الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظاهرة سورية
بقلم الدكتور كاظم الداغستاني
لقد أوشك علماء الاجتماع جميعاً أن يتفقوا وكثير من الفلاسفة والشعراء من قبلهم على أن الماضي لا يموت، فهو لا يبرح ظاهراً بارزاً بآثاره تحمله الأفراد والجماعات فوق أكتافها وكثيراً ما تضيق به ذرعاً وتنوء تحت أثقاله فلا تجد سبيلاً للخلاص منه. وكما أن للفرد ماضيه الذي لا يكاد ينفصل عنه فللجماعة أيضاً ماضيها الذي تنطبع بطابعه وتجري على غراره وتخضع لحكمه شأت أو أبت. فحاضر الجماعة لا يفسره إلا ماضيها وماضيها هو الأرومة التي تتفرع عنها جميع ما يتألف منه كيانها الاجتماعي من عادات وأخلاق وعقائد وأوهام وحقوق ووجائب. وشأن هذا الماضي مهما كان بعيداً هو الذي حدا بالباحثين عن سر تطور الجماعات والشعوب وتحليل أوضاعها الاجتماعية الحاضرة إلى الرجوع لدرس تاريخ الأمم البعيدة وتفهم ما يمثله ويعيد ذكراه من أحوال تلك القبائل التي تعيش على الفطرة الأولى في مجاهل الصحارى وأقاصي العمران. ودرس الجماعة السورية الحاضرة لا يشذ عن هذه القاعدة ولا يختلف في طريقة التحليل والاستقراء عن تلك الأصول. فالسوريون لهم ماضيهم الذي لا يموت، والسوريون لهم حاضرهم الذي لا يبرح منطبعاً بطابع ذلك الماضي البعيد وفي ثنايا هذا الحاضر كثير من الظواهر الروحية والصفات النفسية التي لا يفسرها إلا ما انتقل إلى نفوسهم وامتزج بأرواحهم من عوامل الغابر.
فلقد كانت سورية منذ عرفها التاريخ وتحدث عنها المؤرخون صلة بين جهتين من جهات العالم الأربع، ومرحلة لابد من أن يجتازها ابن الغرب في طريقه إلى الشرق في طريقه إلى الغرب. ولقد حدت عوامل البيئة والإقليم والوضع الجغرافي بأبناء هذا القطر الضيق المتطاول أن ينشطوا إلى العمل ودعتهم غرائزهم إلى أن يستثمروا من موطنهم ما منحه إياه موقعه من هبات بعد أن رأوا البحر من أمامهم ورمال الصحراء من ورائهم فاندفعوا إلى البحر يركبون أمواجه ويصارعون أنواءه، فينقلون من الشرق ما يبيعونه إلى الغرب ويتاجرون في الشرق بما ابتاعوه من الغرب وينتقلون بين الشرق والغرب فيجعلون بلادهم المتوسطة محطة يستريحون ويريحون ركبهم بها ويحسبون خلال راحتهم مرابحهم ومكاسبهم التي جمعوها، ثم لا يلبثون إلا القليل حتى يعودوا إلى أسفارهم وإلى مرابحهم
ومكاسبهم منها، واستمروا على ذلك إلى أن أصبحوا تجار العالم ليس من يجاريهم في جلب الأرباح ومعرفة أساليبها وحساب فوائدها والعمل على أنماء ودرء ما قد يحول دون ذلك. وتأصلت هذه الظاهرة الروحية في أنفسهم ومرت الأجيال وتعاقبت الأنسال وهي لا تزداد إلا رسوخاً حتى أصبحت التجارة وحساباتها غريزة من غرائزهم تكاد تغمر ما عداها من صفات نفسية، فأحبوا المال أكثر مما يحبه الناس جميعاً وتهافتوا على جمعه وادخاره حتى جعلوه غايتهم الأولى وهدفهم الأسمى. وكان من شأن تلك الصلة بين الشرق والغرب التي اختص بها موطنهم إن غزت