الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخرج ابن ماجة عنه نحوه مرفوعًا (1).
وأخرج ابن عساكر (2) عن الفضيل بن عياض (3) -رحمه اللَّه تعالى- قال: "بلغنا أن الصراط مسيرة خمس عشرة ألف سنة خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف هبوط، وخمسة آلاف مستوى أدق من الشعرة وأحدّ من السيف على متن جهنم، لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية اللَّه تعالى"(4).
والأخبار والآثار في ذلك كثيرة جدًا، واللَّه تعالى أعلم.
تنبيهات:
الأول: اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهر ما ورد من كونه جسرًا ممدودًا على متن جهنم أحدّ من السيف وأدق من الشعرة، وأحمى من الجمرة.
وأنكره أكثر المعتزلة كالقاضي عبد الجبار (5) المعتزلي وكثير من أتباعه (6)، زعمًا منهم: أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة، وإنما يراد به طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى:{سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 5 - 6].
(1) ابن ماجة رقم (60) في المقدمة باب في الإيمان؛ وفي الزهد رقم (4280).
(2)
ابن عساكر: تقدم (1/ 371).
(3)
الفضيل بن عياض: تقدم (1/ 185).
(4)
الأثر أورده الشارح في لوامع الأنوار (2/ 191)؛ والسيوطي في البدور السافرة (ص 254)؛ ومثل هذه الأخبار لا تثبت الا بدليل عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنها أمور الغيب، كما سبق أن بينا ذلك (2/ 185).
(5)
تقدم (1/ 186).
(6)
انظر: المواقف في علم الكلام (ص 384).
وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23].
ومنهم من حمله على الأدلة الواضحة والمباحات، أو الأعمال الردية ليسأل عنها ويؤاخذ بها (1).
وكل هذا هذيان وخرافات وبهتان، لوجوب حمل النصوص على حقائقها الظاهرة، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء (2) أو الطيران في الهواء أو الوقوف فيه (3).
وقد أجاب صلى الله عليه وسلم عن سؤال حشر الكافر على وجهه، بأن القدرة صالحة لذلك (4).
وأنكر العلامة القرافي (5) كون الصراط أدق من الشعرة، وأحد من
(1) انظر: شرح المقاصد (5/ 117 - 121).
(2)
كالطيور المائية وبعض الحيوانات البحرية {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
(3)
كما نشاهده في الطير، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} [الملك: 19].
(4)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلًا
قال: يا رسول اللَّه، قال اللَّه تعالى {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 32] أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة".
قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا.
انظر: جامع الأصول (10/ 426)؛ والدر المنثور (5/ 341).
(5)
أحمد بن أبي العلاء إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المصري شهاب الدين أبو العباس كان إمامًا في الفقه والأصول والعلوم العقلية وله معرفة بالتفسير وتخرج به جمع من الفضلاء وله مصنفات مفيدة تدل على علمه وفضله، توفى سنة أربع وثمانين وستمائة ودفن بالقرافة في مصر.
الديباج المذهب (1/ 236)؛ والوافي بالوفيات (6/ 233).
السيف (1) وسبقه إلى ذلك شيخه الإمام العز بن عبد السلام (2) وهما
(1) رأيه هذا ذكره في كتابه الانتقاد في الاعتقاد (كما في شرح الشيخ قاسم بن عيسى القروي على متن الرسالة لابن أبي زيد القيرواني)(1/ 57 - 58).
(2)
العز بن عبد السلام: تقدم التعريف به (1/ 295).
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في كتابه اللوامع (2/ 193) سبب تأويلهم كون الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف -وكلامهم يرجع إلى ما قاله الحليمي في المنهاج (1/ 463).
وتابعه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 245 - 247) في معنى الحديث قال الحليمي: "والمعنى -واللَّه أعلم- أن أمر الصراط والجواز عليه أدق من الشعر أن يكون عسره على قدر الطاعات والمعاصي، ولا يعلم حدود ذلك إلا اللَّه تعالى جده لخفائها وغموضها، وقد جرت العادة بتسمية الغامض الخفي دقيقًا، وضرب المثل به بدقة الشعر، فذا واللَّه أعلم من هذا الباب".
إلى أن قال: "فأما أن يقال إن الصراط نفسه أحدّ من السيف وأدق من الشعر فذلك (مرفوع كذا في الأصل والظاهر مدفوع) بنفس هذا الحديث لأن فيه: إن الملائكة يقومون بجنبيه، ويقولون: اللهم سلم سلم، وفيه أن فيه كلاليب وحسكا (في الأصل مسكا) وفيه أن ممن يمر على الصراط من يقع على بطنه، ومنهم من يزل ثم يقوم وفيه: إن من الذين يمشون عليه من يعطى النور بقدر موضع قدميه، وفي ذلك إثبات أن المارين عليه مواطئ الأقدام ومعلوم أن دقة الشعر لا تحتمل هذا كله.
وقد سألت أحد الحفاظ عن هذه اللفظة فذكر أنها ليست ثابتة فأما أن لا يشتغل بها، وإما أن يحمل على المعنى الذي ذكرنا -واللَّه أعلم" انتهى.
وقال البيهقي: "وهذا اللفظ من الحديث لم أجده في الرويات الصحيحة".
وتابعه القرافي -كما ذكر الشارح في اللوامع- وقد رد عليهم المؤلف بقوله: "وقد رد هذا الإمام القرطبي وغيره من أئمة الآثار، وقد أخرج مسلم تلك الزيادة في صحيحة عن أبي سعيد بلاغًا وليست مما للرأي والاجنهاد فيه مجال فهي مرفوعة، وقد مر من الأخبار ما يوجب الإيمان بذلك، ثم إن القادر على إمساك الطير في الهواء قادر على أن يمسك عليه المؤمن ويجريه ويمشيه" انتهى.
انظر: لوامع الأنوار (2/ 193 - 194)؛ والتذكرة للقرطبي (ص 400 - 401).
محجوجان بثبوت الأخبار الصحيحة بالألفاظ الصريحة في ذلك، فوجب حملها على ظاهرها كما ثبت ذلك في الصحاح والمسانيد والسنن مما لا يحصى إلا بكلفة من أنه جسر مضروب على متن جهنم يمر عليه جميع الخلائق وهم في جوازه متفاوتون كما مر -واللَّه تعالى الموفق.
الثاني: الحق أن الصراط مخلوق الآن.
