟
واختيار (اللبد) في الآية مكان (الكثير) اختيارٌ دقيق ذلك أن اللبد معناه الكثير المجتمع من تلبد الشيء إذا اجتمع.
جاء في (الكشاف) : "لبداً قرىء بالضم والكسر جمع لُبدة ولِبدة، وهو ما تَلبَّدَ يريد الكثرة".
وهو متناسب مع اجتماع الكفرة لإيذاء الرسول والمسلمين لصدِّهم عن دعوتهم كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: 19] . فاجتماعُ المال في الإهلاك مناسب لاجتماع الكفرة على الرسول لإهلاكه، وإهلاك دعوته وهو حِلٌّ بهذا البلد.
فانظر حُسْنَ هذا الاختيار وعُلُوَّ هذا التعبير.
ثم انظر جو الاجتماع الذي تفيد كلمة (لبد) وشيوعه في السورة في الوالد وما ولد، وفي العينين، وفي اللسان والشفتين في آلة النطق، وفي النجدين وليس نجداً واحداً فإنه ذكر نجدين ولم يذكر نجداً واحداً كما في قوله تعالى:{ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} [عبس: 20] . وقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3] . وفي تفسير العقبة بجملة أمور، وفي ذكر المؤمنين بصيغة الجمع {الذين آمَنُواْ} ، واجتماعهم على التواصي بالصبر والمرحمة أي: يوصي بعضهم بعضاً، ثم في اجتماع أهل الكفار في جهنم وإيصاد النار عليهم.
فانظر حسن اختيار كلمة (لبد) ههنا، ثم انظر هل تغني عنها كلمة (الكثير) ؟
{أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} .
والمعنى: أيظن هذا الإنسان الذي يَدَّعي أنه أهلك المال الكثير أنه لم يره أحد؟ أَوَ يظن أن أعماله تخفى لا يطَّلع على حقيقتها أحد؟ فالله يعلم إن كان أنفق مالاً أو لم ينفق شيئاً، وإن كان مدّعياً كاذباً في قوله. وإذا كان قد أنفق فهو يعلمُ الغرضَ والمقصد الذي أنفق المال من أجله.
جاء في (الكشاف) : "يعني أن الله كان يراه وكان عليه رقيباً. ويجوز أن يكون الضمير للإنسان".
وجاء في (البحر المحيط) : "أَيحسبُ أن أعماله تَخْفى، وأنه لا يراه أحد، ولا يطّلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء".
وجاء في (التبيان) : "ثم وبخه بقوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} وأتى ههنا بِلَمْ الدالة على المضي في مقابلة قوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} فإن ذلك في الماضي، أفيحسب أن لم يره أحد فيما أنفقه وفيما أهلكه؟ ".
وأنتَ ترى مما مَرَّ أنه ذكر من صفات الله تعالى القدرةَ والعلم الذي دلت عليه الرؤية، وهما الغاية في التهديد.
ثم أقام الدليل على قدرته وعلمه بقوله:
{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النجدين} .
أفَتَرى أن الذي يجعل للإنسان عينين يبصر بهما لا يبصر هو ولا يرى، وأن الذي أَقْدَرَ الإنسانَ على النطق لا يستطيع أن يتكلم، وأن الذي هداه إلى طريقي الخيرِ والشر ليس عنده علم؟
جاء في (تفسير الرازي) : "واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الكافر قوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} أقام الدلالة على كمال قدرته فقال: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النجدين} .
وجاء في (التبيان) : "ثم ذكر برهاناً مقدراً أنه سبحانه أحقُّ بالرؤية وأولى من هذا العبد الذي له عينان يبصر بهما. فكيف يُعطيه البصرَ مَنْ لم يره؟ وكيف يعطيه آلةَ البيان من الشفتين واللسان، فينطق ويبين عما في نفسه ويأمر وينهى مَنْ لا يتكلَّم ولا يكلِّم، ولا يخاطِبُ ولا يأمر ولا ينهى؟
وهل كمال المخلوق مستفاد إلا من كمال خالقه؟
ومن جعله عالماً بنجدي الخير والشر - وهما طريقاهما - أليس هو أولى وأحق بالعلم منه".
ثم انظر من ناحية أخرى إلى ارتباط قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} بقوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} وهو ارتباط العين بالرؤية، وارتباط قوله:{وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} بقوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} فإن اللسان والشفتين، هما آلةُ النطق وبها يقول ما يقول: فهو يتقلب بنعم الله ويحاربه ويحارب أولياءه ورسله ويحارب دعوته.
{وَهَدَيْنَاهُ النجدين} .
النجد: هو الطريق العالي المرتفع.
جاء في (لسان العرب) : "النجد من الأرض قفافها وصلابها، وما غلظ منها وأشرف وارتفع واستوى.. ولا يكون النجد إلا قُفاً أو صلابة من الأرض في ارتفاع مثل الجبل معترضاً بين يديك يردُّ طرفك عما وراءه".
