الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام ورآه قال: "هذا كسرى العرب"(1) وكان معاوية نفسه يقول: "أنا أول الملوك"(2).
روي له عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مائة حديث وثلاثة وستون حديثًا، اتفق الشيخان من ذلك على أربعة وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة (3) واللَّه تعالى الموفق.
قال الناظم رحمه اللَّه تعالى: (وأنصاره) جمع ناصر كأصحاب وصحاب (4) أو جمع نصير كشريف وأشراف، والضمير في: أنصاره راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والمراد بهم: الأوس والخزرج وحلفاؤهم ومن والاهم وكانوا قبل ذلك يعرفون بابني قيلة بقاف مفتوحة وتحتانية وهى الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار، فصار ذلك علمًا عليه، وأطلق أيضًا على أولادهم وحلفائهم ومواليهم وخصوا بهده المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه والقيام بأمرهم ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم وإيثارهم إياهم في كثير من الأمور على أنفسهم فكان صنيعهم لذلك موجبًا لمعاداتهم لجميع الفرق والقبائل من عرب وعجم.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه اللَّه ومن أبغضهم أبغضه اللَّه"(5) رواه الشيخان وغيرهما من حديث البراء ابن عازب رضي الله عنهما.
(1) و (2) و (3) نفس المصدر (2/ 103)؛ وانظر سير أعلام النبلاء (3/ 134)؛ والبداية (8/ 125) وما بعدها.
(4)
في "ظ" وصاحب.
(5)
رواه البخاري في
فضائل الأنصار
(ج 7/ 141) رقم (3783) باب حب الأنصار من الإيمان، ومسلم في الإيمان رقم (75) باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان.
وأخرجا أيضًا وغيرهما من حديث أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار"(1).
وفي رواية "آية المنافق بغض الأنصار وآية (المؤمن) (2) حب الأنصار".
وأخرج الترمذي وقال: حسن صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار أحد يؤمن باللَّه واليوم الآخر"(3).
ورواه مسلم أيضًا من حديث أبي سعيد مرفوعًا ولفظه: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن باللَّه واليوم الآخر"(4).
وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة (5).
وفي صحيح البخاري عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس رضي الله عنه: أرأيت اسم الأنصار أكنتم تسمون به أم سماكم اللَّه تبارك وتعالى به؟ قال: بل سمانا اللَّه عز وجل، وقال غيلان كنا ندخل على أنس فيحدثنا بمناقب الأنصار ومشاهدهم ويقبل عليَّ أو على رجل من الأزد ويقول: فعل قومك يوم كذا كذا وكذا" (6).
قال الحافظ ابن حجر (7) في "فتح الباري لشرح البخاري":
(1) البخاري في مناقب الأنصار، باب حب الأنصار من الإيمان (ج 7/ 141) ومسلم رقم (74) في الإيمان.
(2)
في "ظ" الإيمان.
(3)
الترمذي رقم (3906) في المناقب، باب مناقب الأنصار وقريش.
(4)
مسلم رقم (77) في الإيمان باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان.
(5)
مسلم رقم (76) في الإيمان باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان.
(6)
البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب مناقب الأنصار (ج 7/ 137) رقم (3776).
(7)
تقدم (1/ 119).
أول تلقيب الأنصار بهذا اللقب كان ليلة العقبة لما توافقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم عند عقبة منى في الموسم (1) كما في السيرة النبوية.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار"(2).
وفي الترمذي أن زيد بن أرقم كتب إلى أنس بن مالك يعزيه فيمن أصيب من أهله وبني عمه يوم الحرة فكتب إليه أني أبشرك ببشرى من اللَّه أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اغفر للأنصار ولذراري الأنصار ولذراري ذراريهم"(3).
وفي صحيح مسلم عن أنس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "استغفر للأنصار قال وأحسبه قال ولذراري الأنصار ولموالي الأنصار لا أشك فيه"(4).
وأخرج البخاري عن زيد بن أرقم قال: قالت الأنصار: "يا نبي اللَّه لكل نبي أتباع وإنا قد أتبعناك فادع اللَّه أن يجعل أتباعنا منا فدعا به".
وفي رواية فقال: "اللهم اجعل أتباعهم منهم"(5).
وفي حديث أنس عند الشيخين وغيرهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأنصار كرشي وعيبتي فإن الناس سيكثرون ويقلون فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا" وفي لفظ "واعفوا عن مسيئهم"(6).
وفي رواية عند البخاري مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من
(1) انظر: فتح الباري (ج 7/ 261).
(2)
البخاري في التفسير (ج 8/ 518) رقم (4906) في تفسير سورة المنافقين. ومسلم رقم (2506) في فضائل الصحابة باب من فضائل الأنصار رضي الله عنهم.
(3)
الترمذي رقم (3902) في المناقب باب في فضل الأنصار وقريش.
(4)
مسلم رقم (2507) في فضائل الصحابة باب من فضائل الأنصار رضي الله عنهم.