ونقل بعض العلماء (1) عن بعض أهل التحقيق أنه يجوز أن يخلقه اللَّه تعالى حين يضرب على متن جهنم، ويجوز أن يكون خلقه حين خلق جهنم، ونحوه في كلام القاضي عياض (2).
الثالث: من الخرافات الباردة، زعم من زعم أن ماهية الصراط شعرة من شعر جفون مالك خازن النار.
فهو كلام تنبؤ عنه الأفهام وتمجه الأوهام وإن نقله مثل الحافظ برهان الدين الحلبي (3) فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه واللَّه أعلم (4).
(1) عزاه المؤلف في كتابه اللوامع (2/ 194) إلى كنز الأسرار.
قلت: ويمكن أن يكون لمحمد بن سعيد بن عمر الصنهاجي المعروف بابن شابذ فقد ذكر له حاجي خليفة في كشف الظنون (2/ 1513) كتابًا بعنوان "كنز الأسرار ولواقح الأفكار" في علوم الآخرة.
(2)
القاضي عياض: تقدم (1/ 251).
(3)
إبراهيم بن محمد بن خليل الطرابلسي الأصل (طرابلس الشام) الحلبي المولد والدار، والشافعي المعروف بسبط ابن العجمي برهان الدين أبو الوفاء عالم بالحديث ورجاله من كبار الشافعية له مؤلفات كثيرة. توفى سنة 841 هـ.
الضوء اللامع (1/ 138)؛ والأعلام (1/ 65)؛ ومعجم المؤلفين (1/ 92 - 93).
(4)
انظر: هذا المبحث في لوامع الأنوار (2/ 194).
فصل
في حساب الناس وذكر دخول طائفة من عصاة الأمة النار وخروجهم منها إما برحمة الكريم الغفار، وإما بشفاعة النبي المختار صلى الله عليه وسلم وإما بغير ذلك (1).
اعلم أولًا أن المعاد الجسماني حق واقع وصدق صادع، دل عليه النقل الصحيح والنص الصحيح، ولم يمنعه العقل، ولم يحله فوجب الإيمان بموجبه، وهو أن اللَّه يبعث الموتى من القبور بأن يجمع أجزاءهم الأصلية ويعيد الأرواح إليها، لقوله تعالى:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]. والآيات القرآنية في ذلك كثيرة جدًا، والأحاديث النبوية طافحة به، فلا جرم لا ينكره إلا كافر ملحد، وزنديق قد عتى وتمرد، وعدم التوفيق.
وقد أنكره الطبايعيون (2)، والدهرية (3)، والملحدة، ويرد إنكارهم النقل
(1) أي بشفاعة غيره من الرسل والأنبياء والملائكة والشهداء، كما ورد في الأحاديث.
(2)
الطبايعيون: هم فريق من الفلاسفة القدامي، قالوا: إن النفس الإنسانية هي اعتدال في المزاج فحسب، فإذا مات الإنسان عدمت النفس وإعادة المعدوم عندهم محال فجحدوا الآخرة، وأنكروا الجنة والنار والحشر والنشر والقيامة والحساب، وهذه نزعة مادية قديمة، وهي اليوم متمثلة في المذاهب المادية الإلحادية التي تجعل من الطبيعة إلهًا لهذا الكون.
راجع: المنقذ من الضلال للغزالي (ص 96 - 97)؛ الوجود الحق للدكتور حسن هويدي (ص 37) وما بعدها؛ الاتجاهات الفكرية المعاصرة: جمعة الخولي (ص 48).
(3)
الدهرية: هم الذين ينكرون الربوبية، ويحيلون الأمر والنهي والرسالة من اللَّه تعالى ويقولون: هذا مستحيل في العقول، ويقولون بقدم العالم وينكرون الثواب والعقاب، ولا يفرقون بين الحلال والحرام، وينفون أن يكون في العالم دليل يدل على صانع ومصنوع، وخالق ومخلوق، وينسبون النوازل التي تنزل بهم إلى الدهر وينكرون المعاد والجزاء والحساب.
انظر: الفصل في الملل والنحل (1/ 47)؛ والملل والنحل للشهرستاني (2/ 61)؛ المنقذ من الضلال للغزالي (ص 96)؛ البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (ص 88).
الصريح والعقل الصحيح على ما بينه أهل التحقيق والترجيح.
وأنكرت الفلاسفة المعاد الجسماني، بناء منهم على امتناع إعادة المعدوم بعينه (1).
وأما المعتزلة فوافقوا أهل الحق (2) على المعاد الجسماني، بناء منهم على أن المعدوم عندهم شيء فلو لم يقولوا به لأحالوه لأن المعدوم قبل الوجود عندهم قابل للوجود، فكذلك إذا انعدم بعد الوجود.
وعند أهل السنة: المعدوم نفي محض، وهم مع ذلك قائلون بجواز إعادته، وللمتكلمين في جواز إعادة الأعراض قولان: جواز إعادتها وهو الحق، لأنه تعالى على كل شيء قدير.
والثاني: قول الفلاسفة ومن وافقهم من المعتزلة كأبي الحسين البصري (3)، والخوارزمي (4)؛ والكرامية (5).
فالمعاد الجسماني واجب الاعتقاد، ومنكره من أهل الكفر والإلحاد.
قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه "الروح" كشيخه شيخ الإسلام وغيرهما
(1) انظر: شرح العقائد النسفية (ص 135).
(2)
ساقطة في الأصل وأثبتها من "ظ".
(3)
تقدم (1/ 186).
(4)
لم يتضح لي من هو؟.
(5)
تقدم التعريف بالكرامية (1/ 138).
وانظر اختلاف المتكلمين في إعادة الأعراض في المقالات للأشعرى: (2/ 60)؛ وفي أصول الدين للبغدادي (ص 232 - 234)؛ وفي لوامع الأنوار (2/ 160 - 161). وانظر هذا المبحث في لوامع الأنوار (2/ 157).
من علماء الحق الأعلام: "معاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى"(1).
وكذا قال الجلال الدواني: (2)"معاد الأبدان بإجماع أهل الملل، وبشهادة نصوص القرآن بحيث لا يقبل التأويل"(3).
وقد أخرج ابن جرير (4)؛ وابن المنذر (5)، و"ابن أبي حاتم"(6)، والإسماعيلي (7) في معجمه، والحافظ الضياء (8) في المختارة، وابن مردويه (9)، والبيهقي (10) في البعث والنشور عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء العاص
(1) الروح لابن القيم (ص 74).
