الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السؤال الخامس: «رزية يوم الخميس» :
ماذا تقول من فعل الصحابة يوم الخميس قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأربعة أيام، وما حصل بينهم من خلاف، ورفع أصواتهم عليه وعصيانهم لأمره صلى الله عليه وآله وسلم في عدم إحضارهم الكتف والدواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده، واتهموه (بالهجر) وقال عنه عمر بن الخطاب:
…
(قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله) حتى غضب عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجهم من بيته، وعبّر ابن عباس عن تلك الحادثة بأنها رزية؟
الجواب:
أولاً: لابد لنا أن نسأل أنفسنا أولاً: كيف كانت حالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحية في تلك الفترة؟ وما سبب خلاف الصحابة عنده؟
إن تلك الحادثة حدثت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأربعة أيام، وهو على فراشه، وكان يوعك وعكاً شديداً من شدة الألم، بل كان صلى الله عليه وآله وسلم من قسوة الألم يغمى عليه تارة ويفيق تارة أخرى وقال للصحابة حينها:(ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً) فاختلف الصحابة فيما بينهم فمنهم من أراد أن لا يجهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه، وظن أن الأمر لم يكن بحتم واجب إنما كان على سبيل الاختيار والتذكير، ومنهم من أراد إحضار الكتف والدواة للكتابة.
ثانياً: ليس بمقدور أي كائن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخيل ما دار في تلك اللحظة تخيلاً واضحاً، مثل أولئك الذين شهدوا تلك الحادثة، ونظروا إلى معاناة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرض الموت، وخاصة أنه لم تمر عليهم حالة مشابهة من قبل فاختلفت آراؤهم لعدم سبق علم بها.
ثالثاً: التمسك بهذه الحادثة على أن فيها مغمزاً ومطعناً في الصحابة رضي الله عنهم شيء جديد لم يسبق إليه أحد من قبل، ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم مرت عليهم الواقعة مرور الكرام وعلموا
أنها لم تتضمن أي شبهة في اتهام الصحابة بعضهم لبعض بالنفاق أو الكفر، فهل من تأخر عنهم يكون أعلم وأبصر من أولئك الجمع كلهم الذين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!
رابعاً: لو حصرنا النقاط التي يمكن أن يكون فيها مطعن في عدالة الصحابة رضي الله عنهم من هذه الحادثة، لأمكن حصرها في النقاط التالية:
أ) رفض الصحابة الإذعان لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ب) اختلافهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وارتفاع أصواتهم الدالة على عدم التوقير.
ج) سوء كلام بعض الصحابة على مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصفه بالهجر.
د) رفض عمر بن الخطاب الانصياع لطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن بيان الرد موجزاً على هذه الشبه بالآتي من القول:
(رد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم) الصحابة رضي الله عنهم لم يخالفوا طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم كانوا يظنون أن المرض لربما غلب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل حال بقية الناس؛ لأنهم لم يرو النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الحالة من قبل، وكانوا يعلمون أن كتاب الله بين أيديهم، والدين قد تم بيانه وكمل تشريعه، فلذا كانوا مترددين لعدم علمهم بالمقصود من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(اختلافهم وارتفاع أصواتهم) ليس هناك من دليل صريح يدل على ارتفاع أصواتهم على صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو صدر هذا منهم لنزل الوحي بالتوبيخ واللوم من الله، وبخاصة وأن سورة الحجرات قد تم فيها تفصيل الأدب من حيث كيفية الكلام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والصحابة لم يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل رفعوا أصواتهم على بعضهم بسبب اختلافهم في الاستفسار وفي المقصود من طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكتابة لهم، فلما طال نقاشهم فيما بينهم نهرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الخلاف فقط، ولو كان هناك أمر يتجاوز هذا الحد لنزل بهم أمر من الله سبحانه يجتث الخطأ من أساسه.
(مقولة بعض الحاضرين: أهجر) ينبغي علينا أولاً أن نعلم أن الرواية لم تحدد من قال هذه الكلمة، فلعله أحد المنافقين الحاضرين، أو صحابي استفسر مستفهماً عن صحة
…
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد مقولته عن الكتابة فقال: هل يقع منه الهجر كما يقع من أحدنا؟ فاختصر كل هذا القول بكلمة واحد، أو لعلها من استفهام القائل: كيف لا نأتي بالكتف والدواة؟! أيُظن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهجر بالكلام ويقول بالهذيان كغيره! لأنه ربما اختلط عليه سماع كلام
…
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك لبحَّة في صوته أو غلبة اليبس بالحرارة على لسانه، مثلما يقع في الحميات الحارة، وقد ثبت بإجماع أهل السير أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كانت فيه بحة صوت عارضة له في مرض موته صلى الله عليه وآله وسلم.
وعليه فالسبل التي يمكن أن توجه فيها هذه الكلمة كثيرة، ومن أراد فعليه الرجوع إلى كتب اللغة العربية ليستوضح دلالات هذه الكلمة، فليس هناك من يعرف على وجه الدقة من كان موجودا في ذلك الموقف قرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس، ويجب ألا يستغرب القارئ من كثرة هذه التعليلات تجاه هذه الكلمة، لأن من قيلت أمامهم هذه الكلمة لم ينكروها أو يذموا قائلها.
