الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في ذكر بعض قبائح أهل البدع والضلال وتماديهم مع الغي وارتكاب المحال
قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن بين نهج أهل الحق وسبيل أصحاب الاتباع والصدق، كأنه يقول قد بينا ما يجب اعتقاده مما خالفنا فيه أهل البدع فاحذر أن تقول بقولهم، وتعتقد اعتقادهم، فحيث علمت ذلك فالزم مذهب أهل الحق.
(ولا تكفرن) بضم التاء الفوقية وسكون الكاف وكسر الفاء وفتح الراء فهو مؤكد بالنون الخفيقة، أي لا تعتقد تكفير (أهل الصلاة) المعهودة التي هي أحد أركان الإسلام ومباني الدين (1). . . (*)(المحرم قتلها)(2).
والكفر ضد الإيمان وتفتح الكاف كالكفور والكفران بضمها، أي بضم الكاف فيهما.
وفي الحديث: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما"(3).
لأنه إما أن يصدق عليه أو يكذب، فإن صدق فهو كافر، وإن كذب عاد الكفر إليه بتكفيره أخاه المسلم.
(1) بعدها في "ظ"(الوريقة) كذا ولعلها الوثيقة.
ومن هنا والكلام الآتى ساقط من "ظ" إلى قوله فيما يأتي: والأحاديث في المعنى كثيرة جدًا. واللَّه أعلم. وقد أشرت إليه بنجمتين.
(2)
كذا في الأصل، وفي العبارة إشكال فلعل في الكلام سقطًا.
(3)
رواه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ، وأبو داود والترمذي عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما.
جامع الأصول (10/ 761 - 762).
قال في النهاية: "الكفر صنفان: أحدهما الكفر بأصل الإيمان وهو ضده، والآخر الكفر بفرع من فروع الإسلام فلا يخرج به عن أصل الإيمان".
قال: "وقيل الكفر على أربعة أنحا:
كفر إنكار بأن لا يعرف اللَّه أصلا ولا يعترف به.
وكفر جحود، ككفر إبليس يعرف اللَّه بقلبه ولا يقر بلسانه.
وكفر عناد، وهو أن يعترف بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به حسدًا وبغيًا ككفر أبي جهل وأضرابه.
وكفر نفاق، وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه.
قال الهروي (1) سئل الأزهري (2) عمن يقول بخلق القرآن أتسميه كافرًا؟
فقال الذي يقوله كفر فأُعيد عليه السؤال ثلاثًا، وهو يقول مثل ما قال، ثم قال في الآخر قد يقول المسلم كفرًا" (3).
(1) أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الهروي أبو عبيد الشافعي: العلامة اللغوي المؤدب، صاحب: الغريبين في الجمع بين غربتي القرآن والحديث من الكتب النافعة طبع الجزء الأول منه، مات سنة إحدى وأربع مائة.
سير أعلام النبلاء (17/ 146 - 147)؛ وفيات الأعيان (1/ 90).
(2)
الأزهري: محمد بن أحمد بن الأزهري طلحة الأزهري الهروي اللغوي الشافعي أبو منصور، كان رأسًا في اللغة والفقه، ثقة ثبتا دنيا، له كتاب: تهذيب اللغة المشهور؛ وكتاب التفسير؛ وكتاب تفسير ألفاظ المزني؛ وكتاب الأسماء الحسنى؛ وغيرها، توفي سنة سبعين وثلاثمائة.
سير أعلام النبلاء (16/ 315)؛ وطبقات السبكي (3/ 63).
(3)
انظر النص في لسان العرب (6/ 460)(كفر)؛ وفي النهاية لابن الأثير (4/ 186).
ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما قيل له: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. (قال هم كفرة)(1) وليسوا كمن كفر باللَّه واليوم الآخر" (2).
ومنه حديثه الآخر: "ان الأوس والخزرج ذكروا ما كان منهم في الجاهلية فثار بعضهم إلى بعض بالسبوف فأنزل اللَّه تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101] ولم يكن ذلك على الكفر باللَّه، ولكن على (تغطيتهم) (3) ما كانوا عليه من الألفة والمودة"(4).
ومنه حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا قال الرجل للرجل أنت لي عدو، فقد كفر أحدهما بالإسلام"(5) أراد كفر نعمته لأن اللَّه ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا فمن لم يعرفها فقد كفرها (6).
وفي الحديث الآخر: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء لكفرهن، قيل أيكفرن باللَّه؟ قال: لا ولكن يكفرن الإحسان ويكفرن العشير"(7)
(1) ليست في النسختين وأثبتناها من النهاية لابن الأثير (4/ 186) ومنه بنقل الشارح.
(2)
رواه عبد الرازق في تفسيره (1/ 191)؛ وعنه ابن كثير (3/ 163)؛ والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 367)؛ وانظر: المجموع المغيث (3/ 62)؛ والنهاية (4/ 186).
(3)
في الأصل: تعظيمهم والتصويب من المجموع المغيث؛ والنهاية لابن الأثر؛ ومشكل الآثار.
(4)
رواه الطحاوي في مشكل الآثار (1/ 367)؛ وأورده أبو موسى المديني في المجموع المغيث (3/ 61)؛ وابن الأثير في النهاية (4/ 186).
(5)
أورده ابن الأثير في النهاية (4/ 186).
(6)
النهاية (2/ 186).
(7)
رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد اللَّه بن عباس -رضي =
أي يجحدن إحسان أزواجهن" (1).
و (الأحاديث)(2) في المعنى كثيرة جدًا واللَّه أعلم* (3).
(وإن عصوا) بارتكاب الذنوب كبيرها وصغيرها ولو كانت تلك الذنوب (4)(و) المعاصي قتل النفوس (5) تعمدًا، خلافًا للخوارج والمعتزلة.
قال الحافظ العلامة شمس الدين محمد بن عبد الهادي الحنبلي (6) من بني قدامة في مناقب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس اللَّه روحه-: "أول خلاف حدث في الملة في الفاسق الملي هل هو كافر أو مؤمن؟
فقال الخوارج إنه كافر.
وقالت الجماعة إنه مؤمن.
= اللَّه عنهما.
جامع الأصول (6/ 173 - 174).
(1)
النهاية (4/ 187).
(2)
في الأصل: والحديث ولعل الصحيح ما أثبته.
(3)
من قوله فيما سبق: الصلاة المعهودة التي هى أحد أركان الإسلام ومباني الدين إلى هنا ليس في "ظ" وهو ما بين الدائرتين.
(4)
في "ظ" المعاصي.
(5)
في "ظ" زيادة النفوس المحرم قتلهم.
(6)
محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي الأصل ثم الصالحي الفقيه المحدث الحافظ الناقد المقرئ النحوي المتفنن شمس الدين أبو عبد اللَّه بن العماد أبي العباس ولد سنة أربع وسبعمائة، توفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة، وله مصنفات كثيرة.
انظر: ذيل طبقات الحنابلة (2/ 436 - 439)؛ وتذكرة الحفاظ (4/ 1508)؛ والمعجم المختص للذهبي (215)؛ والبداية (14/ 210).
وقالت طائفة المعتزلة هو لا مؤمن، ولا كافر، منزلة بين المنزلتين وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه فسموا معتزلة" (1).
وأما أهل السنة فلم يخرجوه من الإسلام، ولم يحكموا عليه بالخلود في النار، وإنما هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وهو في مشيئة اللَّه تعالى (2).
والخوارج يكفرون كل مرتكب لذنب ولو صغيرة، لأن عندهم كل ذنب كبيرة نظرًا لعظمة من عصي.
وكل كبيرة كفر، فصاحب الذنب عندهم يخرج من الإيمان ويدخل (في)(3) الكفر ويخلد في النار، قالوا لأنه لا يخلد في النار إلا الكفار، وعندهم من دخل النار لا يخرج منها أبدًا، وطريقة المعتزلة أن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين الكفر والإيمان، ومع ذلك يخلدونه في النار مع قولهم: إن مرتكبي الكبائر لسيوا بكفار، فوافقوا الخوارج في خلود مرتكبي الكبائر في النار وخالفوهم بقولهم: إنهم ليسوا بكفار ودخول النار عندهم جميعًا مشترط حيث لم يتوبوا قبل معاينة الموت.
والمعتزلة (من أول فرقة من فرق أهل الضلال)(4) بعد الخوارج أسسوا قواعد
(1) الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية. انظر: العقود الدرية (ص 234)؛ وانظر مجموع الفتاوى (3/ 182 - 183)؛ ولوامع الأنوار (1/ 72، 364).
(2)
وهذا هو مذهب أهل السنة. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 217)؛ وشرح العقيدة الطحاوية (ص 417) وما بعدها؛ وشرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد خليل هراس (ص 123 - 124)؛ وعقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني (ص 71 - 73)؛ وتيسير العزيز الحميد (ص 98).
(3)
ليست في "ظ".
(4)
العبارة كذا في النسختين ولعل الصحيح: والمعتزلة من أول فرق أهل الضلال .. إلخ.
الخلاف لما ورد به ظاهر السنة وجرى عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم في باب العقائد. .
وذلك أن رئيسهم واصل بن عطاء أبا حذيفة المعروف بالغزال المعتزلي مولى بني منبه، وقيل مولى بني مخزوم كان أحد البلغاء المتكلمين يجلس في حلقة الحسن البصري، وكانت الخوارج قد أظهرت القول بكفر مرتكبي الكبيرة، فقال واصل: إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، فأثبت منزلة بين منزلتين وألف كتابه:"المنزلة بين المنزلتين".
فقال له الحسن البصري -رحمه اللَّه تعالى-: اعتزل عنا فسموا المعتزلة (1).
وهم يسمون أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد لقولهم بوجوب الثواب للمطيع والعقاب على العاصي على اللَّه تعالى.
والتوحيد يعنون به نفي (2) الصفات القديمة عنه تعالى (3).
وفي تاريخ ابن خلكان (4) ذكر السمعاني (5) في كتاب الأنساب في ترجمة المعتزلي (6) أن واصل بن عطاء كان يجلس إلى الحسن البصري -رحمه اللَّه تعالى- فلما ظهر الاختلاف فقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبائر، وقالت الجماعة بأنهم
(1) وقد مضى هذا الخبر. انظر (1/ 193).
(2)
في "ظ" نفس وهو خطأ.
(3)
انظر أقوالهم هذه في الملل والنحل (1/ 42) وما بعدها.
(4)
تقدم (1/ 191).
(5)
تقدمت ترجمته (2/ 120).
(6)
يعني من ينسب إلى الاعتزال فيقال له: معتزلي. وانظر هذا الخبر في الأنساب (12/ 338 - 339)(المعتزلي)؛ وفي وفيات الأعيان (6/ 8).
مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر فخرج واصل بن عطاء عن الفريقين وقال: إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، منزلة بين منزلتين فطرده الحسن من مجلسه فاعتزل عنه وجلس إليه عمرو بن عبيد فقيل لهما ولأتباعهما (معتزلون)(1).
وذكر ابن خلكان في تاريخه أيضًا في ترجمة قتادة بن دعامة السدوسي البصري الأكمه وكان تابعيا عالمًا كبيرًا -قال: إنه دخل مسجد البصرة فإذا بعمرو بن عبيد ونفر قد اعتزلوا من حلقة الحسن البصري وحلقوا وارتفعت أصواتهم فأمهم وهو يظن أنها حلقة الحسن فلما صار معهم عرف أنها ليست هي فقال: إنما هؤلاء المعتزلة ثم قام عنهم فمنذ يومئذ سموا المعتزلة (2).
إذا علمت ما قررنا فالحق مذهب أهل الحق من أهل السنة والجماعة أن مرتكبي الكبائر في مشيئة اللَّه تعالى وعفوه لأن أصل الإيمان من التصديق باللَّه والمعرفة والإذعان موجود، فإذا مات مرتكب الكبيرة مصرًا على ذنبه فأمره مفوض إلى ربه وسعة رحمته (3).
(فكلهم): أي العباد إلا من عصمه اللَّه من المرسلين والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو حفظه من خواص الأولياء.
(يعصى): من العصيان خلاف الطاعة، يقال عصاه يعصيه عصيًا ومعصية وعاصاه فهو عاص، والمعصية تشمل الكبائر والصغائر.
(1) كذا في النسختين، وفي وفيات الأعيان، وفي الأنساب:(معتزلي).
(2)
وفيات الأعيان (4/ 85) وقد تقدم الخبر (ص 1/ 193).
(3)
ينبغي أن نضيف هنا: إن شاء عفى عنه وغفر له وإن شاء عذبه بقدر معاصيه، ثم يدخل الجنة إما بشفاعة الشافين، أو برحمة اللَّه وفضله، ولا يخلد في النار، وهذا هو مذهب أهل السنة والذي دلت عليه الأدلة.
فما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة فهو كبيرة.
وزاد شيخ الإسلام: "أو ورد في ارتكاب المعصية وعيد بنفى إيمان (أو لعن) (1) "(2).
وقيل: ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وما عدا ذلك فهو من الصغائر.
(وذو): أي صاحب.
(العرش): العظيم الذي هو أعظم المخلوقات وهو العالى عليها من جميع الجوانب.
(يصفح): من الصفح وهو الإعراض عن المؤاخذة.
وفي حديث أم المؤمنين عائشة الصديقة تصف أباها رضي الله عنهما: "صفوح عن الجاهلين"(3): أي كثير الصفح والعفو والتجاوز عنهم.
ومنه: "الصفوح" في صفة اللَّه تعالى (4) وهو العفو عن ذنوب العباد المعرض
(1) في "ظ" أو كفر.
(2)
انظر: الفتاوى المصرية (ص 483 - 486)؛ ومجموع الفتاوى (11/ 650) وما بعدها؛ واختاره شارح العقيدة الطحاوية (ص 418).
وانظر: كلام العلماء في تحديد الكبيرة في تفسير ابن كثير (2/ 427) عند قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]. ولوامع الأنوار للمؤلف (1/ 365).
(3)
ذكره ابن الأثير في النهاية (3/ 34)؛ وأبو موسى المدني في المجموع المغيث (2/ 273). وانظر: منال الطالب شرح طوال الغرائب لابن الأثير (ص 574).
(4)
ذكره ابن الأثير في النهاية (3/ 35) ولم أجد النص الذي يدل عليه.
عن عقوبتهم تكرمًا. كما في نهاية ابن الأثير (1) فالمولى الكبير يغفر الذنب الكبير، ولا يؤاخذ بالتقصير.
وقد ورد في الكتاب والسنة ما يؤيد ما ذهب إليه أهل الحق وأجمعوا عليه من الحق والصدق.
كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية (2)[البقرة: 178].
وفي ذلك يقول: "فمن عفي له من أخيه شيء" فأثبت له أخوة الإيمان (3).
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8].
وقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا. . .} [الحجرات: 9 - 10] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال وحوله عصابة من أصحابه: "بايعوني على أن لا تشركوا باللَّه شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفّي منكم فأجره على اللَّه ومن أصاب من ذلك شيئًا. . . (4) فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا
(1) النهاية (3/ 35).
(2)
وقد جاء في المخطوطتين: الآيتين وهي آية واحدة.
(3)
قال البغوي في تفسيره (1/ 395): "وفي الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافرًا بالقتل لأن اللَّه تعالى خاطبه بعد القتل بخطاب الإيمان فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وقال في آخر الآية: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} وأراد به أخوة الإيمان فلم يقطع الأخوة بينهما بالقتل انتهى.
(4)
هنا في الأصل: (ثم) وليست في "ظ" ولا في الأصول.
ثم ستره اللَّه فهو إلى اللَّه إن شاء عفى عنه وإن شاء عاقبه".
قال: فبايعناه على ذلك (1).
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى: "ابن آدم لو لقيتنى بقراب (2) الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك (3) بقرابها مغفرة"(4) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (5) وأبو عوانة (6) في مسنده من حديث أبي ذر.
(1) رواه البخاري (1/ 81) في الإيمان باب علامة الايمان حب الأنصار؛ وفي تفسير سورة الممتحنة (8/ 506)؛ ومسلم رقم (1709) في الحدود باب الحدود كفارات لأهلها.
(2)
قراب الأرض: أي بما يقارب ملاها. النهاية (4/ 34).
(3)
في "ظ": أتيتك.
(4)
أخرجه الترمذي رقم (3540) في الدعوات في أبواب فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة اللَّه لعباده عن أنس رضي الله عنه وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
وفي بعض النسخ حسن غريب. انظر تحفة الأحوذى (9/ 525) قلت وله شواهد منها ما في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه يأتي بعد قليل. وانظر تخريج الحديث في الفتوحات الربانية (7/ 283)؛ وفي السلسلة الصحيحة (ص 127، 128).
(5)
أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 19) رقم (12346)؛ وفي الصغير (2/ 20 - 21)؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 216): رواه الطبراني في الثلاثة وفيه إبراهيم بن إسحاق وقيس بن الربيع وكلاهما مختلف في توثيقه وبقية رجاله رجال الصحيح.
(6)
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد النيسابوري الأصل الإسفرائيني أبو عوانة صاحب المسند الصحيح الذي خرجه على صحيح مسلم من حفاظ الحديث وعلمائهم، وله فيه رحلة واسعة، مات سنة ست عشرة وثلاثمائة.
سير أعلام النبلاء (14/ 417).
ورواه أيضًا الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر (1).
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول اللَّه تعالى: من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بقرابها مغفرة"(2).
وأخرج الإمام أحمد من رواية أخشن السدوسي قال: دخلت على أنس رضي الله عنه فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم اللَّه لغفر لكم"(3).
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 147، 148، 153، 155، 167، 169، 172، 180) من طرق عن أبي ذر
ورواه ابن ماجة رقم (3821) في الأدب باب فضل العلم، والدارمي في الرقاق (2/ 230)؛ وابن حبان في صحيحه (1/ 462 - 463) رقم (226) والبغوي في شرح السنة (1253).
(2)
مسلم رقم (2687) في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى اللَّه بأتم منه.
(3)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 238)؛ والبخاري في التاريخ الكبير (2/ 65) في ترجمة أخشن السدوسي باختلاف في الرواية.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (7/ 226)(4226).
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 215) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات.
قلت: وفي سنده أخشن السدوسي لم يوثقه غير ابن حبان لكن للحديث شواهد صحيحه منها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسه بيده لو لم تذنبوا لذهب اللَّه بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اللَّه =
وقال صلى الله عليه وسلم: "من مات لا يشرك باللَّه شيئًا دخل الجنة"(1).
وقال: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا اللَّه دخل الجنة"(2).
وقال: "إن اللَّه حرم على النار من قال لا إله إلا اللَّه يبتغي بذلك وجه اللَّه"(3).
فالتوحيد أعظم أسباب المغفرة كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
فدلت الآية مع حديث أنس أن من جاء مع التوحيد بملء الأرض خطايا لقيه اللَّه بملئها مغفرة مع مشيئة اللَّه تعالى فإن شاء غفر له وإن شاء وأخذه بذنبه ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة.
قال بعض المحققين الموحد لا يلقى في النار، كما يلقى الكفار، ولا يبقى فيها كما تبقى الكفار (4).
= فيغفر لهم".
وعن أبي أيوب الأنصارى نحوه (مسلم ج 4) رقم (2748) و (2749).
(1)
رواه البخاري (3/ 133) في الجنائز في فاتحته رقم (1238) ومسلم رقم (92) في الإيمان باب من مات لا يشرك باللَّه شيئًا دخل الحنة.
(2)
رواه أحمد في المسند (5/ 233)؛ وأبو داود رقم (3116) في الجنائز باب في التلقين؛ والحاكم في المستدرك (1/ 351) وصححه ووافقه الذهبي. وانظر تخريج الحديث في إرواء الغليل للألباني رقم (687).
(3)
جزء من حديث رواه البخاري (1/ 618) رقم (425) في الصلاة باب المساجد في البيوت؛ ومسلم رقم (33) في الإيمان باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، وفي المساجد باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر عن عتبان بن مالك رضي الله عنه.
(4)
من قوله: فالتوحيد أعظم أسباب المغفرة إلى هنا من كلام ابن رجب.
انظر: جامع العلوم والحكم (3/ 247)؛ وأورده المؤلف في لوامع الأنوار (1/ 369 - 370).
فدل الكتاب والسنة واتفاق الفرقة الناجية على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد.
وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا} [النساء: 93].
ونظائر أمثالها من نصوص الوعيد كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23](1).
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
وكذا ما ورد من السنة كقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ (2) بها خالدًا مخلدًا في نار جهنم"(3).
ونظائره كثيرة.
فحمله قوم على المستحل فيكون كافرًا.
وأما من فعل هذه الأفعال من غير استحلال لم يلحقه وعيد الخلود وإن لحقه وعيد الدخول، وقد أنكر سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه هذا القول وقال: لو
(1) ولم ترد هذه الآية في "ظ".
وأورد قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا. . .} [النساء: 14].
(2)
يتوجأ: أي يضرب بها نفسه. جامع الأصول (10/ 217).
(3)
رواه البخاري (10/ 258) في الطب باب شرب السم والدواء به وما يخاف منه والخبيث، ومسلم رقم (109) في الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. عن أبي هريرة رضي الله عنه.
استحل ذلك ولم يفعله كان كافرا والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال من فعل كذا وكذا.
وقالت فرقة أخرى الاستدلال بنصوص الوعيد هذه مبني على ثبوت العموم، قالوا: وليس في اللغة ألفاظ عامة وقصدوا بذلك تعطيل هذه الأدلة عن استدلال الخوارج والمعتزلة بها، لكن ذلك يستلزم تعطيل جملة الشرع فردوا باطلًا بأبطل منه وأبطلوا بدعة بأقبح منها، فكانوا كمن رام أن يبني قصرًا فهدم مصرًا.