(2)
محمد بن أسعد الصديقي الدواني جلال الدين الشافعي، فقيه متكلم حكيم منطقي فيلسوف مفسر مشارك في بعض العلوم له مصنفات كثيرة توفى سنة 918.
الضوء اللامع (7/ 133)؛ والأعلام (6/ 32 - 33)؛ ومعجم المؤلفين (9/ 47).
(3)
ذكره الشارح في اللوامع (2/ 158).
(4)
تقدم (1/ 261).
(5)
محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري أبو بكر فقيه مجتهد من الحفاظ كان شيخ الحرم بمكة، قال الذهبي: ابن المنذر صاحب الكتب لم يصنف مثلها منها: المبسوط في الفقه؛ والأوسط في السنن والإجماع والاختلاف؛ والإجماع؛ واختلاف العلماء؛ وتفسير القرآن؛ وغير ذلك، توفى سنة 319.
تذكرة الحفاظ (3/ 782)؛ وسير أعلام النبلاء (14/ 490)؛ والأعلام (5/ 294).
(6)
في النسختين (أبو حاتم) والصحيح ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (7/ 74)؛ وفي تفسير ابن كثير (7/ 117) وقد تقدمت ترجمة ابن أبي حاتم (2/ 186).
(7)
الإسماعيلي: تقدم (2/ 212).
(8)
الضياء: تقدم (1/ 242).
(9)
تقدم (1/ 288).
(10)
تقدم (1/ 202).
ابن وائل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته بيده فقال يا محمد يحيي اللَّه هذا بعد ما أرم؟ قال: نعم يبعث اللَّه هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم".
فنزلت الآيات من آخر يس: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} [يس: 77 - 83] إلى آخر السورة (1).
فهذا نص صريح في الحشر الجسماني، يقلع عرف التأويل بالكلية من قلوب أهل التواني.
ولذا قال الفخر الرازي (2)"الإنصاف أنه لا يمكن الجمع بين الإيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وبين نفي الحشر الجسماني".
وكذا لا يمكن القول بقدم العالم، كما يقول الفلاسفة، وبين الحشر الجسماني.
والنشور: يرادف البعث.
والحشر لغة: الجمع، والمراد به جمع أجزاء الإنسان بعد التفرق، ثم إحياء الأبدان بعد موتها فيعيد جميع العباد، ويعيدهم بعد إيجادهم بجميع أجزائهم الأصلية وهى التي من شأنها البقاء من أول العمر إلى آخره ويسوقهم إلى محشرهم لفصل القضاء، فكل هذا حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع أهل الحق (3).
(1) والحديث رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 30 - 31) عن سعيد ابن جبير به ولم يذكر ابن عباس.
ورواه الإسماعيلي في معجمه (ص 742) رقم (359)؛ والحاكم في المستدرك (2/ 429) عن ابن عباس مرفوعًا.
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وانظر الدر المنثور (7/ 74).
(2)
تقدم (1/ 186).
(3)
انظر: هذا المبحث في لوامع الأنوار (2/ 158) بتوسع أكثر.
ففي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: "إنكم ملاقوا اللَّه حفاة عراة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104](1).
ومثله في الصحيحين أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها (2).
ومثله أيضًا من حديث أم سلمة أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح وفيه: فقالت أم سلمة رضي الله عنها فقلت يا رسول اللَّه واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال: شغل الناس، فقلت: ما شغلهم؟ قال: نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل" (3).
وروي مثله عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها: "شغل الناس {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37].
رواه الطبراني أيضًا ورواته ثقات (4).
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (6/ 445) في الأنبياء باب قول اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} رقم (3349) وفي مواضع أخر. انظر الأرقام (3447) و (4625) و (4626)، (4740) و (6524) - (6526)؛ ومسلم رقم (2860 في كتاب الجنة، باب فناء الدنيا وبيان الحشر ويوم القيامة.
(2)
رواه البخاري في صحيحه (11/ 385) في الرقاق، باب كيف الحشر، ومسلم رقم (2859) في كتاب الجنة، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة.
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (10/ 333) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن موسى بن أبي عياش وهو ثقة.
(4)
رواه الطبراني في المعجم الكبير (24/ 34).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 333) رجاله رجال الصحيح غير محمد بن (أبي) عياش وهو ثقة. وأورده ابن كثير في النهاية (1/ 209)؛ وقال رواه البيهقي وإسناده جيد.
والحاصل أن إعادة الأجسام حق يجب الإيمان به ثم هذه الإعادة هل هي للعدم المحض، أو التفريق المحض؟
والمشهور أنه جمع متفرق، والأصح أنه إيجاد بعد عدم.
وقد نص عليه علماء السنة، وكذا المعتزلة، وهو مذهب أهل التحقيق وباللَّه التوفيق (1).
فينفخ إسرافيل في الصور (2) نفخة البعث والنشور كما جاء في الكتاب العزيز المكنون:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51].
وقوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68].
وقوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 8 - 10].
وقوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ. . .} الآيه [ق: 41 - 42].
قال المفسرون: المنادي هو إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور وينادي أيتها العظام البالية الأوصال والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة إن اللَّه يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء (3) وقيل ينفخ إسرافيل وينادي جبريل (4).
(1) انظر: لوامع الأنوار (2/ 160).
(2)
في "ظ" قف على النفخ في الصور.
(3)
قاله كعب الأحبار ومقاتل. انظر: الدر المنثور (7/ 611) وتفسير ابن كثير والبغوي (8/ 57).
(4)
تفسير القرطبي (17/ 27).
قال جماعة من المفسرين المكان القريب: صخرة بيت المقدس (1).
وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما بين النفختين -أي نفخة الصعق، ونفخة البعث أربعون، قيل أربعون يومًا؟ قال أبو هريرة أبيت قيل أربعون شهرًا؟ قال: أبيت. قيل أربعون سنة؟ قال أبيت، ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة".
وفي رواية لمسلم: إن في الإنسان عظمًا لا تأكه الأرض أبدًا فيه (يركب)(2) الخلق يوم القيامة، قالوا: أي عظم هو يا رسول اللَّه؟ قال: عجب الذنب" ورواه مالك وأبو داود والنسائي باختصار (3).
وروى نحوه الإمام أحمد وابن حبان من حديث أبي سعيد مرفوعًا: قيل وما هو يا رسول اللَّه؟ قال: "مثل حبة خردل منه تنبتون"(4).
