المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثناء القرآن الكريم على المهاجرين والأنصار: - ما قاله الثقلان في أولياء الرحمن

[عبد الله بن جوران الخضير]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌المدخل

- ‌المبحث الأول:تعريف لفظ «الصحابة»

- ‌أولاً: تعريف لفظ «الصحابي» لغة:

- ‌ثانياً: تعريف الصحابي اصطلاحاً:

- ‌المبحث الثاني:ثناء الثقلين على الصحابة رضي الله عنهم

- ‌المطلب الأول: ثناء الثقلين على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌الثناء على الصحابة رضي الله عنهم في كتاب الله:

- ‌ثناء أهل البيت عليهم السلام على الصحابة الكرام رضي الله عنهم

- ‌المطلب الثاني: ثناء الثقلين على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم

- ‌المطلب الثالث: ثناء الثقلين على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم

- ‌ثناء القرآن الكريم على المهاجرين والأنصار:

- ‌المطلب الرابع: ثناء الثقلين على أهل بدر:

- ‌المطلب الخامس: ثناء الثقلين على من أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده:

- ‌المبحث الثالث:كيف ظهرت الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم

- ‌أولاً: من أشعل الفتنة بين المسلمين

- ‌ثانياً: بداية الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم

- ‌ معركة الجمل

- ‌معركة صفين:

- ‌ما بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام:

- ‌المبحث الرابعالمؤامرة ضد الإسلام والمسلمين

- ‌أولاً: إسقاط عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌ثانياً: تشويه سيرة الصحابة رضي الله عنهم:

- ‌المبحث الخامس:الموقف الصحيح (الحق) من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌المبحث السادسالأسماء والمصاهرات بين الصحابة وأهل البيت عليهم السلام

- ‌المبحث السابعسؤال وجواب

- ‌السؤال الأول: «القول بردة الصحابة»:

- ‌السؤال الثاني: «حديث الحوض»:

- ‌السؤال الثالث: «القول بذم الله طائفة من الصحابة»:

- ‌السؤال الخامس: «رزية يوم الخميس»:

- ‌السؤال السادس: «موقف أبي بكر من ميراث فدك»:

- ‌السؤال السابع: «القول بإهانة أبي بكر لفاطمة»:

- ‌السؤال الثامن: «موقف خالد بن الوليد من مالك بن نويرة وزوجته»:

- ‌قبل الختام:شجون عابرة

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌ثناء القرآن الكريم على المهاجرين والأنصار:

‌المطلب الثالث: ثناء الثقلين على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم

-:

فضّل الله سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار على سائر الصحابة رضي الله عنهم، وذلك لسبقهم في الاستجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام، ودخولهم فيها، وتحملهم الأذى لأجلها.

وفضّل الله المهاجرين على الأنصار؛ لأن المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة، وقد تركوا أهلهم وأموالهم وأوطانهم، وخرجوا إلى أرض هم فيها غرباء طالبين فقط الأجر ونصرة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأما الأنصار فقد أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بلادهم، فنصروه وقسموا أموالهم ونساءهم نصرة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد شهد الثقلان (كتاب الله وعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم) على فضلهم والرضا عنهم، وتتابعت واستفاضت الآيات الكريمة الموضحة لحال الصحابة، المبينة لفضلهم الكبير ورضا رب العالمين عنهم، وتنوعت عبارات الأئمة من أهل البيت عليهم السلام المفسرة للآيات الواردة في هذا.

‌ثناء القرآن الكريم على المهاجرين والأنصار:

قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 8 - 9].