والمقصود بالنجدين: طريقا الخير والشر. وقيل: الثديان. والأول أشهر وهو الذي ذهب إليه عامة المفسرين. وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: "إنما هما النجدان، نَجْدُ الخير ونجد الشر ولا يكون نجدُ الشر أحبّ إلى أحدكم من نجد الخير"
واختيار كلمة (نجد) للطريق ههنا اختيار لطيف مناسب، فإنه لم يقل كما قال في مواطن أخرى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} [الإنسان: 3] أو {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} [عبس: 20] أو {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] أو {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} [المائدة: 16] ذلك أن التعبير مناسب لجو السورة فإن سُلوكَ النجدِ فيه مشقةٌ وصعوبة لما فيه من صعود وارتفاع فهو مناسب للمكابدة والمشقة التي خلق الإنسان فيها، ومناسب لاقتحام العقبة وما فيه من مشقة وشدة.
العقبة: "طريق في الجبل وعر.. والعقبة الجبل الطويل يعرض للطريق، فيأخذ فيه، وهو طريق صعب شديد". وسميت بذلك لصعوبة سلوكها.
والاقتحام: هو الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة والقحمة هي الشدة والمهلكة والأمر العظيم.
والمقصود بالعقبة: الأعمالُ الصالحة التي سيبينها على سبيل الاستعارة.
جاء في (البحر المحيط) : "العقبة استعارة لهذا العمل الشاق من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل، وهو ما صعب منها وكان صعوداً، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها.. ويقال: قحم في الأمور قحوماً: رمى نفسه من غير روية".
وجاء في (روح المعاني) : "وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى.. ويجوز أن يكون قد جعل ما ذكر اقتحاماً وصعوداً شاقاً، وذِكْرُه بعد النجدين جعلَ الاستعارةَ في الذروة العليا من البلاغة".
ومعنى الآية أنه: "لم يشكر تلك الأيادي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين.. والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه، هو الإنفاق المرضي النافع عند الله لا أنْ يُهلكَ مالاً لبداً في الرياء والفخار، فيكون مثلْه {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} [آل عمران: 117] الآية".
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن) : "ولم يقتحم العقبة التي بينه وبين ربه التي لا يصل إليها، حتى يقتحمها بالإحسان إلى خَلْقِه بفك الرقبة، وهو تخليصها من الرق، ليخلِّصه اللهُ من رقِّ نفسه ورق عدوه، وإطعام اليتيم والمسكين في يوم المجاعة، وبالإخلاص له سبحانه بالإيمان الذي هو خالص حقه. وهو تصديقُ خبره وطاعة أمره وابتغاء وجهه وبنصيحة غيره أن يوصيه بالصبر والرحمة ويقبل وصية من أوصاه بها، فيكون صابراً رحيماً في نفسه معيناً لغيره على الصبر والرحمة".
واختيار هذا التعبير أنسبُ شيء ههنا، فاختيار (العقبة) بعد (النجدين) اختيار بديع، وهو كما جاء في (روح المعاني) : إن ذكرها بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة، ذلك أن النجد: وهو الطريق العالي المرتفع يؤدي إلى العقبة، وهي الطريق الوعر في الجبل، فإن العقبة تقع في النجاد غالباً.
واختيار لفظ (الاقتحام) وما فيه من شدة ومخاطرة هو المناسبُ لبيان وعورة وصعوبة هذه العقبة، فإنه لم يعبر عن ذلك بالاجتياز ونحوه، مما يدل على شدة هذه العقبة. فانظر كيف أن كل لفظة وقعت في مكانها المناسب وأن اختيار كل لفظة اختيار مناسب لجو السورة. فكل من الاقتحام والعقبة مناسب لقوله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} . ذلك أن من معاني (الكبد) المشقة والقوة، وأن اقتحام العقبة في مشقة وتعب كما أنه يحتاج إلى قوة وشدة. فانظر حُسْنَ المناسبة. كما أن هذه الآية تناسب ما بعدها من المشقات والشدائد التي يعانيها المسكين واليتيم، في اليوم ذي المسغبة.
ثم انظر علاقة هذه الآية بأول السورة وخاتمتها، وهو كيف أن الرسول كان في حال اقتحام للعقبة، وهو حالٌّ ببلد الله الحرام، يَلْقى ما يلقى من العنت والمشقة في تبليغ دعوة ربه. وبخاتمتها وهم الذين لم يقتحموا العقبة، فبقوا في عقبة جهنم أبد الآبدين، وكانت النار عليهم مؤصدة.
ثم إن اختيار (لا) في هذا الموطن اختيار عجيب دقيق، وهو ما وقف عنده النحاة والمفسرون وحاولوا تخريجه وتفسيره.
فقد ذهب قسم منهم إلى أنها نافية للفعل الماضي، أي:(فلم يقتحم العقبة) . ومن المعلوم أن (لا) إذا نفت الفعل الماضي المعنى، وَجَبَ تكرارها، إلا ما ندر نحو قوله تعالى:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى} [القيامة:: 31] في حين لم تتكرر ههنا، وأجابوا عن ذلك بأنها مكررة في المعنى لأن (العقبة) مُفَسَّرةٌ بشيئين: فك الرقبة، وإطعام المسكين فكأنه قال: فلا فَكَّ رقبةً، ولا أطعمَ مسكيناً".
