الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين
اتخذ المستشرقون ومن اغتر بهم ما وقع بين الصحابة في وقت الفتنة من الاختلاف والاقتتال سبباً وذريعة للوقيعة بين المسلمين، والنيل من عدالة الصحابة رضي الله عنه.
فقاموا بترويج ما كتبه زنادقة ذلك العصر وأعادوا بعثه من جديد وزادوا من عند أنفسهم، وقد تأثر بسمومهم هذه بعض الكتاب المتأخرين ممن اغتر بأقوال المستشرقين وعمي قلبه عن الحق وزين له سوء عمله، وأصبح هؤلاء الكتاب أشد حرصاً على ميراث المستشرقين من المستشرقين أنفسهم فجعلوا أنفسهم حكماً بين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوبون بعضهم، ويخطئون البعض الآخر بلا دليل ولا حجة وإنما تقليداً للمستشرقين واتباعاً للهوى.
ولتقوية باطلهم والتغطية على زيف كلامهم وضعوا شبهات وروجوا لها بأساليب ملتوية تؤدي إلى تشويه التاريخ الإسلامي، ومن ثم تحقيق غايتهم من زرع الفتن والبغضاء بين المسلمين عن طريق التشكيك في نقلة الشريعة الإسلامية بأساليب متعددة، ومن تلك الأساليب:
أولاً: إسقاط عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
-:
سعى المستشرقون وأتباعهم إلى إسقاط عدالة الصحابة من خلال وضع الشبهات حولهم ليزرعوا الشك في حملة الإسلام من خلال وضع التساؤلات التالية على سبيل المثال: -
أيعقل أن يأخذ الإنسان دستوره القويم ومنهجه المستقيم المتمثل في القرآن والسنة النبوية من أناس قد وقعت منهم زلات وهفوات ولا يطمئن الإنسان إلى أحوالهم؟!
وعندما يطرحون مثل هذه الشبهة فإنهم ينفثون السموم من خلالها على عوام المسلمين والواقع أن المستشرق بتسليطه الضوء وَكَيلِهِ الإتهام لا يقصد صحابيا لم يشتهر، ولم يفصّل التاريخ في خبره، أو يسهب في أثره، أو في صحابية من عامة الصحابيات زنت ثم اعترفت فرجمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو من رجل كان مبتلى بشرب الخمر فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه الحد، ولا يريد بشبهته تلك أمثال حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي زل في رأيه ولم يوفق في اجتهاده، عندما أخبر قريشاً بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاتحاً، فكل أولئك رضي الله عنهم قد تابوا إلى الله عز وجل، إما باستغفار وإنابة منهم، أو بإقامة حد دنيوي عليهم.
لكنه يتخذ ذلك ذريعة لطعنه في كبار الصحابة من خلال اختلاق القصص حولهم وإبراز الخلافات فيما بينهم لتمهيد الطريق لإطفاء نور الله المبين الذي سار عليه المسلمون وإذا نجح المستشرق في إسقاط عدالة الصحابة عموماً فإنه يسهل عليه الطعن في كتاب الله الذي نقلوه وحفظوه، ومن ثم سنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، التي فيها تفصيل التشريعات الربانية فيسهل بعد ذلك تفريق صفوف المسلمين وجعل الفتنة والبغضاء بينهم.
لذلك يقوم المستشرقون بالإعتماد على ما كتبه زنادقة ذلك العصر باعتبارهم يمثلون الإسلام، واعتبار التاريخ والوقائع التي نقلوها وزوَّروها تعبر عن تلك المرحلة تعبيراً صادقاً وهذا ملاحظ فيما يشاع بين المسلمين من ترويج ونشر للأحاديث المكذوبة على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتناثرة في الكتب الجامعة للأحاديث والروايات الغير معتمدة والتي بحمد لله لم تصمد أمام القواعد والضوابط التي وضعها علماء الجرح والتعديل.