وقالت فرقة أخرى في الكلام إضمار فمنهم من قال بإضمار الشرط أي فجزاؤه كذا إن جازاه أو إن شاء.
ومنهم من قال بإضمار الاستثناء والتقدير: فجزاؤه كذلك إلا أن يعفو.
وقالت فرقة أخرى هذا وعيد واخلاف الوعيد لا يذم بل يمدح فيجوز على اللَّه إخلاف الوعيد لا إخلاف الوعد.
والفرق بينهما أن الوعيد حقه فإخلافه عفو وهبة وإسقاط ذلك منه من موجبات كرمه وجوده وإحسانه وامتنانه. والوعد أوجبه على نفسه بموعده واللَّه لا يخلف الميعاد.
ولهذا مدح به كعب (1) بن زهير رضي الله عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حيث قال:
(1) كعب بن زهير بن أبي سلمى المازني أبو المضرب شاعر عالي الطبقة كان ممن اشتهر في الجاهلية ولما ظهر الإسلام هجا النبي صلى الله عليه وسلم وأقام يشبب بنساء المسلمين فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، ثم ندم وجاء مستأمنًا، وقد أسلم وأنشده لاميته المشهورة التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.
فعفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبوه زهير وأخوه بجير وابنه عقبه وحفيده العوام كلهم شعراء، وله ديوان مطبوع، مات سنه 26 هـ.
الإصابة (8/ 289)؛ والبداية (4/ 368)؛ والأعلام (5/ 226)
نبئت أن رسول اللَّه أوعدني
…
والعفو عند رسول اللَّه مأمول (1).
و (2) كان قد تناظر في هذه المسألة أبو عمرو بن العلاء (3) أحد القراء السبعة وعمرو بن عبيد المعتزلي رفيق واصل بن عطاء فقال عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو لا يخلف اللَّه وعده وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء: 93] فقال أبو عمرو: ويحك يا عمرو من العجمة أتيت إن العرب لا تعد إخلاف الوعيد ذمًا، بل جودًا وكرمًا، أما سمعت قول الشاعر (4):
ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي
…
ولا أختتي (5) من صولة المتهددِ
وإني إن أوعدته أو وعدته
…
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
(1) البيت من لاميته المشهورة التي قالها يمدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم ويعتذر عما بدر منه وهو في ديوانه (ص 109).
(2)
في "ظ": وقد كان تناظر. . .
(3)
أبو عمرو بن العلاء: اسمه زبان على الأصح ابن عمار بن العريان، وقيل ابن العلا بن عمار بن عبد اللَّه بن الحصين المازني المقرئ النحوي البصري مقرئ أهل البصرة، ولد بمكة سنة ثمان وستين ونشأ بالبصرة، ومات بالكوفة وإليه انتهت الإمامة في القراءة بالبصرة، توفى سنة أربع وخمسين ومائة هـ.
معرفة القراء الكبار للذهبي (1/ 100)؛ ووفيات الأعيان (3/ 466)؛ والبداية (10/ 113).
(4)
البيتان لعامر بن الطفيل كما في لسان العرب (1/ 56)؛ وتاج العروس (1/ 207)(ختأ) و (وعد)
وانظر نص المناظرة في مجالس العلماء للزجاجي (ص 62 - 63)؛ وفي سير أعلام النبلاء (6/ 408 - 409).
(5)
في المخطوطتين: يختشي وصوابه من المصادر.
ومعنى أختتي: أذل وأخاف.
وعلى كل حال فقد قام الدليل على ذكر الموانع من إنفاذ الوعيد بعضها بالإجماع وبعضها بالنص، فالتوبة مانعة بالإجماع.
والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا من الموانع بالنص فلا تعطل هذه النصوص وأضعاف (أضعاف)(1) أضعافها. فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين.
ومن ثم قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات اعتبارًا لمقتضى العقاب ومنعه إعمالًا لأرجحها، وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما، وبناء الأحكام الشرعية، والأحكام القدرية وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلفًا وأمرًا، وقد جعل اللَّه تعالى لكل ضد ضدا يدافعه ومانعًا يمانعه، ويكون الحكم للأغلب منهما حكمة باهرة" (2). وقدرة قاهرة، تحير في مجاري تصاريفها العقول، وتعجز عن الإحاطة بتعاريفها النقول.
والحاصل واللَّه تعالى أعلم: كون المذنب الملي وإن كثرت ذنوبه وعظمت خطاياه في مشيئة مولاه إن شاء عافاه (3).
وعلى كل حال القول بخلود أهل التوحيد في النار يعد من المحن والوبال، وهو من شعار أهل البدع والضلال، والصواب اجتناب اعتقاده وعدم الالتفات إلى من
(1) كذا في المخطوطتين، وفي اللوامع (1/ 371) وأضعاف أضعافها بدون تكرار.
(2)
كذا في الأصل وفي "ظ": (بالغة).
(3)
كذا في النسختين، وفي اللوامع (1/ 371) إن شاء عذبه وإن شاء عافاه، ولعله الصحيح.
تمادى في جهله وعناده والتعويل على مذهب أهل الحق ووجوب اعتقاده وباللَّه التوفيق (1).
(1) ذكر المؤلف رحمه الله في هذا المبحث أقوال العلماء في الجمع بين نصوص الوعد والوعيد.
وأحسن ما قيل فيها ما ذكره النووي وأيده ابن كثير وابن حجر رحمهم الله. قال النووي: "وأما قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} .
فالصواب في معناها أن جزاءه جهنم وقد يجازى به وقد يجازى بغيره، وقد لا يجازى بل يعفى عنه، فإن قتل عمدًا مستحلًا له بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد يخلد في جهنم بالإجماع.
وإن كان غير مستحل، بل معتقدًا تحريمه فهو فاسق عاص مرتكب كبيرة جزاؤه جهنم خالدًا فيها، لكن تفضل اللَّه تعالى وأخبر أنه لا يخلد من مات موحدًا فيها، فلا يخلد هذا، ولكن قد يعفى عنه فلا يدخل النار أصلًا، وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاه الموحدين ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد في النار، فهذا هو الصواب في معنى الآية" انتهى.
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (28/ 83، 19/ 11، 2/ 125، 126)؛ وتفسير ابن كثير والبغوي (2/ 542) عند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا. . .} [النساء: 93]؛ وفتح الباري (3/ 269، 10/ 259، 13/ 37).
وانظر: مجموع الفتاوى (11/ 646 - 649، 8/ 270 - 271)؛ ونيل الأوطار (8/ 225 - 226، 236 - 237)؛ ولوامع الأنوار (1/ 368 - 371).
فصل في الكلام على الإيمان وبيان تباين أقوال الناس فيه وترجيح المستحق للرجحان بالدليل الثابت وإقامة البرهان
قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى- معتمدًا مذهب السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان: (وقل) بلسانك معتقدًا بجنانك مذعنًا بأركانك (إنما) أداة حصر.
(الإيمان): وهو لغة التصديق واصطلاحًا: تصديق الرسول فيما جاء به عن ربه.
وهذا القدر متفق عليه ثم وقع الاختلاف هل يشترط مع ذلك مزيد أمر من جهة إبداء هذا التصديق باللسان المعبر عما في القلب إذْ التصديق من أفعال القلوب، أو من جهة العمل بما صدق به من ذلك كفعل المأمورات وترك المحظورات، وهذا هو الذي اشتهر من مذهب السلف (1) ولذا قال: الإيمان عند السلف ومن نحا منحاهم من الخلف: (قول) باللسان فمن لم يقر وينطق بلسانه مع القدرة لا يسمى مصدقًا، فليس هو إذًا بمؤمن كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
(ونية): أي قصد إذْ النية هى القصد أي عقد بالجنان فمن تكلم بكلمة التوحيد غير جازم بها بقلبه إما مع الشك (والتردد)(2) وإما مع اعتقاده خلاف ما شهد به فهو منافق، وليس بمؤمن خلافًا للكرامية الزاعمين بأن الإيمان هو القول الظاهر
(1) هذا الكلام للحافظ ابن حجر. انظر: فتح الباري (1/ 60)؛ ونقله المؤلف في كتابه لوامع الأنوار (1/ 403).
(2)
في المخطوطتين (والترديد) ولعل الصحيح ما أثبتنا.
فعندهم الإيمان مجرد الكلمة، وإن لم يكن معتقدًا لها بقلبه، وإذا كان مصدقًا بقلبه غير ناطق بلسانه مع القدرة فهو غير مؤمن أيضًا عند سلف الأمة خلافا للجهمية ومن وافقهم من المتكلمة.
قال اللَّه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8].
فنفى تعالى الإيمان عن المنافقين وهذا يرد مذهب الكرامية فإن المنافق ليس بمؤمن وقد ضل من سماه مؤمنًا، وكذلك من قام بقلبه علم وتصديق وهو يجحد الرسول وما جاء به ويعاديه كاليهود وغيرهم ممن سماه اللَّه كافرًا ولم يسمهم مؤمنين قط ولا دخلوا في شيء من أحكام الإيمان فهم كفار خلافًا للجهمية ومن وافقهم في زعمهم أنهم إذا كان العلم في قلوبهم فهم مؤمنون كاملوا الإيمان حتى زعموا أن إيمانهم كإيمان النبيين والصديقين. وفي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يقلع شروش (1) هذا الضلال ويقمع رؤوس هذا الوبال ممن اتبع هواه وخالف مولاه.
كقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا. . .} الآية [النمل: 14].
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146].
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89].
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة.
(1) شروش: تقدم معناها (2/ 266).
(وفعل): بالأركان وهذا هو اللفظ الوارد عن السلف ولذا قال رحمه الله: (على قول النبي) صلى الله عليه وسلم (مصرح) به بالرفع صفة لفعل وما قبله من القول والنية.
قال البخاري في صحيحه: "الإيمان قول وعمل"(1).
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري بشرح البخاري: "هذا هو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك".
وقد روى مرفوعًا (2).
قال: والمراد بالقول: النطق بالشهادتين، وأما العمل فالمراد به ما هو من عمل القلب والجوارح ليدخل الاعتقادات (3) والعبادات ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه، إنما هو بالنظر إلى ما عند اللَّه تعالى فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان.
وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله ومن هنا نشأ عنهم (4) القول بزيادة
(1) البخاري (1/ 60 - 61) كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بني الإسلام على خمس".
(2)
رواه ابن ماجة في سننه (1/ 25 - 26) رقم (65) في المقدمة، باب في الإيمان؛ وابن بطة في الإبانة (2/ 795 - 796) رقم (1075)؛ والآجري في الشريعة (131)؛ والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 128 - 129) رقم (16)؛ وتمّام الرازي في فوائده (5 - 6)؛ والخطيب في التاريخ (10/ 343 - 344) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي إسناده عندهم عبد السلام بن صالح الهروي أبو الصلت.
قال البوصيري في زوائد ابن ماجة (1/ 12): "أبو الصلت هذا متفق على ضعفه واتهمه بعضهم".
وقد أشار الحافظ في الفتح إلى ضعفه. انظر فتح الباري (1/ 61).
(3)
في "ظ" الاعتقاد.
(4)
في "ظ" نشأ لهم.
الإيمان ونقصه كما يأتي بعد هذا.
والمرجئة (1) قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط.
والكرامية (2) قالوا: هو نطق به فقط.
والمعتزلة (3) قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد كالسلف (4).
والفرق بين المعتزلة وبين السلف: أن المعتزلة جعلوا الأعمال شرطًا في صحته والسلف جعلوها شرطًا في كماله وهذا بالنظر إلى ما عند اللَّه تعالى أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر إلا إن بإقرن بإقراره فعل يدل على كفره كالسجود للصنم، فإن كان
(1) سبق التعريف بالمرجئة (1/ 178).
(2)
سبق التعريف بالكرامية (1/ 138).
(3)
سبق التعريف بالمعتزلة (1/ 166).
(4)
قال ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية (ص 373):
"اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافًا كثيرًا، فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى أنه: تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان".
وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله:
أنه الإقرار باللسان والتصديق بالجنان.
ومنهم من يقول إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي.
وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط.
وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي أحد رؤساء القدرية إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب".
الفعل لا يدل على الكفر كالفسق: فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فعل فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته.
وأما المعتزلة فأثبتت الواسطة كما مر فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر" (1). انتهى.
وقال الحافظ ابن رجب (2) في "شرح الأربعين" وغيره:
"المشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان"(3).
وفي كتاب الأم للإمام الشافعي رضي الله عنه في باب النية: كان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون:
"الإيمان قول وعمل ونية ولا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر"(4).
قال الحافظ ابن رجب: "انكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارًا شديدًا، وممن أنكر ذلك على قائله وجعله محدثًا: سعيد (5) بن جبير،
(1) انظر: فتح الباري (1/ 61)؛ ولوامع الأنوار (1/ 404 - 405).
(2)
ابن رجب مضت ترجمته (1/ 177).
(3)
انظر: النص في جامع العلوم (1/ 61 - 62).
(4)
ذكر هذا النص عن الإمام الشافعي رحمه الله.
اللآلكائي في شرح السنة (5/ 886 - 887)؛ وابن تيمية في كتابه الإيمان (ص 197)؛ وابن رجب في جامع العلوم (1/ 62)؛ والمؤلف في لوامع الأنوار (1/ 405). لكن لم أجده في مظانه من كتاب الأم للشافعي.
(5)
مضت ترجمته (1/ 157).
وميمون (1) بن مهران، وقتادة (2)؛ وأيوب السختياني (3)؛ والنخعي (4)، والزهري (5)؛ ويحيى بن (أبي) كثير (6) وغيرهم" (7).
وقال الثوري: (8)"هو رأى محدث أدركنا الناس على غيره"(9).
وقال الأوزاعي: (10) "كان من مضى من السلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل فمن استكملهما استكمل الإيمان، ومن لم يستكملهما لم يستكمل
(1) مضت ترجمته (1/ 198).
(2)
مضت ترجمته (1/ 193).
(3)
أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني بفتح المهملة بعدها معجمة ثم مثناة ثم تحتانية وبعد الألف نون أبو بكر البصري، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العباد، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وله خمس وستون سنة.
تقريب (ص 41).
(4)
هو ابراهيم النخعي: مضى (2/ 192).
(5)
الزهري: مضى (1/ 156).
(6)
في المخطوطتين: يحيى بن كثير.
والمثبت من جامع العلوم وعنه ينقل المؤلف، ومن لوامع الأنوار للمؤلف (1/ 405).
وهو يحيى بن أبي كثير واسم أبيه صالح وقيل يسار أبو نصر الطائي مولاهم اليسامي الإمام الحافظ أحد الأعلام، مات سنة تسع وعشرين ومائة.
سير أعلام النبلاء (6/ 27).
(7)
جامع العلوم والحكم (1/ 62)؛ ولوامع الأنوار (1/ 405).
(8)
سفيان الثوري: مضت ترجمته (1/ 184).
(9)
رواه عبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (610)؛ وابن بطة في الإبانة (2/ 903)؛ والآجري في الشريعة (144)؛ واللآلكائي في شرح السنة (5/ 1004).
وذكره ابن رجب في جامع العلوم (1/ 62).
(10)
الأوزاعي: تقدم (1/ 140).
الإيمان" ذكره البخاري في صحيحه (1).
وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4].
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس: "آمركم بأربع: الإيمان باللَّه، وهل تدرون ما الإيمان باللَّه؟ شهاده أن لا إله إلا اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغانم الخمس"(2).
وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا اللَّه، وأدناها
(1) هكذا ذكر الشارح رحمه الله أن البخاري ذكره في صحيحه وليس كذلك، وإنما ذكر فيه أثرًا عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كتب إلى عدي ابن عدي: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسننًا فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.
وقد أورد ابن رجب الأثرين، وقال بعد إيراد الأثر عن عمر بن عبد العزيز ذكره البخاري في صحيحه.
انظر: جامع العلوم والحكم (1/ 62)؛ وفتح الباري (1/ 60).
والأثر عن الأوزاعي ذكره ابن رجب في جامع العلوم (1/ 62) مختصرًا، ورواه عنه اللآلكائي في شرح السنة رقم (1591)؛ وابن بطة في الإبانة رقم (1097) بلفظ أطول.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 157) في الإيمان باب أداء الخمس من الإيمان؛ ومسلم رقم (17) في الإيمان، باب الأمر بالإيمان باللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (1).
قال شيخ الإسلام -روح اللَّه روحه-: قال (أبو القاسم)(2) الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح الإرشاد لأبي المعالى (3) بعد أن ذكر قول أصحابه الأشاعرة من أن الإيمان مجرد التصديق.
وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها وعبروا عنه بأنه: إتيان ما أمر اللَّه فرضًا ونفلًا والانتهاء عما نهى عنه تحريمًا وأدبًا، قال: وبهذا كان يقول أبو علي الثقفي (4) من متقدمي أصحابنا وأبو العباس القلانسي (5).
(1) رواه البخاري (1/ 67) في الإيمان، باب أمور الإيمان؛ ومسلم رقم (35) في الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان. واللفظ لمسلم.
(2)
في المخطوطتين: (أبو قاسم) والمثبت من كتاب الإيمان لابن تيمية، ومن مصادر ترجمته.
وهو: سلمان بن ناصر بن عمران النيسابوري الشافعي تلميذ إمام الحرمين متكلم له تصانيف وشهرة وزهد وتعبد؛ شرح كتاب الإرشاد لأبي المعالي وغيره، مات سنة إحدى عشرة وخمسمائة.
سير أعلام النبلاء (19/ 412)؛ وطبقات السبكي (7/ 96).
(3)
أبو المعالي الجويني: مضت ترجمته (1/ 137).
واسم كتابه: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، مطبوع.
(4)
محمد بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب أبو علي الثقفي النيسابوري الشافعي: فقيه عابد زاهد واعظ، مولده سنة أربع وأربعين ومائتين، ومات سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
سير أعلام النبلاء (15/ 280)؛ وطبقات السبكي (3/ 192).
(5)
أبو العباس القلانسي: ذكره ابن عساكر في تبين كذب المفتري (ص 398) فقال: أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن ابن خالد القلانسي الرازي من معاصري أبي الحسن الأشعري =
وقد مال إلى هذا المذهب أبو عبد اللَّه بن مجاهد (1) وهذا قول مالك بن أنس (2) إمام دار الهجرة ومعظم أئمة السلف رضي الله عنهم فكانوا يقولون: الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان" (3). زاد بعض السلف من أهل السنة: واتباع السنة لأن العمل لا يكون محبوبًا للَّه تعالى إلا بذلك.
كما قال سهل بن عبد اللَّه التستري (4): "الإيمان قول وعمل ونية وسنة لأن الإيمان إن كان قولًا بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولًا وعملًا بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولًا وعملًا ونية بلا سنة فهو بدعة"(5).
قال شيخ الإسلام -روح اللَّه روحه-: "الإيمان الذي أصله في القلب لابد فيه من شيئين: تصديق القلب وإقراره ومعرفته، ويقال لهذا قول القلب، فإذا كان في القلب معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة فلا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة
= رحمه الله لا من تلامذته كما قال الأهوازي، وهو من جملة العلماء الكبار الأثبات واعتقاده موافق لاعتقاده في الإثبات (أي لاعتقاد الأشعري) انتهى.
ولم أجد له ترجمة في غيره من المصادر التي تيسر لي الإطلاع عليها.
(1)
أبو عبد اللَّه بن مجاهد: محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي البصري أبو عبد اللَّه صاحب أبي الحسن الأشعري وذو التصانيف الكثيرة في الأصول قدم من البصرة فسكن بغداد وعنه أخذ أبو بكر الباقلاني وكان دينًا صينًا خيرا.
وقد جعل الذهبي وفاته بعد الستين وثلاثمائة.
سير أعلام النبلاء (16/ 305)؛ والعبر (2/ 136).
(2)
سبقت ترجمته (1/ 177).
(3)
نهاية ما ذكره شيخ الإسلام بن تيمية. انظر كتابه الإيمان (138).
(4)
تقدمت ترجمته (1/ 118).
(5)
انظر: النص في كتاب الإيمان لابن تيمية (ص 163).
إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب" (1).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "القلب ملك والأعضاء جنوده"(2).
قال شيخ الإسلام: "لابد في الإيمان القلبي من حب اللَّه ورسوله وأن يكون اللَّه ورسوله أحب إليه مما سراهما، والمحبة تستلزم إرادة والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل فيمتنع أن يكون الإنسان محبًا للَّه ورسوله مريدًا لما يحبه اللَّه ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله.
فإذا لم يتكلم بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه اللَّه عليه.
ومن هنا يظهر خطأ قول جهم ومن وافقه حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعمله ثم جعلوا إيمان القلب هو الإيمان وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب اللَّه ورسوله ويعادي أولياء اللَّه ويوالي أعداء اللَّه ويقتل الأنبياء ويهدم المساجد ويهين المصاحف ويكرم الكفار ويهين المؤمنين.
قالوا: وهذه كلها معاصي لا تنافي الإيمان الذي في القلب، بل يفعل هذا وهو عند اللَّه مؤمن في الباطن.
(1) رواه البخاري (1/ 153) في الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه؛ ومسلم رقم (1599) في المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات عن النعمان بن بشير بلفظ أطول.