بلادهم مختلف الأقوام وحلت بين ظهرانيهم أنواع الشعوب، ولكنها جميعها لم تلبث بعد أن مضى عليها حين من الدهر معهم أن تطبعت بطبائعهم ونسجت على منوالهم، فقلدت أساليبهم واقتدت بهم في مراميهم التجارية وأصولهم في العد والحساب وتشبهت بهم في كل شأن من شؤونهم حتى أصبحت وإياهم على سواء في حب المال والتهافت على جمعه وادخاره وظهرت الأديان في سورية متعاقبة فلون كل منها هذه الظاهرة السورية بلون خاص ولكنها لم تستطع جميعها أن تأتي عليها أو تمحوها. وكان من شأن هذه الظواهر القديمة الراسخة أن حرفت هي نفسها كثيراً من وجوه الأديان وأحكامها وشوهتها واستخدمتها في أغراضها وجعلتها ترمي لغير الهدف الذي دعا إليه أصحابها. واختلاف بعض مظاهر الدين الواحد بالنسبة لأمزجة الشعوب التي فرض عليها أو ظهر بينها واصطباغ الكثير من أحكامه بصبغة الوسط والبيئة والجماعة حادث اجتماعي مقرر معروف لم يعد من حاجة للجدل فيه. وبالرغم عن الأديان وتعاقبها في سورية ودعوتها للانصراف عن متاع الدنيا وحطام المادة، فقد ظلت هذه الظاهرة التي بنيت على النفع المادي وما ينشأ عنه من حب الكسب واتخاذ الربح غاية في الحياة، تعمل عملها في تكوين تلك العقلية التجارية ذات الحساب الدقيق في كل وجه من وجوه العيش حتى أبعدت السوري عما يسمونه المثل الأعلى الذي أصبح في هذا العصر مبعث النشاط الفكري وأقصت من روحه حب العمل للعمل نفسه الذي هو مصدر العبقرية الخالدة والعامل الأول في إنمائها. وليس من الصعب على المولع بدرس طبائع الأفراد والجماعات وتفهم سر تطور العقلية فيها واستقصاء عواملها الاجتماعية والروحية أن يلمس هذه الظاهرة البارزة في الجماعة السورية ويتعرف أسبابها البعيدة، على أننا مع ذلك لا ننكر أن التعرض لمثل
هذا البحث الخطر تعرضاً علمياً لا شيء من الشعر والخيال فيه يدعو لكثير من التحليل والدرس ويتطلب تعليلاً قائماً على الاستقراء مستنداً على وصف الواقع في مختلف الأوساط والجماعات السورية وتفهم أوضاعها الروحية والاجتماعية مما لا نستطيع أن نوجزه جميعه في هذه العجالة، على أن ذلك يجب أن لا يمنعنا من أن نشير في مقالنا هذا إلى بعض تلك الوجوه الظاهرة السورية القديمة التي أوشكت أن تتصل بكل منحى من مناحي حياتنا الاجتماعية وتطفو عليها. ويخيل إلينا أن أهم ما يدل عليها هو البحث عما ينافي وجودها في مختلف الأوساط والجماعات السورية وليس من شيءٍ ينفي وجودها مثل ظاهرة التهافت على العمل حباً بالعمل نفسه أو العمل في سبيل الجماعة مجرداً عن الغاية الفردية والنفع الذاتي. وإذا شرعنا بدرس الأوساط والجماعات التي نعيش فيها، فاخترنا منها بادئ ذي بدء أوساطنا العلمية والفكرية، وعرضنا حياة أصحابها الخاصة والعامة على التحليل والدرس، تحليلاً صادقاً بعيداً عن العاطفة والهوى ومجرداً عن النزعة القومية والدينية، لعز علينا أن نجد فيهم ما ينفي هذه الظاهرة المتأصلة في النفوس أو ما يدل على ضدها