(5)
البخاري (ج 7/ 143) رقم (3787 - 3788) في مناقب الأنصار باب أتباع الأنصار.
(6)
رواه البخاري (7/ 151) في مناقب الأنصار باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "أقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم".
ومسلم رقم (2510) في فضائل الصحابة باب من فضائل الأنصار رضي الله عنهم.
مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد قال فصعد النبي المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم -فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فأقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم"(1).
قال في النهاية: "قوله صلى الله عليه وسلم: "كرشي وعيبتي" أراد أنهم بطانته وموضع سره وأمانته، والذي يعتمد عليهم في أموره، واستعار الكرش والعيبة لذلك لأن المجتر يجمع علفه في كرشه، والرجل يضع ثيابه في عيبته وقيل: أراد بالكرش الجماعة أي جماعتي وصحابتي، يقال عليه كرش من الناس أي جماعة، والعرب تكنى عن القلوب والصدور بالعياب لأنها مستودع السرائر كما أن العياب مستودع الثياب"(2).
وفي القاموس: "والعيبة -أي بفتح العين المهملة وسكون التحتية وفتح الموحدة فهاء تأنيث-: زنبيل من أدم وما يجعل فيه الثياب، ومن الرجل موضع سره" انتهى (3).
وفضائل الأنصار كثيرة ومناقبهم غزيرة ومآثرهم شهيرة رضي الله عنهم أجمعين.
ثم قال الناظم -مشيرًا إلى المهاجرين رضي الله عنهم وأخرهم وإن كانوا مقدمين على الأنصار في الفضيلة لضرورة النظم- (والهاجرون ديارهم) وأموالهم حبًا للَّه ورسوله ولإعلاء كلمة اللَّه ونصرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(1) البخاري (7/ 151) في مناقب الأنصار باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" رقم (3799).
(2)
النهاية لابن الأثير (3/ 327، 4/ 163 - 164).
(3)
القاموس (1/ 113)(عيب).
"والهجرة": الترك، الهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره.
وفي الشرع: ترك ما نهى اللَّه عنه.
وقد وقعت في الإسلام على وجهين:
الأول: الانتقال عن دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.
الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك مختصة بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة في الثامن من الهجرة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر -لمن قدر عليه- باقيًا" (1).
وكذا من ديار أهل البدع المضلة، وكل أرض يعجز فيها عن إظهار دين الإسلام وسنة خير الأنام.
وأما حديث "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"(2) يعني لا هجرة من مكة، ولهذا جاء في الحديث:"لا تنقطع الهجرة"(3).
(1) انظر: فتح الباري (ج 1/ 23).
(2)
رواه البخاري (6/ 45) في الجهاد باب وجوب النفير رقم (2825) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه أبو داود رقم (2479) في الجهاد باب في الهجرة هل انقطعت من رواية معاوية رضي الله عنه مرفوعًا ولفظه: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".
وأخرج النسائي في سننه (ج 7/ 131) عن عبد اللَّه بن السعدي مرفوعًا: "لن تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار".
قال الحافظ في الفتح في الجمع بين الحديثين:
قال الخطابي: كانت الهجرة أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت لما =
والهجرة التي وعد اللَّه عليها الجنة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111](1).
فكان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويدع أهله وماله، لا يرجع في شيء منه وينقطع بنفسه إلى مهاجره فالمهاجرون (بنصرهم) للَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبذلهم نفوسهم النفيسة وخروجهم للَّه تعالى عن ديارهم وأموالهم وأهاليهم لأجل إعلاء كلمة اللَّه في مرضات اللَّه ورسوله إظهار دين اللَّه ونوره الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم ففتح اللَّه به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا (عن ظلمة النار) وغضب المليك الجبار (زحزحوا) أي ابعدوا من زاح يزيح زيحًا وزيوحًا وزيحانًا بعد وذهب كانزاح وأزحته والزوح
= هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد اللَّه ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة وبقي الاستجاب.
وقال البغوي في شرح السنة: يحتمل الجمع بينهما بطريق أخرى بقوله: "لا هجرة بعد الفتح" أي من مكة إلى المدينة وقوله: "لا تنقطع" أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام "انتهى". راجع فتح الباري (17/ 270)(16/ 46) وشرح السنة للبغوي (10/ 371) وما بعدها.
(1)
ولم يتضح لي وجه استدلال المؤلف بهذه الآية على الهجرة، والذي ذكره المفسرون أن هذه الآية نزلت في البيعة الثانية وهي بيعة العقبة الكبرى وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند العقبة فقال عبد اللَّه بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم، قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: "الجنة" قالوا: ربح البيع لا نقبل ولا نستقيل فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل اللَّه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
انظر: القرطبي (8/ 267)؛ وابن كثير والبغوي (4/ 246 - 247).
تفريق الإبل وجمعها ضد والزولان والتباعد وأزاح الشيء عن موضعه نحاه، كما في القاموس (1).
