الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة إبراهيم في سورتي الحجر والذاريات
1-
قال تعالى في سورة الحجر:
2-
وقال في سورة الذاريات:
***
من الواضح البيّن أنَّ ثمة تشابهاً ظاهراً في محتوى القصتين، وتقارباً في التعبير بينهما إلى درجة كبيرة، غير أن هناك جملة اختلافات بينهما أبرزها:
إنه وصف الضيف في سورة (الذاريات) بأنهم (مكرَمون) فقال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} ولم يصفهم بذاك في سورة (الحجر) بل قال: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} وقد أدى هذا إلى الاختلاف بين السياقين في أمور عدة منها:
1-
إنه ذكر في سورة الذاريات، أن إبراهيم، عليه السلام، ردّ التحية عليهم حين حيَّوه فقال:{فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ} ، ولم يذكر ذلك في الحجر. وإنما ذكر أنهم حيوه ولم يذكر أنه رد التحية عليهم. ولا شك أن رَدَّ التحية هو الذي يقتضيه الإكرام. فلما وصفهم بأنهم مكرمون ناسب ذلك ذكر رد التحية، فإنه من إكرامهم.
إنه ردّ التحية عليهم بخيرٍ من تحيتهم، فإنهم حيّوه بالنصب {سَلَاماً} وحياهم بالرفع {سَلَامٌ} . فهم حيّوه بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، أي: نُسلّمُ سلاماً، وهو قد حياهم بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت. والاسم أقوى وأثبت من الفعل، كما هو معلوم في اللغة، وكما مَرَّ توضيحه في سورة الفاتحة، وذلك نحو يطّلع ومطّلع، ويتعلّم ومتعلِّم.
فهو حياهم بالسلام الشامل الثابت الدائم فيكون قد حياهم بخيرٍ من تحيتهم.
جاء في (التفسير الكبير) : "إن إبراهيم، عليه السلام، أراد أن يرد عليهم بالأحسن فأتى بالجملة الاسمية، فإنها أدل على الدوام والاستمرار".
وجاء في (معاني القرآن) للفراء: "وأما قوله تعالى: {فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] فإنه رفع وهو بمنزلة الأمر في الظاهر كما تقول: (من لقي العدو فصبراً واحتساباً) ، فهذا نصبه ورفعه جائز. وإنما كان الرفع وجه الكلام، لأنه عامة فيمن فعل، ويراد بها من لم يفعل، فكأنه قال: فالأمر
فيها على هذا فيرفع. وينصب الفعل إذا كان أمراً عند الشيء يقع ليس بدائم، مثل قولك للرجل: إذا أخذت في عملك فجدّاً جدّاً وسيراً سيراً. نصبتَ لأنك لم تَنْوِ به العموم فيصير كالشيء الواجب على مَنْ أتاه وفعله
…
وأما قوله: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] فإنه حَثَّهم على القتل إذا لقوا العدو، ولم يكن الحث كالشيء الذي يجب بفعل قبله، فلذلك نصب، وهو بمنزلة قولك: إذا لقيتم العدو فتهليلاً وتكبيراً وصِدْقاً عند تلك الوقعة.. كأنه حثٌّ لهم".
وجاء في (شرح ابن يعيش) أن: "الفرق بين النصب والرفع، أنك إذا رفعتها فكأنك ابتدأت شيئاً قد ثبت عندك واستقر وفيها ذلك المعنى.. وإذا نصبت كنت ترجّاه في حال حديثك، وتعمل في إثباته".
3-
ذكر في سورة الذاريات، أنه جاءهم بعجل ووصف هذا العجل بأنه سمين وقَرَّبه إليهم ليأكلوه. وهذا مما يدل على تكريم ضيفه واحتفائه بهم، ولم يقل مثل ذلك في (الحجر) . وكلٌّ من الحالين المذكورين هو المناسب لموطنه وسياقه.
4-
ذكر في آيات (الذاريات) أنه أوجس منهم خيفة، ولم يواجه ضيفه بما أحسَّ في نفسه. في حين أنه واجههم بذاك في سورة الحجر، فقال مخاطباً إياهم:{إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} .
وواضح أن ما جاء في آيات الذاريات هو المناسب لمقام الإكرام، فليس مناسباً لجو التكريم أن يعلن لضيفه، أنه غير مطمئنٍّ إليهم، وأنه منهم وَجِلٌ.
وهكذا ترى أن كل تعبير هو المناسب للسياق الذي ورد فيه.
5-
أظهر التعبير أن حالة الخوف والوجل في آيات الحجر، أكثر مما هي في آيات الذاريات.
فإنه واجه ضيفه بالخوفِ منهم، في سورة (الحجر) بالجملة الاسمية المؤكدة بـ (إن) ، وجاء مع ذلك بالصفة المشبهة (وَجِلُون) الدالة على شدة الخوف، ثم أخرجه مخرج العموم والشمول لأهل البيت أجمعين، فذكره بصورة الجمع:{إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} . في حين ذكر ذلك في (الذاريات) بالجملة الفعلية غير المؤكدة، فقال:{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} وذكره بصورة الإفراد.
ولا شك أن الحالة النفسية لسيدنا إبراهيم، عليه السلام، وما صَرَّحَ به من شدة الفزع، جعلت المقام لا يتناسب هو وذكر التكريم فإن التكريم يحتاج إلى انشراح نفسي وانفتاح، وهو غير موجود في آيات (الحجر) ، بل إن كل تعبير فيها يدل على القلق وعدم الارتياح.