ومن النادر الذي دخلت فيه (لا) على الفعل الماضي المعنى ولم تكرر قول أبي خراش الهذلي:
إنْ تَغفر اللهمَّ تغفر جَمّا
…
وأيُّ عبدٍ لك لا ألمّا
أي: لم يُلِمّ. والمعنى: وأيّ عبد لم يذنب.
وقول الشاعر:
وكان في جاراته لا عهد له
…
وأيُّ أمرِ سيِّىء لا فَعَله
أي: لم يفعله.
قالوا: وهي هنا بمعنى (لم) وتكرارها كثير وهو غير واجب.
جاء في (روح المعاني) : "والمُتَيقَّنُ عندي أكثرية التكرار، وأما وجوبه فليس بمتيقن".
وقسم ذهب إلى أنها في الآية دعاء، فلا يلزم تكرارها، كقولهم:(لا فضّ الله فاك) و (لا عافاه الله) وهي هنا دعاء عليه أن لا يفعل خيراً.
وقيل: إن الفعل يراد به الاستقبال، بمعنى لا يقتحم العقبة، وإذا كان الفعل الماضي دالاً على الاستقبال لم يلزم تكرارها.
جاء في (المغني) : "ومثله في عدم وجوب التكرار بعدم قصد المضي، إلا أنه ليس دعاء قولك:(والله لا فعلت كذا) وقول الشاعر:
حَسْبُ المحبين في الدنيا عذابهم
…
تالله لا عَذّبتهم بعدها سَقرُ"
وجاء في (الفوائد في مشكل القرآن) للعز بن عبد السلام في هذه الآية: "ويشكل الفني بـ (لا) وهي إنما تنفي الاستقبال.
والجواب: إنها بمعنى (لم) والصحيح اشتراكهما، وعدل إليها لأن النفي بها أبلغ، لما توهمه من نفي الاستقبال في أصل الوضع، أو يجعلها على بابها، أي: صفة هذا يقتضي أنه لا يقتحم العقبة أبداً، فيكون ذماً له باعتبار صفته لا باعتبار عدم فعله وتضمنها معنى (لم) فيكون الذم أيضاً لعدم الفعل في الماضي".
وقيل هي للاستفهام، والتقدير: أفلا اقتحم العقبة، وقد حذفت الهمزة، والمعنى: أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير؟ ".
وقال آخر: هي تحضيض والأصل: ألا اقتحم العقبة ثم حذفت الهمزة، وهو ضعيف ولا يعرف أن (لا) وحدها تكون للتحضيض وليس معها الهمزة.
هذا أبرز ما قيل في (لا) هذه.
والذي يبدو لي والله أعلم أن هذا التعبير جمع معاني عدة في آن واحد.
فهو يحتمل المضي، أي أن هذا الإنسان الذي يذكر عن نفسه أنه أهلك مالاً كثيراً ويحسب أن لن يقدر عليه أحد، وأنه لم يَطَّلعْ أحد عليه فيما يفعل - سواء كان هذا واحداً معيناً أم كان صنفاً هذا وصفه - لم يقتحم
العقبة، فهو لم يؤمن ولم يطعم المحتاجين من اليتامى والمساكين ولم يتواص بعمل الخير.
ويحتمل أن هذا الإنسان فرداً كان أم صنفاً لا يقتحم العقبة في المستقبل، لأن من كان هذا وصفُه لا يقتحم العقبة، إلا إذا آمن وغيّر من حاله. فهو لم يقتحم العقبة في الماضي ولا يقتحمها في المستقبل، بل هو باقٍ على حاله على وجه الدوام.
ويحتمل أن هذا التعبير دعاء على هذا الصنف أو الشخص بألاّ يقتحم العقبة كما في قوله تعالى: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] وقوله: {قَاتَلَهُمُ الله أنى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] . فإن من كان هذه صفته لا يستحق الدعاء له بالخير.
كما يحتمل الاستفهام المراد به التنديم والتوبيخ على ما فرط والحض على الإنفاق بمعنى "ألا اقتحم العقبة" وقد حذفت منه الهمزة. ونحو هذا وارد في القرآن الكريم والفصيح من كلام العرب، فقد جاء فيه قوله تعالى:{وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} [الأعراف: 113-114] . بدلالة قوله تعالى: {قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} [الشعراء: 41-42] .
ونحو قول الشاعر:
قالوا: تحبها؟ قلت: بهراً.
أي: أتحبها؟ وقول الكميت:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ
…
ولا لعباً مني وذو الشيب يلعبُ
أي: أَوَذُو الشيبِ يلعب؟
وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فقد جمع هذا التعبير عدة معان في آن واحد: المضي والاستقبال والتوبيخ والحض والدعاء. فهو أخبر أنه لم
يقتحم العقبة فيما مضى من عمره، وأنه لا يقتحمها في المستقبل، وأنه وَبَّخه على ذلك، ودعا عليه بعدم اقتحامها.