وفي الآية الكريمة:
{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ (185)} [آل عمران: 185] والزحزحة تكرير الزح وهو الجذب بعجلة يقال زحه إذا نحاه عن موضعه ودفعه وجذبه في عجلة، وزحزحه عنه باعده فتزحزح وهو مزحزح (منه أي مبعد)(2) والزحزاح البعيد" (3).
وقد قال تعالى في التنصيص على فضل المهاجرين والأنصار {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (4): {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10].
ففي هذه الآيات من التنصيص على فضلهم ما تثلج به الصدور ويزول غطش (5)
(1) القاموس (ج 1/ 234).
(2)
ساقط من "ظ".
(3)
القاموس (1/ 234).
(4)
ساقط من "ظ".
(5)
الغطش: في العين شبه الهمش، والغطش الضعف في البصر كما ينظر ببعض بصره، ويقال هو الذي لا يفتح عينيه في الشمس والغطاش ظلمة الليل واختلاطه، وأغطش اللَّه الليل أي أظلمه. لسان العرب (8/ 214)؛ والقاموس (2/ 292)(غطش).
الديجور (1) فأذل اللَّه من عاداهم وقمع من ناوأهم أو أحدًا منهم، ولهذا قال:(وقل) بلسانك معتقدًا بجنانك (خير قول) من الثناء عليهم بذكر محاسنهم وصدق جهادهم مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبذل نفوسهم النفيسة في مرضاة اللَّه ورسوله لإعلاء كلمة اللَّه تعالى، فالواجب على كل مؤمن نشر محاسنهم والكف عما فيه شائبة تنقيصهم، والترضي عنهم وهذا لا يختص بأحد منهم دون أحد بل هو عام (في الصحابة) كلهم من السابقين واللاحقين من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
والصحابة بالفتح جمع صاحب ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا والعبارة المشهورة في تعريف الصحابي: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا ومات على ذلك، ولو تخلله ردة، أو رآه النبي صلى الله عليه وسلم والأرشق في التعريف: أن يقال: الصحابي من اجتمع بالنبي مؤمنًا ومات على الإيمان (2).
والمراد بالاجتماع أن يكون يقظة في عالم الشهادة رؤية معتادة غير معجزة حتى ولو رآه بعد موته مكفنًا كأبي ذؤيب (3) الشاعر فإنه صحابيًا لكن صحبته حكمية لشرف رؤيته صلى الله عليه وسلم وكذا من رآه صلى الله عليه وسلم في حياته مغطى أو ملفوفًا بالأولى وقد
(1) الديجور: الظلام وليلة ديجور مظلمة (مختار الصحاح -دجر-).
(2)
انظر: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح (251) وإرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق (ج 2/ 586) وشرح نخبة الفكر (28 - 29) والإصابة (1/ 7) كلاهما لابن حجر، وتدريب الراوي (396).
(3)
أبو ذؤيب اسمه: خويلد بن خالد الهذلي الشاعر المشهور عده الحافظ ابن حجر في القسم الثالث من كتاب "الإصابة" من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام وجزم بعدم صحبته.
راجع الإصابة (1/ 6 - 11/ 124).
ذكر الحافظ الذهبي في تجريده أبا ذؤيب، وذكر أنه حضر سقيفة بني ساعدة وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره -يعني حيًا- (1).
وأما ورقة بن نوفل فمعدود من الصحابة لأنه أدرك النبوة وآمن حين جاءت خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم إليه بعد البعثة فآمن به وصدقه فهو من الصحابة وذكر من خبره ما هو مشهور في الصحيح (2).
واعلم أن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول (مقبولوا)(3) الرواية فلا يسأل عن عدالة أحد منهم بالكتاب والسنة وإجماع المعتبرين من الأمة قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]
قيل اتفق المفسرون أن ذلك في الصحابة (4) وإن رجح كثير عمومها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أولى بالدخول في العموم، وكذلك قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].
(1) انظر: تجريد أسماء الصحابة للذهبي (ج 2/ 164).
(2)
ورقة بن نوفل القرشي الأسدي اختلف في إسلامه وفي صحبته.
راجع ترجمته في الإصابة (10/ 304).
(3)
في الأصل: (مقبولون) والمثبت من "ظ" وهو الصواب.
(4)
قال ابن الجوزي: "وفيمن أريد بهذه الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أهل بدر.
والثاني: أنهم المهاجرون.
والثالث: جميع الصحابة.
والرابع: جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم نقلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس.
ورجح ابن كثير رحمه الله عمومها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. راجع زاد المسير لابن الجوزي (1/ 438)؛ وتفسير ابن كثير مع البغوي (ج 2/ 213).
هذا خطاب للموجودين حينئذ (1) وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. . .} [الفتح: 29] الآيات.
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: لا تسبوا أصحابى فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" (2).
وهذا وإن ورد على سبب فالعبرة بعموم اللفظ، ولا ينافي ذلك كون الخطاب لأصحابه أيضًا لأن المراد لا يسب غير أصحابي أصحابي ولا يسب بعضهم بعضًا فالمراد النهي عن حصول السب لهم مطلقًا.
