المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في الكلام على القدر - لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية - جـ ٢

[السفاريني]

الفصل: ‌فصل في الكلام على القدر

‌فصل في الكلام على القدر

قال في النهاية: "قد تكرر في الحديث ذكر القدر وهو: عبارة عما قضاه اللَّه وحكم به من الأمور.

وقال في القضاء إنه الفصل والحكم، وقد تكرر في الحديث ذكر القضاء أيضًا، وأصله القطع والفصل يقال قضى يقضي قضاء فهو قاض إذا حكم وفصل وقضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه فيكون بمعنى الخلق" (1).

قال الناظم رحمه اللَّه تعالى: (وبالقدر) وهو الأمر الذي قضاه اللَّه وحكم به من الأمور وهو مصدر قدر، يقدر قدرًا، وقد تسكن داله، وأل في القدر والقضاء عرض عن المضاف إليه أبي بقدر اللَّه.

وعرفه الماتريدية: "أنه تحديد اللَّه تعالى أزلًا كل مخلوق بحده الذي يوجد به من حسن وقبيح ونفع وضر وما يحويه من زمان ومكان وما يترتب عليه من طاعة وعصيان وثواب وعقاب وغفران"(2).

وعند الأشاعرة: إيجاد اللَّه تعالى الأشياء على قدر مخصوص، وتقدير معين في ذواتها وأحوالها طبق ما سبق به العلم وجرى به القلم" (3).

قال الخطابي (4): "قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من اللَّه والقضاء: معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه اللَّه (5) وقدره ويتوهم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فحج

(1) النهاية (4/ 22، 78).

(2)

انظر شرح العقائد النسفية للتفتازاني (ص 113).

(3)

انظر شرح جوهرة التوحيد للبيجوري (ص 113)؛ ولوامع الأنوار للمؤلف (1/ 345).

(4)

الخطابي تقدم (1/ 182).

(5)

ليس في "ظ".

ص: 113

آدم موسى" من هذا الوجه وليس كذلك وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم اللَّه تعالى بما يكون من فعل العباد واكتسابهم وصدورها عن تقدير منه تعالى وخلق لها خيرها وشرها، قال والقدر اسم لما صدر مقدرًا عن فعل القادر.

ولذا قال الناظم: (المقدور) أي المصادر عن المعبود تعالى مقدرًا محكمًا، كالهدم والنشر والقبض أسماء لما صدر عن فعل الهادم والناشر والقابض يقال: قدرت الشيء وقدرت خفيفه وثقيله بمعنى واحد والقضاء معناه في هذا الخلق كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] أي خلقهن وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي على العباد من وراء علم اللَّه تعالى فيهم أفعالهم واكتسابهم ومباشرتهم تلك الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار والحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها.

قال الخطابي: وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى عليهما السلام أن اللَّه تعالى كان قد علم من آدم أنه يتناول من الشجرة ويأكل منها فكيف يمكنه أن يرد علم اللَّه فيه ويبطله بعد ذلك، وبيان هذا في قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فأخبر قبل كون آدم إنما خلقه للأرض وأنه لا يتركه في الجنة حتى ينقله عنها إليها وإنما كان تناوله سببًا لهبوطه إلى الأرض التي خلق لها ليكون فيها خليفة واليًا على من فيها فإنما أدلى (1) آدم بالحجة على موسى لهذا المعنى ودفع لائمة موسى عليه السلام عن نفسه ولذلك قال: أتلومني على أمر قد قدره اللَّه عليَّ من قبل أن يخلقني. قال: فقول موسى عليه السلام وإن كان في النفوس منه شبهة وفي ظاهره متعلق لاحتجاجه بالسبب الذي جعل إمارة لخروجه من الجنة، فقول آدم عليه السلام في تعلقه بالسبب الذي هو بمنزلة الأصل

(1) في "ظ" أدلى إلى آدم وهو خطأ.

ص: 114

أرجح وأقوى، والفلج قد يقع من المعارضة بالترجيح كما يقع بالبرهان الذي لا معارض له (1) انتهى.

قلت والحديث الذي احتج فيه آدم على موسى عليهما السلام صحيح متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وروى أيضًا بإسناد جيد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظ الحديث: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن موسى قال: يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا من الجنة بخطيئته فقال موسى يا آدم أنت أبو البشر خلقك اللَّه بيده، ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك اللَّه بكلامه وكتب لك التوراة بيده فكم تجد فيها مكتوبًا وعصى آدم ربه فغوى قبل أن أخلق؟ قال بأربعين سنة. قال: أتلومني على أمر قد قدر عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة، قال: فحج آدم موسى"(2).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية روح اللَّه روحه: ظن طوائف في هذا الحديث أن آدم احتج بالقدر على الذنب وأنه حج موسى بذلك -فطائفة من هؤلاء يدعون التحقيق والعرفان يحتجون بالقدر على الذنوب مستدلين بهذا الحديث، وطائفة أخرى يقولون الاحتجاج به سائغ في الآخرة لا في الدنيا.