فانظر كيف جمع هذا التعبير هذه المعاني، وكلها مُرادةٌ مطلوبة وأنه لو جاء بأي حرف آخر غير (لا) لم يُفِدْ هذه المعاني الكثيرة المتعددة. فهو لو قال:(ما اقتحم العقبة) أو (لم يقتحم العقبة) لم يفد إلا الإخبار عنه في الماضي. فانظر كيف وسَّعت (لا) المعنى وجمعت معاني عدة في تعبير واحد؟
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة} .
هذا الأسلوب من أساليب التفخيم والتعظيم والتهويل ونحوه قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} [القارعة: 3] وقوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة} [الحاقة: 3] و {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة} [الهمزة: 5] تعظيماً لأمرها. ثم فسر العقبة بعد ذلك بقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ} .
{فَكُّ رَقَبَةٍ} .
"وفك الرقبة: تخليصها من رق أو غيره. وفي الحديث: "أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دُلّني على عمل يُدخلني الجنة، فقال: تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال: أَوَليسا سواء؟ قال: لا. إعتاقها: أن تنفرد بعتقها. وفكها: أن تعين في تخليصها من قوَدٍ أو غُرْم".
وجاء في (فتح القدير) : "كل شيء أطلقته، فقد فككته، ومنه فك الرهن، وفك الكتاب.. والفك في الأصل حل القيد، سمي العتق فكاً، لأن الرق كالقيد، وسمي المرقوق رقبة، لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته".
واختيار هذا التعبير يوحي بشدة حال المسترق، وكربه ومعاناته ومكابدته. والاسترقاق هو من أكثر أحوال المكابدة والمعاناة شدة. وارتباط الآية بقوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} ارتباط واضح بيّن.
المسغبة: المجاعة وهي الجوع العام وليس الجوع الفردي. والفرق بين المسغبة والسغب، أن السغب معناه: الجوع، والجوع قد يكون عاماً، وقد يكون خاصاً، أما المسغبة فهي عامة ولذا قيل: إن معناه "في يوم فيه الطعام عزيز".
وهذا مما يدل على شدة الكرب والضيق واللأواء، فالإطعام في هذا اليوم له شأنه فهناك فرق بين إطعام المسكين والطعامُ موفور والخلةُ مسدودة، والإطعام في وقت قلة الطعام وشِحَّتهِ والخوف من فقدانهِ والإمساك عن بيعه، فهده عقبة كؤود من عقبات المجتمع، والإطعام في مثل هذا اليوم اقتحام لهذه العقبة أي اقتحام.
{يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} وهو اليتيم القريب في النسب ليجتمع له صدقة وصِلَة. وذلك ليتفقد كل واحد أقرباءه المحتاجين ليتم التكافل والتراحم بينهم.
{أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} والمتربة مأخوذة من (تَرِبَ) : "إذا افتقر، ومعناه: التصق بالتراب. وذو المتربة: هو الذي مأواه المزابل وقيل: "وهم
المطروحون على ظهر الطريق قعوداً على التراب لا بيوت لهم".
وجاء بـ (أو) ولم يأت بالواو ذلك أن الواو تفيد معنى الجمع ومعناه: لو أتى بالواو لا يقتحم العقبة إلا إذا فك الرقبة، وأطعم هذين الصنفين جميعاً فإن أطعم صنفاً واحداً لم يقتحم العقبة. وهو غيرُ مُرادٍ، بل المراد التنويع. والمقصود أن يطعم هذه الأصناف من الناس، اليتيم أو المسكين، على سبيل الاجتماع أو الانفراد.
وقد قدم فك الرقاب على إطعام اليتامى والمساكين إشارة إلى عظم الحرية في الإسلام وأن المطلوب أولاً تحريرُ الناس من العبودية والاسترقاق.
وانظر بعد ذلك ارتباط هؤلاء الأصناف بقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} فهؤلاء من أشد الناس مكابدة ومعاناه. ثم انظر إلى ارتباط هؤلاء الأصناف بقوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} فقد أهلكها هذا القائل في غير محلها، فلم يطعمْ جائعاً ولم يفكَّ رقبة.
ثم انظر إلى ارتباط هؤلاء الأصناف بالآية بعدها، وهو قوله:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} فإن فك الرقاب وإطعام المحتاجين من المرحمة. وهؤلاء الأصناف من الناس من المسترقّين والمساكين من أحوجِ الخَلْق إلى الصبر.
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} .
إن {ثُمَّ} هنا لا تفيد التراخي في الوقت وإلا تأخر الإيمان عن العمل الصالح الذي ذكره من فك الرقاب وإطعام المحتاجين في حين أنه
لا يفيدُ عملٌ من دون إيمان. وإنما تفيد {ثُمَّ} ههنا تراخي رتبة الإيمان ورفعه محله عما ذكره من الأعمال لأنه هو الأصل، وهو مدار القبول والرفض.
جاء في (الكشاف) : "جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره، ولا يثبت عملٌ صالح إلا به".
وجاء في (فتح القدير) : "جاء بثم للدلالة على تراخي رتبة الإيمان ورفعة محله. وفيه دليل على أن هذه القُرَب، إنما تنفع مع الإيمان".
وذكر بعد الآيات التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة.