(2)
رواه عبد الرزاق في المصنف (11/ 221)؛ وعنه البيهقي في شعب الإيمان (1/ 350 - 351) ولفظه: القلب ملك وله جنود فإذا صلح الملك صلحت جنوده وإذا فسد الملك فسدت جنوده. . الحديث. وانظر: الإيمان لابن تيمية (ص 176 - 177).
قالوا: وإنما تثبت له في الدنيا أحكام الكافر، لأن هذه الأقوال والأفعال أمارة على الكفر فيحكم بالظاهر، كما يحكم بالإقرار والشهود، وإن كان الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وشهد الشهود به.
فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذبًا في الآخرة.
قالوا: هذا دليل على انتفاء التصديق، والعلم من قلبه والكفر عندهم شيء واحد وهو الجهل، والإيمان شيء واحد وهو العلم.
وربما قالوا: الكفر تكذيب القلب والإيمان تصديقه فإنهم متنازعون، هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو (1).
قال شيخ الإسلام: "وهذا القول مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان، فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام، قال وقد كَفَّرَ السلف كوكيع (2) بن الجراح والإمام أحمد وأبي عبيد (3) وغيرهم رضي الله عنهم من يقول بهذا القول".
وقالوا: إبليس كافر بنص القرآن، وإنما كفره باستكباره وامتناعه من السجود لآدم لا لكونه كذب خبرًا، وكذلك فرعون وقومه، قال اللَّه تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
وقال موسى عليه السلام لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102].
(1) انظر: الإيمان لابن تيمية (ص 176 - 178).
(2)
تقدم (1/ 291).
(3)
تقدم (1/ 213).
فموسى هو الصادق المصدوق يقول لفرعون؛ لقد علمت ما أنزل هؤلاء يعني الآيات البينات إلا رب السموات والأرض بصائر. فدل على أن فرعون كان عالمًا بأن اللَّه تعالى أنزل هذه الآيات، وهو من أكثر خلق اللَّه عنادًا وبغيًا وفسادًا لفساد إرادته وقصده لا لعدم علمه" (1).
قال شيخ الإسلام وهؤلاء غلطوا في أصلين:
أحدهما: أنهم ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة ومحبة وخشية، وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقًا، فإن أعمال القلوب التي يسميها بعض الصوفية أحوالًا ومقامات أو منازل السائرين إلى اللَّه أو مقامات العارفين أو غير ذلك كلما فيها مما فرضه اللَّه ورسوله فهو في الإيمان الواجب وكل ما فيه مما أحبه اللَّه ورسوله، ولم يفرضه فهو من الإيمان المستحب.
فالأول: لابد لكل مؤمن منه ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين.
والثاني: للمقربين السابقين.
والأصل الثاني: الذي غلطوا فيه: ظنهم أن كل من حكم الشارع أنه كافر مخلد في النار، فإنما ذاك لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق.
وهذا أمر خالفوا فيه الحس والعقل والشرع وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة وجماهير النظار فإن الإنسان قد يعرف الحق مع غيره ومع هذا يجحد ذلك لحسده إياه أو لطلب علوه عليه أو لهوى النفس، ويحمله ذلك على أن يعتدى عليه ويرد ما يقول بكل طريق وهو في قلبه يعلم أن الحق معه وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم وأنهم صادقون لكن الحسد وإرادة العلو والرياسة
(1) انظر: الإيمان لابن تيمية (ص 179).
وحبهم لما هم عليهم والفهم لما ارتكبوا أوجب لهم التكذيب والمعاداة لهم" (1).
فإن قلت: إذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر اللَّه به ورسوله صلى الله عليه وسلم فمتى ذهب بعض ذلك بطل الإيمان فيلزم تكفير أهل المعاصي كما هو قول الخوارج، أو تخليدهم في النار وسلبهم اسم الإيمان بالكلية كما هو قول المعتزلة، وكلا القولين باطل خبيث وهو شر من قول المرجئة، فإن من المرجئة جماعة من العباد والعلماء المذكورين عند (الأمة)(2) بخير.
وأما الخوارج والمعتزلة فأهل السنة من جميع الطوائف مطبقين على ذمهم.
فالجواب: أولًا ينبغى أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة، هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار فإن هذا القول من البدع المشهورة.
وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، واتفقوا على أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن يأذن اللَّه له بالشفاعة فيهم من عصاة الموحدين وأهل الكبائر من أمته" (3) كما تقدم (4).
"ومن بدع الخوارج الخارجة تكفيرهم المسلم بالذنب.
وسلب المعتزلة عنه اسم الإيمان فهو عندهم ليس بمسلم ولا كافر كما تقدم (5).
(1) الإيمان لابن تيمية (ص 179 - 180).
(2)
في "ظ" الأئمة.
(3)
السؤال والجواب من كلام شيخ الإسلام. انظر: الإيمان (ص 209) وسيأتي بقية الجواب.
(4)
انظر ما تقدم في الشفاعة (2/ 234) وما بعدها.
(5)
انظر ما تقدم (2/ 242).
وهذه بدع قبيحة مخالفة للسنة والصحابة والتابعين لهم ولأئمة السلف من أهل السنة والجماعة، والحق مذهب أهل الحق أنه مؤمن ناقص الإيمان فهو مؤمن، بإيمانه فاسق بمعصيته فلا يعطى الاسم المطلق من الإيمان ولا يسلب مطلق الاسم".
"وأما (1) قول القائل إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله فممنوع، وهذا مع كونه باطلًا فاسدًا ممنوعًا فهو الأصل الذي تفرعت منه البدع في الإيمان فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله.
ثم قالت الخوارج والمعتزلة: الإيمان هو مجموع ما أمر اللَّه به ورسوله وهو الإيمان المطلق -كما قاله أهل الحديث- قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء فيخلد في النار.
وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم لا يذهب من الإيمان شيء لا بارتكاب الكبائر ولا بترك الواجبات الظاهرة إذ لو ذهب منه شيء لم يبق منه شيء فيكون شيئًا واحدًا يستوى فيه -عندهم- البر والفاجر" (2).
ومذهب أهل الحق من السلف ومن وافقهم:
أن الإيمان يتفاضل فيزيد وينقص.
ولذا قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى-: (وينقص): أي الإيمان يعني إيمان العبد المؤمن.
(طورًا): أي حالًا ومرة ويجمع الطور على أطوار.
(1) و (2) هذا الكلام لشيخ الإسلام وهو تتمة جوابه عن السؤال الذي أورده، قبل قليل كما أشرت.
انظر: الإيمان (ص 210).
قال في القاموس: الطور: التارة (1).
وفي حديث سطيح: (2)"فإن ذاك الدهر أطوار دهارير"(3).
قال في النهاية: "الأطوار: الحالات المختلفة والتارات والحدود واحدها طور أي مرة ملك ومرة هلك ومرة بؤس ومرة نعم"(4).
(بالمعاصي): جمع معصية وهي ما يذم مرتكبها من كبيرة وصغيرة.
(وتارة): أي مرة ونوبة، قال في القاموس: التارة: المرة ترك همزها لكثرة الاستعمال والجمع تير" (5).
(بطاعته): أي العبد المؤمن من ذكر وأنثى.
(ينمو): أي يزيد، يقال نمى الشيء ينمو نموًا زاد وارتفع وكثر.
(وفي الوزن): أي الميزان.
(يرجح): ويثقل لزيادته بالطاعات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه شرح الإيمان والإسلام، مذهب أهل السنة والحديث على أن الإيمان يتفاضل وجمهورهم يقول: يزيد وينقص.
ومنهم من يقول: يزيد ولا يقول ينقص.
كما يروى عن الإمام مالك في إحدى الروايتين.
(1) القاموس (2/ 81) طور.
(2)
اسمه: ربيع بن ربيعة من كهان الجاهلية. (الأعلام 3/ 14).
(3)
انظر: البداية (2/ 269).
(4)
النهاية لابن الأثير (3/ 141 - 142).
(5)
القاموس (1/ 395).
ومنهم من يقتصر على القول بأنه يتفاضل كالإمام عبد اللَّه بن المبارك.
وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان في الإيمان عن الصحابة رضي الله عنهم ولم يعلم لهم فيه مخالف منهم، وقد نطق القرآن بالزيادة في الإيمان في عدة آيات كقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
قال شيخ الإسلام: "وهذا يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات ازداد قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانية من علم الإيمان ما لم يكن حتى كأنه لم يسمع الآية إلا حينئذ ويحصل في قلبه من الرغبة في الخير والرهبة من الشر ما لم يكن فيزداد علمه باللَّه ومحبته لطاعته وهذا زيادة الإيمان.
وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. فهذه الزيادة عند (تخويفهم)(1) بالعدو لم يكن عند آية نزلت فازدادوا يقينًا وتوكلًا على اللَّه وثباتًا على الجهاد وتوحيدًا بأن لا يخافوا المخلوق بل خافون اللَّه الخالق وحده.
وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124]. وهذه الزيادة ليست مجرد التصديق بأن اللَّه أنزلها بل زادتهم بحسب مقتضاها فإن كانت أمرًا بالجهاد وغيره ازدادوا رغبة فيه، وإن كانت نهيًا عن شيء انتهوا عنه فكرهوه.
ولهذا قال: {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} والاستبشار غير مجرد التصديق.
(1) في المخطوطتين (تخوفهم) والمثبت من كتاب الإيمان (ص 215) ومنه ينقل الشارح وهو الصواب.
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]. وهذه نزلت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من الحديبية فجعل السكينة موجبة لزيادة الإيمان، والسكينة هي الطمأنينة في القلب (1).
وقوله تعالى: {يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] هداه لقلبه زيادة في إيمانه، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] وقال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].
وقد روي من وجوه كثيرة شهيرة عن حماد بن سلمة (2) عن أبي جعفر (3) عن جده عمير (4) بن حبيب الخطمي -وهو من الصحابة رضي الله عنهم أنه قال: "الإيمان يزيد وينقص، قيل: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا اللَّه تعالى ووحدناه وسبحناه فتلك زيادته وإذ غفلنا ونسينا فذاك نقصانه"(5).
(1) كذا جاء هذا الكلام على هذه الآية عند المؤلف رحمه الله ولعله وهم منه أو أن في الكلام سقطًا، فهذا الكلام لشيخ الإسلام أورده بعد قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]. راجع الإيمان (ص 216).
(2)
تقدمت ترجمته (1/ 191).
(3)
أبو جعفر: إسمه عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب بن خماشة الأنصاري أبو جعفر الخطمي المدني نزيل البصرة، صدوق.
تهذيب التهذيب (8/ 151)؛ وتقريب (ص 266).
(4)
عمير بن حبيب بن خماشة بضم المعجمة وتخفيف الميم وبعدها معجمة ابن جويبر الأنصارى الخطمي صحابي ممن بايع تحت الشجرة وليست له رواية.
الإصابة (7/ 161).
(5)
الأثر رواه ابن أبي شيبة في الإيمان (ص 7)؛ وفي المصنف (11/ 13)؛ وعبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (624، 625)؛ والآجري في الشريعة (ص 111)؛ والبيهقي في =
وكذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "الإيمان يزيد وينقص"(1).
وروى سيدنا الإمام أحمد ثنا يزيد ثنا جرير في عثمان قال: سمعت أشياخنا أو بعض أشياخنا أن أبا الدرداء قال: "إن من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أنه يزداد إيمانه أم ينقص وأن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنى يأتيه"(2).
= شعب الإيمان رقم (55)؛ واللآلكائي في السنة رقم (1720 و 1721)؛ وابن سعد في الطبقات (4/ 381)؛ وابن بطة في الإبانة (1/ 845) رقم (1131)؛ والبغوي وابن شاهين كما في الإصابة (7/ 161).
تنبيه: وقع في هذه الرواية عن أبي جعفر عن جده عمير بن حبيب، وفي بعض الروايات عن أبيه عن جده عمير، ولعل هذه أصح كما جاء في رواية الإمام أحد، قال: قال عفان بن مسلم سمعت حمادًا عن عمير بن حبيب ليس فيه عن أبيه فقلت له: إنك حدثتني عن أبيه عن جده فقال أحسبه عن أببه عن جده، انتهى.
قلت: وفي التهذيب قال عبد الرحمن بن مهدي: كان أبو جعفر وأبوه وجده قومًا يتوارثون الصدق بعضهم عن بعض. انتهى.
راجع السنة لعبد اللَّه بن أحمد رقم (624 - 625) ورقم (680)؛ وتهذيب التهذيب (8/ 151).
(1)
الأثر رواه ابن ماجة في سننه رقم (75) في المقدمة وعبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (623)؛ واللآلكائي في شرح السنة رقم (1709) باب في الإيمان؛ وابن بطة في الإبانة رقم (1126)؛ والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 194 - 195).
وأورده ابن تيمية في الإيمان (ص 211)؛ والمؤلف في لوامع الأنوار (1/ 411).
وقال محقق شعب الإيمان: إسناده حسن.
(2)
رواه اللآلكائي في السنة رقم (1710) من طريق الإمام أحمد، وابن بطة في الإبانة رقم (849).
وقال محقق الإبانة رواه الإمام أحمد في الإيمان (ق 141/ 1)؛ وأورده ابن تيمية في الإيمان (ص 211) من رواية الإمام أحمد؛ وكذا المؤلف في لوامع الأنوار (1/ 411).
وروى إسماعيل بن عياش عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "الإيمان يزيد وينقص"(1).
وروى الإمام أحمد عن (ذر)(2) قال: "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه: "هلموا نزداد إيمانًا فيذكرون اللَّه عز وجل" (3).
وقال أبو عبيد (4) في "الغريب" في حديث علي رضي الله عنه: إن الإيمان يبدو لمظة في القلب كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة" (5).
(1) الأثر رواه عبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (622)؛ والآجري في الشريعة (ص 111)؛ واللآلكائي في السنة (1711)؛ وابن بطة في الإبانة رقم (1127 - 1128) كلهم من طريق إسماعبل ابن عياش عن صفوان بن عمرو عن عبد اللَّه بن ربيعة الحضرمي عن أبي هريرة به.
ورواه ابن ماجة رقم (74) في المقدمة، باب في الإيمان، واللآلكائي في السنة رقم (1712)؛ والآجري في الشريعة (ص 111)؛ وابن بطة في الإبانة رقم (1129 - 1130) كلهم من طريق إسماعيل ابن عياش عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن أبي هريرة وابن عباس به.
قال الشيخ ناصر الألباني في ضعيف ابن ماجة رقم (74): (ضعيف جدًا)، لكن الآثار بهذا عن السلف مستفيضة في كتب السنة. . . " انتهى.
(2)
في النسختين: عن أبي ذر رضي الله عنه، والمثبت من مصادر التخريج وهو الصحيح.
وذر هو ابن عبد اللَّه المرهبي بضم الميم وسكون الراء، مات قبل المائة.
مترجم في التقريب (ص 98).
(3)
الأثر رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 26)؛ وفي الإيمان (ص 36)؛ والآجري في الشريعة (ص 112)؛ واللآلكائي في شرح السنة رقم (1700)؛ وابن بطة في الإبانة رقم (1134)؛ وأورده ابن تيمية في كتابه الإيمان (ص 211) من طريق الإمام أحمد، قال الشيخ ناصر الألباني في الحاشية:"رجاله ثقات لكنه منقطع بين ذر عمر".
(4)
أبو عبيد القاسم بن سلام: تقدمت ترجمته (1/ 213).
(5)
رواه ابن أبي شيبة في الإيمان رقم (8) وفي المصنف (11/ 11) وأورده أبو عبيد في الإيمان =
قال الأصمعي (1): "اللمظة مثل النكتة أو نحوها"(2).
وفي نهاية ابن الأثير في حديث علي: "الايمان يبدو في القلوب لمظة" اللمظة بالضم مثل النكتة من البياض ومنه فرس ألمظ إذا كان بجحفلته بياض يسير" (3).
والجحفلة بتقديم الجيم على الحاء المهملة للخيل بمنزلة الشفة وهي خاصة بالخيل والبغال والحمير (4).
وروى الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن عكيم قال: سمعت ابن مسعود يقول في دعائه: "اللهم زدنا وإيمانًا ويقينًا وفقهًا"(5)
وصح عن عمار بن ياسر أنه قال: "ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان:
= أيضًا (ص 64 - 65)؛ وفي غريب الحديث (3/ 460).
ورواه ابن بطة في الإبانة رقم (1122).
قال محققه رواه أحمد في الإيمان (2/ 142).
ورواه اللالكائي في شرح السنة رقم (1701).
وذكره ابن تيمية في الإيمان (ص 211 - 212).
(1)
عبد الملك بن قرب بن عبد الملك أبو سعيد الباهلى البصري: علامة لغوي حافظ إخباري أديب أحد الأعلام مولده سنة بضع وعشرين ومائة، ووفاته سنة خمس عشرة ومائتين.
سير أعلام النبلاء (10/ 175)؛ وتقريب (ص 220).
(2)
انظر: النص في غريب الحديث لأبي عبيد (3/ 460).
(3)
النهاية لابن الأثير (4/ 271).
(4)
القاموس (4/ 357)(جحفل).
(5)
رواه عبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (797) عن أبيه؛ والآجري في الشريعة (ص 112)، وابن بطة في الإبانة رقم (1132)؛ واللآلكائي في السنة رقم (1704).
وأورده ابن تيمية في الإيمان (ص 212) من رواية الإمام أحمد.
وقال الحافظ ابن حجر رواه الإمام أحمد في الإيمان وإسناده صحيح.
فتح الباري (1/ 63).
إنصاف من نفسه، والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالم".
ذكره البخاري في صحيحه. (1).
وقال ابن عمر وجندب بن عبد اللَّه وغيرهما من الصحابة تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فأزددنا إيمانًا" (2).
والآثار في هذا كثيرة جدًا -كما قال شيخ الإسلام روح اللَّه روحه- رواها المصنفون لآثار الصحابة في هذا الباب (3) قال: (4) وزيادة الإيمان من وجوه منها الإجمال والتفصيل فيما أمروا به فإنه وإن وجب على جميع الخلق الإيمان باللَّه
(1) ذكره البخاري في صحيحه تعليقًا (1/ 103) في الإيمان، باب إفشاء السلام من الإسلام، ورواه أحمد في الإيمان؛ كما في فتح الباري (1/ 104)؛ وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (10/ 386)؛ وابن أبي شيبة في المصنف (11/ 48)؛ وفي الإيمان رقم (131)، واللآلكائي في السنة رقم (1713) موقوفًا على عمار؛ وقال الشيخ الألباني في تعليقه على كتاب الإيمان لاين تيمية (ص 212): "وقد وصله ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عمار موقوفًا؛ وقد روي مرفوعًا وله شواهد كما قال الحافظ في الفتح (1/ 104) انتهى.
(2)
ورد هذا الأثر عن جندب بن عبد اللَّه رواه ابن ماجة في سننه رقم (61) في المقدمة باب في الإيمان، وابن بطة في الإبانة رقم (1136)، قال محققه رواه أحمد في الإيمان (ق 142/ 1)؛ ورواه اللآلكلائي في السنة رقم (1715)؛ قال البوصيري في زوائد ابن ماجة (1/ 12):"إسناده صحيح رجاله ثقات"؛ وقد ذكره عن ابن عمر وجندب ين عبد اللَّه، ابن تيمية في الإيمان (ص 212)؛ ولم أجده بهذا اللفظ عن ابن عمر.
(3)
انظر من ذلك كتاب الإيمان لابن أبي شيبة، وكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام؛ والإبانة الكبرى (2/ 831) وما بعدها؛ وشرح السنة للآلكلائي (5/ 890) وما بعدها؛ وغير ذلك من كتب السلف في العقيدة.
وانظر كلام شيخ الإسلام هذا في كتابه الإيمان (ص 212).
(4)
يعني شيخ الإسلام ابن تيمية.
ورسوله، ووجب على كل أمة التزام ما يأمر (1) به رسولهم مجملًا، فمعلوم أنه لم يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله ولا يجب على كل عبد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره فمن عرف القرآن والسنن ومعانيهما لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لم يلزم غيره.
ولو آمن الشخص باللَّه والرسول باطنًا وظاهرًا ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين مات مؤمنًا بما وجب عليه من الإيمان وليس ما وجب عليه وما وقع منه مثل إيمان من عرف الشرائع فآمن بها وعمل بها بل إيمان هذا أكمل وجوبًا ووقوعًا.
وأما قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
فالمراد في (2) التشريع بالأمر والنهي لا أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة وأنه فعل ذلك، بل الناس متفاضلون في الإيمان أعظم تفاضل. ومنها الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم فمن طلب علم التفصيل وعمل به فإيمانه أكمل ممن عرف ما يجب عليه والتزم به وأقر به ولم يعمل بذلك كله، وهذا الشخص المقر المقصر في العمل إنْ اعترف بذنبه وكان خائفًا من عقوبة ربه على ترك العمل أكمل إيمانًا ممن لم طب معرفة ما أمر به الرسول، ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب، بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول مع أنه مقر بنبوته باطنًا وظاهرًا، فكل ما علم القلب بما جاء به الرسول فصدقه وما أمر به فالتزمه كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك، وإن كان معه إقرار عام وإلزام.
وكذلك من عرف أسماء اللَّه تعالى ومعانيها فآمن بها، كان إيمانه أكمل ممن لم
(1) في المخطوطتين (يؤمر به) والمثبت من كتاب الإيمان ص (219) وهو الصحيح.
(2)
في "ظ" بالتشريع؛ والمثبت من الأصل ومن الإيمان لابن تيمية (ص 219) ومنه ينقل المؤلف.
يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إيمانًا مجملًا أو عرف بعضها.
وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء اللَّه تعالى وصفات وآياته كان إيمانه أكمل.