وأخرى تقول هو حجة للخاصة المشاهدين للقدر دون العامة، وطائفة أخرى كذبت بالحديث كأبي علي الجبائي أحد أئمة الاعتزال ومن نحى منحاه.

وطائفة تأولته تأويلات فاسدة مثل قول بعضهم: إنما حجه لأنه كان قد تاب،

(1) انظر: كلام الخطابي هذا في: معالم السنن للخطابي (ج 7/ 69 - 72) ونقله ابن الأثير في جامع الأصول (10/ 104 - 105)؛ والشارح في لوامع الأنوار (1/ 345 - 346).

(2)

رواه البخاري في القدر باب تحاج آدم وموسى عند اللَّه (ج 11/ 513) رقم (6614) ومسلم رقم (2652) في القدر باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام ومالك في الموطأ (2/ 898) في القدر باب النهي عن القول بالقدر، وأبو داود في السنة رقم (4701) باب في القدر، والترمذي رقم (2134) في القدر.

ص: 115

وقول آخر لأنه كان أباه والابن لا يلوم أباه، وقول آخر إن الذنب في شريعته واللوم في أخرى.

قال: وكل هذا تعريج عن مقصود الحديث لأن موسى عليه السلام قال لآدم عليه السلام لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله لا لأجل كونها ذنبًا، ولهذا احتج آدم عليه بالقدر، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه كثير من الناس فليس بمراد بالحديث، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس، قال ولأن آدم عليه السلام احتج بالقدر، وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل وسائر العقلاء" (1).

وقال شيخ الإسلام في كتابه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان": هذا الحديث قد ضلت به طائفتان: طائفة كذبت به لما ظنوا أن يقتضي رفع الذم والعقاب عمن عصى اللَّه تعالى لأجل القدر.

وطائفة شر من هؤلاء جعلوه حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه أو الذين لا يرون أن لهم فعلًا وذكر نحو ما قدمنا من الطوائف، ثم قال: "وكل هذا باطل ولكن وجه الحديث: أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة فقال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبًا وتاب منه فإن موسى عليه السلام يعلم أن التائب من الذنب لا يلام ولو كان آدم عليه السلام بعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/ 304) وما بعدها، ومنهاج السنة (3/ 78) وما بعدها، ودرء تعارض العقل مع النقل (8/ 418)؛ والتدمرية (81)؛ وشفاء العليل لابن القيم (ص 28) وما بعدها.

ص: 116

والمكلف مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب" (1).

إذا علمت هذا (فأيقن): أي أعلم علمًا جازمًا لا ريب فيه ولا شك يعتريه، والجار والمجرور الذي هو قوله:(وبالقدر المقدور) متعلق بأيقن.

قال في القاموس: "اليقين إزاحة الشك"(2).

(فإنه) أي الإيقان بالقدر المقدر والإيمان به (دعامة) قال في القاموس: "الدعمة والدعامة بكسرتين: عماد البيت، والخشب المنصوب للعريش والدعامة بالفتح: الشرط"(3) أي عمود (عقد الدين) الذي ينبني عليه، وشرطه الذي يعول عليه، والجمع: دعم ودعائم، و (أل) في الدين للعهد أي دين اللَّه الذي بعث اللَّه به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه وتقدم تعريف الدين في أول المنظومة وهو الوضع الإلهي السائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم، بالذات (والدين): الذي هو دين الإسلام: (أفبح): أي واسع لا حرج فيه.

قال في القاموس: "بحر أفيح وفياح بيّن الفيح واسع والفيحاء الواسعة من الدور"(4).

وفي حديث أم زرع: (وبيتها فياح)(5) أي واسع هكذا رواه عبيد مشددًا وصوب غيره التخفيف.

(1) الفرقان لابن تيمية (ص 106 - 107).

(2)

القاموس (4/ 280).

(3)

القاموس (4/ 113)(دعم).

(4)

القاموس (1/ 249 - 250)(فيح).

(5)

حديث أم زرع أخرجه البخاري (ج 9/ 163) رقم (5189) في النكاح باب حسن =

ص: 117