جاء في (الكشاف) : "المرحمة: الرحمة أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه، أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يُبتلى بها المؤمن، وبأنْ يكونوا متراحمين متعاطفين أو بما يؤدي إلى رحمة الله".
إن السورة مبنية على هذين الأمرين: الصبر والمرحمة.
فالصبر مرتبط بقوله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} لما يلاقيه الرسول من عنت وأذى وهو حالٌّ بهذا البلد. وبقوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} فإن تربية الولد وحفظه بحاجة إلى الصبر.
ومرتبط بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} لأن المكابدة والمشقة والشدة، تحتاج إلى صبر.
وسلوك النجدين يحتاج إلى صبر لما في صعودهما وسلوكهما من تعب ونَصَب، واقتحام العقبة يحتاج إلى صبر، والرقبة المستَرَقّة تحتاج إلى صبر على القيام بشأن العبودية، وقضاء اليوم ذي المسغبة يحتاج إلى صبر كثير وشديد. واليتيم يحتاج إلى صبر، وكذلك المسكين ذو المتربة، فإن هذه الأصناف تحتاج إلى صبر طويل.
والذين آمنوا يحتاجون إلى الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي. فانظر كيف ارتبط الصبر بالسورة وكيف بُنيت السورة عليه؟
وكذلك الرحمة فإن ذكرها مع الصبر أحسن ذكر وأجمله. فهي مرتبطة بقوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} على كل معاني (الحلّ) فإذا كان حالاًّ يبلّغ دعوة ربه فإنه أحرى أن يُعامَلَ بالرحمة لا بالأذى. وإذا كان المعنى أنه حلالٌ للرسول هذا البلد وذلك في فتح مكة فقد عامل الرسول قريشاً بالرحمة والإحسان، وقال في ذلك اليوم:"اليومَ يومُ المَرْحمة". وقال لهم: "ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟ " قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم. فقال لهم:"اذهبوا فأنتم الطلقاء"
فانظر أيّ رحمة هذه؟
ومرتبطة بقوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} فإن العلاقة بين الوالد وولده، علاقة رحمة وبرٍّ.
وهذا الذي أهلك مالاً لُبداً، يحتاج إلى الرحمة لينفق المال على ذوي الحاجة، ولئلا يهلكه فيما لا ينفع.
وذو الرقبة المسترَقّة محتاجٌ إلى الرحمة والإشفاق.
واليوم ذو المسغبة ينبغي أن تَشيعَ فيه الرحمةُ وهو من أحوج الأوقات إلى إشاعة الرحمة، واليتيم المسكين من أحوج الخلق إلى الرحمة.
والذين آمنوا ينبغي أن يتواصوا بينهم بالرحمة.
وهكذا بنيت السورة على الصبر والمرحمة.
ثم انظر كيف كرر التواصي مع كل منها فقال: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} ولم يقل: (وتواصوا بالصبر وبالمرحمة) ولا: (وتواصوا بالصبر والمرحمة) لأهمية التواصي بكلٍّ منهما وللدلالة على أن كلاًّ منهما جدير بالتواصي به.
فأنت ترى أن هناك ثلاثة تعبيرات لكل تعبير دلالته:
{وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} .
وتواصوا بالصبر وبالمرحمة.
وتواصوا بالصبر والمرحمة.
والتعبير الأول أقوى التعبيرات للدلالة على أهمية كُلٍّ منهما، وذلك لتكرار الفعل مع حرف الجر توكيداً على أهمية ذلك. ثم يأتي التعبير الثاني بالدرجة الثانية وهو تكرار حرف الجر مع المرحمة دون تكرار الفعل، ثم يأتي التعبير الثالث بالدرجة الثالثة، وهو العطف من دون ذكرٍ للفعل ولا لحرفِ الجر. فيكون معنى التعبير الأول، وهو الذي عبرت به الآية أدلّ على أهمية كلٍّ من الصبر والمرحمة وآكد من التعبيرين الآخرين.
ثم انظر من ناحية أخرى كيف قدم التواصي بالصبر على التواصي بالمرحمة ذلك لأنه تقدم ما يحتاج إلى الصبر من المكابدة والمشقة، وانغمار الإنسان فيها، واقتحام العقبة وذكر النجدين. وأخَّر المرحمة لما
جاء بعد ذلك من فكِّ الرقاب وإطعام الأيتام والمساكين. فقدم التواصي بالصبر لمّا تقدّم ما يدعو إليه.
وقد تقول: ولمَ لم يقل كما قال في سورة (العصر) : {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3] ؟ فقد ذكر التواصي بالحق ثم ذكر بعده التواصي بالصبر.
والجواب: أنَّ المقامَ مختلف ففي سورة (العصر) كان الكلام على خسارة الإنسان على وجه العموم، فجاء بالتواصي بالحق على وجه العموم. ولما كان الكلام في سورة البلد على جزء من الحق وهو ما يتعلق بالرحمة والإطعام قال:{وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} .