ومنها أن العلم والتصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت وأبعد عن الشك والريب وهذا أمر مشهود لكل ذي لب كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد مثل رؤية الناس الهلال وإن اشتركوا فيها فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض وكذلك سماع الصوت وشم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام، فكذلك معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعدده.
(والمعاني)(1) التي يؤمن بها من معاني أسماء اللَّه تعالى وكلامه يتفاضل الناس في معرفة ذلك أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها.
ومنها أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله.
فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به فهذا علمه أوجب له محبة اللَّه تعالى وخشيته والرغبة فيما عنده من الرضوان والنعيم والجنة والهرب من النار.
والذي لم يعمل بعلمه لم يوجب له ذلك مع أن كلًا منهما يعلم أن اللَّه حق والرسول حق والجنة حق والنار حق، فعلم الأول أكمل لأن قوة المسبب تدل على قوة السبب.
وقد نشأت هذه الأمور عن العلم، فالعلم بالمحبوب يستلزم طلبه، والعلم بالمخوف
(1) في النسختين: للمعاني والمثبت من كتاب الإيمان لابن تيمية (ص 221) ومنه ينقل الشارح.
يستلزم الهرب منه، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ليس "المخبر" (1) كالمعاين (2) فإن موسى عليه السلام لما أخبره ربه أنّ قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم عاكفين على عبادته ألقاها. وليس ذلك لشك موسى في خبر اللَّه لكن المخبر وإن جزم بصدق الخبر فقد لا يتصور المخبر به في نفسه كما يتصوره إذا عاينه، ولهذا جعلوا اليقين ثلاثة أنواع: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
ومنها أن الأعمال الظاهرة والباطنة من الإيمان والناس يتفاضلون في ذلك عيانًا (3).
وعلى كل حال الناس متفاضلون في الإيمان تفاضلًا ظاهرًا لا يخفى على ذي حس وعلم.
ولهذا كان ما عليه سلف الأمة وجل الأئمة:
أن الإيمان: قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
قال الإمام عبد البر (4) في التمهيد: "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان
(1) في النسختين: "الخبر" والمثبت من الإيمان لشيخ الإسلام ومنه ينقل المؤلف.
(2)
رواه أحمد في المسند (1/ 215، 271) عن ابن عباس ولفظه: "ليس الخبر كالمعاينة" وتتمته: إن اللَّه عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت".
قال الشيخ ناصر الألباني في حاشية الإيمان لابن تيمية (ص 221): "رواه أحمد وغيره بسند جيد".
(3)
نهاية كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد نقله المؤلف ببعض التصرف والاختصار.
انظر: الإيمان (ص 219 - 222).
(4)
ابن عبد البر: سبقت ترجمته (1/ 119).
قول وعمل ولا عمل إلا بنية قال: والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن أبي حنيفة (1) وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانًا، قالوا إنما الإيمان التصديق والإقرار ومنهم من زاد المعرفة" (2) وذكر ما احتجوا به إلى أن قال: "وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم مالك (3)؛ والليث (4) بن سعد، وسفيان (5) الثوري، والأوزاعي (6)؛ والشافعي (7)؛ وأحمد بن حنبل (8)، وإسحاق (9) بن راهويه، وأبو عبيد (10) القاسم بن سلام، وداود بن علي الظاهري (11)؛ والطبري (12) ومن سلك سبيلهم قالوا: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة.
(1) تقدم (1/ 189) وانظر ما تقدم حول الخلاف في مسمى الإيمان (2/ 290 - 291).
(2)
انظر: التمهبد لابن عبد البر (9/ 238)؛ والإيمان لابن تيمية (ص 313).
(3)
تقدم (1/ 177).
(4)
تقدم (1/ 304).
(5)
تقدم (1/ 184).
(6)
تقدم (1/ 340).
(7)
تقدم (1/ 174).
(8)
تقدم (1/ 111).
(9)
تقدم (1/ 112).
(10)
تقدم (1/ 213).
(11)
داود بن علي بن خلف أبو سليمان البغدادي المعروف بالأصبهاني مولى أمير المؤمنين المهدى وليس أهل الظاهر فقيه حافظ علامة.
قال الخطيب: صنف الكتب وكان إمامًا ورعًا ناسكًا زاهدًا، مات سنة سبعين ومائتين.
تاريخ بغداد (8/ 369)؛ وسير أعلام النبلاء (13/ 97).
(12)
محمد بن جرير الطبري: تقدم (1/ 261).
وقالوا: كل ما يطاع اللَّه به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، قالوا: والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. قال: وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملى الإيمان -كما مر- ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"(1) الحديث: يريد مستكمل الإيمان ولم يرد به نفى جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر، إذا صلوا إلى القبلة وانتحلوا دعوة المسلمين من قراباتهم المؤمنين الذين ليسوا بتلك الأحوال" (2).
ثم قال: وعلى أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية جماعة أهل الآثار والفقهاء أهل الفتيا في الأمصار.
قال: "وهذا مذهب الجماعة من أهل الحديث والحمد للَّه"(3).
ثم رد على المرجئة وعلى الخوارج والمعتزلة بالموارثة وبحديث عبادة بن الصامت "من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له"(4).
وقال: الإيمان مراتب بعضها فوق بعض فليس ناقص الإيمان ككامله، قال اللَّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ
(1) رواه البخاري (5/ 143) رقم (2475) في المظالم، باب النهي بغير إذن صاحبه؛ ومسلم في الإيمان رقم (57) عن أبي هريرة، ورواه البخاري والنسائي عن ابن عباس -أيضًا-.
انظر: جامع الأصول (11/ 712).
(2)
انظر: التمهيد (9/ 243) ونقله عنه شيخ الإسلام في الإيمان (ص 313 - 314).
(3)
التمهيد (7/ 252)؛ والإيمان لابن تيمية (ص 314).
(4)
رواه البخاري (1/ 81) رقم (18) في الإيمان؛ ومسلم رقم (1709) في الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها.
زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] إلى قوله: {حَقًّا} أي هم المؤمنون حقًا.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا" رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (1).
وروى الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم خياركم لنسائهم"(2) إلي غير ذلك من الأحاديث.
ومعلوم أن هذا لا يكون أكمل حتى يكون غيره أنقص منه وقوله صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان الحب في اللَّه" رواه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (3).
(1) رواه أحمد في المسند (2/ 250، 472، 527) وعنه ابنه عبد اللَّه في السنة رقم (747)؛ وابن أبي شيبة في المصنف (8/ 327 - 828)(11/ 27)؛ وفي الإيمان (ص 8) وأبو داود رقم (4582) في السنة، والترمذي رقم (1162) في الرضاع باب ما جاء في حق المرأة على زوجها؛ وابن حبان في صحيحه الإحسان (6/ 188)؛ والحاكم (311)؛ والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 160 - 161).
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وقال الألباني في حاشية الإيمان لابن أبي شيبة: حديث صحيح وإسناده حسن.
ولمزيد التفصيل راجع السلسلة الصحيحة رقم (284).
(2)
هذه رواية الترمذي. انظر: تخريج الحديث قبل قليل.
(3)
رواه الطبراني في الكبير (11/ 215).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 70) رواه أبو يعلى والطبراني وفيه حسين بن قيس الرحبي وهو ضعيف وذكره الألباني في الصحيحه من رواية الطبراني وقال: "وهذا إسناد =
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له"(1).
فهذه الأحاديث تدل على أن بعض الإيمان أوثق وأكمل من بعض" (2).
وكذلك ذكر أبو عمر الطلمنكي (3) إجماع أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل ونية (4).
قال شيخ الإسلام: "ولما صنف الفخر الرازي (5) " مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه ذكر قوله في الإيمان: أنه إقرار باللسان وعقد بالجنان وعمل بالأركان (6) كقول الصحابة والتابعين.
= واه لكن له شواهد تدل على أن له أصلا من حديث عبد اللَّه بن مسعود والبراء ابن عازب.
ثم ذكر من أخرجها وقال: فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل" واللَّه أعلم.
الصحيحة رقم 1728.
(1)
رواه أحمد في المسند (3/ 154، 251) وابن أبي شيبة في الإيمان رقم (7)؛ وابن حبان (194)؛ ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/ 470 - 471) من طرق عن أنس وأورده ابن تيمية في الإيمان (ص 11).
قال الشيخ الألباني في الحاشية: "رواه أحمد وغيره من طرق وهو حديث صحيح".
(2)
نهاية ما أورده شيخ الإسلام ابن تيمية من كلام ابن عبد البر في التمهيد. انظر: التمهيد لابن عبد البر (9/ 245)؛ والإيمان لابن تيمية (ص 315).
(3)
أحمد بن محمد بن عبد اللَّه بن أبي عيسى المعافري الأندلسي الطلمنكي -أبو عمر- الإمام المقرئ المحقق المحدث الحافظ الأثري، قال الذهبي: كان من بحور العلم أدخل الأندلسي علمًا جمًا نافعًا وكان عجبًا في حفظ علوم القرآن. . . صنف كتبًا كثيرة في السنة يلوح فيها فضله وحفظه وإمامته واتباعه للأثر"، مات سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
سير أعلام النبلاء (17/ 566)؛ ترتيب المدارك (8/ 82)؛ الصلة لابن بشكوال (1/ 44 - 45).
(4)
ذكره عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الإيمان (ص 315) وزاد فيه "وإصابة السنة".
(5)
سبقت ترجمته (1/ 186).
(6)
انظر: مناقب الشافعي للفخر الرازي (ص 130) وقد أيد ما ذهب إليه الشافعي في هذا =
(استشكل قول الشافعي جدًا لأنه كان فد انعقد في نفسه شبهة)(1) أهل البدع في الإيمان من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكرامية وسائر المرجئة وهو أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله".
قال شيخ الإسلام: "لكن الرازي لم يذكر إلا ظاهر شبهتهم".
وأجاب شيخ الإسلام -قدس اللَّه روحه-: بأنه يسلم له أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعه كما كانت لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر أجزائها" (2).
-يعني كبدن الإنسان إذا ذهب منه أصبع أو يد أو رجل ونحو ذلك لم يخرج عن كونه إنسانًا بالاتفاق، وإنما يقال له إنسان ناقص- (3).
والشافعي كسائر السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان والأئمة المقتدى بهم يقولون: إن الذنب يقدح في كمال الإيمان، ولهذا نفى الشارع الإيمان عن هؤلاء كالزاني والسارق وشارب الحمر ونحوهم، فإن ذلك المجموع الذي هو الإيمان الكامل لم يبق مجموعًا مع الذنوب لكن يقولون: بقى (4) بعضه إما أصله، وإما أكثره وإما غير ذلك فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى بعضه.
= الموضع واستدل له ببعض الآيات. لكنه عاد في موضع آخر (ص 145 - 146) فاستشكل ذلك كما أشار شيخ الإسلام.
(1)
جاءت هذه العبارة التي بين القوسين في النسختين كذا: (استكمل الرازي قول الشافعي جدا ورد شبهة أهل البدع في الإيمان. . .). وما أثبت من كتاب الإيمان لابن تيمية (ص 386) ومنه ينقل المؤلف ومن لوامع الأنوار للمؤلف أيضًا (1/ 417) وهو الصحيح.
(2)
انظر: الإيمان (ص 386).
(3)
هذا التوضيح من كلام الشارح والكلام بعده لشيخ الإسلام.
(4)
في "ظ": نفي.
ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة، لأنهم يزعمون أنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إن كان متبعضًا متعددًا عند من يقول بذلك وهم الخوارج والمعتزلة.
وأما الجهمية فهو واحد عندهم، فلا يقبل التعدد فيثبتون واحدًا لا حقيقة له كما قالوا مثل ذلك في وحدانية الرب عز وجل ووحدانية صفاته عند من أثبتها منهم.
والأصل الذي أوقعهم في هذا اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الكفر وبعض الإيمان أو ما هو كفر وما هو إيمان. وزعموا أن هذا متفق عليه بين المسلمين كما ذكر ذلك أبو حسن الأشعري وغيره من النظار (1).
ولأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة، بل وصرح غير واحد بكفر من قال بقول جهم في الإيمان (2).
قال شيخ الإسلام: وقد قال لي بعضهم مرة الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان فقلت له: قولك من حيث هو كقولك (الإنسان)(3) من حيث (هو)(3) إنسان، و (الحيوان)(3) من حيث (هو)(3) حيوان و (الوجود)(3) من حيث هو وجود فتثبت (4) لهذه المسميات وجودًا مطلقًا عن جميع القيود والصفات
(1) انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 214 - 217).
(2)
انظر: الإيمان لشيخ الإسلام (ص 387).
(3)
ما بين الأقواس زيادة من كتاب الإيمان لابن تيمية (ص 388) ومنه ينقل المؤلف وبها يتضح الكلام.
(4)
في النسختين: فثبت لهذه المسميات وجودًا مطلقًا.
والمثبت من كتاب الإيمان لابن تيمية (7/ 405) ضمن مجموع الفتاوى وهو الصحيح.
وهذا لا حقيقة له في الخارج وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه كما يقدر موجودًا لا قديمًا ولا حادثًا ولا قائما بنفسه ولا بغيره والماهيات من حيث هي هي شيء يقدر في الأذهان لا في العيان.
وهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن بل هو مجرد عن كل قيد، بل ما تم إيمان في الخارج إلا مع المؤمنين كما لا (1) ثم إنسانية في الخارج إلا ما أتصف بها الإنسان.
فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو، وليست هي هي والاشتراك إنما هو في أمر كلي مطلق يوجد في الأذهان دون الأعيان، فلا وجود له في الخارج إلا في ضمن أفراده، فإذا قيل إيمان زيد مثل إيمان عمرو فإيمان كل واحد يخصه، وذلك الإيمان يقبل الزيادة والنقصان، ومن نفى التفاضل تصور في نفسه إيمانًا مطلقًا كما يتصور إنسانًا مطلقًا، ووجودًا مطلقًا عن جميع الصفات المعينة له ثم يظن أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس، وذلك لا يقبل التفاضل بل لا يقبل في نفسه التعدد إذْ هو تصور معين قائم في نفس متصوره.
ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة في الشخص والعين حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علمًا وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود وتصوروا هذا في أنفسهم فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم ثم ظنوا أنه اللَّه تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا".
فجعلوا رب العالمين هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصوره لا
(1) في "ظ" كما ما ثم.
يكون في الخارج أبدًا وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا (1) أعدادًا مجرده وحقائق مجرده ويسمونها المثل الأفلاطونية وزمانًا مجردًا عن الحركة والمتحرك، وبعدًا مجردًا عن الأجسام وصفاتها ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج".
قال: "وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في أذهانهم بما في الأعيان"(2). وتولد من هذا بدع ومفاسد كثيرة واللَّه المستعان.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: "ذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص وأنكر ذلك أكثر المتكلمين".
قال الإمام النووي: "والأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصديق أقوى من إيمان غيره بحيث لا تعتريه الشبهة (3) ".
قال (4)(ويؤيده) أن كل واحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى أنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلًا منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها".
وما نقل عن السلف يعني أن الإيمان يزيد وينقص صرح به عبد الرزاق (5) في
(1) في "ظ": تصور أعداد، والمثبت من الأصل ومن الإيمان لابن تيمية (ص 389).
(2)
نهاية كلام شيخ الإسلام في كتابه الإيمان (ص 389).
(3)
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 148 - 149) ونقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 61).
(4)
الظاهر أن الكلام للحافظ ابن حجر. انظر: الفتح (1/ 61). وفي النسختين ويزيده والمثبت من الفتح وهو الصحيح.
(5)
عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم أبو بكر الصنعاني: إمام محدث ثقة حافظ =
مصنفه عن سفيان الثوري (1)؛ ومالك بن أنس (2)؛ والأوزاعي (3)؛ وابن جريج (4)؛ ومعمر (5)؛ وغيرهم وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم.
وكذا نقله أبو القاسم اللآلكائي (6) في كتاب السنة عن الشافعي (7)، وأحمد (8) بن حنبل، وإسحاق بن راهويه (9)؛ وأبي عبيد (10)؛ وغيرهم من الأئمة (11).
و (يروى)(12) بسند صحيح عن البخاري (13) قال: لقيت أكثر من ألف
= مصنف شهير، مات سنة إحدى عشرة ومائتين.
سير أعلام النبلاء (9/ 563)؛ وتقريب (ص 213).
(1)
تقدم (1/ 184).
(2)
تقدم (1/ 177).
(3)
تقدم (1/ 340).
(4)
ابن جريج: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح الأموي مولاهم المكي فقيه ثقة فاضل، مات سنة خمسين ومائة أو بعدها.
سير أعلام النبلاء (6/ 325)؛ وتقريب (ص 219).
(5)
معمر بن راشد الأزدي مولاهم أبو عروة البصري: نزيل اليمن، محدث ثقة ثبت فاضل، مات سنة أربع وخمسين ومائة.
سير أعلام النبلاء 7/ 5، وتقريب ص 344.
(6)
اللآلكائي: تقدم (1/ 271).
(7)
الشافعي: تقدم (1/ 174).
(8)
أحمد: تقدم (1/ 111).
(9)
تقدم (1/ 112).
(10)
تقدم (1/ 213).
(11)
انظر: شرح السنة للآلكائي (ص 848) وما بعدها.
(12)
كذا في المخطوطتين وفي فتح الباري: وروى بسنده الصحيح -يعني اللآلكائي-.
(13)
تقدم (1/ 177).
رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص (1) وأطنب ابن أبي حاتم (2) واللآلكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحاية والتابعين وكل من يدور عليه الإجماع من الأئمة (3)، وحكاه فضيل بن عياض (4)، ووكيع (5)، عن أهل السنة" (6).
وقد روى الإمام أحمد في المسند من حديث معاذ بن جبل مرفوعًا: "الإيمان يزيد وينقص"(7).
وأخرجه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا أيضًا (8).
(1) انظر: شرح السنة (ص 889)؛ وفتح الباري (1/ 61).
(2)
تقدم (2/ 186).
(3)
انظر: شرح السنة (ص 848) وما بعدها.
(4)
تقدم (1/ 185).
(5)
تقدم (1/ 291).
(6)
انظر: شرح السنة (ص 957) وما بعدها؛ وفتح الباري (1/ 61 - 62)؛ والإبانة (2/ 813)؛ والشريعة (ص 117)؛ والسنة لعبد اللَّه بن أحمد رقم (726).
(7)
عزاه العجلونى في كشف الخفاء (1/ 22) إلى الإمام أحمد وقد راجعت فهارس المسند فلم أجده بهذا اللفظ لكن جاء فيه عن معاذ بن جبل مرفوعًا: "إن الإسلام يزيد ولا ينقص". المسند (5/ 230، 236).
وقد رواه بهذا اللفظ الديلمي في الفردوس رقم (377)؛ والدارقطني، ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 129 - 130)؛ والسيوطي في اللآلي المصنوعة (1/ 36) قال ابن الجوزي: وفي إسناده عمار بن مطر قال أبو حاتم الرازي: كان عمار يكذب، وقال ابن عدى: منكر الحديث أحاديثه بواطيل" انتهى.
(8)
رواه الديلمي كما في الفردوس (ج/ 1) رقم (373)؛ وابن عدي في الكامل (1/ 203) في ترجمة أحمد بن محمد بن حرب، وعنه الذهبي في ترجمته أيضًا في الميزان (1/ 134)؛ =
وتقدم ما نقلناه من الآثار عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين من أهل السنة والجماعة المعتبرين وأئمة الحدث وأعلام علماء الصوفية أهل المعرفة والتمكين بأن الإيمان قول باللسان وعقد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة ويضعف بالعصيان واللَّه ولي الإحسان (1).
ولما ذكر الناظم -رحمه اللَّه تعالى- الإيمان وأنه قول وفعل ونية وأنه يزيد وينقص بعد نهيه عن القول بتكفير أهل الصلاة وإن اقترفوا كبائر الذنوب أردف ذلك بالنهي عن اعتقاد رأى الخوارج فقال: (ولا تعتقد) بجنانك. . . (2)(رأى الخوارج): جمع خارج وأصلهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفارقوه
= وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 130)؛ والسيوطي في اللآلي (1/ 36 - 37)؛ وابن عراق في تنزيه الشريعة (1/ 150)؛ والشوكاني في الفوائد المجموعة (ص 450).
قال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفيه آفتان: أحمد بن محمد ابن حرب، قال ابن عدي وابن حبان: كان كذابًا يضع الحديث وابن حميد كذّبه أبو زرعة وابن واره وغيرهما" انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله في المنار المنيف (ص 119): "وكل حديث فيه: "إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص" فكذب مختلق.
وقابل من وضعها طائفة أخرى فوضعوا أحاديث على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان يزيد وينقص".
وهذا كلام صحيح وهو إجماع السلف، حكاه الشافعي وغيره، ولكن هذا اللفظ كذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . " انتهى.
وقال الفيروزآبادي في خاتمة سفر السعادة (ص 148): "باب الإيمان وما هو مشهور كالإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، والإيمان لا يزيد ولا ينقص، لم يثبت عن حضرة الرسالة في هذا المعنى شيء وهو من أقوال الصحابة والتابعين" انتهى.
(1)
انظر: هذا المبحث في لوامع الأنوار (1/ 419 - 420).
(2)
بعدها في "ظ": ولا تقل بلسانك.
بسبب التحكيم كما مر وكانوا اثنى عشر ألفًا فأرسل إليهم ابن عباس رضي الله عنهما فجادلهم ووعظهم فرجع بعضهم وأصر على المخالفة آخرون.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق"(1) فقتلهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وطائفته وقال صلى الله عليه وسلم في حق الخوارج المارقين: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند اللَّه تعالى لمن قتلهم يوم القيامة"(2).