وقد حكى الإمام ابن عبد البر في مقدمة الإستيعاب إجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة أن الصحابة كلهم عدول (3).
فائدة: قد ذكر غير واحد من الحفاظ عدة الصحابة وأنهم عدة الأنبياء (4).
فروي عن الإمام الحافظ أبي زرعة الرازي (5) واسمه عبيد اللَّه بن عبد الكريم شيخ الإمام مسلم بن الحجاج (6) صاحب الصحيح أنهم يزيدون على المائة ألف هذا
(1) انظر الكفاية في علم الرواية (ص 46)؛ والتقييد والإيضاح (260)؛ وفتح المغيث (3/ 100 - 101)؛ ولوامع الأنوار (2/ 377).
(2)
رواه البخاري (ج 7/ 25) في فضائل الصحابة رقم (3673)، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذًا خليلًا، ومسلم رقم (2541) في فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم.
(3)
انظر: الإستيعاب (1/ 37 - 38).
(4)
لم أقف على من ذكره.
(5)
أبو زرعه الرازي: تقدم (1/ 109).
(6)
مسلم بن الحجاج: تقدم (1/ 275).
على الأصح في النقل عنه كما رواه ابن المديني (1) في ذيله على كتاب الصحابة لابن منده (2).
وروى أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا ممن روى عنه وسمع منه.
قال أبو زرعة قد شهد معه حجة الوداع أربعون ألفًا، وشهد معه تبوك سبعون ألفًا (3).
وفي مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه للساجي (4) أن الشافعي قال: قبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمون ستون ألفًا ثلاثون ألفًا بالمدينة وثلاثون ألفًا في قبائل العرب (5).
ثم الذين رووا وبقيت رواياتهم لا يبلغون هذا العدد ولا قريبًا منه، فقد قال الحاكم:"إنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف نفس"(6).
(1) محمد بن أبي بكر عمر بن أبي عيسى أحمد بن عمر المديني الأصبهاني الشافعي الإمام العلامة صاحب التصانيف، مولده سنة إحدى وخمسمائة ووفاته سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، من تصانيفه ذيل معرفة الصحابة، والمجموع المغيث في غريب القرآن والحديث وغيرها. السير (21/ 152).
(2)
ابن منده: محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده، العبدي الأصبهاني الحافظ صاحب التصانيف، مولده سنة عشر وثلاثمائة من تصانيفه كتاب "الإيمان"، التوحيد، وكتاب "الصفات". وكتاب "معرفة الصحابة" وغيرها. سير أعلام النبلاء (17/ 28).
(3)
انظر: التفييد والإيضاح (ص 263 - 264)؛ وتدريب الراوي (ص 405 - 406).
(4)
الساجي: زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الضبى البصري الشافعي أبو يحيى محدث البصرة ومفتيها من أئمة الحديث، مات بالبصرة سنة سبع وثلاثمائة. السير (14/ 197).
(5)
انظر: التقييد والإيضاح (ص 264)؛ وتدريب الراوي (406)؛ وتجريد أسماء الصحابة (1/ ب).
(6)
انظر: تجريد أسماء الصحابة (1/ ب)؛ وفتح المغيث (3/ 113).
قال الحافظ الذهبي في التجريد: "ولعل الرواة عنه نحو الألف وخمسمائة لا يبلغون ألفين أبدًا"، ثم قال الذهبي بعد أن ذكر أنه جمع في كتابه هذا ما جرد وكتاب "أسد الغابة" لابن الأثير وأنه زاد عليه من كتب عدة وأن المذكور في كتابي هذا لا يبلغون ثمانية آلاف نفسًا وأكثرهم لا يعرفون" (1) انتهى (2).
وقول الناظم رحمه اللَّه تعالى: (ولاتك): بحذف النون تخفيفًا -كما مر- "طعانًا" مبالغة من الطعن.
وفى الحديث: "لا يكون المؤمن طعانًا"(3) أي وقاعًا في أعراض الناس بالذم والغيبة والتنقيص والمسبة ونحو ذلك، وهو فعال من طعن فيه وعليه بالقول يطعن بالفتح والضم إذا عابه، ومنه الطعن في النسب.
(بعيب): متعلق بطعان.
(وتجرح) من الجرح يقال جرحه كمنعه كلمة والاسم الجرح بالضم والجمع جروح، وقل أجراح، والجراح بالكسر جمع جراحة ورجل جريح وامرأة جريح، والجمع جرحى وجرح كمنع النسب كاجترح وجرح فلانًا سبه وشتمه (4).
وشاهدا (5) أسقط عدالته إشارة إلى رد مقالة أهل الضلال والزيغ والوبال، من أهل الرفض ومن نهج منهجهم من أهل الجفاء والبغض، وكيف يكون ذلك وهم أهل الجد والاجتهاد والنصح والرأفة وبذل المعروف لإعلاء كلمة اللَّه وإظهار ما جاء به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الدين المتين والحق المبين.
(1) انظر: تجريد أسماء الصحابة (1/ ج).