من حب العمل للعمل نفسه والانصراف إليه حرصاً على تقدمه وإصلاحه أو الإقدام عليه في سبيل الجماعة أو في سبيل الخير العام. وإذا عن لك أن تردد بخاطرك ذكرى جميع من عرفتهم من مواطنيك من رجال العلم والفكر في هذا الزمن الذي تعيشه من علماء وشعراء وفنانين وأساتذة وأطباء ومحامين ومهندسين وغيرهم من أرباب الحرف الحرة المنتشرين في طول هذا الوطن وعرضه لتبين لك بوضوح وجلاء أن القوم، ونحن في مقدمتهم، على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، تجار قدماء أرغموا أنفسهم على أعمالهم أرغاماً سعياً وراء الربح لا حباً بهذه الأعمال ولا ولعاً بذاتها، فغايتهم الأولى المال، وهدفهم الأسمى النفع المادي، لا يخطون خطوة إلا ويحسبون ما يحنون من ورائها من كسب، ولا يفكرون بمشروع إلا وأنفسهم في المقدمة وربحهم قبل كل حساب، سواء كان ذلك مما يعود على العمل نفسه بالنفع أو بالضرر وسواء لديهم خسر العمل أو ربح، فالعلم والأدب والصنعة والمسلك والحرية وحتى الفن والشعر والجمال في نظرهم، واسطة من وسائط الغنى وجمع المال لا أكثر ولا أقل. لقد بلغت هذه العاطفة من نفوسهم مبلغاً أماتت فيها كل عبقرية خالدة تنشأ من حب العمل والولع به والانصراف إليه بسائق الهوى والشغف، فليس بينهم من
وفق حتى الآن للإبداع والإيجاد وليس بينهم من استطاع الاختراع والاكتشاف بما في هذه الأسماء من معنى، وليس بينهم من قدر أن يثبت للناس أن تلك الظاهرة التجارية القديمة قد تلاشت في نفوسهم، فهم ما برحوا، بمظهرهم الروحي وعاطفتهم النفسية، أولئك الفينيقيين أبناء سورية القدماء الذين ضربوا في عرض البحر واقتحموا أمواجه ولا غاية لهم من وراء ذلك إلا ربح المال وجمعه وادخاره.
وللباحث أن يستمر في تحليل تلك العاطفة ويتتبع آثارها وعواملها في الأوساط والجماعات السورية الأخرى. فالجماعات التي تعمل باسم الأديان وتنتسب إليها، والجماعات التي تتصف بصفة السياسية وتعلن انصرافها إليها، والجماعات التي تمارس الأعمال الاقتصادية والعمرانية وتتخذها حرفة لها. والجماعات التي يتألف منها موظفو الدولة والإدارات العامة ومأموروها ومستخدموها، والجماعات التجارية والمالية نفسها، هي كلها مما يمكن للمحقق الاجتماعي أن يعرضه على التحليل والدرس بطريقة الوصف والمقايسة والاستقراء والاستنتاج بعد تفهم روحية الأفراد وتعليل العوامل النفسية التي تدفعهم إلى أعمالهم والصلات التي تربطهم بها، وبذلك ينتهي به البحث والتحليل إلى أن يضع موضع الجلاء والوضوح كثيراً من الشواعر النفسية والظواهر الروحية وويلقي عليها من نور البراهين والحجج المستمدة من وصف الواقع ما يؤيدها أو ينفيها تبعاً لما هي كائنة في ذاتها. وقد يذهب الظن بالقارئ لأول وهلة إلى أن هذه الظاهرة التجارية المادية التي يبرز من الوجهة العامة جلية واضحة عند تحليل نفسية الفرد السوري في هذا العصر هي مما يدعو لغنى الأمة السورية وزيادة ثروتها وتبسطها