والدليل على ذلك أنك لن تجد في هذه الروايات الداعية إلى الفرقة والاختلاف بين الصحابة رواية واحدة صحيحة، متصلة السند عن رواة عدول عن مثلهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك فليطمئن المسلم على دينه وليكن على بينة من عدة أمور:
1 -
أن الثناء على الصحابة قد تحقق في كتاب ربنا، وفي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا على لسان العترة عليهم السلام
(1)
.
2 -
أن مقولة: (إن من الصحابة منافقين) كذبٌ، لأن المنافقين ليسوا من الصحابة حقيقة، والمنافقون كانوا معروفين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، إما بأعيانهم وإما بأوصافهم؛ لأن آيات القرآن قد بينت كل حركاتهم وسكناتهم، بل حتى خلجات نفوسهم.
وإذا أخذنا غزوة تبوك مثلاً، وهي من أواخر غزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، نجد أن فيها بياناً لحال المنافقين، فمنهم من تخلف عنها بأعذار واهية، أو بدعوى خشية الافتتان بنساء الروم وغيرها من الأعذار السَّمِجَة التي عادة ما يتعذر بها المنافقون حينما يكون هنالك جهاد في سبيل الله.
ومما يدل على أن المنافقين معلوم أمرهم وأنهم ليسوا من الصحابة، أن الله لم يذكر توبته عليهم ضمن من تاب عليهم من المؤمنين عامة، والثلاثة الذين خلفوا خاصة، قال تعالى:
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117] إلى قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} [التوبة: 118].
ومن الجدير بالذكر القول: إن آيات سورة التوبة قسمت أهل المدينة بعد غزوة تبوك إلى ثلاثة أصناف، ولم تتكلم عن طائفة رابعة، وهي التي أذِن لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخلف أمثال الإمام علي وابن أم مكتوم، ونفر من الفقراء الذين لم يجدوا ما يستعينون به على الخروج.
(1)
انظر: (ص: 23 - 50) من هذا الكتاب.
فبينت آيات سورة التوبة أن الله تاب على الصحابة الذين شهدوا المعركة في الآية الأولى وهم الصنف الأول، واستثنى في الآية الثانية المنافقين من مجتمع المدينة، الذين تخلفوا عن الخروج وهم من الصنف الثاني، ثم قص الله علينا شأن ثلاثة من الذين تخلفوا عن المعركة من الصحابة، وأنه سبحانه قد تاب عليهم، بسبب صدقهم مع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهم الصنف الثالث والأخير.
فأين النفاق في أولئك، مع وضوح الآيات الدالة على حقيقة ما وقع؟! وماذا بعد الحق إلا الضلال، بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا من أكثر الناس خوفاً من الله عز وجل خشية على أنفسهم أن يقعوا في النفاق.
فعن سلام بن المستنير قال: (كنت عند أبي جعفر عليه السلام، فدخل عليه حمران بن أعين فسأله عن أشياء، فلما همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليه السلام: أخبرنا -أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك- إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك، فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا.
قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: إنما هي القلوب مرة تصعب، ومرة تسهل، ثم قال أبو جعفر عليه السلام: أما إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله، تخاف علينا النفاق؟ قال: فقال لهم: ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إنا إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا ووجِلنا، ونسينا الدنيا وزهدنا، حتى كأنّا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل والأولاد، يكاد أن نحوّل عن الحال التي كنا عليها عندك، وحتى كأنّا لم نكن على شيء، أفتخاف علينا أن يكون هذا النفاق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلا إن هذه من خطوات الشيطان ليرغبكم في الدنيا، والله لو أنكم تدومون على الحاله التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء، ولولا
أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقاً لكي يذنبوا ثم يستغفروا، فيغفر لهم، إن المؤمن مفتّنٌ توابٌ، أما سمعت قول الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]، وقال تعالى:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3])
(1)
.
3 -
أن الصحابة رضي الله عنهم معصومون في إجماعهم، فلا يمكن أن يجتمعوا على شيء من كبائر الذنوب أو صغيرها فيستحلوها ويفعلوها، وأما وقوع المعاصي من بعضهم ففيه الدلالة على عدم عصمة أفرادهم، ولا يضر هذا الزلل في عدالتهم، ولا يحطّ من مكانتهم.