وقدم الحق في سورة (العصر) : لأنه الأهَمُّ ولأن الصبر إنما يكون صبراً على الحق. إذ ليس المهم هو الصبر، وإنما المهم أن يصبر على ماذا، ثم إن التمسك بالحق والتواصي به يحتاج إلى صبر أيّ صبر. فقدم الحق لذلك بخلافِ سورةِ البلد، فإنه قدم الصبر على المرحمة لما ذكرنا.
{أولائك أَصْحَابُ الميمنة * والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة} .
أي: أولئك الذين آمنوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، وفَكُّوا الرقبةَ وأطعموا المحتاج في اليوم ذي المسغبة أصحاب الميمنة. والميمنة: مفعلة من اليُمن، وهو الخير والبركة أو من اليمن. وقد يكون معناه جهة اليمين التي تقابل الميسرة وهي الجهة التي فيها السعداء. وقد يكون معناها أصحاب اليمين أي: الذين يُؤتَون صحائفهم بأيمانهم. وقد يكون معناها: أصحاب اليمن والخير على أنفسهم وعلى غيرهم.
والذين كفروا هم أصحاب المشأمة. والمشأمة مفعلة من الشأم، وهي جهة الشمال، أو من الشؤم، وهو ضد اليُمن.
ومعنى أصحاب المشأمة أصحاب جهة الشمال التي فيها الأشقياء أو الذين يؤتَون صحائفهم بشمائلهم أو أصحاب الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم.
وقد تقول: ولمَ لم يقل أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال كما قال في مواطن أخرى من القرآن الكريم؟
والجواب أن اختيار هذين اللفظين له عدة فوائد:
منها: أن الميمنة والمشأمة جمعت عدة معانٍ، وهي كلها مُرادةٌ مطلوبة في آن واحد، ولو قال: أصحاب اليمين أو أصحاب الشمال لأعطى معنى واحداً.
فأصحاب الميمنة هم أصحاب جهة اليمين التي فيها السعداء، وهم الذين يؤتَون صحائفهم بأيمانهم، فيذهبون إلى الجنة، وهم أصحاب اليمن والخير والبركة على أنفسهم وعلى غيرهم، فإنهم أفاضوا خيرَهُم ومالهم على الفقراء والمحتاجين وتواصوا بالرحمة على خلق الله وهم ميامين على أنفسم بأنْ رضي الله عنهم وأدخلهم الجنة.
وكذلك أصحاب المشأمة فهم أصحاب جهة الشمال التي فيها الأشقياء، وهم الذين يؤتَون صحائفهم بشمائلهم، ويساقون إلى النار، وهم أصحاب الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم في الدنيا والآخرة.
هذا إضافة إلى التناسب اللفظي، فالعمل والوصف والجزاء كله (مفعلة) فالذين يطعمون في يوم ذي {مَسْغَبَةٍ} يتيماً ذا {مَقْرَبَةٍ} أو مسكيناً ذا {مَتْرَبَةٍ} ويتواصون بـ {بالمرحمة} أصحاب {الميمنة} . ومقابلهم من الكفار أصحاب {المشأمة} .
فاقتضى المقام هذا الاختيار من كل جهة.
وقد تقول: ولِمَ جاء في آية الكفار بضمير الفصل، فقال:{والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة} ولم يأت به مع المؤمنين؟
والجواب: أن المذكورين من المؤمنين هم من أصحاب الميمنة، وليسوا أصحاب الميمنة على جهة القصر فهناك أصحاب ميمنة غيرهم فإنه لم يذكر مثلاً: الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو الذين آمنوا وتواصوا بالحق، أو الذين آمنوا وتواصوا بالجهاد، أو الذين آمنوا وتواصوا بالدعوة إلى الله، فكلُّ هؤلاء من أصحاب الميمنة. بل ربما كان من أصحاب الميمنة من لم يتواص بصبر ولا مرحمة أصلاً من عامة المسلمين، وقد قال تعالى في سورة التين:{إِلَاّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6] ولم يذكر تواصياً بشيء.
أما الذين كفروا فهم أصحاب المشأمة حصراً، ولا يخرجهم منهم وصفٌ آخر أو عمل آخر إذا بقوا على كفرهم.
جاء في (روح المعاني) : إنه "جيء بضمير الفصل معهم لإفادة الحصر".
فكان ذكر ضمير الفصل في آية الكفار، وعدم ذكره في آية المؤمنين هو المناسب.
{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} .
ومعنى الآية: إنها عليهم "مُطبقةٌ فلا ضوءَ فيها، ولا فُرَج ولا خروج منها آخر الأبد". وههنا سؤالات:
لِمَ قدم الجار والمجرور: {عَلَيْهِمْ} ولم يؤخرهما؟
ولِمَ قرئت {مُّؤْصَدَةٌ} بالهمز؟ وما الفرق بينها وبين عدم الهمز؟
ولِمَ لم يقل كما قال في سورة الهمزة. {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} ؟
ولِمَ ذكر جزاء الكافرين، ولم يذكر جزاء المؤمنين؟
أما تقديم الجار والمجرور فقد يظن ظانٌّ أنه لفاصلة الآية، فإن كلمة (مؤصدة) هي المناسبة لخواتم الآي: المسغبة، المقربة، المتربة، المرحمة، المشأمة. ولو قال:(نار مؤصدة عليهم) لم يكن مناسباً.