في مجال المدينة وأسبابها التي لا تقوم دعائمها غلا على المال مع أن الأمر على عكس ما قد يذهب الظن إليه. فتهافت الفرد على جمع المال وكسبه، وتفانيه في سبيل ادخاره واستثمار ليس هو مما يؤدي حتماً إلى غنى الأمة وازدياد ثروتها وقوتها. نحن لا ننكر، ولا من يستطيع أن ينكر، أن الجماعة تتألف من أفراد وأن الأمة قائمة بأبنائها، لكننا نعتقد ونجزم بما يعتقده علماء الاجتماع في هذا العصر أن للجماعة كياناً قائماً بذاته يفرق عن كيان الأفراد. فالفرد الذي يعمل لنفسه ولنفسه فقط لا يفيد الجماعة بشيء لان هذه الجماعة بكيانها المستقل تحتاج لأفراد مخلصين يعملون لها لا لأنفسهم ويسعون لفائدتهم، فقد يربح الفرد ويكسب فيكون في ربحه وكسبه خسارة للجماعة
وقد يستفيد الفرد بما يضر الجماعة وقد يوسر الفرد ويغنى مستمداً ثروته وغناه من فقر الجماعة التي ينتسب إليها، وكثيراً ما يجازى على حبه لذاته وأنانيته وعمله لنفسه دون جماعته، جزاء غير المخلصين من الناس، فيذهب ما ربحه هباء منثوراً ويتسرب لغيره ما كسبه وادخره هو لنفسه، وما سبب ذلك إلا أنه ابن جماعة فقيرة ضعيفة ليس في استطاعتها أن تحافظ على حقه أو تدافع عن ماله وكيانه. هذا ولا يذهبن الظن بمن اعتادوا تأويل هذه الأبحاث تبعاً لما توحيه إليهم أغراضهم ومراميهم في الحياة إلى أننا نود أن نقول أن هذه الظاهرة التجارية التي ألححنا في وصفها وبيان عللها ونتائجها هي مما لا يتفق عم غيرها من ظواهر روحية مجيدة اشتهرت عن السوري وامتزجت بأخلاقه، فذكر الشيء لا ينفي ما عداه وتبسطنا في ذكر هذه الظاهرة لا ينفي أن في الروح السورية أيضاً من مختلف الظواهر والعواطف النفسية والميزات الأخلاقية التي مابرح السوري محتفظاً بها أيضاً من ماضيه البعيد والقريب ما يدعو للتفاخر والاعتزاز بها، فنحن إذا تعرضنا لوصف هذه الظاهرة التجارية المادية وحصرنا البحث بها دون سواها فما ذلك إلا لأننا رأينا أن الحاجة الماسة لإصلاحها تدعو للفت نظر الباحثين إليها ولوجوب تحليلها وتفهمها. فالعقلية في الأمم لا تلبث على حال واحد، فهي تابعة، ككل شيء، لنظام التطور والتغير وأساليب الإصلاح الاجتماعي القائمة على العلم الصحيح تستطيع أن تتناول كل ناحية من نواحي هذه العقلية حتى أقدم ما رسخ وتأصل فيها. وأننا إذا عنّ لنا في يوم من الأيام أن نتطاول ونزعم أننا ممن يستطيعون رسم خطة إصلاح لهذه الظاهرة الروحية في الجماعة السورية وحصر حدودها ونطاقها لما تواجدنا أمامنا ما نعالج إصلاحه من الأوضاع الاجتماعية قبل كل شيء غير العائلة السورية ونظامها القديم البالي الذي تربينا عليه ونشأنا في ظله، فالعائلة هي الحلقة التي تصل بين الماضي والحاضر، والعائلة هي الوسيط الأول بنقل آثار الماضي إلى أوضاع الحاضر، والعائلة هي الجماعة الأولى التي تقوم عليها دعائم الأمة بأسرها في الماضي والحاضر معاً. وهذا ما نرجو أن نوفق لمعالجته في مقال آخر.
كاظم الداغستاني