(1) قاله ابن عباس وقتادة وغيرهم. انظر الدر المنثور (7/ 612)؛ والقرطبي في تفسيره (17/ 27)؛ والتذكرة له (ص 246 - 247)؛ ولوامع الأنوار (2/ 164).
(2)
في النسختين فيه ركب الخلق والمثبت من صحيح مسلم.
(3)
الحديث أخرجه البخاري (8/ 413) رقم (4813) في التفسير باب {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]؛ ومسلم رقم (2955) في الفتن: باب ما بين النفختين، ومالك في الموطأ (1/ 239) في الجنائز، باب جامع الجنائز؛ وأبو داود رقم (4743) في السنة، باب في ذكر المبحث والصور؛ والنسائي (4/ 91) في الجنائز باب أرواح المؤمنين.
(4)
أخرجه الإمام في المسند (3/ 28)؛ وابن حبان في صحيحه الإحسان (5/ 55 - 56) ولفظه: "يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه قيل ومثل ما هو يا رسول اللَّه؟ قال: مثل حبة خردل منه تنبتون" قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 332) بعد إيراده: "إسناده حسن".
وفي تفسير الثعلبي (1)، وابن عطية (2) عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم: "إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أمطر عليهم أربعين عامًا كمني الرجال من تحت العرش يدعى ماء (الحيوان)(3) فينبتون من قبورهم بذلك المطر كما ينبت الزرع من الماء حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم نومة فينامون في قبورهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم في أعينهم كما يجده النائم إذا استيقظ من نومه فعند ذلك يقولون {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] (4).
وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه، قال اللَّه تعالى:{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34] أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه".
قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا (5).
(1) الثعلبي: تقدم (1/ 375).
(2)
ابن عطية: تقدم (2/ 195).
(3)
في "ظ" الحياة والمثبت من الأصل، ومن كتب مصادر الأثر في التفسير.
(4)
وأما الأثر ذكره ابن جرير في تفسيره (12/ 493 - 494) تحقيق أحمد شاكر، طبع المعارف بمصر، عن أبي هريرة بغير إسناد؛ وذكره البغوى في تفسيره (3/ 493) عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما ولم يسنده وأورده ابن عطية في تفسيره (7/ 85) من رواية ابن جرير. وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله:"لم أجد هذا النص في شيء من مراجعي".
(5)
سبق تخريجه في التعليق على (2/ 216). فقرة 4.
ثم يقف الناس على أرض "قد مدها اللَّه كما يمد الأديم العكاظي"(1) "فهم في ضيق مقامهم فيها كضيق سهام اجتمعت في كنانتها، فالسعيد يومئذ من يجد لقدمه مقامًا، وأكثر الأقدام يومئذ بعضها على بعض (2) لأن اللَّه يجمع في ذلك اليوم الأولين والآخرين، ويوم الوقوف أهوال عظيمة وكربات جسيمة تذيب الأكباد وتذهل المراضع وتشيب الأولاد (3) وهو حق ثابت ورد به الكتاب والسنة، وانعقد عليه الإجماع وهو يوم القيامة لقيام الناس من قبورهم فيقومون لرب العالمين.
(1) وردت هذه الصفة في حديث الصور الطويل الذي رواه أبو يعلى الموصلي، كما في النهاية لابن كثير (1/ 172 - 178) والطبراني في الكبير (25/ 266) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وقد تكلم الحافظ ابن كثير عليه متنًا وإسنادًا.
النهاية لابن كثير (1/ 172) وما بعدها؛ وتفسيره (3/ 337) وما بعدها.
ووردت من قول ابن عباس رواه البيهقي في البعث والنشور. انظر الدر المنثور (5/ 57).
ومعنى الأديم العكاظي: الأديم الجلد.
وعكاظ: اسم سوق من أسواق العرب، وموسم من مواسم الجاهلية، كانت قبائل العرب يجتمعون بها كل سنة فيتفاخرون ويحضرها الشعراء فيتناشدون ما أحدثوا من الشعر -وهي في موضع قرب الطائف.
وعكاظي: منسوب إليها وهو مما حمل إلى عكاظ فبيع بها.
لسان العرب (9/ 327)(عكظ)؛ المغرب (1/ 33).
(2)
ذكر الشارح رحمه الله في كتابه اللوامع (2/ 168) أن هذا من كلام ابن عباس.
وأخرج الوائلي كما في التذكرة للقرطبي (1/ 289) نحوه عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص مرفوعًا.
وأخرج ابن المبارك في الزهد (ص 110)(الزيادات) عن عبيد اللَّه بن العيزار نحوه.
(3)
في "ظ": الأطفال.
ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] قال: "يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه (1) قال ابن عمر رضي الله عنه: "يقومون مائة سنة" (2).
ويروى عن كعب (3): "يقومون ثلاثمائة سنة"(4)
وروى أبو يعلى بإسناد صحيح، وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة -رضى اللَّه عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يوم يقوم الناس لرب العالمين مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب"(5).
(1) رواه البخاري في صحيحه (8/ 565) رقم (4938) في التفسير باب: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ؛ ومسلم رقم (2862) في كتاب الجنة، باب في صفة يوم القيامة.
(2)
رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (30/ 92).
(3)
كعب بن ماتع الحميري اليماني العلامة الحبر، المعروف بكعب الأحبار، كان يهوديًا فأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر رضي الله عنه فجالس الصحابة رضي الله عنهم فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب ويأخذ السنن عن الصحابة، وكان حسن الإسلام، متين الديانة من نبلاء العلماء، مات في آخر خلافة عثمان.
سير أعلام النبلاء (3/ 489).
(4)
رواه عنه ابن جرير في تفسيره (3/ 93) وابن المنذر؛ كما في الدر المنثور (8/ 443).
(5)
رواه أبو يعلى في مسنده (10/ 415) رقم (6025)؛ وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (9/ 216) رقم (7289).
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 337).
وقال: "رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، غير إسماعيل بن عبد اللَّه بن خالد وهو ثقة".
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يومًا كان مقداره خمسين ألف سنة" فقيل ما أطول هذا اليوم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة"(1).
وقيل: مقدار الوقوف ألف سنة كما رواه الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعًا ولفظه: "أما مقام الناس بين يدى رب العالمين فألف سنة لا يؤذن لهم"(2).