(2)
كتب هنا في هامش "ظ": بلغ مقابلة.
(3)
رواه الترمذي رقم (2019) في البر والصلة باب ما جاء في اللعن والطعن.
(4)
القاموس (1/ 225)(جرح).
(5)
قوله: وشاهدا. . عطف على قوله: (فلانًا) وتقدير الكلام: وجرح شاهدا: أي أسقط عدالته.
ومع هذا (فقد نطق الوحي): أي القرآن المنزل على النبي المرسل.
(المبين): الواضح الكاشف والمظهر لسائر الأحكام والنصايح والمناقب والمثالب والمآثر والفضائح فنطق (بفضلهم) وبرهن عن حسن قصدهم واستقامة فعلهم.
(وفي) سورة (الفتح) الشريفة النازلة على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة من الهجرة بعد انصرافه من الحديبية وفيها كانت بيعة الرضوان، وكانوا أربعة (1) عشر مائة على المشهور.
(آي): جمع آية بهمزة ممدودة وتحتية مفتوحة فهاء تأنيث أصلها العلامة وتجمع أيضًا على آيات والآية من القرآن كلام متصل إلى انقطاعه وفي النهاية معنى الآي من كتاب اللَّه تعالى "جماعة حروف وكلمات، من قولهم: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم لم يدعوا وراءهم شيئًا، قال والآية في غير هذه العلامة" انتهى (2).
(للصحابة) الكرام رضوان اللَّه عليهم (تمدح): تثني عليهم بتعداد محاسنهم، والمدح هو الثناء باللسان على الجميل مطقًا أي سواء كان اختياريًا كالعلم (3) والكرم أو اضطراريًا كالحسن والجمال ولابد أن يكون على جهة التبجيل هذا معنى المدح لغة، ومعناه عرفًا اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل والإشارة بذلك لقوله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. .} [الفتح: 29] إلى آخر السورة.
وقد أخرج الترمذي عن عبد اللَّه بن مغفل رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ليبلغ الحاضر الغائب اللَّه اللَّه في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا
(1) كذا في النسختين والصواب أربع.
(2)
النهاية (1/ 87 - 88).
(3)
في الأصل العظيم والمثبت من "ظ" ولعله الصحيح.
بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى اللَّه ومن آذى اللَّه فيوشك أن يأخذه ومن أخذه اللَّه فيوشك أن لا يفلته" (1).
وأخرج الترمذي أيضًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعنة اللَّه على شركم"(2).
وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة بن الزبير: "يا ابن أختي أُمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم"(3).
وأخرج الترمذي من حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث لهم نورًا وقائدًا يوم القيامة"(4).
وذكر سعيد بن المسيب رحمه اللَّه تعالى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "سألت ربي عن اختلاف أصحابي من بعدي فأوحى إليّ يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء بعضها أقوى من بعض ولكل نور فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى"(5).
(1) الترمذي في المناقب رقم (3862)(ج 5/ 696) دون قوله: "ليبلغ الحاضر الغائب" وانتهى حديثه بقوله: "ومن آذى اللَّه فيرضك أن يأخذه" وهذه الرواية التي ذكرها المصنف أوردها ابن الأثير في جامع الأصول (8/ 553) وأشار إلى ما في الترمذي وقال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(2)
الترمذي في المناقب رقم (3866) وقال: هذا حديث منكر لا نعرفه من حديث عبيد اللَّه ابن عمر إلا من هذا الوجه والنضر مجهول وسيف مجهول.
(3)
مسلم رقم (3022) في التفسير.
(4)
الترمذي في المناقب رقم (3865) وقال: "هذا حديث غريب، وروى هذا الحديث عن عبد اللَّه بن مسلم أبي طيبة عن أبي بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وهو أصح".
(5)
رواه الخطيب في الكفاية (ص 48) وذكره السيوطي في الجامع الصغير ونسبه للسجزي في الإبانة وابن عساكر ورمز لضعفه. وانظر: السلسلة الضعيفة رقم (60).
وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" (1).
ذكره ابن الأثير في كتابه "جامع الأصول"(2).
فالصحابة أولى خلق اللَّه بالإصابة.
ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من كان متأسيًا فليتأسى بأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا وأقومها هديًا، وأحسنها حالًا، قوم اختارهم اللَّه لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوا آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"(3).
وروى أبو داود الطيالسي عنه أيضًا قال: "إن اللَّه تعالى نظر في قلوب العباد (فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد)(4) بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند اللَّه حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا
(1) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 90 - 91)، وقال: "وهذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وانظر السلسلة الضعيفة رقم (61).
(2)
جامع الأصول (ج 8/ 556) الطبعة الأولى (ج 9/ 409 - 410) الطبعة الثانية، وقال: أخرجه رزين.
(3)
رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (ج 2/ 97) والهروي في ذم الكلام كما في صون المنطق (ص 52) وذكره ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (2/ 76 - 77).