وهذا صحيح فإنه لو أخر الجار والمجرور لم يناسب خواتم الآي، غير أن المعنى يقتضي ذلك أيضاً، فإن التقديم ههنا يفيد الحصر، فإن النار مؤصدة على الكافرين لا يخرجون منها أبداً. أما غير الكافرين من عصاة المؤمنين، فقد يخرجون منها بعد أن ينالوا عقابهم، فهي إذن مؤصدة عليهم حصراً ولو قال:(نار مؤصدة عليهم) لم يفد الحصر بل لأفاد أنها مؤصدة عليهم، وقد تكون مؤصدة على غير الكفار أيضاً، وهو غير مراد.
أما قراءة الهمز في (مؤصدة) فإنها قرئت أيضاً (موصدة) بغير الهمزة. وقد يظن ظان أن التخفيف أولى لأنه من (وصد) و (أوصد) .
والحق أنهما لغتان: أصد ووصد، يقال: أصد الباب وآصده وأوصده، إذا أطبقه وأغلقه.
جاء في (لسان العرب) : "أصد البابَ أطبقه كأوصده إذا أغلقه ومنه قرأ أبو عمرو: إنها عليهم مؤصدة بالهمز أي مطبقة".
وجاء في (روح المعاني) : "مؤصدة مطبقة من آصدت الباب، إذا أغلقته وأطبقته، وهي لغة قريش على ما روي عن مجاهد.. ويجوز أن يكون من (أوصدته) بمعنى غلقته أيضاً وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزاً، وقرأ غير واحد من السبعة، موصدة بغير همز فيظهر أنه من أوصدت.. والمراد مغلقة أبوابها، وإنما أغلقت لتشديد العذاب والعياذ بالله تعالى عليهم".
أما اختيار الهمز، فله دلالته ذلك أن الهمزة حرف ثقيل شديد، وهي على كال حال أثقل من الواو فاختار الهمزة على الواو لثقلها وشدتها، لأن الموقف شديد وصعب، فهي المناسبة لثقل ذلك اليوم وصعوبته وشدته قال تعالى:{وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان: 27] ، وإنَّ النُّطقَ بها لثقيلٌ، فإذا قال (مؤْ) كان كأنَّ الشخصَ يعاني من أمر ثقيل. فهي أنسب وأدَلّ على الكرب والثقل من التسهيل والنطق بالواو.
وهو المناسب أيضاً لجو المكابدة والشدة والقوة في السورة. والله أعلم.
أما السؤال الثالث وهو: لماذا لم يقل كما قال في سورة الهمزة: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} فذلك له أكثرُ من سبب، وكلُّ تعبير هو أليقُ بمكانه من نواح عدة منها:
1-
إنه توسع في سورة الهمزة في ذكر صفات المعذَّب وتوسع في ذكر العذاب فقال: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الذى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ *
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَاّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة * نَارُ الله الموقدة * التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} [الهمزة: 1-9] .
فقال في ذكر صفات المعذَّب، أنه هُمَزة لُمَزة، وأنه جمع مالاً وعَدّدة، يحسب أن ماله أخلده، في حين لم يزد في سورة البلد على قوله:{والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا} . ولما توسع في صفات المعذب توسع في ذكر عذابه، فقال: {كَلَاّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة * وَمَآ أَدْرَاكَ
…
} .
فناسب ذلك ذكر الزيادة في سورة الهمزة دون سورة البلد.
2-
إنه ذكر في أول الهمزة {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} فدعا عليهم بالهلاك الدائم الذي لا ينقطع. ورفعُ (الويل) يفيد الثبوت، فناسب الدلالة على الدوام، أن يقول:{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} للدلالة على الاستيثاق من غلق الأبواب عليهم.
3-
ذكر في سورة الهمزة أن هذا الكافر يجمع المال ويعدده، ويحفظه فكما حفظ المال وجمعه وأغلق عليه الأبواب، واستوثق من حفظه أغلقت عليه أبواب جهنم واستوثق منها بأنها مُدّت عليهم الأعمدة. فناسب الاستيثاق من حفظ المال وإيصاد الأبواب عليه الاستيثاقَ، وإطباقَ الأبواب عليه في النار. في حين أنه ذكر في سورة (البلد) أنه أهلك مالاً لُبداً. فذلك أهلكَ المالَ وأنفقه، وهذا جَمَعَ المال وحفظه، فناسب ذكر الحفظ وشدة الاستيثاق في سورة الهمزة الاستيثاق من غلق باب النار عليه، والجزاءُ من جنس العمل.
4-
ذكر في سورة الهمزة أن هذا الكافر يحسب أن ماله أخلده في الدنيا وأبقاه، وأنه لا يفارقها، فعوقب بذلك بالخلود في النار، وإطباق أبوابها عليه والاستيثاق بالعمد الممدّدة عليها، للدلالة على خلوده
في النار أبد الآبدين. فحسبانه الخلود في الدنيا مقابل لحقيقة الخلود في النار. فهناك ظَنٌّ وهنا يقين. وهناك خلود مظنون في الدنيا وهنا خلود واقع حقيقة في النار.