وأخرج البيهقي عنه مرفوعًا: "يمكثون ألف عام في الظلمة يوم القيامة لا يكلمون"(3).
وروى ابن أبي الدنيا والطبراني من طرق أحدها صحيح والحاكم، وقال صحيح الإسناد عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يجمع اللَّه الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قيامًا أربعين سنة شاخصة أبصارهم ينتظرون فصل القضاء. . ."(4) الحديث.
(1) رواه الإمام أحد في المسند (3/ 75)؛ وأبو يعلى في مسنده (2/ 527) رقم (1390)؛ وابن حبان في صحيحه الإحسان (9/ 216) رقم (7290)؛ وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 337) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى وإسناده حسن على ضعف في روايته".
قلت: ويشهد له الحديث الذي قبله.
(2)
رواه الطبراني كما في مجمع الزوائد (10/ 337) بأطول مما ذكر المؤلف، وقال الهيثمي رواه الطبراني، وفيه هشام بن بلال ولم أعرفه وبقية رجاله وثقوا.
تنبيه: وقع عند الشارح هنا ابن عمر والذي في مجمع الزوائد: عبد اللَّه بن عمرو.
(3)
لم أجده.
(4)
رواه الحاكم (2/ 376 - 377) وفي (4/ 589 - 592)؛ والطبراني في الكبير (9/ 416 - 421) رقم (9763) في حديث طويل واللفظ للطبراني.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 343): "رواه الطبراني من طرق ورجال أحدها رجال الصحيح غير أبي خالد الدالاني وهو ثقة.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا ويلجمهم حتي يبلغ آذانهم.
وفي بعض ألفاظ الصحيح: "سبعين باعًا"(1).
وفي مسلم عن المقداد رضي الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين قال: فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق كقدر أعمالهم منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجامًا"(2).
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "الأرض كلها نار يوم القيامة، والجنة من ورائها كواعبها وأكوابها، والذي نفس عبد اللَّه بيده إن الرجل ليفيض عرقًا حتى (يسيح) (3) في الأرض قامته ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب، قالوا مم ذاك يا أبا عبد الرحمن، قال: مما يرى الناس"(4).
(1) رواه البخاري (11/ 400) في الرقاق، باب قول اللَّه تعالى {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} ؛ ومسلم رقم (2863) في كتاب الجنة، باب في صفة القيامة أعاننا اللَّه على أهوالها.
(2)
رواه مسلم رقم (2864) في كتاب الجنة، باب في صفة يوم القيامة أعاننا اللَّه على أهوالها.
(3)
في "ظ": يسيخ بالخاء والمثبت متى الأصل ومن المصادر.
قال ابن الأثير في معنى: سيح: "أصله من السيح وهو الماء الجاري المنبسط على وجه الأرض، والمعنى أن العرق يرتفع قدر طوله. النهاية (3/ 432).
(4)
رواه الطبراني في الكبير (9/ 168) رقم (8771)؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 336): "رواه الطبراني موقوفًا ورجاله رجال الصحيح"، وقال المنذري في الترغيب (4/ 744 - 745): إسناده جيد قوي.
رواه الطبراني بإسناد جيد قوي.
وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا مرفوعًا: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة فيقول: يا رب أرحني ولو إلى النار".
ورواه أبو يعلى وابن حبان بلفظ: "إن الكافر ليلجمه العرق"(1).
وأخرج الحاكم وصححه عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: " (إن العرق) (2) ليلزم المرء في الموقف حتى يقول: يا رب إرسالك بي إلى النار أهون عليَّ مما أجد، وهو يعلم ما فيها من شدة العذاب"(3).
ثم يقع الحساب والفصل بين العباد بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي هى لفصل القضاء، وهي الشفاعة العظمى التي يتدافعها ذوو (العزم)(4) من الأنبياء من آدم إلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام إلى أن تنتهى إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول أنا لها
(1) رواه الطبراني في الكبير (10/ 122 - 123، 131) وأبو يعلى في مسنده (8/ 398) رقم (4982)؛ وابن حبان في صحيحه الإحسان (9/ 216).
قال المنذري في الترغيب (4/ 745): "إسناده جيد".
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 336): "رواه الطبراني مرفوعًا وموقوفًا بإسنادين ورواه في الأوسط. . . ورجال الكبير رجال الصحيح، وفي رجال الأوسط محمد بن إسحاق وهو ثقة ولكنه مدلس".
(2)
كذا في النسختين، وفي المستدرك (4/ 577)(إن العار).
(3)
أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 577)؛ وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: "قلت الفضل واه".
وقال المنذري في الترغيب: رواه البزار والحاكم عن حديث الفضل بن عيسى وهو واه".
الترغيب 4/ 745 - 746، وذكره الألباني في ضعيف الجامع 2/ 57 رقم 1469.
(4)
في الأصل: (ذوو الغرام) وهو خطأ والمثبت من "ظ" وهو الصواب.
وهي المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، وهي تعم جميع أهل الموقف لأجل إراحتهم من ألم الوقوف والشروع في الحساب، وأحاديثها بلغت التواتر (1).
وهذه الشفاعة مجمع عليها لم ينكرها أحد ممن يقول بالحشر من هذه الأمة، إذ هي للإراحة من طول الوقوف.
ثم الحساب: مصدر حاسب وحسب الشيء يحسبه بالضم إذا عده وهو معنى قول من قال الحساب لغة: العد.
واصطلاحًا: توقيف اللَّه عباده قبل الإنصراف من المحشر على أعمالهم خيرًا كانت أو شرًا تفضيلًا.
قال الثعالبي: الحساب (2) تعريف اللَّه عز وجل الخلائق مقادير الجزاء على أعمالهم (وتذكيره إياهم)(3) ما قد نسوه من ذلك كما دل عليه قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].
(1) انظر: أحاديث الشفاعة في جامع الأصول (10/ 475) وما بعدها؛ ومسلم بشرح النووي (3/ 53) وما بعدها؛ وتفسير ابن كثير (5/ 215) وما بعدها، عند قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} ؛ وتهذيب سنن أبي داود لابن القيم (7/ 29) وما بعدها. وقد أوردها في الأحاديث المتواترة كل من: مرتضى الزبيدي في لفظ اللآلي المتناثرة في الأحاديث المتواترة (ص 75)؛ والسيوطي في قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة رقم (112)(ص 303)؛ والكتاني في نظم المتناثر في الحديث المتواتر (ص 149 - 150).