وقد روى مسلم أحاديثهم في صحيحه من عشرة أوجه (3).
واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتالهم وفرح علي بقتالهم وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره به (4).
ولما قيل له رضي الله عنه: الحمد للَّه الذي أراح (5) منهم العباد قال: كلا والذي نفسي بيده إن منهم لفي أصلاب الرجال، وإن منهم لمن يكون مع الدجال (6).
(1) و (2) رواه البخاري (6/ 714) في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام؛ ومسلم رقم (1064) في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم من حديث أبي سعيد الخدري -رضى اللَّه عنه- وهذه الرواية لمسلم.
(3)
انظر: صحيح مسلم (2/ 740) وما بعدها.
(4)
انظر: أحاديث الخوارج في جامع الأصول (10/ 76) وما بعدها.
(5)
في النسختين: (اللَّه) والصحيح ما أثبته.
(6)
ذكره ابن كثير في البداية (7/ 289) بلفظ آخر.
وانظر: أخبار الخوارج وما ورد بشأنهم من الأحاديث: تاريخ الطبري (5/ 63) =
ولقبح سيرتهم وخبث سريرتهم قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى-: (إنه) أي رأي الخوارج الذي هو اعتقادهم الخارج.
(مقالٌ): شنيع ورأى فظيع (لمن) أي لكل (1) إنسان.
(يهواه): ويميل إلى صريحه وفحواه وينحو منحاه.
(يرديه): في مهاوى هواه (ويفضحه) في الآخرة عند مولاه، ولا ينفعه ما ألحمه (2) وأسداه وينكشف ستره ويظهر مغطاه ولا ينفعه الندم عند زلة القدم ولا قوله يا ويلتاه.
وهؤلاء تشعبوا إلى (سبع)(3) فرق مارقة وهم أشد إلحادًا من الزنادقة.
الأولى: المحكمة الذين خرجوا على أمير المؤمنين -علي رضي الله عنه عند التحكيم وكفروه وهم أثنا عشر ألف كما مر ومن رأيهم أنه من نصب من قريش وغيرهم وعدل فهو إمام، ولم يوجبوا نصب الإمام واعتقدوا كفر عثمان بن عفان وأكثر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين- واعتقدوا كفر كل مرتكب معصية.
الثانية: البيهسية: وهم اتباع (أبي)(4) بيهس (واسمه)(5) الهيصم، زعموا
= وما بعدها؛ والبداية (7/ 284) وما بعدها، وفتح الباري (12/ 296) وما بعدها.
(1)
في الأصل: كل والمثبت من "ظ" وهو الصحيح.
(2)
أي لا ينفعه ما قدم وما أعطى في هذه الحياة إذا كان على خلاف ما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
انظر معنى ألحم وأسدى في المعجم الوسيط (1/ 424، 2/ 819).
(3)
في النسخنبن (سبعة) والصحيح ما أثبته.
(4)
في النسختين: أتباع بيهس والمثبت من المصادر.
(5)
ليست في "ظ".
أن الإيمان هو العلم باللَّه تعالى وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فمن وقع فيما لا يعرف أهو حلال أم حرام فهو كافر لوجوب الفحص عنه وقيل لا حتى يرجع إلى الإمام فيحده وما لا حد فيه فمغفور، وقيل إذا كفر الإمام كفرت الرعية حاضرًا كان أو غائبًا، والأطفال كآبائهم إيمانًا، وكفرًا".
الثالثة: الأزارقة أتباع نافع بن عبد اللَّه بن الأزرق الخارجي اللعين، وقد خرج معه قوم من البصرة والأهواز وغيرهما من بلدان فارس وغيرها وعظمت شوكتهم وتملكوا الأمصار وكانت له آراء ومذاهب دانوا بها معه منها: أنه كفر عليًا رضي الله عنه بسبب التحكيم وزعم أن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ. . .} [البقرة: 204] نزل (1) في حق علي رضي الله عنه وزعم أنه نزل في حق عبد الرحمن بن ملجم -قبحه اللَّه- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207].
ومنها: أنه كفر من لم يقل برأيه واستحل دمه وكفر القعدة عن القتال وتبرأ ممن قعد عنه.
ومنها: أن من ارتكب كبيرة خرج من الإسلام وكان مخلدًا في النار مع سائر الكفار، وأستدل لذلك بكفر إبليس، وقال ما ارتكب إلا كبيرة حيث أمر بالسجود فامتنع، وإلا فهو عارف بوحدانية اللَّه تعالى.
وحرم التقية وجوز قتل (أولاد)(2) المخالفين ونسائهم، وقال لا حد للقذف، ولا للزنا حكى عنه خالد بن خداش قال: لما تفرقت آراء الخوارج ومذاهبهم، أقام نافع بن الأزرق بسوق الأهواز يتعرض الناس وكان متشككًا في ذلك، فقالت له
(1) في "ظ": نزلت.
(2)
في النسختين: (الأولاد) ولعل الصواب ما أثبتنا.
امرأة إن كنت كفرت بعد إيمانك وشككت فدع نحلتك ودعوتك، وإن كنت خرجت من الكفر للإيمان فاقتل الكفار حيث لقيتهم، تعنى المسلمين المخالفين لمذهبه وأثخن في النساء والصبيان كما (1) قال نوح:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] فقبل قولها وبسط سيفه فقتل الرجال والنساء، فإذا وطئ بلدًا كان ذلك دأبه حتى يجيبه أهلها فيضع عليهم الجباية والخراج. . .
واشتدت شوكته وفشى عماله في السواد فارتاع لذلك أهل البصرة فمشوا إلى الأحنف بن قيس وشكوا إليه أمرهم، وقالوا ليس بيننا وبين القوم إلا ليلتان، فقال لهم الأحنف: إن سيرتهم في مصركم إن ظفروا بكم مثل سيرتهم في سواكم فخذوا في جهاد عدوكم وحرضهم الأحنف فاجتمع إليه زهاء عشرة آلاف في السلاح فأمر عليهم مسلم (بن عبيس)(2) وكان شجاعًا دينا فخرج فلما صار بموضع يعرف بدولاب خرج إليه نافع بن الأزرق ومعه نحو ستمائة نفر فاقتتلوا قتالًا شديدًا فقتل في المعركة ابن عبيس (3) وهو أمير على أهل (4) البصرة وقتل نافع بن الأزرق أيضًا، فعجب الناس من قتل الأميرين، ثم أمر غيرهما وعاد القتال، فانهزم البصريون وتبعهم الخوارج فألقوا نفوسهم في دجيل (5) فغرق منهم خلق كثير أكثرهم من الأزد وفي ذلك يقول شاعر الأزارقة:
(1) في "ظ": كما قد قال نوح.
(2)
و (3) في الأصل: ابن عنبس، وفي "ظ" ابن عبس، وما أثبته من تاريخ الطبري (5/ 569)؛ ومن الكامل لابن الأثير (3/ 349).
(4)
(أهل) ليست في الأصل وأثبتها من "ظ" وهو الصحيح.
(5)
دجيل: نهر بالأهواز حفره أردشير بن بابك أحد ملوك الفرس. معجم البلدان (2/ 443).
يرى من جاء ينظر في دجيل
…
شيوخ الأزد طافية لحاها (1)
فقلق أهل البصرة لذلك، ودخل الرعب في قلوبهم من الخوارج فبينما هم كذلك إذ ورد المهلب بن أبي صفرة متوجهًا إلى خراسان وقد كتب له عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما عهده يها فلما مر بالبصرة قال الأحنف لوجوه أهل البصرة، واللَّه ما للخوارج غير المهلب فكلموه في ذلك فقال: هذا عهدي على خراسان وما كنت لأدع أمر أمير المؤمنين يعني عبد اللَّه بن الزبير فاتفق أهل البصرة مع الأحنف على أن يفتعلوا كتابًا على ابن الزبير يأمره بقتال الخوارج فكتبوه وفيه: أما بعد فإن الحسن بن عبد اللَّه كتب إليَّ يخبرني أن الخوارج أصابوا جندًا من المسلمين وأنهم أقبلوا نحو البصرة، وكنت كتبت عهدك على خراسان ووجهتك، وقد رأيت أن تبتدئ بقتال الخوارج، فإن الأجر فيه أعظم من مسيرك إلى خراسان، فلما قرأ المهلب الكتاب قال: واللَّه ما أسير إليهم حتى يجعل لي ما غلبت عليه وتقووني من بيت المال وانتخب من رجالكم وفرسانكم من شئت، فأجابوه إلا طائفة منهم من بني مسمع فحقد عليهم المهلب، وسار إلى الخوارج فكان عليهم أشد من كل من قاتلهم وبلغ ابن الزبير افتعال الكتاب فلم يقل شيئًا، وأقره على ذلك، وقتل المهلب أميرهم عبد اللَّه بن الماخور وكسر شوكتهم بعد وقائع يشيب لها الرضيع وخدائع يحتار فيها ذو الرأي البديع ومصارع يلين لها الصلد (2) المنيع، واللَّه المستعان.
(1) البيت في الكامل للمبرد (3/ 1228). وانظر: أخبار نافع بن الأزرق فيه (3/ 1203) وما بعدها.
(2)
الصلد: الصلب وحجر صلد أي صلب أملس. مختار الصحاح ص 367 (صلد).
الرابعة: من فرق الخوارج: النجدية أتباع كدة بن عامر (الحنفي)(1) ومن رأيهم (أنه)(2) لا حاجة إلى الإمام ويجوز نصبه ووافقوا الأزارقة على التكفير.
الخامسة: (الأصفرية)(3) وهم أتباع زياد بن الأصفر خالفوا الأزارقة في تكفير القعدة، وفي منع الحد على الزنا وفي قتل أولاد الكفار.
وقالوا: المعصية الموجبة للحد لا يدعى صاحبها إلا بها، وما لا حد فيه لعظمه (كترك)(4) الصوم كفر ويزوجون المؤمنة من الكافر في دار التقية دون العلانية.
السادسة: الأباضية أتباع عبد اللَّه بن أباض، قالوا مخالفونا كفار غير مشركين تجوز مناكحتهم وتقبل شهادة مخالفيهم عليهم، ومرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن، والاستطاعة قبل الفعل ومخلوق العبد مخلوق للَّه تعالى، ومرتكب الكبائر كافر كفر نعمة لا كفر ملة وكفروا عليًا وأكثر الصحابة، ثم افترقوا أربع فرق:
* الحفصية أتباع أبي حفص بن أبي المقدام: زادوا أن بين الإيمان والشرك معرفة اللَّه، فمن كفر بأمر سوى الشرك أو بارتكاب كبيرة فكافر لا مشرك.
* واليزيدية: زعموا أن سيبعث نبي من العجم بكتاب يكتب من السماء وتترك شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى ملة الصابئة وعندهم كل ذنب شرك.
(1) في النسختين: النخعي والمثبت من المصادر؛ وفي اللوامع أثبت المصحح الحنفي وقال في التعليق في نسخة أخرى "النخعي" خطأ.
لوامع الأنوار (1/ 87).
(2)
في الأصل: (أنهم) وهو خطأ والمثبت من "ظ".
(3)
كذا نسبهم المؤلف ووردت نسبتهم في معظم المصادر (الصفرية) بالضم، قال المعلق في حاشية التبصير (ص 31) الصفرية بالضم ويقال الأصفرية كالبترية والأبترية.
(4)
في النسختين: (فترك) والمثبت من اللوامع للمؤلف ولعله الصحيح.
وانظر: الملل والنحل (1/ 137)؛ والفرق بين الفرق (ص 91).
* والحارثية: أتباع أبي الحارث الأباضي، خالفوا في العذر والاستطاعة قبل الفعل.
* وفرقة رابعة منهم قالوا: بطاعة لا يراد بها اللَّه.
السابعة: من فرق الخوارج: العجاردة: أتباع عبد الرحمن بن عجرد زادوا على النجدية وجوب دعوة الطفل إلى الإسلام إذا بلغ وأطفال المشركين في النار وتتشعب هذه الفرقة إلى إحدى عشر (1) فرقة.
وقد ذكرتهم في شرح الدرة: "لوامع الأنوار"(2) واللَّه ولى الأسرار، وجميع فرق الخوارج مارقة وللدين القويم مفارقة إلا من أتبع هداه وصادم هواه واللَّه أعلم.
تنبيه: هذا البيت والذي بعده في الكلام على المرجئة (3) يليان بيت: ولا تكفرن أهل الصلاة. . . إلخ.
على ما في طبقات الأصحاب (4) للعليمي (5) ولكن في النسخة التي كنا
(1) كذا في النسختين والصواب عشرة.
(2)
لوامع الأنوار (1/ 88 - 89) وانظر: تفصيل مذاهب الخوارج وآراءهم وفرقهم في: مقالات الإسلاميين (1/ 167) وما بعدها؛ والفرق بين الفرق (ص 72) وما بعدها، والملل والنحل (1/ 114) وما بعدها؛ الفصل في الملل والأهواء والنحل (5/ 51) وما بعدها؛ التبصير في الدين (ص 26) وما بعدها؛ دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين "الخوارج والشيعة" د. أحمد محمد حلمي.
(3)
وهما: ولا تعتقد رأي الخوارج إنه
…
مقال لمن يهواه يردي ويفضح
ولا تك مرجئا لعوبا بدينه
…
ألا إنما المرجئ بالدين يمزح
(4)
اسمه: "المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، والقصيدة فيه (2/ 17 - 19).
(5)
العليمي: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن العليمي الحنبلي، أبو اليمن مجير الدين، مؤرخ باحث من أهل القدس، كان قاضي قضاة القدس، ومولده ووفاته بها، من مؤلفاته: الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل، طبع؛ والمنهج الأحمد في تراجم =
شرحناها أولا كما ذكرناها (1) وكنت رأيت القصيدة على ما شرحنا في مجموع من خط العلامة الشيخ موسى الحجاوي (2) الحنبلي صاحب "الإقناع" رحمه اللَّه تعالى فلذلك اعتمدتها.
= أصحاب الإمام أحمد، طبع، توفى سنة ثمان وعشرين وتسعمائة.
النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد (ص 52)؛ ومختصر طبقات الحنابلة للشطي (ص 81)؛ والأعلام (3/ 331).
(1)
جاء ترتيب الأبيات في النسخة التي اعتمدها المؤلف هكذا:
ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا
…
فكلهم يعصي وذو العرش يصفح
وقل إنما الإيمان قول ونية
…
وفعل على قول النبي مصرح
وينقص طورًا بالمعاصي وتارة
…
بطاعته ينمي وفي الوزن يرجح
ولا نعتقد رأي الخوارج إنه
…
مقال لمن يهواه يردي ويفضح
ولا تك مرجئا لعوبًا بدينه
…
ألا إنما المرجئ بالدين يمزح
بينما جاء في الترتيب في بقية المصادر بتقديم البيتين الأخيرين بعد قوله: ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا. . .
وهو أنسب في ترتيب معاني القصيدة، حيت ذكر ذهب أهل السنة في عدم تكفير أهل المعاصي ثم ذكر مذهب الخوارج في تكفير أهل القبلة وحذر منه.
ثم ذكر مذهب الإرجاء، نقيض مذهب الخوارج، وحذر منه، ثم نصح باتباع مذهب السلف في الإيمان وأنه قول وعمل ونية، ولكن المؤلف رحمه الله اختار النسخة التي أشار إليها مع أن فيها شيئًا من عدم الترتيب.
(2)
موسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى الحجاوي المقدسي الصالحي الحنبلي شرف الدين أبو النجاء: ففيه أصولي محدث، أفتى بدمشق وتوفى بها سنة 968، من تصانيفه: الإقناع لطالب الانتفاع في الفقه، طبع؛ وشرح المفردات؛ وشرح منظومة الآداب لابن مفلح؛ وغيرها.
انظر: شذرات الذهب (8/ 327)؛ والنعت الأكمل (ص 124)؛ ومعجم المؤلفين (13/ 34 - 35).
ثم قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى-: (ولا تك) بحذف النون تخفيفًا -كما مر أول القصيدة- واسمها ضمير يرجع للمخاطب و (مرجئا) خبرها.
والمرجئة: هم الذين يرجئون الأعمال عن النية والاعتقاد أي يؤخرونها فلذلك سموا المرجئة من الإرجاء وهو التأخير، أو لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، لأن الإيمان عندهم هو التصديق والقول.
وعند الجهمية: مجرد التصديق.
وعند الكرامية: مجرد قول اللسان فقط كما مر، وربما سمى متكلموا المرجئة وفقهاؤهم الأعمال إيمانًا مجازًا لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتصاه ولأنها دليل عليه ويقولون في قوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا اللَّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"(1): هذا مجاز.
قال شيخ الإسلام -روح اللَّه روحه- في كتابه شرح الإيمان والإسلام:
المرجئة ثلاثة أصناف: الأول الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب. ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة كما ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه (2) وذكر فرقًا كثيرة يطول ذكرهم ومنهم من لا يدخلها كالجهم بن صفوان ومن اتبعه كا (الصالحي)(3) (وهذا
(1) رواه البخاري (1/ 67) في الإيمان باب أمور الإيمان؛ ومسلم رقم (35) في الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 213) وما بعدها.
(3)
جاء في النسختين: (الصنابحي) والمثبت من كتاب الإيمان لابن تيمية ومنه ينقل المؤلف ومن مصادر تاريخ الفرق.
وهو: صالح بن عمرو الصالحي رأس الصالحية من فرق المرجئة، قال: الإيمان هو معرفة اللَّه =
الذي نصره هو وأكثر أصحابه) (1).
الثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية.
الثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم" (2)
قال شيخ الإسلام: "وهؤلاء غلطوا من وجوه:
أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه اللَّه على العباد متماثل في حق العباد وعليهم وأن ما وجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك، بل ذلك يتفاوت ويتفاضل أشد تفاوت وتفاضل -كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
فالإيمان الواجب متنوع ليس شيئًا واحدًا في حق جميع الناس.
الثاني: من غلط المرجئة: ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط دون أعمال القلوب -كما تقدم عن جهمية المرجئة.
الثالث: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تامًا بدون شيء من الأعمال،
= تعالى على الإطلاق، قال: والكفر هو الجهل به على الإطلاق، قال: ويصح في العقل أن يؤمن باللَّه ويجحد الرسول ولا يؤمن به، والإيمان خصلة واحدة لا تزيد ولا تنقص، والكفر خصلة واحدة لا تزيد ولا تنقص. . . ".
انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 214)؛ والملل والنحل (1/ 145)؛ الوافي بالوفيات (16/ 267 - 268)
(1)
جاء في نسخة الأصل بعد قوله الصالحي: "وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية الذي نصره هو وأكثر أصحابه" وهو خطأ والمثبت من نسخة "ظ" ومن الإيمان لابن تيمية (ص 184) ومنه ينقل المؤلف، ومن لوامع الأنوار للمؤلف أيضًا (1/ 422).
(2)
انظر: الإيمان لابن تيمية (ص 184).
ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له.
والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ويمتنع أن يقوم كالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر" (1).
قال شيخ الإسلام -روح اللَّه روحه- (2): "ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وفوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل قولهم: رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهو لا يسجد للَّه تعالى سجدة ولا يصوم رمضان ويزنى بأمه وأخته ويشرب الخمر نهار رمضان، فيزعمون أن هذا مؤمن تام الإيمان فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار"(3) ويعدون مثل هذا أنه يلعب بدينه ويهزأ بإيمانه.
ولهذا قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى: (ولا تك مرجئا لعوبًا بدينه) ولعوب من أبنية المبالغة.
أي كثير اللعب واللعب ضد الجد.
وفي الحديث: "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا جادًا"(4) أي يأخذه ولا
(1) الإيمان لابن تيمية (ص 184، 192) باختصار.
(2)
كذا في الأصل وفي "ظ": "ابن تيمية" وهو المقصود.
(3)
نهاية كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الإيمان (ص 192).
(4)
رواه أحمد في المسند (4/ 221)؛ وأبو داود رقم (5003) في الأدب، باب من يأخذ الشيء على المزاح؛ والترمذي رقم (2160) في الفتن من حديث يزيد بن السائب وجاء في رواية أبي داود: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًا".
قال الخطابي معناه: أن يأخذه على وجه الهزل وسبيل المزاح ثم يحبسه عنه ولا يرده فيصير بذلك جدًا". معالم السنن (7/ 287).
يريد سرقته ولكن يريد إدخال الهم والغيط عليه فهو لاعب في السرقة جاد في الأذية (1).
قال سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه: ثنا (خالد)(2) بن حيان، ثنا معقل ابن عبيد اللَّه (العبسى)(3) قال قدم علينا سالم الأفطس (4) بالإرجاء فنفر منه أصحابنا نفورًا شديدًا، منهم: ميمون بن مهران (5)؛ وعبد الكريم بن مالك (6) فإنه عاهد اللَّه أن لا يأويه وإياه سقف بيت إلا المسجد، قال معقل: فحججت فدخلت
(1) نقل المؤلف هذا المعنى عن النهاية لابن الأثير (4/ 252).
(2)
جاء في النسخين، وفي كتاب الإيمان لابن تيمية خلف بن حيان وهو خطأ صوابه خالد كما جاء في السنة لعبد اللَّه بن أحمد والإبانة لابن بطة، وفي مصادر ترجمته وقد أشار الشيخ الألباني في حاشية الإيمان إلى عدم معرفته وذلك بسبب تحرفه من خالد إلى خلف وهو: خالد بن حيان الرقي أبو يزيد الكندي مولاهم الخراز بالمعجمة والراء وآخره زاي، صدوق يخطئ، مات سنة إحدى وتسعين ومائة.