ص: 41

قال ابن الجوزي:

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} يعني بهم المهاجرين {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} أي: رزقاً يأتيهم وَرِضْواناً رضى ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} في إِيمانهم. ثم مدح الأنصار حين طابت نفوسهم عن الفيء، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} يعني: دار الهجرة، وهي المدينة {وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فيها تقديم وتأخير، تقديره: والذين تبوءوا الدار من قبلهم، أي: من قبل المهاجرين، والإيمان عطف على «الدار» في الظاهر، لا في المعنى، لأن «الإيمان» ليس بمكان يُتَبَوَّأُ، وإنما تقديره: وآثروا الإيمان، وإِسلام المهاجرين قبل الأنصار، وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين. وقيل: الكلام على ظاهره، والمعنى: تبوّءوا الدار والإيمان قبل الهجرة {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم، وأموالهم

{وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} أي: حسداً وغيظاً مما أوتي المهاجرون. وفيما أوتوه قولان: أحدهما: مال الفيء، قاله الحسن. وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر. والثاني: الفضل والتقدّم، ذكره الماورديّ، قوله عز وجل:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} يعني الأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي فقر وحاجة، فبيّن الله عز وجل أن إيثارهم لم يكن عن غنى.

(1)

.

وقال محمد باقر الناصري:

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلى المدينة هرباً من مكة ومن غيرها {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} جاءوا {يَبْتَغُونَ} يطلبون {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} أي: وينصرون دين الله

(1)

بتصرف: تفسير زاد المسير: (4/ 256).

ص: 42

{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} يعني: المدينة حيث سكنها الأنصار قبل المهاجرين، أو قبل إيمان المهاجرين وهم أصحاب ليلة العقبة سبعون رجلاً بايعوا رسول الله على حرب الأبيض والأحمر، {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ} وقد أحسنوا إلى المهاجرين، وأسكنوهم دورهم، وأشركوهم في أموالهم، ولا يجدون في قلوبهم حسداً ولا غيظاً مما أعطي المهاجرون دونهم من مال بني النضير، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: مع فقرهم وحاجتهم {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} أي: ومن يدفع بخل نفسه {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)} الناجحون الفائزون بثواب الله)

(1)

.

وقال محمد السبزواري النجفي:

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الذين تركوا مكة وقصدوا المدينة هجرة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم ومن دار الحرب إلى دار السلام، وهم {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} التي كانوا يملكونها

{يَبْتَغُونَ} يطلبون.. {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} راغبين بفضله ورضاه ورحمته.. {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ} أي: يهاجرون نصرة لدينه وينصرون.. {وَرَسُولِهِ} بتقويته على أعدائه {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} فعلاً؛ لأنهم قصدوا نصر الدين، واستجابوا لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد أن مدح أهل مكة وغيرها من المهاجرين مدح الأنصار من أهل المدينة؛ لأنهم طابت أنفسهم من الفيء فرضوا تقسيمه على المهاجرين المحتاجين، فقال.. {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} أي: سكنوا المدينة، وهي دار الهجرة التي تبوأها الأنصار قبل المهاجرين {وَالْإِيمَانَ} إذ لم يؤمنوا قبل المهاجرين، بل آمنوا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم إلا قليل منهم.

(1)

تفسير مختصر مجمع البيان، وانظر: تفسير الكاشف، المنير:(سورة الحشر: 8 - 10).

ص: 43

أما عطف الإيمان على الدار في التبوّء، فهو عطف ظاهري لا معنوي؛ لأن الإيمان لا يتبوأ، وتقديره وآثروا الإيمان على الكفر {مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: قبل قدوم المهاجرين إليهم حين أحسنوا إليهم، بأن أسكنوهم بيوتهم وشاركوهم في أموالهم {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} أي: لم يكن في قلوبهم حزازة ولا غيظ ولا حسد بسبب ما أخذ المهاجرون من الفيء الذي استولوا عليه من مال بني النضير، بل طابت به نفوسهم وكانوا {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: يقدمون المهاجرين ويفضلونهم على أنفسهم في العطاء {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: ولو كانت بهم حاجة وفقر، وذلك رأفة بإخوانهم وطلباً للأجر والثواب {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} أي: الفائزون بثواب الله تعالى الرابحون لجنته ونعيمها

(1)

.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 74 - 75].

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي:

وهذه الآيات في بيان مدحهم وثوابهم، فقال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} أي: المؤمنون من المهاجرين والأنصار {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} لأنهم صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة والموالاة بعضهم لبعض، وجهادهم لأعدائهم من الكفار والمنافقين.