(2)
ساقطة من "ظ".
(3)
في "ظ": (وتذكيرهم إياه) والمثبت من الأصل وهو الصحيح.
فيكلم اللَّه تعالى عباده في شأن أعمالهم، وما لها من الثواب وما عليها من العقاب (1) كما ورد ذلك في السنة (الصحيحة المريحة)(2) ومحكم الكتاب.
قال القرطبي كغيره من أهل العلم: إن اللَّه سبحانه يكلم المسلمين عند الحساب من غير ترجمان (3) إكرامًا لهم ولا يكلم الكافرين، بل تحاسبهم الملائكة إهانة لهم وتمييزًا لأهل الكرامة (4) فإذا خلصوا من الحساب وصاروا إما إلى الجنة وإما إلى النار وهي -يعني النار- (5) دار الكفار بالأصالة. وربما دخلها طوائف من المسلمين من أهل المعاصي وكبائر الذنوب فيعذبون فيها بذنوبهم، ثم تدركهم رحمة أرحم الراحمين وشفاعة النبيين (والصدقين)(6) فيخرجون منها. . .
والى هذا أشار الناظم بقوله: (وقل)(7) أيها المؤمن بالقرآن وبالنبي المصطفى سيد ولد عدنان، وبما جاء به من الشريعة الواضحة البرهان الفاضحة
(1) انظر: هذا المعنى في تفسير القرطبي (1/ 435)؛ والخازن (1/ 131)؛ ولوامع الأنوار (2/ 171 - 172).
(2)
ما بين القوسين ليس في "ظ".
(3)
كما جاء ذلك في الأحاديث الصحيحة من ذلك: ما رواه البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه اللَّه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، ثم ينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئًا قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئًا قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار فإن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل".
انظر فتح الباري (13/ 433) رقم (7443)؛ ومسلم رقم (1016).
(4)
انظر: التذكرة للقرطبي (ص 272).
(5)
ساقطة من "ظ".
(6)
في الأصل: (والصدقين) والمثبت من "ظ" وهو الصواب.
(7)
كتب هنا في هامش "ظ" بلغ مقابلة.
لأهل الإفك والزيغ والبهتان من سائر الملل والأديان مفصحًا بلسانك ومعتقدًا بجنانك، منقادًا بسائر جوارحك وأركانك (يخرج اللَّه العظيم بفضله)(1) العميم وكرمه الجسيم وعفوه الفخيم (من النار) المعهودة التي هى نار جهنم الموقودة (أجسادًا) بعد دخولها فيها وإصابتها من عذابها ما تستحقه منها.
كما في صحيح مسلم والحاكم من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته (2) ومنهم من تأخذه إلى ترقوته"(3)(4).
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يدخل قوم النار من هذه الأمة فتحرقهم النار إلا دارت وجوههم ثم يخرجون منها"(5).
وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس
(1) كتب في هامش "ظ": قف على ذكر الشفاعة وأنواعها.
(2)
في "ظ": عجزته، ومعنى حجزته: أي مشد إزاره. النهاية (1/ 344).
(3)
في "ظ": (ترقوته) وهو خطأ.
(4)
رواه مسلم رقم (2845) في كتاب الجنة، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين (4/ 2185)؛ والحكم في المستدرك (4/ 586)؛ وليس في هذا الحديث دليل على مراد المؤلف من خروج العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من النار لكن سيأتي من الأحاديث ما يدل على ذلك، واللَّه أعلم.
(5)
رواه مسلم رقم (319) في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1/ 178).
أصابتهم النار بذنوبهم فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحمًا أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر".
قال في النهاية: "أي جماعات في تفرقة واحدتها ضبارة مثل عمارة وعماير وكل مجتمع ضبارة".
وفي رواية أخرى: "فيخرجون ضبارات ضبارات" هو جمع صحة للضبارة والأول جمع تكسير" انتهى (1).
"فبثوا على أنهار الجنة".
وهو معنى قول الناظم: (من الفحم): أي بعد ما صاروا فحمًا، والفحم: محركة وبسكون الحاء المهملة، وكأمير: الجمر الطافي والفحمة واحدته (2).
(تطرح): أي ترمى وتلقى، يقال طرحه وطرح به كمنعه رماه وأبعده كطرحه واطرحه (3) -كما في القاموس- (4).
(على النهر): متعلق بتطرح (في) جنة (الفردوس): وهذا معنى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المذكور: "فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة (ثم قيل)(5) يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة
(1) النهاية (3/ 71 - 72).
(2)
القاموس (4/ 160)(فحم).
(3)
في "ظ" واطره.
(4)
القاموس (1/ 245)(طرح).
(5)
في الأصل: (فيسيل).
وفي "ظ"(فيسئل). والمثبت من صحيح مسلم.
في حميل (1) السيل" (2).
وهو المراد بقول الناظم رحمه اللَّه تعالى: (تحيا) تلك الأجساد بعد ما صارت فحمًا وطرحت على النهر الذي هو في جنة الفردوس بإصابة (مائة) أي ماء ذلك النهر لتلك الأجساد، وتنبت تلك الأجساد بسيلان ماء أنهار الجنة عليها كما تنبت (حبة حمل السيل) أي الحبة التي يحملها السيل (إذ جاء) ذلك (3) السيل: أي وقت مجيئه.
(يطفح): أي يفيض، يقال: طفح الإناء كمنع طفحًا، وطفوحًا امتلأ وارتفع وإناء طفحان يفيض من جوانبه.
قوله: (4) نبات الحبة: أي بكسر الحاء المهملة: بزر البقول والرياحين ونحوها.
وأما ما تفتح حاؤه فهو ما يبذر، ذكره الحافظ المنذري (5).
وقوله: (في حميل السيل) يعني بفتح الحاء المهملة وكسر الميم هو الزبد وما يقبله على شاطئه ومثله الغثاء.
قال: في النهاية: "الغثاء بالضم والمد ما يجيء فرق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره".
(1) في "ظ": حبيل وهو خطأ.
(2)
حديث أبي سعيد أخرجه مسلم في صحيحه رقم (185) في الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار (1/ 172 - 173).
(3)
في "ظ" ذاك.
(4)
من هنا سقط في نسخه "ظ" إلى قوله فيما يأتي (238) قال الحافظ ابن رجب.
(5)
انظر: الترغيب والترهيب (4/ 784) وقد مضت ترجمة المنذري (1/ 204).