تقريب (ص 88).
(3)
جاء في النسختين: (القيسي) وهو خطأ صوابه من مصادر ترجمته فهو: معقل بن عبيد اللَّه الجزري أبو عبد اللَّه العبسي بالموحدة مولاهم، صدوق يخطئ، مات سنة ست وستين ومائة.
تقريب (ص 343).
(4)
سالم بن عجلان الأفطس الأموي مولاهم أبو محمد الحراني: تابعي مشهور ثقة رمي بالإرجاء، قتل صبرًا سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
ميزان الإعتدال (2/ 112)؛ وتقريب (ص 115).
(5)
ميمون بن مهران: تقدمت ترجمته (ص 1/ 198).
(6)
عبد الكريم بن مالك الجذري أبو سعيد مولى بني أمية: وهو الخضرمي بالخاء والضاد المعجمتين نسبة إلى قرية من اليمامة، ثقة، مات سنة سبع وعشرين ومائة.
تقريب (ص 217).
على عطاء بن أبي رباح (1) في نفر من أصحابي وهو يقرأ: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110](2).
قلت: إن لنا حاجة فأخل لنا ففعل (فأخبرته) بالإرجاء وأن ناسًا أتوا به وأن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قال أوليس اللَّه يقول:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] فالصلاة والزكاة من الدين، وذكر من أقوالهم وزعموا أنهم انتحلوك فتبرأ منهم. . . .
وكذلك نافع (3) تبرأ منهم، وكذلك الزهري (4)، فقال (5) سبحان اللَّه قد أخذ الناس في هذه الخصومات، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"(6).
(1) عطاء بن أبي رباح بفتح الراء والموحدة واسم أبي رباح أسلم القرشي مولاهم المكي ثقة فقيه فاضل، مات سنة أربع عشرة ومائة على المشهور. تقريب (ص 239).
(2)
جاء في السنة لعبد اللَّه بن أحمد والإبانة لابن بطة بعد ذكر الآية: (مخففة).
(3)
نافع أبو عبد اللَّه المدني مولى ابن عمر ثقة ثبت فقيه مشهور، مات سنة سبع عشر ومائة. تقريب (ص 355).
(4)
الزهري: تقدم (1/ 156).
(5)
اختصر المؤلف رحمه الله الخبر وفيه شيء من عدم الوضوح وبيانه كما في مصادر تخريجه: قال معقل فرأيت الزهري فأخبرته بقولهم فقال سبحان اللَّه.
(6)
الحديث رواه البخاري (5/ 143) رقم (2475) في المظالم باب النهي بغير إذن صاحبه؛ ومسلم رقم (57) في الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ورواه البخاري أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
انظر: جامع الأصول (11/ 712).
والجميع تبرأوا منهم وقالوا: "ليس إيمان من أطاع اللَّه تعالى كإيمان من عصاه"(1).
قال شيخ الإسلام (روح اللَّه روحه)(2): "المرجئة كلهم يقولون: الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان وأما من الحدين فحكي عن بعضهم أنه يقول: ليستا من الدين ولا نفرق بين الإيمان والدين".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا المعروف من أقوالهم (3) ولم أر في كتاب أحد منهم أنه قال إن الأعمال ليست من الدين بل يقولون: ليست من الإيمان".
(وكذلك)(4) حكى أبو عبيد (5) عمن ناظره منهم فإن أبا عبيد وغيره يحتجون بأن الأعمال من الدين فذكر قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. أنها نزلت في حجة الوداع فأخبر تعالى أنه أكمل الدين في آخر الإسلام في حجة
(1) الأثر أخرجه بطوله الإمام أحمد رواه عنه ابنه عبد اللَّه في السنة رقم (831)؛ ومن طريقه ابن بطة في الإبانة الكبرى رقم (1101)؛ واللآلكائي في شرح السنة رقم (1732)؛ وابن تيمية في الإيمان (ص 192 - 194) وقد ذكره المؤلف هنا وفي اللوامع (1/ 423) باختصار.
(2)
ما بين القوسين من الأصل وفي "ظ" ابن تيمية.
(3)
أي أن الأعمال ليست من الإيمان، وقد اختصر الشارح رحمه الله كلام شيخ الإسلام فإنه قال: فقد حكى عن بعضهم أنه يقول: ليستا من الدين ولا نفرق في الإيمان والدين، ومنهم من يقول: بل هما من الدين ويفرق بين اسم الإيمان واسم الدين وهذا هو المعروف من أقوالهم. . . " انتهى.
انظر: الإيمان لابن تيمية (ص 195).
(4)
في الأصل وفي "ظ": فكذلك والمثبت من كتاب الإيمان لابن تيمية (ص 195) وهو الصحيح.
(5)
أبو عبيد القاسم بن سلام: سبقت ترجمته (1/ 213)
النبي صلى الله عليه وسلم قال وزعم هؤلاء أنه كان كاملًا قبل ذلك بعشرين سنة من أول ما نزل عليه الوحي بمكة حين دعى الناس إلى الإقرار، قال حتى لقد اضطر بعضهم حين أدخلت عليه الحجة إلى أن قال: إن الإيمان ليس بجميع الدين، ولكن الدين ثلاثة أجزاء فالإيمان جزء والفرائض جزء والنوافل جزء.
قال شيخ الإسلام: "هذا هو مذهب القوم".
قال أبو عبيد: "وهذا غير ما نطق به الكتاب ألا تسمع إلى قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
فأخبر أن الإسلام هو الدين برمته، وهؤلاء يزعمون أنه ثلث الدين" (1).
ولما كان الإمام أحمد، وكذا أبو ثور (2) ونحوهما قد عرفوا قول المرجئة وهو قولهم: إن الإيمان لا يذهب بعضه ويبقى بعضه، فلا يكون ذا عدد اثنين أو ثلاثة فإنه إذا كان ذا عدد أمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه بل لا يكون إلا شيئًا واحدًا، قال لهم الإمام أحمد: من زعم أن الإيمان الإقرار فما يقول في المعرفة هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار وهل يحتاج أن يكون مصدقًا بما عرف فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد أقر أنه من اثنين وإن قال إنه يحتاج أن يكون مقرًا ومصدقًا بما عرف (3) فهو من ثلاثة أشياء وإن جحدو قال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد
(1) انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية (ص 195 - 196) ولم أجد النص في كتاب الإيمان لأبي عبيد.
(2)
إبراهيم بن خالد بن أبي اليماني الكلبي أبو ثور الفقيه الحافظ الثقة، مات سنة أربعين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 72)؛ وتقريب التهذب (ص 20).
(3)
في "ظ" بما عرفوا.
قال قولًا عظيمًا.
قال: ولا أحسب أحدًا يدفع المعرفة والتصديق وكذلك العمل مع هذه الأشياء" (1) انتهى.
قال شيخ الإسلام: "قالت الجهمية: الإيمان شيء واحد في القلب، وقالت الكرامية: هو شيء واحد على اللسان، كل ذلك فرار من تبعيض الإيمان وتعدده فالزمهم أبو ثور بما اجتمع عليه فقهاء المرجئة من أنه تصديق وعمل ولم يكن بلغة قول متكلميهم وجهميتهم، أو أنه بلغه ذلك ولم يعد خلافهم خلافًا.
ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأئمة أهل علم ودين، ولم يكفر أحد من السلف أحدًا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيرًا من النزاع فيها لفظي" (2).
ولم يثبت المدح إلا على إيمان معه عمل لا على إيمان خال من العمل كما جاء عن عطاء.
فإذا اعترفوا أن الذم والعقاب واقع في ترك العمل كان بعد ذلك نزاعهم لا فائدة فيه، بل يكون لفظيًا مع أنهم مخطئون في اللفظ مخالفون للكتاب والسنة وإن قالوا إنه لا يضره ترك العمل، فهذا كفر صريح كما قاله شيخ الإسلام وهو ظاهر لا وقفة فيه.
قال -قدس اللَّه روحه-: وبعض الناس يحكي هذا عنهم وأنهم يقولون: "إن اللَّه
(1) نقله الشارح من كتاب الإيمان لابن تيمية (ص 376) بتصرف.
(2)
نهاية كلام شيخ الإسلام من كتاب الإيمان من (ص 376 - 377) باختصار، والكلام الآتي لشيخ الإسلام -أيضًا- في الإيمان (ص 172).
فرض على العباد فرائض ولم يرد منهم أن يعملوها، ولا يضرهم تركها، قال: وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، لكن ما علمت معينًا أحكي عنه هذا القول، وإنما الناس يحكونه في الكتب ولا يعينون قائله، وقد يكون من لا خلاق له من الفساق والمنافقين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أو مع التوحيد وبعض كلام الرادين على المرجئة وصفهم بهذا انتهى" (1).
وهذا مشهور عنهم فإنهم يقولون: كما لا ينفع مع الكفر طاعة، لا يضر مع الإيمان معصية.
وأما إذا اعتقدوا أنهم مؤاخذون بترك المأمور وارتكاب المحظور فالخلف (2) معهم بحسب اللفظ فقط نعم اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلافه ولاسيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم (و)(3) إلى ظهور الفسوق فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال.
فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء حتى قال إبراهيم (4) النخعي "لفتنتهم يعني المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة"(5) يعني الخوارج
(1) انظر: الإيمان لابن تيمية (ص 172).
(2)
أي: الخلاف.
(3)
ليست في النسختين وأثبتناها من كتاب الإيمان لابن تيمية (ص 377) ومنه ينقل المؤلف وبها يستقيم الكلام.
(4)
تقدم (2/ 192).
(5)
رواه الإمام أحمد رواه عنه ابنه عبد اللَّه في السنة من طريقين رقم (617 و 620).
ورواه في الإيمان (127/ أ)؛ وابن سعد في الطبقات (6/ 274)؛ والآجري في الشريعة =
الذين تقدم ذكرهم (1).
ولهذا الناظم قرن الطائفتين وعطف المرجئة على الخوارج.
وقال الزهري: (2)"ما ابتدع في الإسلام بدعة أضر على أصله من الإرجاء"(3).
وقال الأوزاعي: (4)"كان يحيى بن أبي كثير (5)؛ وقتادة (6) يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء"(7).
وقال شريك (8) القاضي: "المرجئة أخبث قوم حسبك بالرافضة خبثًا، ولكن المرجئة يكذبون على اللَّه"(9).
= (143)؛ وابن شاهين في السنة رقم (11)؛ وابن بطة في الإبانة رقم (1221)؛ واللآلكائي في السنة رقم (1806)؛ وابن تيمية في الإيمان (ص 377 - 378).
(1)
انظر (2/ 322) وما بعدها.
(2)
تقدم (1/ 156).
(3)
رواه الآجري في الشريعة (ص 143)؛ وابن بطة في الإبانة رقم (1222)؛ وذكره ابن تيمية في الإيمان (ص 378).
(4)
تقدم (1/ 340).
(5)
تقدم (2/ 293).
(6)
قتادة: تقدم (1/ 193).
(7)
رواه عبد اللَّه بن أحمد عن أبيه في السنة رقم (641) ورقم (733)؛ ورواه الآجري في الشريعة (ص 144)؛ واللالكائي في السنة رقم (1816)؛ وابن بطة في الإبانة رقم (1223)؛ وذكره ابن تيمية في الإيمان (ص 378).
(8)
شريك بن عبد اللَّه النخعي الكوفي القاضي: أحد الأعلام أبو عبد اللَّه تولى القضاء بواسط ثم الكوفة، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البدع، مات سنة سبع أو ثمان وسبعين ومائة.
تقريب (ص 14)؛ وسير أعلام النبلاء (8/ 178).
(9)
رواه عبد اللَّه بن أحمد في السنة عن أبيه (614). =
وقال سفيان الثوري: (1)"تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري"(2).
ولهذا قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى-: (ألا): أداة استفتاح وتفيد التحقيق لما بعدها لتركبها من الهمزة ولا، وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق كما في القاموس وغيره.
و (إنما): أداه حصر، (المرجي): بياء النسبه إلى طائفه من المرجئه وترك الهمز للوزن أو هو لغة والحق الثاني.
قال في القاموس: "أرجأ الأمر أخره والناقة دنا نتاجها والصايد لم يصب شيئًا وترك الهمز لغة في الكل".
وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106] أي مؤخرون حتى ينزل اللَّه فيهم ما يريد.
= ورواه الآجري في الشريعة (ص 144)؛ وابن بطة في الإبانة رقم (1225) قال محققه ورواه الإمام أحمد في الإيمان ورقة (111/ 2).
ورواه اللآلكائي في السنة رقم (1824)؛ وذكره ابن تيمية في الإيمان (ص 378).
(1)
سفيان: تقدم (1/ 184).
(2)
الأثر: أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة عن أبيه (618)؛ وابن سعد في الطبقات (6/ 274)؛ واللآلكائي في السنة (1807) كلهم من رواية سفيان الثوري عن إبراهيم النخعي من قوله: وهذه الرواية جاءت في كتاب الإيمان لابن تيمية (ص 378) وعنه ينقل المؤلف.
ومعنى قوله: أرق من ثوب سابرى:
الثياب السابرية، نياب رقيقة جدًا منسوبة إلى سابور من ملوك الفرس، والمعنى أنهم -المرجئة- لما أخرجرا الأعمال من الإيمان أضعفوه حتى صار كالثوب الرقيق الذي يستشف ما وراءه.
واللَّه أعلم. انظر النهاية لابن الأثير (2/ 334).
قال في القاموس: ومنه سميت المرجئة وإذا لم تهمز فرجل مرجي بالتشديد، وإذا همزت فرجل مرجئ كمرجع لا مرج كمعط وهم المرجئة بالهمز والمرجية بالياء مخففة" (1).
(بالدين): القويم والإيمان المستقيم.
(يمزح): من مزح كمنع مزحًا والمزاحة ومزاحا بضمها دعب ولعب والدعابة بالضم اللعب وداعبه مازحه، وذلك لأن حاصل قول غلاة المرجئة: أنه كما لا ينفع مع الكفر طاعة، لا يضر مع الإيمان معصية، وهذا قول خبيث ينقض عرى الإسلام، وهو سلم لترك الصلاة ومنع الزكاة والحج وترك الصيام وذريعة لمعاطاة الزنا واللواطة وسائر الآثار، ولا يرتاب ذو لب أن هذا مزاح بالدين ولعب، ومن نهج هذا المنهج فهو على شفا جرف هار وهو لسيرة أهل الكفر والإلحاد أقرب منه لسيرة الأبرار.
وحاصل ما لأهل الإسلام في الإيمان خمسة أقوال:
الأول: هو ما عليه المعول مذهب سلف الأمة وخالص الأئمة: أنه عقد بالجنان،
وقول باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان -كما تقدم ذلك بالنص والبرهان- فهو مركب من الثلاثة.
والثاني والثالث والرابع: أن الإيمان بسيط لا مركب فهذه الثلاثة مذاهب:
الأول: منها التصديق وحده، وهو قول الجهم بن صفوان ومن وافقه من الأشاعرة وغيرهم.
(1) القاموس (1/ 16)(أرجأ).
قال في القاموس أيضا: الإرجاء التأخير سموا مرجئة لتقديمهم القول وإرجائهم العمل.
قاموس (4/ 334).
الثاني: القول وحده، وهو مذهب الكرامية.
الثالث: العمل وحده وعزاه الكرماني (1) في شرح البخاري للمعتزلة -ولعله قول لبعضهم- وأما مذهب المعتزلة فقد قدمنا أنه كمذهب السلف إلا أنهم يخرجون مرتكبي الكبائر من الإيمان، من ترك مأمور، أو معاطاة محظور ويخلدونه إذا مات على كبيرته في النار، فهذا مذهب إمامهم واصل بن عطاء (2)؛ وعمرو بن عبيد (3)، والجبائي (4) وغيرهم وهو من شر مذاهب أهل البدع (5).
الخامس: قول المرجئة وهو مركب ثنائي من التصديق والقول باللسان فقط.
تنبيه: هل القول بقبول الإيمان للزيادة والنقصان مختص بمذهب السلف ومن تبعهم ممن يدخل الأعمال فيه من الحلف كالقلانسي (6) وغيره من الأشاعرة أو يعم مذهب من قال إنه التصديق فقط؟
الحق كما قاله الإمام النووي (7) وغيره وجماعة من محقق علماء الكلام أن الزيادة والنقصان تدخل الإيمان، ولو قيل إنه التصديق والإذعان (8) لأن التصديق
(1) محمد بن يوسف بن علي بن سعيد شمس الدين الكرماني: عالم بالحديث، أصله من كرمان واشتهر في بغداد، له مصنفات كثيرة منها: الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري وغيره، توفى سنة 786 هـ.
طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (3/ 245)؛ والدرر الكامنة (5/ 77)؛ والأعلام (7/ 153)
(2)
واصل بن عطاء: تقدم (1/ 192).
(3)
تقدم (1/ 188).
(4)
الجائي: تقدم (1/ 186).
(5)
انظر ما تقدم (2/ 275، 291 - 292).
(6)
تقدم (2/ 295).
(7)
تقدم (1/ 311).
(8)
هذا الرأي هو للنووي رحمه الله وهو يخالف رأي المتكلمين كما ذكره عنهم: فإنه قال: =
القلبي يزيد وينقص أيضًا بكثرة النظر ووضوح البرهان وعدم ذلك، وما اعترض على هذا القول من أنه متى قبل ذلك كان شكًا مدفوع بأن مراتب اليقين متفاوته مع أنها لا شك معها وفي القرآن العظيم ما حكى عن خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء أفضل الصلاة وأتم التسليم:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].
وتقدمت قصة موسى الكليم لما رأى قومه عاكفين على عبادة العجل مع ما كان أخبره اللَّه تعالى به من ذلك فحصل له من الغضب وإلقاء الألواح وأخذه بلحية أخيه هارون عليه السلام ورأسه ما لم يحصل له بإخبار اللَّه تعالى مع جزمه وتيقنه صدق الخبر ووقوع المخبر عنه بخبر من لا يبقي في القلب أدنى شك ولا ريبة، وباللَّه التوفيق (1).
تتمة: مذهب السلف ومن وافقهم من الأشعرية جواز الاستثناء في الإيمان يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء اللَّه خلافًا لمن يمنعه كالجهمية والمرجئة (2).
وخلافًا لمن يوجبه كابن كلاب (3). ومن وافقه والقول بجواز الاستثناء مذهب أصحاب الحديث كالثوري وابن عيينة وأكثر علماء الكوفة.
= قال المحققون من أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها. قالوا وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون، وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرًا حسنًا فالأظهر واللَّه أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم. . . " إلى آخر كلامه.
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 148).
(1)
انظر: هذا المبحث في لوامع الأنوار للمؤلف (1/ 430 - 431).
(2)
كتب هنا في هامش "ظ": قف على جواز الاستثناء في الإيمان.
(3)
ابن كلاب: تقدم (1/ 222).
ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء البصرة وهو مذهب الإمام أحمد وغيره من علماء السنة فإنهم يستثنون في الإيمان وهذا متواتر عنهم لأن الإيمان عندهم يتضمن فحل جميع الواجبات فلا يشهدون لأنفسهم بذلك كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى من غير شك في إيمانهم كما هو منصوص الشافعي وأحمد رضي الله عنهما خلافًا لأبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين- (1).
ثم قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى-: " (ولا تك من قوم) يعم أهل الاعتزال وأهل الرفض والوبال وأهل الكلام المحدث الذي ذمه وأهله السلف وبدعوا الذاهبين إليه والمعولين عليه.
والحاصل أن الناظم أراد كل من اكتفى بالمعقول (2) عن المنقول ومال إلى ما أصَّله الفلاسفة ونحوهم عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا قال: (تَلَهَّوا) أي تلاعبوا (بدينهم) الذي أمروا به من ربهم وجاء به نبيهم.
(1) قال في شرح العقيدة الطحاوية (ص 395) وما بعدها: مسألة الاستثناء في الإيمان وهو أن يقول أي الرجل أنا مؤمن إن شاء اللَّه فالناس فيه على ثلاثة أقوال، طرفان ووسط، منهم من يوجبه، ومنهم من حرمه، ومنهم من يجيزه باعتبار، ويمنعه باعتبار، وهذا أصح الأقوال ثم ذكر مأخذ كل فريق. . . إلى أن قال: وأما من يجوز الاستثناء وتركه فهم أسعد بالدليل من الفريقين وخير الأمور أوسطها فإن أراد المستثني الشاك في أصل إيمانه منع من الاستثناء وهذا مما لا خلاف فيه، وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم اللَّه في قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. . .} [الأنفال: 2 - 4].
فالاستثناء حينئذ جائز انتهى.
وراجع أيضًا كتاب الإيمان لابن تيمية (ص 410، 419)؛ والإبانة لابن بطة (2/ 862)؛ والشريعة للآجري (136)؛ السنة للآلكائي (5/ 965).
(2)
في "ظ" العقول.
واللهو: هو اللعب، يقال لهوت بالشيء الهو لهوا وتلهيت به إذا لعبت به وتشاغلت وغفلت به عن غيره والهاه عن كذا أشغله، ولهيت عن الشيء بالكسر الهى بالفتح لهيًا إذا سلوت عنه.
ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استأثر اللَّه بشئ فاله عنه"(1) أي أتركه وأعرض عنه ولا تتعرض له.
وتلاعب مثل هولاء بدينهم أن يحدثوا له أصولا ويرتبوا له أبوابًا وفصولًا معتمدين على قواعد تعدوها وآراء اعتمدها زاعمين أنهم إنما يهتدون إلى الصواب بالعقول لا بالمنقول، وبابتداع الأصوال لا بقول الرسول.
وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا"(2).
وقال رضي الله عنه: أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برأى فاجتهد ولا آلو وذلك يوم أبي جندل" (3) -يعني في قصة الحديبية-".
(1) أورده الأصفهاني في المجموع المغيث (3/ 165)؛ وابن الأثير في النهاية (4/ 283) ولم أجده فيما لدي من مصادر الحديث.
(2)
أخرجه الهروي في ذم الكلام -كما في صون المنطق- (ص 42)؛ وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 135)؛ والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (ص 191)؛ والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 180)؛ وذكره الحافظ في الفتح (13/ 302)؛ وعزاه للبيهقي والطبري والطبراني.
(3)
رواه أبو يعلى كما في المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي (ص 157)؛ والطبراني في الكبير (1/ 26 - 27)؛ والبيهقي في المدخل (192)؛ والهروي في ذم الكلام كما في =
وأضل كل رأي وأبطله وأفسده وأعطله الرأي المتضمن لتعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلالة من الخوارج والمرجئة والجهمية والمعتزلة والرافضة والقدرية ومن ضاهاهم من أهل الكلام حيث استعملوا قياساتهم الفاسدة وآراءهم الباطلة وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة، والآيات الصريحة فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل بتكذيب رواتها وتخطئتهم وحرفوا المعاني التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلًا فقابلوا النوع الأول بالتكذيب، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل.
وإلى الأول أشار الناظم -رحمه اللَّه تعالى- بقوله (فتطعن) أي تقع وتخوض.
(في أهل الحديث): أي رواته وناقليه بالأسانيد المقبولة والروايات المنقولة.
(وتقدح) في عدالتهم وصدقهم وتنسبهم إلى ما هم بريئون منه من الغلط وعدم
= صون المنطق (ص 42 - 43)؛ وعبد اللَّه بن أحمد في زيادات فضائل الصحابة (1/ 373)؛ والبزار كما في كشف الأستار (2/ 338).
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 179) وقال رواه أبو يعلى ورجاله موثوقون وإن كان فيهم مبارك بن فضالة.
وأورده في موضع آخر (6/ 145 - 146) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.
قلت: وما كان من مراجعة عمر للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى ما تضمنه الصلح من شروط رآها مجحفة بالمسلمين وعلى تعسف سهيل بن عمرو حين كتابة الكتاب وامتناعه أن يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ومحمد رسول اللَّه فهذا هو الذي أثار عمر رضي الله عنه فجرى منه ما جرى ثم إنه ندم بعد ذلك فكان كقول: ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرًا.
وانظر: القصة في السيرة لابن هشام (3/ 415)؛ وفي البداية (4/ 168).
الضبط والكذب والتخليط وعدم الحفظ مع كونهم حفاظًا عدولًا مقبولين (1) الرواية معلومين (2) العدالة. .
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يكون المؤمن طعانًا (3) أي وقاعًا في أعراض الناس بالذم والغيبة ونحوهما وهو فعال من طعن فيه وعليه بالقول يطعن بالفتح والضم إذا عابه. . . ".
هذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الجاهلين وإبطال المبطلين وتأويل الغالين".
قال مهنا: سألت الإمام أحمد عن هذا الحديث وهو عن معان بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري فذكره فقلت كأنه كلام موضوع.
قال الإمام أحمد: لا هو صحيح، فقلت له سمعته أنت؟ قال من غير واحد، قلت: من؟ قال: حدثني به مسكين إلا أنه يقول عن معان عن القاسم بن عبد الرحمن.
ورواه الخلال من حديث معان عن إبراهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) و (2) كذا في النسختين والأصح أن يقول: عدولًا مقبولي الرواية معلومي العدالة بحذف نون الجمع.
راجع شرح ابن عقيل (3/ 42 - 43).
(3)
رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 404 - 405، 416)؛ والبخاري في الأدب المفرد رقم (312)، (332)؛ والترمذي رقم (1977) في البر والصلة باب ما جاء في اللعنة؛ وابن أبي عاصم في السنة رقم (1014) كلهم من حدث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، رقد روي عن عبد اللَّه من غير هذا الوجه. وصححه الشيخ ناصر الألباني في تخريج السنة رقم (1014).
ورواه الحافظ أبو أحمد بن عدي عن عبد اللَّه البغوى ثنا أبو الربيع الزهراني ثنا حماد بن زيد ثنا بقية بن الوليد ثنا معان بن رفاعة عن إبراهيم ابن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكره.
وقد روى من حدث أبي هريرة وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم مرسلًا ومرفوعًا وفي لفظهما: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"(1).
(1) الحديث من رواية إبراهيم بن عبد الرحمن العذري أخرجه العقيلي في الضعفاء (4/ 256)؛ وابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل (2/ 17)؛ وابن حبان في الثقات (4/ 10)؛ وابن عدي في الكامل (1/ 153)؛ وأبو نعيم في معرفة الصحابة (1/ 157 - 158)؛ والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 209)؛ والخطيب في شرف أصحاب الحديث (29)؛ وابن عبد البر في التمهيد (1/ 59).
وقد تكلم الحافظ العراقي على هذا الحديث كلامًا طويلًا فمنه قوله: ". . . ومع هذا فالحديث أيضًا غير صحيح لأن أشهر طرق الحديث رواية معان بن رفاعة السلامي عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا رواه ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل؛ وابن عدي في مقدمة الكامل؛ والعقيلي في تاريخ الضعفاء في ترجمة معان بن رفاعة، وقال: إنه لا يعرف إلا به، انتهى.
وهذا إما مرسل أو معضل وإبراهيم هذا الذي أرسله لا يعرف في شيء من العلم غير هذا قاله أبو الحسن بن القطان في بيان الوهم والإيهام.
ثم ذكر تعقب ابن القطان على كلام الإمام أحمد فقال: قال ابن القطان وخفي على أحمد من أمره ما علمه غيره، ثم ذكر أقوال المضعفين له.
قال وقد روي هذا الحديث متصلًا من رواية جماعة من الصحابة علي بن أبي طالب، وابن عمر، وأبي هريرة، وعبد اللَّه بن عمرو، وجابر بن سمرة، وأبي أمامة، وكلها ضعيفة لا يثبت منها شيء، وليس فيها شيء يقوى المرسل المذكور. انتهى.
التقييد والإيضاح (ص 116). =
وقد أعتنى بهذا الحديث الإمام الحافظ ابن عبد البر وحاول تصحيحه واحتج به في أن كل من حمل العلم يعني علم الحديث فهو عدل (1).
وقال الفضل (2) بن أحمد: سمعت الإمام أحمد وقد أقبل أصحاب الحديث بأيديهم المحابر فأوما إليها وقال: هذه سرج الإسلام، يعني المحابر (3).
وقال الحافظ ابن الجوزي: قال الإمام الشافعي: "لولا المحابر لخطبت الزنادقة
= ولمعرفة المزيد من التفصيل عن طريق الحديث وتخريجه والكلام عليه، راجع الكتب المذكورة في تخريجه والكتب الآتية: الروض البسام بترتيب وتخريج فوائد تمام لجاسم الفهيد الدوسري؛ والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب (1/ 128)؛ والفردوس للديلمي (5/ 483)؛ وتهذيب تاريخ دمشق (2/ 230)؛ ومفتاح دار السعادة (ص 178 - 179)؛ والتبصرة للعراقي (1/ 297) وما بعدها؛ وإرشاد طلاب الحقائق (1/ 277) وما بعدها؛ ومحاسن الإصطلاح (ص 219) وما بعدها؛ واختصار علوم الحديث (93 - 94)؛ وفتح المغيث (1/ 275) وما بعدها، وتدريب الراوي (199) وما بعدها.
(1)
انظر: التمهيد (1/ 28) وهذا النص عن ابن عبد البر ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 59 - 60).
(2)
الفضل بن أحمد بن منصور بن الذيال أبو العباس الزبيدي المقري: قال ابن أبي يعلى: روى عن إمامنا أشياء، وذكر الخطيب عن الدارقطني أنه قال: أبو العباس الفضل بن أحمد الزبيدي، ثقة مأمون مات قديمًا.
تاريخ بغداد (12/ 377)؛ وطبقات الحنابلة (1/ 249)؛ والمنهج الأحمد (1/ 438)؛ وطبقات القراء (2/ 8).
تنبيه: جاء اسمه في النسختين: الفضيل والمثبت من المصادر.
(3)
الأثر أخرجه الخطيب في كتابه الجامع لأخلاق الراوي (1/ 252) وأورده في ترجمة الفضل هذا كل من ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/ 249)؛ والعليمي في المنهج الأحمد (1/ 438)؛ وابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 60).
على المنابر (1).
وقد نص الإمام أحمد على أن أصحاب الحديث هم الطائفة في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق"(2).
ونص أيضًا على أنهم الفرقة الناجية في الحديث الآخر (3).
وكذا قال يزيد بن هارون (4).
ونص سيدنا الإمام أحمد "على أن للَّه تعالى أبدالًا في الأرض"(5).
(1) أورده الذهبي في ترجمة الشافعي في السير (10/ 70)؛ وابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 60).
(2)
الحديث رواه مسلم رقم (1920) في الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم"، والترمذي رقم (2229) في الفتن، باب ما جاء في الأئمة المضلين من حديث ثوبان رضي الله عنه.
ورواه البخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة ولفظه: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر اللَّه وهم ظاهرون".
انظر: جامع الأصول (9/ 203) والنص عن الإمام أحمد رواه الحاكم في معرفة علوم الحديث (ص 2)؛ والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص 27).
وأورده الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 306)؛ وقال: أخرجه الحاكم في علوم الحديث وإسناده صحيح.
(3)
يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ". . . وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة" وقد تقدم تخريجه (1/ 140).
والنص عن الإمام أحمد رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص 25).
(4)
في قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، قال إن لم يكونوا أصحاب الحديث، فلا أدري من هم؟
أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص 26).
(5)
حديث الأبدال: هو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأبدال أربعون رجلًا وأربعون امرأة كلما =
وقال عنهم: إن لم يكونوا هؤلاء الناس يعني أهل الحديث فلا أدري من الناس (1).
= مات رجل أبدل اللَّه تعالى مكانه رجلًا وكلما ماتت امرأة أبدل اللَّه تعالى مكانها امرأة".
وله طرق وروايات مختلفة، قال السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 43): حديث الأبدال له طرق عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة. . . ثم ساقة من عدة طرق، وقال بعضها أشد في الضعف من بعض. . . ".
وقال ابن القيم في المنار المنيف (ص 136): "وكذلك أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد، كلها باطلة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . ". وقال ابن تيمية في الفتاوى كلامًا هذا معناه.
انظر: الفتاوى (11/ 433) وما بعدها.
وأوردها الشيخ ناصر الألباني في ضعيف الجامع (2/ 274) وما بعدها؛ وقال في السلسلة الضعيفة (2/ 339): "واعلم أن أحاديث الأبدال لا يصح منها شيء وكلها معلولة وبعضها أشد ضعفًا من بعض.
وأوردها ابن الجوزي في الموضوعات (3/ 150) وما بعدها؛ والسيوطي في اللآلي (2/ 330)؛ وعلي القاري في الأسرار المرفوعة. (ص 101)؛ وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/ 306)؛ والشوكاني في الفوائد المجموعة (ص 245).
(1)
في كلام الشارح بعض الغموض، ولعل في كلام الشارح سقطًا فقد ذكر عن الإمام أحمد هنا نصين:
النص الأول: عن الإمام أحمد في الأبدال أخرجه الخطبب في شرف أصحاب الحديث (ص 50) قال إن لم يكن أصحاب الحديث هم الأبدال فمن يكون؟ وأورده ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/ 220)؛ والسخاوى في المقاصد (ص 46).
النص الثاني: أخرجه عنه الخطيب أيضًا في شرف أصحاب الحديث (49)؛ وابن أبي يعلى في الطبقات (1/ 426) أنه قال: إن لم يكن هؤلاء الناس فلا أدري من الناس؟ يعني أصحاب الحديث.
قلت: وقد ذكرنا -قبل قليل- كلام العلماء في أحاديث الأبدال وأنها ضعيفة ولا ثبت منها شيء.
فيحمل كلام الإمام أحمد وغيره من وصفهم بعض العلماء بأنه من الأبدال على ما يفهم من =
ونقل نعيم (1) بن طريف عنه رضي الله عنه أنه قال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال اللَّه تعالى يغرس غرسًا يشغلهم في طاعته. . . "(2) قال: هم أصحاب الحديث.
وروى البويطي (3) عن الإمام الشافعي أنه قال: "عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صوابًا"(4).
= معنى الأبدال من الصلاح والتقوى والزهد والورع، وأن الأرض لا تخلو ممن يقوم بدين اللَّه ويعلى كلمته وهذا المعنى موافق لما جاء في الحدث الصحيح الذي تقدم قبل قليل -وهو قوله صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" وبهذا يتبين أنه لا يلزم من ذكرهم الأبدال ثبوت الأحاديث الواردة فيهم عندهم واللَّه أعلم.
لمزيد التفصيل راجع: مجموع الفتاوى (11/ 433) وما بعدها؛ وانظر التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية (ص 380).
(1)
نعيم بن طريف من أصحاب الإمام أحمد ذكره ابن أبي يعلى في الطبقات (1/ 391) وقال روى عن إمامنا أشياء وذكر هذا الأثر من طريقه.
(2)
الحديث رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 200) وابن ماجة في سننه (1/ 5) رقم (8)؛ وابن حبان في صحيحه الإحسان رقم (326)؛ والبخارى في التاريخ الكبير (9/ 61)؛ وابن شاهين في السنة رقم (44) عن أبي عنبة الخولاني.
قال البوصيري في صباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة (1/ 5): "إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات" وقد توبع هشام عليه رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الهيثم بن خارجة عن الجراح به. . . ".
(3)
يوسف بن يحيى القرشي أبو يعقوب البويطي المصري الفقيه أحد الأعلام من أصحاب الشافعي، مات سنة إحدى وثلاثين مائتين.
طبقات الشافعية للسبكي (2/ 162)؛ وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 23).
(4)
النص في سير أعلام النبلاء (10/ 70).
وقال أيضًا: "ومن كتب الحديث قويت حجته"(1).
وقال سفيان: "سماع الحديث عز لمن أراد الدنيا ورشاد لمن أراد به الآخرة"(2).
وقال عبد الملك بن مروان (3) للشعبي (4): يا شعبي عهدي بك وإنك لغلام في الكتاب فحدثني فما بقى معي شيء إلا وقد مللته سوى الحديث الحسن وأنشد (5):
ومللت إلا من لقاء محدث
…
حسن الحديث يزيدني تعليمًا (6)
وقال المعافى (7) بن زكريا الجريري -وإنما قيل له الجريري لتفقهه على مذهب محمد بن جرير الطبري- في مثل قول عبد الملك:
(1) أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (69)؛ والبيهقي في مناقب الشافعي (1/ 282)؛ وابن حجر في توالي التأسيس (136)؛ والذهبي في سير أعلام (10/ 24) في كلام للشافعي أطول من ما هنا.
(2)
أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (62).
(3)
عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي القرشي أبو الوليد من أعاظم الخلفاء ودهاتهم نشأ في المدينة فقيهًا واسع العلم وانتقلت إليه الخلافة بعد موت أبيه سنة 65 فضبط أمورها وظهر بمظهر القوة، توفى بدمشق سنة 86 هـ.
سير أعلام النبلاء (4/ 246)؛ والأعلام (4/ 165).
(4)
الشعبي: تقدمت ترجمته (1/ 156).
(5)
في "ظ": وأنشده.
(6)
لم أجد النص.
(7)
المعافى بن زكريا بن يحيى بن حميد المعروف بابن طرار الجريري نسبة إلى رأي محمد بن جرير الطبري النهراوني كان من أعلم الناس في وقته بالفقه والنحو واللغة وأصناف الأدب، مولده سنة ثلاث وقيل خمس وثلاثمائة ووفاته سنة تسعين وثلاثمائة.
وفيات الأعيان (5/ 221)؛ ومعجم الأدباء (19/ 151)؛ وسير أعلام النبلاء =
ولقد سئمت مآربي
…
وكان أطيبها الحديث
إلا الحديث فإنه
…
مثل اسمه أبدا حديث (1)
ولسنا بصدد ذكر مناقب أهل الحديث فإن مناقبهم شهيرة، ومآثرهم كثيرة، وفضائلهم غزيرة، فمن انتقصهم فهو خسيس ناقص، ومن (بغضهم)(2) فهو من حزب إبليس ناكص.
كيف وقد دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "نضر اللَّه امرءًا سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع" رواه أصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن مسعود مرفوعًا وحسنه الترمذي (3).
فدعا لأصحاب الحديث بالنضارة وهى: النعمة والبهجة والحسن فيكون تقديره: جمله اللَّه وزينه (4).
= (16/ 544).
(1)
لم أجد هذا النص عن الجريري.
(2)
كذا في النسختين ولعل الصواب: أبغضهم.
(3)
رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 437)؛ والترمذي رقم (2657 - 2658) في العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع عن ابن مسعود؛ وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ورواه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه الإمام أحمد (5/ 183) وأبو داود رقم (3660)؛ والترمذي رقم (2656)؛ وابن ماجة رقم (230) في المقدمة باب من بلغ علمًا؛ والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (3/ 206).
(4)
ذكر هذا المعنى المنذري في الترغيب (1/ 116).
قال الخطابي في قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر اللَّه امرءًا" بتشديد الضاد المعجمة وتخفيفها (1).
ورواه الإمام أحمد (2)؛ وابن ماجة (3)؛ والطبراني (4) من حديث جبير بن مطعم قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قول -بالخيف- خيف منى-: "نضر اللَّه عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل (5) عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل للَّه والنصيحة لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحفظ من ورائهم".
وفي لفظ رواية الطبراني: "تحيط"(6) بياء بعد الحاء وأحد إسنادي الإمام
(1) معالم السنن للخطابي (5/ 253) قال: وأجودها: التخفيف قلت: وانظر ما يتعلق بهذا الحديث رواية ودراية كتاب الشيخ عبد المحسن العباد: "دراسة حديث نضر اللَّه امرءًا سمع مقالتي. . . " رواية ودراية.
(2)
في المسند (4/ 80، 82).
(3)
في سننه رقم (231).
(4)
في المعجم الكبير (2/ 130 - 131) من عدة طرق.
(5)
يغل: بكسر الغين مع ضم الياء ومع فتحها فعلى الضم هو من الإغلال وهو الخيانة وعلى الفتح من الغل وهو الحقد.
ومعنى هذه الجملة قال فيه التوربشتي: إن المؤمن لا يخون في هذه الثلاثة الأشياء ولا يدخله ضغن يزيله عن الحق حتى يفعل شيئًا من ذلك.
وقال الزمخشري: إن هذه الخلال بستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الغل والفساد.
راجع: دراسة حديث "نضر اللَّه امرءًا"(ص 192).
(6)
وهي الرواية المشهورة ولعل تحفظ تصحيف.
ومعناه: أن دعوتهم عامة تشمل من وراءهم من المسلمين.
قال ذلك الشيخ محمد خليل هراس في تعليقه على الترغيب (1/ 117 - 118). =
أحمد فيه حسن (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم خلفائي، قلنا: يا رسول اللَّه ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي ويعلمونها الناس"(2) رواه الطبراني في الأوسط عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وفي حديث رواه ابن ماجة عن أبي سعيد رضي الله عنه: "سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحبًا بوصية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (3) (واقنوهم) "(4).
(1) وقاله المنذري في الترغيب (1/ 118).
(2)
رواه الطبراني في الأوسط -كما في مجمع الزوائد (1/ 126)؛ والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص 30 - 31) من طريقين الأولى عن علي بن أبي طالب، والثانية عن ابن عباس قال: والأول أشبه بالصواب.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 126) وفيه أحمد بن عيسى الهاشمي قال الدارقطني كذاب.
وقد أورده الشيخ ناصر الألباني في ضعيف الجامع (1/ 355) وقال: موضوع، وفصل القول فيه في السلسلة الضعيفة رقم (854).
(3)
رواه ابن ماجة في سننه رقم (247) في المقدمة باب الوصاة بطلبة العلم؛ والترمذي رقم (2650) و (2651).
وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي هارون عن أبي سعيد"، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 36): "قلت أبو هارون العبدي ضعيف باتفاقهم".
قلت لكن للحديث طريق آخر عن أبي سعيد أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 88) وصححه ووافقه الذهبي، وانظر السلسلة الصحيحة رقم (280).
(4)
في الأصل: (وأفتوهم) وهي ساقطة في "ظ" والتصويب من سنن ابن ماجة، وقد جاء تفسيرها فيه: من أحد الرواة بمعنى: علموهم. وقال ابن الأثير في النهاية (4/ 117): ومنه الحديث "فاقنوهم" أي علموهم واجعلوا لهم قنية من العلم يستغنون به إذا احتاجوا إليه".