5-
ذكر في سورة الهمزة أن هذا الكافر يتعدى على الآخرين، فهو لم يكفّ أذاهُ عنهم، ولم يَنَلْهُمْ من خيره شيء، فهو يهمزهم ويلمزهم ويمنع خيره عنهم، فلم ينفق من ماله شيئاً. فلما اعتدى على الآخرين وآذاهم انبغى له الحبس لتخليص الناس من شره وعدوانه. والمحبوس تُغلق عليه أبواب الحبس ويُستوثق من إغلاقها وعدم فتحها لئلا يخرج منها. فناسب ذلك زيادة الاستيثاق بالعمد الممدة على الأبواب لئلا تفتح. في حين لم يذكر في سورة البلد سوى الكفر بآيات الله، ولم يذكر أنهم تعدّوا على الآخرين.
6-
إن المعذبين في سورة الهمزة كفار وزيادة، فهم:
1-
كافرون.
2-
يتعدون على الآخرين بالهمز واللمز والسخرية والتكبر.
3-
أنهم جمعوا الأموال ولم ينفقوها.
4-
يحسبون أن الأموال تُخَلِّدهم في الدنيا.
في حين لم يذكر في سورة البلد إلا الكفر.
فأولئك كفار وزيادة في العدوان، فاقتضى ذلك الزيادة في تعذيبهم وحبسهم.
فانظر كيف ناسب كل تعبير موطنه. ولو جُعلت الزيادة في سورة البلد لم تَحْسُن كما هو ظاهر.
وأمّا السؤال الأخير وهو: لماذا ذكر جزاء الكافرين ولم يذكر جزاء المؤمنين.
فالجواب عنه أن ذلك لمناسبة ما ذكر في أول السورة من خلق الإنسان في كبد، فلم يناسب ذلك ذكر النعيم وإنما الذي يناسبه ذكر الجحيم وما فيه من مشقة.
جاء في (روح المعاني) : "وصرح بوعيدهم ولم يصرح بوعد المؤمنين، لأنه الأنسب بما سِيقَ له الكلامُ والأوفقُ بالغرض والمرام".
ثم انظر بعد ذلك إلى هذه السورة المحكمة النسج، كيف وضعت تعبيراتها لتؤدي أكثر من معنى.
فـ {لَا أُقْسِمُ} تحتمل النفي والإثبات.
و {حِلٌّ} تحتمل الحالّ والمستَحَلّ والحلال.
و {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} تحتمل العموم والخصوص من آدم وذريته أو إبراهيم وذريته أو الرسول وآبائه. وغير ذلك على وجه العموم.
و"الكبد" تحتمل المكابدة والمعاناة، وتحتمل القوة والشدة، وتحتمل استقامة الجسم واعتداله وغير ذلك.
و {أَيَحْسَبُ} تحتمل العموم والخصوص، فهي تحتمل كل إنسان، وتحتمل إنساناً معيناً تشير إليه الآية.
و {أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} تحتمل أكثر من معنى، فهو قد يكون أنفقه في المفاخر والمكارم والمباهاة. وتحتمل الإنفاق في عداوة الرسول، وتحتمل غير ذلك. وتحتمل الكذب فلم ينفق شيئاً، وإنما هو ادعاء محض.
و"اللَّبد" تحتمل الجمع وتحتمل المفرد، فعلى الجمع تكون جمع (لُبدة) كنقطة ونقط، وخطوة وخطى. وعلى المفرد تكون صفة كَحُطَم ولُكَع.
و"النجدان" يحتملان طريقي الخير والشر، ويحتملان الثديين وكلاهما هدانا ربنا إليهما.
و (لا) في قوله: {فَلَا اقتحم العقبة} تحتمل النفي والدعاء، وتحتمل المضي والاستقبال.
و {العقبة} تحتمل أموراً كثيرة، ذكر قسم من المفسرين: أنها في الآخرة. وقال آخرون: هي في الدنيا. وقيل: هي جبل في جهنم، وقيل: هي عقبة بين الجنة والنار.
و {فَكُّ رَقَبَةٍ} يحتمل العتق وغيره من فك المغارم والديون وغيرها.
و {أَصْحَابُ الميمنة} تحتمل أصحاب جهة اليمين. وأصحاب اليمين، وأصحاب اليُمن ضد الشؤم.
و {المشأمة} كذلك.
فانظر كيف وضعت تعبيراتها للاتساع في المعاني.
والملاحظ في هذه السورة أن فيها خطوطاً تعبيرية ومقامية واضحة أشرنا إليها.
منها: خَطُّ المكابدة التي تدل عليه الآية {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} .
وخط العموم والاتساع في المعنى وهو الذي بَيَّناه آنفاً.
وخط الاجتماع الذي ذكرناه في قوله: {أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} .
وخط الصبر الذي دل عليه قوله: {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} .
وخط المرحمة الذي دل عليه قوله: {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} .
فانظر أيّ إحكامٍ في النسج، وأيّ دقة في التعبير هذا الذي بين الدفتين!