وعزاه لابن بطة، وأورده الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه "أصول الإيمان"(ص 20) وقال أخرجه رزين. وهو في جامع الأصول (ج 1/ 292 - ط 2)، و (ج 1/ 199 - ط 1) بدون عزو.
(4)
ما بين القوسين سقط من "ظ".
فهو عند اللَّه قبيح" (1). فخير قلوب العباد أحق الخلق لإصابة الصواب فكل خير، وإصابة، وحكمة، وعلم، ومعارف، ومكارم، إنما وصلت إلينا وعرفت لدينا من الرعيل الأول، والسرب الذي عليه المعول، فهم الذين نقلوا العلوم والمعارف عن ينبوع الهدى ونبع الاهتداء، وأوصلوها إلينا، فرضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين.
وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جلوسًا فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر وتمسكوا (بعهد) (2) عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه".
وفي رواية "تمسكوا بعهد ابن أم عبد واهتدوا بهدى عمار"(3).
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه.
وقال الترمذي حسن صحيح عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده رقم (246)(ص 33)؛ وأحمد في مسنده (1/ 379)؛ والبزار كما في كشف الأستار (3/ 114) مختصرًا، والطبراني في الكبير (9/ 118).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 179): رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون.
(2)
هذه رواية في المسند (5/ 385) ولم ترد بهذا اللفظ في بقية روايات الحديث فلعلها: "وتمسكوا بهدي عمار. . . " فتكون موافقة لبقية الروايات. واللَّه أعلم.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 382، 385، 399، 402) وفي فضائل الصحابة رقم (198، 478، 479، 526) وابن شاهين في السنة رقم (148)؛ والترمذي رقم (3662 - 3663)؛ والحاكم في المستدرك (3/ 75)؛ وابن حبان (موارد)(539) رقم (2193)؛ وابن أبي عاصم في السنة (2/ 545)؛ والحميدي في مسنده (1/ 214، 249)؛ وابن سعد في الطبقات (2/ 334).
وحسنه الترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1233).
قال له: "وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"(1).
ورواه أبو نعيم وقال: حديث جيد صحيح، فدل الحديث على أن سنة الخلفاء الراشدين مكتبة كاتباع سنته صلى الله عليه وسلم بخلاف غيرهم من ولاة الأمور.
والخلفاء الراشدون هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فإن في حديث سفينة رضي الله عنه: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا".
صححه الإمام أحمد وغيره، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (2).
وقد قدمنا أن الثلاثين سنة إنما تمت بمدة خلافة الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذلك أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه توفي في شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة والأكثرون على أن وفاته في سابع
(1) الإمام أحسد في المسند (4/ 126 - 127) وأبو داود في السنة رقم (4607) باب في لزوم السنة والترمذي رقم (2676) في العلم باب في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، وابن ماجة في المقدمة رقم (42 - 44) باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين.
وابن حبان في صحيحه (1/ 104)؛ والحاكم في المستدرك (1/ 95 - 96)؛ وابن أبي عاصم في السنة (1/ 17)؛ والدارمي في سننه (1/ 43 - 44)؛ وصححه الترمذي وكذا الحاكم ووافقه الذهبي وكذا الألباني في تخريج السنة.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 220 - 221) وفي فضائل الصحابة رقم (789) وابنه عبد اللَّه في السنة رقم (1348، 1400 - 1402 - 1405، 1407)؛ وأبو داود في السنة رقم (4646)؛ والترمذي في الفتن رقم (2226) والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (4/ 21)؛ والحاكم في المستدرك (3/ 71، 145)؛ وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 184).
وقال ابن عبد البر: قال الإمام أحمد بن حنبل حديث سفينة في الخلافة صحيح وإليه أذهب في الخلفاء" وحسنه الترمذي -أيضًا- وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
عشرة كما مر ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثاني عشر ربيع الأول فبينهما دون الثلاثين بنحو ستة أشهر.
وأخرج أبو يعلى الموصلي عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "مثل أصحابى مثل الملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح"(1) إذا علمت ذلك فيجب حب كل الصحابة رضوان اللَّه عليهم والكف عما جرى بينهم كتابة وقراءة واقراء وسماعًا وتسميعًا -كما في نهاية المبتدئين للعلامة ابن حمدان.
ويجب ذكر محاسنهم والترضي عنهم والمحبة لهم وترك التحامل على أحد منهم واعتقاد الحذر لهم وإنما فعلوا ما فعلوا باجتهاد سائغ لا يوجب كفرًا، ولا فسقًا، بل ربما يثابون عليه لأنه اجتهاد سائغ ثم قال: وقيل المصيب أمير المؤمنين على ومن قاتله فخطأوه معفو عنه.
وكان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ينكر على من خاض ويسلم أحاديث الفضائل، وقد تبرأ رضي الله عنه ممن ضللهم أو كفرهم، وقال: السكوت عما جرى بينهم أي أولى وأحرى. . . " (2).
تنبيه: الصواب وقوع التفاضل بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، فأفضلهم باعتبار الأفراد -كما مر- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وعلي رضي الله عنهم ثم بقية العشرة -كما مر-.