قال: وفي كتاب مسلم "كما تنبت الغثاة" يريد ما احتمله السيل من البزورات ومنه حديث الحسن: "هذا الغشاء الذي كنا نحدث عنه" يريد أراذل الناس وسقطهم" (1).
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أيضًا- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة للَّه تعالى في استيفاء الحق من المؤمنين للَّه تعالى يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون ويصلون معنا ويحجون، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذت النار أنصاف ساقية وإلى ركبتيه فيقولون: ربنا ما بقى فيها أحد مما أمرتنا به فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون ربنا لم نذر ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار. . ." الحديث.
ثم "مثقال ذرة".
وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرأوا إن شئتم {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].
فيقول اللَّه تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج بها قومًا لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون
(1) النهاية (3/ 343).
كما تخرج الحبة في حمل السيل (1)(2).
قال الحافظ ابن رجب (3) في كتابه "صفة النار"(4) المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لم يعملوا خيرًا قط من أعمال الجوار وإن كان أصل التوحيد معهم، ولهذا جاء في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار أنه لم يعمل خيرًا قط غير التوحيد. أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا" (5).
وأخرج الحاكم بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري أيضًا رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. . . وفيه: "ومنهم من أخذته (أي النار) إلى عنقه ولم تغش الوجوه" قال: "فيستخرجونهم فيطرحون في ماء الحياة، قيل: يا نبي اللَّه وما ماء الحياة؟ قال: غسل أهل الجنة فينبتون فيها كما تنبت الزرعة في غثاء السيل ثم يشفع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في كل من كان يشهد أن لا إله إلا اللَّه مخلصًا فيستخرجونهم منها ثم يتحنن اللَّه سبحانه برحمته على من فيها فما يترك فيها عبدًا في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا أخرجه منها"(6).
(1) أخرجه البخاري (13/ 431) في التوحيد باب {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وفي تفسير سورة النساء، باب {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، وفي تفسير سورة {ن وَالْقَلَمِ} ؛ ومسلم رقم (183) في الإيمان باب معرفة طريق الرؤية، بأطول مما ذكره المؤلف.
(2)
نهاية السقط في نسخة "ظ".
(3)
ابن رجب: تقدم (1/ 177).
(4)
اسمه بالكامل: "التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار" والنص فيه (ص 260).
(5)
أخرجه البخاري (6/ 594) في الأنبياء؛ وفي الوحيد رقم (7506)؛ ومسلم رقم (2756) في التوبة باب في سعة رحمة اللَّه وأنها سبقت غضبه.
وأخرجه أحمد في المسند (1/ 398، 2/ 304).
(6)
أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 585 - 586) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".
وأخرجاه في الصحيحين عنه مرفوعًا ولفظه: "يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول اللَّه عز وجل: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحياء أو الحياة بالشك من الإمام مالك فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملوية"(1). هذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: "فيخرجون منها حممًا قد امتحشوا"(2) -أي احترقوا والمحش احتراق الجلد وظهور العظم- كما في النهاية. (3).
ويروى: "امتحشوا بضم المثناة فوق مبنيًا لما لم يسم فاعله"(4).
وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع اللَّه الناس يوم القيامة. . ." الحديث وفيه: "حتى إذا فرغ تعالى من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك باللَّه شيئًا ممن دخل النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرم اللَّه على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل"(5).
(1) في النسختين: متلوية والمثبت من صحيح البخاري.
(2)
أخرجه البخاري (1/ 91) في الإيمان باب تفاضل أهل الإيمان، وفي الرقاق باب صفة الجنة والنار؛ ومسلم رقم (184) في الإيمان باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار.
(3)
النهاية (4/ 302).
(4)
نفس المصدر.
(5)
رواه البخاري (11/ 453) في الرقاق باب الصراط جسر جهنم وفي صفة الصلاة باب =
وظاهر ما قدمنا من الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة على أن هؤلاء يموتون حقيقة وتفارق أرواحهم أجسادهم، ويدل له أيضًا ما أخرجه البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"إن أدنى أهل الجنة حظًا أو نصيبًا قوم يخرجهم اللَّه تعالى من النار فيرتاح لهم الرب تبارك وتعالى وذلك أنهم كانوا لا يشركون باللَّه شيئًا فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل حتى إذا دخلت الأرواح أجسادهم فيقولون ربنا (كما) (1) أخرجتنا من النار ورجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوهنا عن النار فيصرف وجوههم عن النار"(2).
قال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-: في قوله صلى الله عليه وسلم: "فأماتهم اللَّه إماتة، هذه الموتة للعصاة موتة حقيقية لأنه أكدها بالمصدر وذلك تكريمًا لهم حتى لا يحسوا بالعذاب" قال: فإن قيل فأي فائدة حينئذ في إدخالهم النار وهم لا يحسون بالعذاب؟.
فالجواب يجوز أن يدخلهم تأديبًا لهم وإن لم يذوقوا فيها العذاب ويكون صرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالمحبوسين في السجن فإن السجن عقوبة لهم، وإن لم يكن من غل ولا قيد، قال: ويحتمل أنهم يعذبون أولًا وبعد ذلك يموتون ويختلف حالهم في طول التعذيب بحسب جرائمهم وآثامهم ويجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم غير أن آلامهم أخف من آلام الكفار (لأن آلام)(3) الكفار المعذبين وهم موتى أخف من عذابهم وهم أحياء دليله قوله تعالى: {وَحَاقَ
= فضل السجود، وفي التوحيد (13/ 430) باب قول اللَّه تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ومسلم رقم (182) في الإيمان باب معرفة طريق الرؤية.
(1)
ساقطة من "ظ".
(2)
أخرجه البزار كما في كشف الأستار (4/ 211) رقم (3554). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 401): "رواه البزار ورجاله ثقات".
(3)
ساقط من "ظ".
بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. . .} إلى قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45 - 46].
فأخبر أن عذابهم إذا بعثوا أشد من عذابهم وهم موتى (1).
وقال في "مطامح الأفهام"(2): "يجوز أن يريد بالإماتة المذكورة أنه أنامهم وقد سمى اللَّه تعالى النوم وفاة (3) لأن فيه نوعًا من إعدام الحس وفي الحديث المرفوع: "إذا أدخل اللَّه الموحدين النار أماتهم فيها فإذا أراد أن يخرجهم منها أمسهم العذاب تلك الساعة" (4).