(رفض عمر الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم) كيف يظن بعمر رضي الله عنه أنه يرفض طلباً يسيراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي لم يبخل بشيء طوال مرافقته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
وأما قول عمر بن الخطاب للصحابة: (قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله) فيمكن أن يوجه كالتالي:
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد من الصحابة أن لا يجهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكلام وكثرة الأسئلة، وهو في المرض الشديد، شفقة عليه، وهذا ما يبينه قوله:(وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله) أي إن الله أكمل دينه وبيّن شرائعه في قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}
وكما في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ} .
والذي يظهر أنما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتبه هو من باب الإرشاد والإصلاح والتذكير وليس بالأمر الجديد الواجب تبليغه للأمة، إذ لو كانت الكتابة واجبة لألزم الصحابة بما يريد كتابته، ولكان حاله مثل حال الكتاب الذي سطّره أمير المؤمنين علي في صلح الحديبية حيث ألزمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أراد كتابته عند عقد الصلح مع قريش.
ويمكن القول إنه لو فهم أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن هناك أمراً واجباً لا مناص منه لحرصوا على تدوينه وكتابته
…
لكنهم فهموا أن المراد هو التأكيد على أمور سبق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بيانها للأمة مثل التمسك بالتوحيد والصلاة.
ومن خلال ما سبق، يتبين لنا أنه لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مأموراً بتبليغ شيء واجب بالنص لا غنى للأمة عنه، لبلغه في جميع الأحوال امتثالاً لقوله تعالى:{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67] كما أنه ليس من عادته ترك التبليغ مراعات لخواطر الناس في بداية الدعوة، فكيف يترك ذلك في آخر حياته، وبعد أن مكن الله له وصارت الكلمة تنتهي إليه، فدل تركه صلى الله عليه وآله وسلم للكتابة على أنها لم تكن واجبة عليه، بل هو أمر محمول على الندب والتذكير لا على الوجوب والتشريع وقد عاش صلى الله عليه وآله وسلم أربعة أيام بعد ذلك، ولم يأمرهم بإعادة الكتابة.
خامساً: لابد للمسلم أن يُطهِّر قلبه من الحقد والبغض تجاه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يحبهم كما كان هدي الأئمة عليهم السلام، ونقول له: إن التبس عليك أمر في حق الصحابة رضي الله عنهم أو غيرهم، فالتمس لهم العذر، كما ثبت عن الأئمة عليهم السلام أنهم قالوا:(احمل أخاك المؤمن على سبعين محملاً من الخير.. الحديث). وقولهم عليهم السلام (كذّب سمعك وبصرك عن أخيك).
وما روي في الكافي عن الحسين بن المختار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير
…
المؤمنين عليه السلام في كلام له: (ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن
بكلمة -خرجت من أخيك- سوءاً؛ وأنت تجد لها في الخير محلاً)
…
عن أبي بن كعب: (إذا رأيتم أحد إخوانكم في خصلة تستنكرونها منه فتأولوا لها سبعين تأويلاً..)
(1)
انتهى.
فمن الأولى بنا أن نسير على هدي الأئمة عليهم السلام، وأن نلتمس العذر لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما كانوا فيه من هلع وحيرة عند مشاهدتهم لحبيبهم وما يعانيه من ألم مبرح.
وقد أثنى الله تبارك وتعالى عليهم وقال عنهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] وقد كانوا ينكرون على بعضهم في مسائل فقهية أقل من ذلك.
لماذا الطعن الآن بعد مضي تلك القرون الكثيرة على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذه الحادثة وغيرها؟! وما الهدف من ذلك؟
أهؤلاء أعلم وأحرص على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نفسه؟!
أم يحبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أصحابه؟! أم هو إتباع هوى؟!
سادساً: أن وصف ابن عباس رضي الله عنه لما جرى (بالرزية)، لم يكن وقت حصول الحادثة ولكنه قالها بعد ذلك بسنين عندما تذكر حزنه على وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
سابعاً: لو سرنا في دروب الطعن والتفتيش عن سراب الشبه، فماذا سيكون ردنا لو قال لنا أحد النواصب: إن علي بن أبي طالب هو سبب تلك المشاكل؛ لأنه كان في بعض الأحيان يعارض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يمتثل لأمره ابتداءً، مثلما حدث منه في صلح الحديبية من عدم مسح اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم حلق رأسه ونحر هديه كغيره من الصحابة، وعدم قبوله بالاستخلاف بالمدينة في غزوة تبوك.
بل شارك في رفض أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو على فراش الموت عندما طلب منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
انظر: الحدائق الناضرة: (15/ 353).
ومن غيره أن يحضروا له الكتف والدواة حتى لا يضل المسلمون، فلم يستجب لذلك حتى مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل غيّر أحكام الشريعة الإسلامية في الحكم على الغلاة فعاقبهم بالإحراق بدلاً من القصاص الشرعي
(1)
.
فبهذا السؤال يتضح لنا منهجية أعداء الإسلام ومن ناصب العداء لأهل بيت
…
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن ناصب العداء لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(1)
انظر: بحار الأنوار (34/ 414).