وأما باعتبار الأصناف فأفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقين من العشرة، ثم
(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده (5/ 151) رقم (2762)؛ وعبد اللَّه بن المبارك في الزهد (ص 200)؛ والبزار كما في كشف الأستار (ج 3/ 291) رقم (2771). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 180) فيه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف. وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم (1762).
(2)
انظر: لوامع الأنوار للشارح (2/ 387).
بقية البدريين، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية -في المختار- ثم بقية أصحاب أحد (1).
وفي نص القرآن تفضيل السابقين الأولين.
ولما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية روح اللَّه روحه عن المفاضلة بين العباس وبلال رضي الله عنهما قال: "بلال وأمثاله من السابقين الأولين أفضل من العباس وأمثاله من التابعين لهم بإحسان" قال: "لأنه قيد التابعين بشرط "الإحسان" قال: "والسابقون الأولون هم الذين اتفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وهم الذين آمنوا وهاجروا قبل بيعة الرضوان وصلح الحديبية في أصح قوله العلماء، وقال:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ. . .} [الحديد: 10] الآية.
والفتح هو صلح الحديبية على الأرجح وفيها نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] باتفاق.
وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم أفتح هو؟ فقال: نعم، قال ولهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم في إمارة غزوة مؤتة مولاه زيد بن حارثة على جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ابن عمه وكلاهما من السابقين لكن زيد أسبق" انتهى.
قلت: ومن فضل العباس على نحو بلال فلعله أراد بالقرابة والنسب ونصاعة العنصر والحسب، واللَّه تعالى الموفق.
تتمة: إنما خص الناظم رحمه الله ورضي عنه آيات الفتح بالذكر في مدح
(1) رجح المؤلف هنا وفي كتابه اللوامع (ج 3/ 366، 372) تقديم أهل بيعة الرضوان على أهل أحد، واستدل لذلك بالأدلة الواردة في فضل أهل بيعة الرضوان من الكتاب والسنة. وقدم ابن الصلاح في مقدمته في علوم الحديث وكذا العراقي في ألفيته في علوم الحديث وغيرهما أهل غزوة أحد على أهل بيعة الرضوان. انظر: التقييد والإيضاح (264) التبصرة والتذكرة (ج 3/ 23، 28) فتح المغيث (3/ 121).
الصحابة رضي الله عنهم أجمعين دون قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. . .} [آل عمران: 110] الآية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] و {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] و {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] مع أنها في الفتح فيحتمل إرادته لها أيضًا.
وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 8 - 9].
لعظيم ما اشتملت عليه من المعاني البديعة والمآثر الرفيعة والمزايا العظيمة، والمناقب الجسيمة، فإن قوله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] جملة مبنية للمشهود به في قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] إلى قوله: {شَهِيدًا} ففيها ثناء عظيم على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم ثنى بالثناء على أصحابه بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} .
كما قال تعالى في الآية الأخرى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
فوصفهم سبحانه بالشدة والغلظة على الكفار وبالرحمة والبر والعطف على المؤمنين والذلة والخضوع لهم ثم أثنى عليهم بكثرة الأعمال مع الإخلاص التام وسعة الرجاء في فضل اللَّه ورحمته وبابتغائهم فضله ورضوانه وبأن آثار ذلك الإخلاص وغيره من أعمالهم الصالحة ظهرت على وجوههم حتى أن من نظر إليهم بهره حسن سمتهم وهديهم.
ومن ثم قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه: "بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون واللَّه لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا"(1). ثم ذكر أنه تعالى نوه بذكرهم في الكتب السابقة والأمم السالفة فقال: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي فراخه {فَآزَرَهُ} أي أشده وقواه {فَاسْتَغْلَظَ} شب وطال {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} جمع ساق {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي يعجبهم قوته وغلظه وحسن منظره فكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطاء مع الزرع" (2).
{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} من هذه الآية الكريمة أخذ الإمام مالك رضي الله عنه -في رواية عنه- بكفر الروافض الذين يبغضون الصحابة قال لأن الصحابة يغيضونهم ومن غاضه الصحابة فهو كافر (3)؛ وهو مأخذ دقيق يشهد له ظاهر الآية.
ومن ثم وافقه الإمام الشافعي رضي الله عنه على القول بكفرهم كجماعة من الأئمة.
وقد قال الإمام أبو زرعة (الرازي)(4) إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب
(1) ذكره ابن كثير في تفسيره (ج 7/ 568).
(2)
انظر تفسير ابن كثير (ج 7/ 568).
(3)
انظر: تفسير ابن كثير (7/ 568)؛ والبغوي معه (ص 569) والقرطبي (ج 16/ 296 - 297).
(4)
في النسختين أبو زرعة العراقي وهو خطأ والتصحيح من المصادر وقد تقدمت ترجمة أبي زرعة (1/ 109).
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة، فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة فيكون الجرح يه أليق، والحكم عليه بالزندقة والكذب والعناد أقوم وأحق" (1).