{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} من الله تمحى بها سيئاتهم، وتضمحل بها زلاتهم، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: خير

(1)

تفسير الجديد (سورة الحشر: 8 - 10).

ص: 44

كثير من الرب الكريم في جنات النعيم.

وربما حصل لهم من الثواب المعجل ما تقر به أعينهم، وتطمئن به قلوبهم، وكذلك من جاء بعد هؤلاء المهاجرين والأنصار، ممن اتبعهم بإحسان فآمن وهاجر وجاهد في سبيل الله. {فَأُولَئِكَ} مِنْكُمْ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم.

(ثم قال): فهذه الموالاة الإيمانية - وقد كانت في أول الإسلام - لها وقع كبير وشأن عظيم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة، غير الأخوة الإيمانية العامة، وحتى كانوا يتوارثون بها، فأنزل الله {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فلا يرثه إلا أقاربه من العصبات وأصحاب الفروض، فإن لم يكونوا، فأقرب قراباته من ذوي الأرحام، كما دل عليه عموم هذه الآية الكريمة، وقوله:{فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي: في حكمه وشرعه. {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ومنه ما يعلمه من أحوالكم التي يجري من شرائعه الدينية عليكم ما يناسبها.

(1)

وقال محمد السبزواري النجفي:

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} أي: الذين صدقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما جاء به من عند الله، وأيقنوا بوجود الله ووحدانيته، وتركوا ديارهم فراراً بدينهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحاربوا معه لينصروا دينه وشريعته {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 74] هم المصدقون فعلاً، قولاً وعملاً، وقد حققوا إيمانهم حتى برهنوا أنه إيمان حق، فهؤلاء {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} أي: أعد الله لهم (مغفرة): تجاوزاً عن سيئاتهم، ورزقاً كريماً: واسعاً عظيماً لا

(1)

تيسير الكريم المنان: (1/ 327).

ص: 45

ينغصه شيء من المكدرات {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} [الأنفال: 75] أي: الذين آمنوا بعد فتح مكة، وقيل: هم الذين آمنوا بعد إيمانكم {وَهَاجَرُوا} إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرتكم الأولى {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} فقاتلوا الكفار والمشركين بجانبكم {فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} فهم من جملتكم إيماناً وهجرةً وجهاداً وحكماً في الموالاة والميراث والنصرة، رغم تأخر إيمانهم وهجرتهم

(1)

.

وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [التوبة: 20].

قال الشيخ أبو بكر الجزائري:

الذين آمنوا بالله وتركوا دار الكفر قاصدين دار الإسلام، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في الجهاد لإعلاء كلمة الله، هؤلاء أعظم درجه عند الله، وأولئك هم الفائزون برضوانه

(2)

.

وقال محمد حسين فضل الله:

{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} وتحملوا ما تحملوه من هجرة الوطن، إلى حيث يملك الإنسان حرية الحركة في الدعوة والجهاد، ويبتعد عن مواطن الضغط الذي قد يعرضه للفتنة في دينه، وذلك دليل الإخلاص العظيم لله فيما يمثله من التمرد على كل العواطف الذاتية والخصائص الحميمة، من أجل الله وحده، والذين جاهدوا {فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} فيما بذلوه من أموالهم للدعوة وللجهاد، وفيما واجهوه من أخطاء مادية ومعنوية في

(1)

تفسير الجديد، وانظر: الصافي، الوجيز، تقريب القرآن (سورة الأنفال: 74).

(2)

التفسير الميسر (1/ 189).

ص: 46

هذا الاتجاه، حيث فقدوا أي معنى للجانب الشخصي فيما يعيشون، وتحولوا إلى عنصر متحرك في نطاق الجوانب العامة المتصلة بالله، وبالحياة، أولئك {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} من كل النماذج الأخرى التي قد تعمل الخير في المجالات المحدودة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} برحمته ورضوانه وجنته

(1)

.

وقال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)} [آل عمران: 193 - 195].