والمختار ما ذكره القرطبي (5) من كون الإماته حقيقة أن يكونوا عذبوا قبل الإماتة حتى ماتوا من ألم العذاب لطفًا بهم ورحمة (6) واللَّه أعلم.
تنبيه: أشار الناظم رحمه اللَّه تعالى بقوله: "وقل يخرج اللَّه العظيم بفضله من
(1) انظر التذكرة للقرطبي (409 - 410، 501 - 502).
(2)
مطامح الأفهام في شرح الأحكام للقاضي عياض بن موسى اليحصبي. ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (2/ 1718).
(3)
كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا. . . .} [الزمر: 42].
(4)
أشار الحافظ ابن حجر في فتح البخاري (11/ 471) إلى هذه الرواية قال: ووقع في حديث أبي هريرة: "أنهم إذا دخلوا النار ماتوا فإذا أراد اللَّه إخراجهم أمسهم ألم العذاب تلك الساعة" ولعله يشير إلى حديث أبي هريرة الذي تقدم قبل قليل.
(5)
في النسختين (مع) ولعل الصواب ما أثبتنا.
(6)
ورجحه النووي في صرح مسلم (3/ 38)؛ وابن تيمية في الفتاوى (1/ 195 - 196)، والحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/ 471)؛ وابن رجب في كتاب التخويف من النار (ص 262)؛ وانظر التذكرة للقرطبي (ص 409 - 410، 501 - 502).
النار. . ." إلخ إلى خلاف الخوارج والمعتزلة.
فالخوارج يكفرون عصاة الأمة.
والمعتزلة يقولون بخروجهم من الإسلام وعدم دخولهم في الكفر فيثبتون منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر، ومع ذلك يخلدونهم في النار إذا لم يتوبوا فعند الخوارج والمعتزلة جميعًا أن من دخل النار لا يخرج منها أبدًا، بل كل من دخلها يخلد فيها أبد الآباد محتجين بظاهر قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48].
وبقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18].
فزعموا أن كل من دخل جهنم يخلد فيها لأنه إما كافر، أو صاحب كبيرة مات بلا توبة، هذا رأيهم ورأي من وافقهم وهو فاسد ومذهب مبطل معاند ترده الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة وإجماع أهل الحق أيدهما اللَّه تعالى رحمة للخلق.
وأجابوا عن الآية الكريمة أن المراد بقوله تعالى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} الكفار للآيات الواردة والأخبار الثابتة في الشفاعة.
قال القاضي البيضاوي: (1)"تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر، وأجيب بأنها مخصوصة بالكفار، ويؤيد هذا أن سياق الخطاب معهم، والآية نزلت ردًا لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم تشفع لهم" انتهى (2).
وأجابوا أيضًا عن قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أن
(1) تقدمت ترجمته (1/ 168).
(2)
تفسير البيضاوي (1/ 60).
المراد بالظالمين الكفار، فإن الظالم على الإطلاق هو الكافر.
وزعمت (1) المعتزلة أيضًا في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] ومن أخزاه اللَّه لا يرتضيه، ومن ارتضاه لا يخزيه، قال تعالى:{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ. . .} [التحريم: 8].
والجواب عن الآية الأولى ما قال سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معنى (من تدخل): من تخلد" (2).
وقال قتادة: "تدخل مقلوب تخلد ولا نقول كما قالت أهل حرورا (3) -يعني الخوارج-"(4).
فعلى هذا قوله: {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} على باب من الهلاك أي أهلكته وأبعدته ومقته.
(1) كذا في النسختين ولعل الصواب، واحتجت المعنزلة بقوله تعالى. . . .
(2)
رواه ابن جرير في تفسيره (4/ 211).
(3)
حروراء: بفتحتين وسكون الواو وراء أخرى وألف ممدوة قرية بظاهر الكوفة بالعراق نزل بها الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب فنسبوا إليها.
معجم البلدان (2/ 245).
(4)
الخوارج سبق التعريف بهم (1/ 178) والأثر عن قتادة أورده القرطبي في تفسيره (4/ 316)؛ وفي التذكرة (ص 414).
ولهذا قال سعيد بن المسيب: "الآية جاءت خاصة في قوم لا يخرجون من النار"(1).
دليله قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي الكفار، وإن سلم أن الآية في عصاة الموحدين، فالمراد بالخزي: الحياء، يقال: خزي خزاية إذا استحى فهو خزيان وامرأة خزيا فخزى المؤمنين يومئذ استحياؤهم من دخول النار، ودار البوار مع أهل الشرك والكفار ثم يخرجون بشفاعة النبي الكريم ورحمة الرؤوف الرحيم (2).
وفي النصرة لا يستلزم نفي الشفاعة لأنها طلب مع خضوع والنصرة ربما تنبني بالمدافعة والممانعة (والاستعلا)(3) على أننا نقول لا يسلم لهم زعمهم أن الفاسق غير مرضي مطلقا بل هو مرضي من جهة الإيمان والعمل الصالح وإن كان مبغوضًا من جهة الذنوب والعصيان وارتكاب القبائح، بخلاف الكافر فإنه ليس بمرضى مطلقًا لعدم الأساس الذي تنبني عليه الحسنات والاعتداد بالكمالات وهو الإيمان (4).
والحاصل أن من الواجب اعتقاده أن اللَّه تعالى يخرج من النار بفضله وبشفاعة أنبيائه وأهل القرب منه كل موحد وإن كان فاسقًا ولو لم يتب خلافًا للخوارج والمعتزلة (5) واللَّه أعلم.
(1) انظر: الدر المنثور (2/ 410).
(2)
انظر التذكرة للقرطبي (ص 414 - 415)؛ وتفسيره (4/ 316).
(3)
ساقط من "ظ".
(4)
انظر شرح المقاصد (5/ 157) وما بعدها؛ لوامع الأنوار (2/ 217 - 218).
(5)
انظر: اتفاق أهل السنة على ثبوت الشفاعة وخروج العصاة من الموحدين من النار والرد على المعتزلة والخوارج في إنكارها، صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 35)؛ ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (1/ 148) وما بعدها؛ (11/ 184 - 185) وشرح العقيدة الطحاوية (ص 252) وما بعدها؛ والوحيد لابن خزيمة (2/ 588) وما بعدها، والسنة للآلكائي (6/ 1089) وما بعدها؛ والشريعة للآجري (ص 331) وما بعدها.