وقال أبو محمد بن حزم: "الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعًا قال اللَّه تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101].
فثبت أن جميعهم من أهل الجنة، وأن لا يدخل أحد منهم النار؛ لأنهم المخاطبون بالآية الأولى التي أثبتت لكل منهم الحسنى وهي الجنة فلا يتوهم أن التقييد بالإنفاق والقتال فيها وبالإحسان في الذين اتبعوهم بإحسان يخرج من لم يتصف منهم بذلك لأن تلك القيود خرجت مخرج الغالب فلا مفهوم لها على أن المراد من اتصف بذلك ولو بالقوة أو العزم (2).
(1) أسنده الخطيب في الكفاية في علم الرواية (ص 49) عن أبي زرعة الرازي وأورده السخاوى في فتح المغيث (3/ 101) والمؤلف في لوامع الأنوار (2/ 388 - 389).
(2)
قول ابن حزم هذا أورده في كتابه "الفصل"(4/ 225 - 226)،
وفي كتابه "الأحكام في أصول الأحكام"(ج 5/ 90 - 91)،
وفي كتابه "الدرة فيما بجب اعتقاده"(ص 367 - 368).
ونقله عنه السخاوي في فتح المغيث (ج 3/ 103)؛ والمؤلف في لوامع الأنوار (2/ 389) باختصار.
خاتمة: صحبة النبي صلى الله عليه وسلم رتبة عظيمة ومزية فخيمة لا يعادلها شيء حتى جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن اللَّه اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين"(1).
ومن ثم لما سئل الإمام عبد اللَّه بن المبارك (2) مع فخامته وجلالته وسعة علمه وفضله أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز فقال: للغبار الذي دخل أنف فرس معاوية مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز كذا كذا مرة" (3).
أشار الإمام عبد اللَّه بن المبارك رضي الله عنه بذلك إلى أن فضيلة صحبته صلى الله عليه وسلم ورؤيته لا يعدلها شيء وإن جل، وباللَّه التوفيق.
ثم قال الناظم رحمه اللَّه تعالى: (ومن) بفتح الميم اسم موصول معطوف على قوله: وأنصاره والمهاجرون ديارهم بنصرهم عن ظلمة النار زحزحوا، أي والذين بعدهم أي بعد الصحابة الكرام رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار، وكذلك من كان منهم وجاء بعدهم أي بعد السابقين الأولين من الصحابة فإنهم عن ظلمة النار زحزحوا بفضيلة الصحبة لما قدمنا عن ابن حزم لأنه تعالى وعد كلًا منهم الحسنى، وكذا التابعون والصحابة من المهاجرين والأنصار من سائر الفرق.
(يحسن) متعلق بالتابعين (ما) اسم موصول بمعنى الذي، أي بحسن الذي (حذوا)؛ أي اقتفوا والعائد محذوف تقديره حذوه ويجوز أن تكون "ما" موصولًا
(1) رواه البزار كما في كشف الأستار (3/ 288 - 289) رقم (2763) بأطول مما هنا.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 16) رواه البزار، ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف.
(2)
عبد اللَّه بن المبارك تقدم (1/ 184).
(3)
أورده ابن كثير في البداية (8/ 139) عن ابن المبارك من طريقين بلفظ مختلف ونصه كما في أحدهما:
"سئل أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: "لتراب في منخري معاوية مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز" انتهى.
حرفيًا أي بحسن حذوهم باقتفائهم (1) وتتبع آثارهم والتأسي بقالهم وحالهم، ومنه حديث:"لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل"(2) أي تعملون مثل أعمالم كما تقطع أحد النعلين على قدر النعل الأخرى.
وفي القاموس: "حذا حذو زيد فعل فعله، واحتذى مثاله اقتدى به" انتهى (3). أي اقتفوا آثارهم وفعلوا (فعلهم) أي فعل الصحابة رضي الله عنهم (قولًا) باللسان (وفعلًا) بالجوارح والأركان واعتقادًا بالجنان (فأفلحوا) أي فازوا وظفروا بمقصودهم ونجوا وتنعموا في جنان الخلد ورضى معبودهم وتقدم معنى الفلاح في أول المنظومة فراجعه (4).
تنبيه: هذه الثلاثة أبيات وأولها قوله: "وعائش أم المؤمنين".
وثانيها: "وأنصاره والهاجرون (5) ديارهم".
وثالثها: "ومن بعدهم والتابعون. . . ":
ليست من كلام الناظم الذي هو الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي داود.
(1) في "ظ" باقتفاء سنتهم.
(2)
رواه الترمذي في الفتن رقم (2180) باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم عن أبي واقد الليثي، دون قوله:"حذو النعل بالنعل"، وقال في جامع الأصول (10/ 34) زاد رزين:"حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة. . . ".
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ورواه أيضًا عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليأتين علي أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل. . . " الحديث (ج 5/ 26) رقم (2641).
(3)
القاموس (4/ 317)(حذا).
(4)
انظر (1/ 181).
(5)
في "ظ" والمهاجرون.