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي:

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} أي: أجاب الله دعاءهم، دعاء العبادة، ودعاء الطلب، وقال: إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى، فالجميع سيلقون ثواب أعمالهم كاملا موفرا، {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي: كلكم على حد سواء في الثواب والعقاب، {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} فجمعوا بين الإيمان والهجرة، ومفارقة المحبوبات من الأوطان والأموال، طلبا لمرضاة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله.

{لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الذي يعطي عبده الثواب الجزيل على العمل القليل.

(1)

تفسير من وحي القرآن، وانظر: التبيان، تقريب القرآن (سورة التوبة: 20).

ص: 47

{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فمن أراد ذلك، فليطلبه من الله بطاعته والتقرب إليه، بما يقدر عليه العبد.

(1)

.

وقال عبد الله شبر:

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} ما طلبوا {أَنِّي} بأني {لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} بيان لعامله {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} بجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد أو الإسلام

{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} الشرك أو أوطانهم أو قومهم للدين {وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} من أجل ديني وبسببه {وَقَاتَلُوا} المشركين.. {وَقُتِلُوا} واستشهدوا، والواو لا توجب الترتيب، إذ المراد لما قيل لهم قاتلوا.. {لَأُكَفِّرَنَّ} لأمحون {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يستحقونه منه.. {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} على الأعمال لا يقدر عليه أحد سواه

(2)

.

(1)

تيسير الكريم المنان: (1/ 161).

(2)

تفسير شبر (سورة آل عمران: 195).

ص: 48

ثناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعترة على المهاجرين والأنصار:

تضافرت الروايات الصحيحة المستفيضة عن أهل البيت عليهم السلام الدالة على فضل المهاجرين والأنصار، نذكر منها ما يلي:

عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة)

(1)

.

وفي الخبر عن كعب بن عجرة: (إن المهاجرين والأنصار وبني هاشم اختصموا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أينا أولى به وأحب إليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أما أنتم يا معشر الأنصار فإنما أنا أخوكم فقالوا: الله أكبر! ذهبنا به ورب الكعبة! قال صلى الله عليه وآله وسلم: وأما أنتم معشر المهاجرين فإنما أنا منكم فقالوا: الله أكبر! ذهبنا به ورب الكعبة! قال صلى الله عليه وآله وسلم: وأما أنتم يا بني هاشم فأنتم مني وإلي فقمنا وكلنا راض مغتبط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)

(2)

.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إني تارك فيكم الثقلين إلا أن أحدهما أكبر من الآخر

وقال: ألا إن أهل بيتي عيني التي آوي إليها، ألا وإن الأنصار ترسي فاعفوا عن مسيئهم، وأعينوا محسنهم)

(3)

.

وهذه النصوص المباركة لم تكن غائبة عن أذهان أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل إنهم وعوها وحفظوها ومن ذلك ما كان من مدح الإمام علي عليه السلام للمهاجرين في جوابه لمعاوية، فيقول:

(1)

انظر مسند الإمام أحمد ابن حنبل رقم: (185)، أمالي الطوسي:(ص: 268)، بحار الأنوار:(22/ 311).

(2)

المناقب: (3/ 331)، بحار الأنوار:(22/ 312).

(3)

مصدر سني بحار الأنوار: (22/ 311).

ص: 49

(فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم)

(1)

.

وقال عليه السلام: (وفي المهاجرين خير كثير نعرفه، جزاهم الله خير الجزاء)

(2)

.

وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من فرَّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم)

(3)

.

وما سبق غيض من فيض، وقطرات من بحر عظيم يفيض على القلوب المحبة

لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فيكون بلسماً شافياً ونوراً هادياً، يحيا به من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولله در أهل البيت عليهم السلام حين أثنوا على الصحابة رضي الله عنهم ولم يستثنوا من هذا الثناء والمديح أي أحد منهم.

(1)

نهج البلاغة: (ص: 374)، بحار الأنوار:(33/ 104)، وقعة صفين:(ص: 149).

(2)

وقعة صفين: (ص: 88)، بحار الأنوار:(33/ 110).

(3)

بحار الأنوار: (19/ 31)، مجموعة ورام:(1/ 33)، تفسير الصافي:(1/ 490)، تفسير نور الثقلين:(1/ 541).

ص: 50