فناسبَ كُلُّ تعبيرٍ موطِنَهُ.
6-
ولما واجههم بالخوف منهم والوجل في سورة (الحجر) واجهوه بالبشرى، فإنه لما قال لهم:{إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} قالوا له: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} . ولما لم يواجههم بذلك في سورة الذاريات، بل ذكره بصيغة الغيبة:{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} لم يواجههوه بالبشرى بل وردت بصغية الغيبة أيضاً (وبشروه) فكان التعبير في المواطنين على النحو الآتي:
الحجر: إنا منكم وجلون
…
إنا نبشرك بغلام عليم
الذاريات: فأوجس منهم خيفة
…
وبشروه بغلام عليم
فناسب كل تعبير موطنه وسياقه.
7-
لما ذكر الوجل منهم بالصيغة الاسمية في سورة الحجر: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} بشروه بالجملة الاسمية أيضاً {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} .
ولما ذكر الخوف منهم بالصيغة الفعلية في سورة الذاريات: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} بشروه بالصيغة الفعلية أيضاً: {وَبَشَّرُوهُ} .
8-
قال في آيات الذاريات: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} بتقديم (منهم) على (خيفة) . وهذا التقديم، يفيد الاختصاص والحصر، أي: أن الخوف كان منهم لا من غيرهم، ولو قال:(فأوجس خيفة منهم) لكان أخبر أنه خاف منهم، ولم يخبر أنه لم يخف من غيرهم، بل ربما كان ثمة خوف منهم، ولم يخبر أنه لم يخف من غيرهم، بل ربما كان ثمة خوف آخر من غيرهم، فإن التعبير الوارد في الآية جعل الضيف وحدهم سببَ الخوف وقصرَ ذلك عليهم. وأما التعبير الآخر، أعني:(فأوجس خيفة منهم) فلا يقصر الخوف عليهم، بل ربما كان هناك سبب آخر معهم وهذا نظير قولك:(بكَ وثقتُ) و (وثقتُ بكَ) فإن الجملة الأولى أخبرتَ بها أنك قصرتَ الثقةَ على المخاطب ولم تثق بأحدٍ آخر. أما الجملة الثانية فإنها تفيد أنك وثقت به ولم تُفِدْ أنك قصرتَ الثقة عليه، بل قد تكون وثقت بغيره أيضاً. ومما يوضح ذلك قوله تعالى:{قُلْ هُوَ الرحمان آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29] ، فقد أخر الجار والمجرور (به) عن الفعل (آمنا) وقدم الجار والمجرور (عليه) على الفعل (توكلنا) .
ذلك أن "الإيمان لمَّا لم يكن منحصراً في الإيمان بالله؛ بل لا بد معه من رُسُله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وغيره مما يتوقَّفُ صحةُ الإيمان عليه، بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على الله وحده لتفرُّدِه بالقدرة والعلم القديمين الباقيين قَدَّمَ الجارَّ والمجرور فيه ليؤذنَ باختصاص التوكل من
العبد على الله دون غيره، لأن غيره لا يملك ضراً ولا نفعاً فيتوكل عليه".
وكذلك ذكر في سورة الحجر فقد قال: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} بتقديم (منكم) على (وجلون) مما يفيد أنهم هم سبب الخوف. وهذا التقديم يفيد القصر كما في آية الذاريات. فكلتا الآيتين أفادت الدلالة على أن الخوف كان من الضيف وحدهم، لا من غيرهم بدلالة تقديم الجار والمجرور على مُتعلّقه. غير أنه أخرج ذلك على سبيل المواجهة المؤكدة في آيات الحجر، وعلى سبيل الغيبة غير المؤكدة في آيات الذاريات. فكانت نهاية الآية في الحجر متناسقة مع الموسيقى، ومع المعنى في آن واحد.
9-
اعترض في سورة الحجر على تبشيرهم له بالغلام واستنكر ذلك قائلاً: {أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} فكأنه غير مستوثقٍ من أنهم رُسُلُ ربه. ويبدو أن الذي أدخلته عليه هيئتهم من الوجل والخوف زرع الشك فيهم، وعدم الثقة بأقوالهم وأفعالهم. وكما أظهر لهم عدم ارتياحه من دخولهم بيته، أظهر الاستخفافَ بالبشرى والاستنكار لأقوالهم.
ولم يعترض أو يستنكر في سورة الذاريات، لأن مقام الإكرام غير مناسبٍ للاعتراض والاستنكار والاستخفاف بما يقولون. وكل تعبير مناسب للسياق الذي ورد فيه كما هو ظاهر.
10-
ذكر في آيات الذاريات أن امرأة سيدنا إبراهيم عندما سمعت بالبشرى، أقبلت في جَلَبةٍ وصكّت وجهها متعجبة مما أخبروه به.
ولم يذكر ذلك في الحجر ذلك أن الخوف الذي ذكر في الحجر، كان عاماً شاملاً لأهل البيت أجمعين:{إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} وفي مثل هذا الموقف، قعدت العجوزُ المُسِنَّةُ خائفةً وجلة من هؤلاء الغرباء الذين أدخلوا الخوفَ على البيت كله. فناسب ذلك عدم ذكر خروجها لهم ومواجهتهم.
أما في آيات الذاريات، فليس فيها هذا الشمول، فلم يمنع ذلك من خروجها، فناسب كل موقف موطنه.
يتبين لنا مما مر أن كل تعبير مناسب للسياق الذي ورد فيه مناسبة تامة.