ومما يدل على عدالتهم على وجه العموم، ما قام به الأئمة عليهم السلام من تمحيص لروايات الصحابة التي رووها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يجدوا بعد الفحص والنظر صحابياً كذب كذبة واحدة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومع كثرة انتشار البدع في أواخر عهدهم كبدعة القدرية والخوارج والمرجئة، التي منشأها من تحكيم سقيم العقل وفساد الرأي، إلا أنه لم يوجد صحابي واحد في أولئك المبتدعة أبداً، وهذا يدل على أن الله قد اصطفاهم ورعاهم، وميزهم واختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ونشر دينه القويم.
قال أبو عبد الله عليه السلام: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثني عشر ألفاً، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم ير فيهم قدري ولا مرجئ ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار، ويقولون: اقِْض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير)
(2)
.
(1)
الكافي: (2/ 423)، بحار الأنوار:(6/ 41)، تفسير العياشي:(1/ 109)، مجموعة ورام:(2/ 210).
(2)
الخصال: (2/ 639)، بحار الأنوار:(22/ 305).
وقد أثبت الإمام الصادق عليه السلام عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صدق ما يروونه في حديثهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فعن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: (ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب، ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟ فقال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان! قال: قلت: فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقوا على محمد أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا، قال: قلت: فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم أن الرجل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب، ثم يجيبه بعد ذلك بما ينسخ ذلك الجواب، فنسخت الأحاديث بعضها بعضاً)
(1)
.
ولو جاء مدّعٍ وقوع كذب في الصحابة أو حدوث نفاق في قلوبهم لقيل له مباشرة: فأين الدليل الصريح على استثناء بعضهم من هذا الادعاء؟
4 -
أنه لا يلزم من إثبات العدالة للصحابة رضي الله عنهم إثبات العصمة لهم من الأخطاء فهم بشر يخطئون ويصيبون، وإن كانت أخطاؤهم مغمورة في بحور حسناتهم.
فلهم من السوابق والفضائل التي لن يلحقهم فيها أحد، فهم الذين نصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين اجتمع عليه العرب، وجاهدوا بأموالهم وأولادهم وأنفسهم، وقاتلوا آباءهم وإخوانهم وعشيرتهم، وبذلوا أرواحهم لإعلاء كلمة الله، وكانوا سبباً في نشر ووصول هذا الدين العظيم إلينا، فهذه - بإذن الله-توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب ما لم يصل إلى الكفر، قال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159].
(1)
الكافي: (1/ 65)، بحار الأنوار:(2/ 228).
قال المجلسي: (وإذا زالت العدالة بارتكاب ما يقدح فيها، فتعود بالتوبة بغير خلاف ظاهر، وكذلك من حُدّ في معصية ثم تاب رجعت عدالته وقبلت شهادته، ونقل بعض الأصحاب إجماع الفرقة على ذلك)
(1)
.
وقال السيد أبو القاسم الخوئي: (ترتفع العدالة بمجرد وقوع المعصية، وتعود بالتوبة والندم، وإنه لا يفرق في ذلك بين الصغيرة والكبيرة)
(2)
.
وقال السيد محمد حسين فضل الله عن عدالة أئمة الجماعات المعاصرين، والذين هم أدنى منزلة ممن أكرمه الله بصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(العدالة ليست العصمة، فقد يعصي المؤمن العادل ثم يتوب بعد انتباهه لذلك، على هدي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201]، وأما كيف تثبت العدالة؟
فذلك بحسب الظاهر في سلوكه العام في المجتمع، بحيث يرى الناس فيه الإنسان المستقيم في دينه، وفي أخلاقه الفردية، أو الاجتماعية المرتبطة بالحدود الشرعية، كما تثبت بالشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان، وبخبر الثقة بعدالته، ولا قيمة لخبر الفاسق في العدالة سلباً أو إيجاباً)
(3)
.
(1)
بحار الأنوار: (85/ 30).
(2)
منهاج الصالحين: (2/ 12).
(3)
المسائل الفقهية: (2/ 174).