وللنجم الغزي الشافعي العامري (1) -رحمه اللَّه تعالى-:
لقد أوصى النبي الصحب يومًا
…
بقوم يسألون العلم عنه
إذا جاءوهم أن يكرموهم
…
وينبوهم بما سمعوه منه
فمن طلب الحديث فجل قدرًا
…
ولا يدرك له كنه فكنه (2)
وللحافظ جلال الدين السيوطي -رحمه اللَّه تعالى-:
من كان من أهل الحديث فإنه
…
ذو نضرة في وجهه نور يسطع
إن النبي دعا بنضرة وجه من
…
أدى الحديث كما تحمل واتبع
وله أيضًا رحمه الله:
إن خفت يوم الحشر من هوله
…
ورمت أن تحظى بكل المرام
فعش على سنة خير الورى
…
مقتفيًا أهل الحديث الكرام
هم الألَى ينجون من هوله
…
حين يقادون لدار السلام (3)
وإلى النوع الثاني وهو ما لا يقدرون على الطعن في رواته والتكلم في نقلته من
(1) محمد بن محمد بن محمد الغزي العامري القرشي الدمشقي أبو المكارم نجم الدين: محدث مسند مؤرخ أديب نحوي، وفاته بدمشق سنة 1061 هـ، من تصانيفه: الكواكب السائرة في تراجم أعيان المائة العاشرة، مطبوع.
خلاصة الأثر (4/ 189)؛ والأعلام (7/ 63)؛ ومعجم المؤلفين (11/ 288).
(2)
لم أجد الأبيات.
(3)
انظر: الأبيات في الحطة في ذكر الصحاح الستة لصديق حسن خان (ص 46 - 47).
النصوص القرانية والأحاديث الصحيحة الشهيرة التي قد بلغت مبلغ التواتر أو كانت متواترة بالتحريف والتأويل بمقتضى رأيهم:
فقال: (ودع) أي: أترك وذر (عنك) غير محتفل به ولا مكترث له، ولا مهتم به، يقال ودع الشيء يدعه ودعا إذا تركه.
والنحاة يقولون: إن العرب أماتوا ماضي يدع ومصدره واستغنوا عنه بترك.
والنبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب وقد استعمله في قوله: "لينتهين (1) أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن اللَّه على قلوبهم"(2).
وإنما يحمل قولهم على قلة استعماله فهو شاذ في الاستعمال صحيح في القياس، وقد جاء في غير حديث حتى قرئ به (قوله تعالى) (3) {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] بالتخفيف (4) وشذوذ الاستعمال إنما هو في الماضي منه ومصدره، وأما الأمر فشايع مشهور.
(آراء الرجال): الآراء جمع رأي مصدر رأى رأيًا مهموز، وهو التفكر في مبادئ الأمور.
(1) في الأصل: لينتهن، وفي "ظ" لينتهي، والمثبت من صحيح مسلم، وهو الصحيح.
(2)
رواه مسلم رقم (865) في الجمعة باب التغليظ في ترك الجمعة؛ والنسائي (3/ 73) في الجمعه، باب التشديد في التخلف عن الجمعة من حديث أبي هريرة وابن عمر.
(3)
ساقطة من الأصل وأثبتها من "ظ".
(4)
قرأ الجمهور بالتشديد: (وما ودّعك).
وقرأ بالتخفيف: (ما ودعك): ابن عباس وعروة بن الزبير وابنه هاشم وابن أبي عبلة وأبو حيوة. انظر: فتح القدير للشوكاني (5/ 457) وهذا التفسير لكلمة ودع والرد على النحاة هو لابن الأثير.
انظر: النهاية (5/ 165 - 166)؛ وجامع الأصول (5/ 667).
(ونظر)(1) عواقبها وعلم ما يؤول إليه من الخطأ والصواب.
وأصحاب الرأي عند الفقهاء هم أصحاب القياس والتأويل كأصحاب أبي حنيفة، وأصحاب أبي الحسن الأشعري -رحمهم اللَّه تعالى- (2) وهم (ضد أصحاب الظاهر (من)(3) داود بن علي الأصبهاني) وأبي محمد بن حزم ومن اتبعهما.
وأما أصحاب التأويل فهم ضد أصحابنا من أتباع المأثور والمرور كما جاء عن الشارع مع التفويض (4) واعتقاد التنزيه عن التمثيل والتشبيه، فإن اللَّه تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
وقد أنشد ابن حزم (5) رحمه الله لنفسه (6):
من عذيري من أناس جهلوا
…
لم ظنوا أنهم أهل النظر
ركبوا الرأي عنادًا فسروا
…
في ظلام تاه فيه من غبر
(1) ساقطة من "ظ".
(2)
في الكلام هنا شيء من الغموض والمعروف أن أهل الرأي هم: أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من الفقهاء.
وأهل التأويل هم أصحاب الأشعري وغيرهم ممن عرف عنهم تأويل نصوص الصفات، واللَّه أعلم.
(3)
كذا في الأصل، ولعل الصحيح: كداود بن علي. . .
وقد جاءت العبارة في نسخة "ظ" هكذا: وهم من أصحاب الظاهرى من دون اتباع الأصبهاني. . . إلخ والمثبت من الأصل.
(4)
سبق أن بينا أن التفويض ليس مذهب السلف وأن مذهبهم الإثبات والإقرار بما جاء عن اللَّه مع نفي الكيفية والتشبيه، وقد سبق إيضاح ذلك. انظر (1/ 350).
(5)
تقدمت ترجمة ابن حزم (1/ 145).
(6)
انظر: الأبيات في الوافي (1/ 311).
وطريق الرشد نهج مهيع
…
مثل ما أبصرت في الأفق القمر
وهو الإجماع والنص الذي
…
ليس إلا في كتاب أو أثر
والرجال جمع رجل والمراد آراء مطلق الناس من ذكر بالغ أو غير بالغ، أو آراء النساء، ولكن لما كان الغالب أن يكون أصحاب الرأي رجالًا خصهم بالذكر (و) دع عنك (قولهم) لا تهتم به ولا تجعله لك مذهبا لأنه عرضة للخطأ وغير مضمون لأصحابه الصواب، ولكن إن كنت تبغي النجاة والفوز بالدرجات العالية والنعيم المقيم (فـ) أتبع (قول رسول اللَّه) صلى الله عليه وسلم المعصوم من الزلل والخطأ والمضمون الإصابة في كل ما بلغه لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
فهو (أزكى): أفعل تفضيل مأخوذ من زكى يزكو زكاء وزكرا نمى كأزكى أي أطهر وأصفى وأخلص من جميع أقوال الناس وآراءهم لأنه خرج من مشكاة نور الهداية وينبوع عين الفلاح.
(وأشرح) أي أبين وأوضح وأوسع وأفسح من مقالات المتحذلقين وآراء المتعمقين وتأويلات المتنطعين فإنهم حرفوا النصوص عن مواضعها وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأى المجرد الذي حقيقته زبالة الأذهان ونحاتة الأفكار وعصارة الأوهام ووساوس الصدور وحوادس الخواطر فملأوا به الأوراق سوادًا والقلوب شكوكًا والعلم فسادًا، فكل من له مسكة من علم ودرية من فهم يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الآراء على الوحي والهوى عن النقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه ولا في أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد (1).
(1) انظر: لوامع الأنوار (1/ 7).
وقد قال سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه: رأي فلان ورأي فلان ورأي فلان عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار (1).
وروى ابن عبد البر (2) بسنده عن عبد اللَّه الحافظ المتقن ابن الإمام أحمد عن أبيه رضي الله عنه (3):
دين النبي محمد آثار
…
نعم المطية للفتى الأخبار
لا تعد عن علم الحديث وأهله
…
فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما جهل الفتى طرق الهدى
…
والشمس طالعة لها أنوار
وقال غيره من أهل العلم (4):
العلم قال اللَّه قال رسوله
…
قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاق سفاهة
…
بين النصوص ودين رأي فقيه
كلا ولا رد النصوص تعمدًا
…
حذرًا من التجسيم والتشبيه
حاشا النصوص من الذي رميت به
…
من فرقة التعطيل والتمويه
وقال أبو محمد هبة اللَّه (5) بن الحسن الشيرازي -رحمه اللَّه تعالى- (6):
(1) انظر: النص في أعلام الموقعين (1/ 79).
(2)
ابن عبد البر تقدمت ترجمته (1/ 119).
(3)
الأبيات في جامع بيان العلم (2/ 34 - 35)؛ وفي أعلام الموقعين (1/ 79)؛ ولوامع الأنوار (1/ 7).
(4)
الأبيات في أعلام الموقعين (1/ 79)؛ وفي لوامع الأنوار (1/ 7 - 8).
(5)
لم أجده.
(6)
انظر الأبيات في "الحطة في ذكر الصحاح الستة" لمحمد صديق حسن القنوجي (ص 43 - 44).
عليك بأصحاب الحديث فإنهم
…
على منهج للدين ما زال معلمًا
وما النور إلا في الحديث وأهله
…
إذا ما دجى الليل البهيم وأظلما
وأعلى البرايا من إلى السنن اعتزى
…
وأغوى البرايا من إلى البدع انتما
ومن ترك الآثار قد ضل سعيه
…
وهل يترك الآثار من كان مسلما
وقال المجد بن أحمد الأربلي (1) -رحمه اللَّه تعالى-:
إذا شئت أن تتوخى الهدى
…
وأن تأتي الحق من بابه
فدع كل قول ومن قاله
…
لقول النبي وأصحابه
فلم ينج من محدثات الأمور
…
بغير الحديث وأصحابه (2)
وقال غيره:
أحب الحديث وأصحابه
…
وللفوز نفسي لهم راجية
وسجاياهم عذبه المجتبى
…
وعيشتهم رغدة راضية
فإن ما دجت ليلة في الظلام
…
فهم أنجم الليلة الداجية
وإن ما نجت فرقة في المعاد
…
فما هم سوى الفرقة الناجية
وقال آخر (3):
(1) محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر الأربلي: مجد الدين ابن الظهير: شاعر أديب من فقهاء الحنفية، ولد بأربل وتنقل في العراق والشام ومات بدمشق سنة سبع وسبعين وستمائة.
الجواهر المضية (4/ 492)؛ وفوات الوفيات (3/ 301)؛ والأعلام (5/ 323).
(2)
انظر الأبيات في الحظة (ص 46).
(3)
نسبه في الحطه (ص 45) لأبي العباس ولم يظهر لي من هو؟
عليكم بالحديث فليس شيء
…
يعادله على كل الجهات
نصحت لكم فإن الدين نصح
…
ولا أخفي (نصائح)(1) واجبات
وجدنا في الرواية كل فقه
…
وأحكام ومن (كل)(2) اللغات
(لذكر المسندات جعلت حفظي)(3)
…
وحفظ العلم خير العائدات
أئمته (4) النجوم وهل رشيد
…
تكلم في النجوم الزاهرات (5)
وقال الأوزاعي (6) عليك بالأثر وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم (7).
وقد روى الناظم ابن أبي داود رحمهما اللَّه تعالى قال: حدثنا عبد اللَّه بن أحمد ابن حنبل قال: سمعت أبي رضي الله عنه يقول: لا تكاد ترى أحدًا نظر في الرأي إلا في قلبه دغل (8).
(1) في النسختين: (لصالح) والمثبت من الحطة وهو الصحيح.
(2)
في الحطة: (من علم).
(3)
رواية الحطة كذا: بذكر المسندات أنست ليلي.
(4)
في الحطة: أئمتنا.
(5)
جاء في رواية الحطة زيادة أربعة أبيات على ما هنا.
انظر: الحطة في ذكر الصحاح الستة (ص 45 - 46).
(6)
الأوزاعي: مضت ترجمته (1/ 340).
(7)
الأثر أخرجه الآجري في الشريعة (ص 58)؛ والبيهقي في المدخل (ص 199)؛ وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 144)؛ وأورده ابن القيم في أعلام الموقعين (1/ 75)؛ والذهبي في السير (7/ 120).
(8)
الدغل: بفتحتين: الفساد. مختار الصحاح (206) دغل. والأثر عن الإمام أحمد أورده ابن القيم في أعلام الموقعين (1/ 76) من رواية ابن أبي داود؛ وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 139) من رواية ابن أبي داود عن أبيه.
وروي عن الحافظ عبد العظيم المنذري (1) قال: أنشدنا أبو الحسن المقدسي (2) لنفسه (3):
أيا نفس بالمأثور عن خير مرسل
…
وأصحابه والتابعين تمسكي
عساك إذا بالغت في نشر دينه
…
بما طاب من نشر له أن تمسكي
وخافي غدًا يوم الحساب جهنما
…
إذا نفحت نيرانها أن تمسك
وأنشد الشيخ أبو طاهر الأصبهاني (4) بسنده لبعض الفضلاء (5):
قناديل دين اللَّه تسعى بحملها
…
رجال بهم يحيا حديث محمد
هم حملوا الآثار عن كل عالم
…
تقي صدوق فاضل متعبد
محابرهم زهر تضيئ كأنها
…
قناديل حبر ناسك وسط مسجد
تساق إلى من كان بالفقه عالمًا
…
ومن صنف الأحكام من كل مسند
وكم وكم في مدح المأثور من منظوم ومنثور واللَّه ولي الأمور.
تنبيه: المذموم من الرأي، هو الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا قياس جلي، أو كان قياسًا ولو جليًا في مقابلة نص فمذموم أيضًا.
(1) مضت ترجمته (1/ 204).
(2)
على بن المفضل بن مفرج بن حاتم المقدسي ثم الإسكندراني المالكي أبو الحسن شرف الدين: محدث حافظ فقيه تفقه بالثغر، وتوفى بالقاهرة سنة 611.
وفيات الأعيان (3/ 290)؛ وسير أعلام النبلاء (22/ 66)؛ ومعجم المؤلفين (7/ 244).
(3)
انظر: الأبيات في السير (22/ 69)؛ وفي الوفيات (3/ 291).
(4)
لم أعرفه.
(5)
لم أجده.
والحاصل أن الرأي المذموم هو الذي مستنده الحدس والتخمين والخرص والتفكير، فهذا الذي ذمه السلف وعابوه وحذروا منه (وأنبوّة)(1) بخلاف الرأي المستند إلى استدلال واستنباط من النص وحده، أو من نص آخر معه في الأحكام فهذا من أحسن فهم النصوص وأدقه وأنفعه، وكل ما ورد عن السلف مما يشعر بمدح الرأي وقبوله فالمراد به هذا، وما يشعر بالذم والتحذير فالمراد به الأول (2) واللَّه أعلم.
ثم قال الناظم -رحمه اللَّه تعالى- (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بما في جوابه من فعل وشبهه على المشهور.
و (ما): زائدة لمزيد إثبات ما بعدها.
(اعتقدت): الاعتقاد هو حكم الذهن الجازم فإن وافق الواقع فهو اعتقاد صحيح، وإن خالف الراقع في نفس الأمر فهو اعتقاد فاسد وحاصل تعريف الاعتقاد: أنه أمر خبري يحتصل متعلقه النقيض عند الذاكر على الفرض والتقدير ثم ينظر فإن طابق هذا الاعتقاد لما في نفس الأمر فهو اعتقاد صحيح وإلا ففاسد، وتقدم في صدر الشرح لهذه المنظومة ما لعله يشفي ويكفي (3).
(الدهر)؛ أي مد الزمان الطويل والأمد الممدود وهو بفتح الدال المهملة وسكون الهاء وقد تفتح أمد مفعولات اللَّه في الدنيا أو فعله لما قبل الموت.
(1) كذا في النسختين ولعل الصحيح: أبنوه، ومعناها: ذكروه بسوء وقبح وقد مرت هذه الكلمة (1/ 135).
(2)
لمعرفة المزيد من التفصيل حول الرأي الممدوح والمذموم راجع: جامع بيان العلم (2/ 55) وما بعدها و (138) وما بعدها؛ وأعلام الموقعين (1/ 66) وما بعدها؛ ولوامع الأنوار (1/ 8).
(3)
انظر: (1/ 150).
وزعم الدهرية والمعطة أن الدهر حركات الفلك وأمد العالم ولا شيء عندهم سواه، وهذا خطأ فاحش وكفر عظيم، وإنما الدهر هو الزمان وهو مخلوق من جملة خلق اللَّه تعالى، وغلط من عد من أسمائه تعالى وتقدس (1) والجمع أدهر ودهور.
(يا صاح): مرخم صاحب وهو شاذ لعدم علميته، ولكنه استعمل كثيرًا.
(هذه): الأصول المذكورة في هذه المنظومة فإنه ضمنها جملة صالحة من المسائل الاعتقادية السلفية التي قد خالف فيها أكثر الناس من المعتزلة والقدرية والجبرية والخوارج والروافض والمرجئة والجهمية والفلاسفة والملاحدة ومن نحا نحوهم.
وقد أشرنا إلى خلاف كل طائفة من هؤلاء في الأصل الذي خالفوا أهل السلف وأصحاب الأثر فيه فراجعه تظفر بما تريد.
(1) ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قال اللَّه تعالى: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار" وفي رواية: لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو اللَّه" رواه البخاري.
قال الشافعي في تأويله -واللَّه أعلم-: "إن العرب كان من شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت وهرم أو تلف وغير ذلك فيقولون: إنما يهلكنا الدهر وهو الليل والنهار، ويقولون: أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر، فيجعلون الليل والنهار اللذين يفعلان ذلك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الدهر على أنه الذي يفعل بكم هذه الأشياء فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنما تسبون اللَّه عز وجل فإن اللَّه فاعل هذه الأشياء".
راجع مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 336 - 337)؛ وتيسير العزيز الحميد (ص 608)؛ وفتح الباري (8/ 337 - 338)؛ ولوامع الأنوار (2/ 455).
(فأنت): الفاء في جواب إذا وأنت مبتدأ، كائن.
(على خير): ومستمر على هدى لتمسكك بالمأثور واعتقادك ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين المعول عليهم دون رأي فلان ونظر فلان.
(تبيت): في خير وأمن مطمئن القلب سالم من شكوك المتكلمة وظنون المتحذلقة وخواطر الملحدة وأفكار النظار، قد اتبعت المأثور واقتفيت الرعيل الأول، والصدر الذي عليه المعول والرب المشكور.
(وتصبح): في أمن وأمان (واطمأنينة)(1) صدر وعرفان لا تستفزك الأشكال الفلسفية ولا القواعد الاعتزالية ولا الخواطر السالمية، ولا المقدمات الكلامية، قد ألجأت ظهرك وأسندته إلى ركن وثيق، وأدخلت قلبك في حصن حصين سالم من الدخل والضيق، وجعلت معولك على الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح والتابعون لهم بإحسان من أهل العلم والتحقيق واعتقدت أن النجاة كل النجاة في اقتفاء آثارهم والتعويل على أخبارهم، دون ما اعتمده كل متحذلق وملحد وزنديق، فإن من لم يسلم لم يسلم ومن لم يقتف السلف لم يربح ولم يغنم. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
جاء في نسخة الأصل ما يلي:
قال شيخنا الشيخ محمد السفاريني فرغت من تعليقه بعون اللَّه تعالى وتوفيقه نهار السبت لعشر بقيت من شعبان من شهور سنة ألف ومائة و (ست)(2) وسبعين من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام.
(1) كذا في النسختين والصحيح: وطمأنينة.
(2)
في الأصل: وستة في الموضعين.
ووافق الفراغ من كتابة هذه النسخة نهار الثلاثاء لأربع ليال خلون من ذى القعدة الذي هو من شهور سنة ألف ومائة و (ست)(1) وسبعين على يد أحقر الورى وأذل الفقراء الراجي لعفو ربه العلي الفقير عيسى القدومي الحنبلي عامله اللَّه بلطفه الخفي والجلي إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
ثم ذكر بعد ذلك فائدة تتعلق بعدد الأنبياء والرسل والكتب.
ثم ذكر نقولًا من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
ثم قال: فائدة في ذكر سند شيخنا الشيخ محمد السفاريني لمنظومة الإمام العلامة عبد اللَّه أبي بكر بن أبي داود هذه التي شرحها قال: أنبأني كل واحد من مشايخي الثلاثة: الشيخ عبد القادر التغلبي مفتى السادة الحنابلة وقدوتهم في عصره ومصره، وفي سائر بلاد الإسلام والشيخ عبد الغني العارف ابن الشيخ إسماعيل الشهير بالنابلسي والشيخ عبد الرحمن المجلد المعمر كلهم عن الشيخ الإمام عبد الباقي الحنبلي الأثري مفتي السادة الحنابلة بدمشق المحمية، قال: أنا الشيخ حجازي الواعظ عن ابن أركماس عن الحافظ ابن حجر العسقلاني شارح البخاري عن أبي إسحاق إبراهيم البعلي عن أبي العباس أحمد بن أبي طالب الحجار أخبرنا ابن عمر الأموي أخبرنا أبو الفتوح الهمذاني أخبرنا أبو محمد السمعاني قال: أخبرنى والدي عن أبي بكر بن أبي داود السجستاني لنفسه:
تمسك بحبل اللَّه واتبع الهدى
…
ولا تك بدعيًا لعلك تفلح
. . . إلى آخر القصيدة في العقيدة وهو سندي فإني أخذتها عن شيخي شارحها وهو أخذها عن مشايخه الذين ذكرهم.
(1) في الأصل: وستة.
والحمد للَّه على ذلك.
وجاء في آخر النسخة "ظ":
تم وكمل والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال مؤلفها رحمه اللَّه تعالى نجز بعون اللَّه تعالى وتوفيقه نهار السبت لعشر بقيت من شعبان من شهور سنة ألف ومائة و (ست) وسبعين من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام.
وقد تمم كتابة هذا الشرح الحسن المبارك أحقر العباد وأحوجهم إليه يوم التناد المسيء المخطئ مصطفى بن محمود بن معروف الشطي غفر اللَّه له ولوالديه ولكل المسلمين أجمعين.
ليلة الأربعاء ثالث عشر صفر الخير سنة 1232 هـ.
ثم قال: فائدة في ذكر سندي لمنظومة الإمام عبد اللَّه أبي بكر بن أبي داود هذه التي شرحتها.
ثم ذكر السند -كما مر- في النسخة الأولى.
ثم ذكر القصيدة كاملة.