الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مذهب في قصة
زواج يقود إلى السعادة وزواج يقود إلى السجن
بقلم الدكتور منير العجلاني
عاش الدكتور جميل في باريس، كما عاش (راما) في الغابة المقدسة، لم يعلق فؤاده بحب، ولا شغف بلعب، ولا أخذ بشيء مما يؤخذ به الشبان. وقد عاد إلى البلاد، طاهراً كالنار، ثابتاً كالجبل. .
كان في حياته المدرسية، في دمشق، أحب فتاة مسيحية تدعى إيفون وهي على حظ كبير من الجمال والتهذيب، ولها صوت حنون يزيدها رواء، ويعطي كل شيء حولها قلباً يفيض بالحب ويتذكر. . .
لم يكتب إليها منذ سنوات، ولكنه كان مطمئناً إلى أخلاصها، عارفاً أنها تنتظره، وقد رآها أمس في حلمه، بل قد عاش حيلته كلها في حلم الليلة الفائتة.
رأى نفسه في مدرسة السيدة ماري أم إيفون، طفلاً بكاءً لجوجاً، تمازحه ايفون وتطايبه وتبدل دمعته ضحكة عالية!
ثم رأى إيفون في أغنى حلة لبستها طفلة، تغني وتعزف على البيانو، بين يدي مفتش للمعارف يطرب لها أي طرب، ويبشرها بمستقبل عظيم، ويقول لوالدتها: إن فتاة لها جمال بنتها وفنها، يجب أن تكون زوجة باشا!
أزعجت جميل هذه النصيحة البغيضة، فهجم على المفتش يلكمه ويشتمه، ولكن المفتش قابل غضبه ببرودة هائلة، لأن السيدة ماري أفهمته السر: فقد وعدت (جميل) بأن تكون إيفون زوجة له، تسكن معه في بيت واحد وتغني له صباحاً ومساء لا تطلب منه لقاء ذلك إلا أن يحفظ دروسه ويصلح سيرته، فكيف يريد مفتش المعارف أن يزوجها، متى كبرت، من باشا، لم يحفظ دروسه ولا تأدب ولا مزية له سوى أن له شاربين طويلين، وصوتاً ضخماً؟
استعرض جميل صور حبه واحدة واحدة، وانتهى به المطاف إلى يومه الحاضر وقد بلغ به هو وايفون سن الصبا العنيف، فأخذ صورة ايفون وأنشد بصوت سحبه من أعماق نفسه:
يا قبلتي في صلاتي
…
إذا وقفت أصلي!
فعاشت الصورة في يده، أجل خرجت ايفون بلحمها وعظمها من الصورة وقالت له بصوت مارت له كل ذرة في جسمه:
أخذتم فؤادي وهو بعضي فما الذي
…
يضركم، لو كان عندكم الكل!
ثم عادت ايفون إلى الإطار، وإنه ليرقب هذه الأعجوبة، إذ دق الباب، ودخلت الخادم تدعوه إلى الفطور، فغادر أحلامه اللذيذة. . .
- 2 -
في غرفة الطعام، التي تمثل ناحية من ارستقراطية العائلة ومحافظتها، جلس الأب محمد باشا في جهة من المائدة، وإلى يساره الأم وفي الجهة المقابلة جميل وأخته زليخا.
ساد سكون رهيب، ثم قال الأب:
- جميل! أريد أن أقول لك في صراحة لا التواء فيها أمراً يهم العائلة، أمر زواجك!
وساد السكون مرة ثانية ثم قالت الأم:
- أعرف فتاة من أحسن البنات أخلاقاً، هي بنت أحمد باشا، الشريف العريق والمثري الكبير، لها اسم حلو هو اسمك (جميلة) وافق أبول على أن نخطبها لك أحس جميل الذي أحب إيفون ولم يفكر في غيرها، أن صاعقة تنقض عليه فتحطمه تحطيماً، ولكنه جمع المتناثر من قواه، وقال بصوت متقطع:
- أيسمح لي سيدي الوالد بكلمة؟
أجابه الأب: قل ما تشاء وأنس أنك في حضرة أبيك.
قال: إن أمر الزواج يستلزم تفكيراً طويلاً.
قال الأب: ولكننا نفكر فيه منذ زمن طويل. وقد عرف الناس جميعاً أن جميلة ستكون زوجتك. . لأنها خلقت لك، ولأنك أنت خلقت لها. . . .
قال جميل - وكيف أتزوج امرأة لم أرها ولم أسمع حديثها؟ يجب أن أحب قبلاً ثم أتزوج. .
قال الأب - إن زليخا تغنيك عن رؤية جميلة والتحدث عنها، فبلاغتها أبرع في التمثيل من آلة المصور. أسمع ما رواه الأصمعي عن (عصام) التي وجهها الحرث الكندي إلى ابنة عوف لتراها وتمتحن ما بلغه عنها، وقد وصفتها له بما هو أفضل من رؤيته لها. فقالت:
(رأيت جبهة كالمرآة الصقيلة، يزينها شعر حالك. . . إن أرسلته خلته السلاسل، وإن مشطته قلت وإن مشطته قلت عناقيد كرم جلاها الوابل، ومع ذلك حاجبان كأنهما خطا بقلم أو سودا بحمم، قد تقوسا على مثل عين الظبية. . بينهما أنف كحد السيف المصقول لم يخنس به قصر ولم يمض به طول، حفت به وجنتان كالأرجوان، في بياض محض كالجمان، شق فيه فم كالخاتم لذيذ المبتسم، فيه ثنايا غرر، وأسنان تعد كالدرر، وريق كالخمر له نشر الروض بالسحر. . . . وقد تربع في صدرها (صدر كتمثال الدمية) حقان كأنهما رمانتان، من تحت ذلك بطن طوي كطي القباطي المدمجة. . خلف ذلك ظهر كالجدول ينتهي إلى خصر، لولا رحمة الله لأنخذل. ولها ساقان خدلجتان كالبردي يرى من صفائهما مخ العظام، ويحمل ذلك قدمان لطيفان، كحرف اللسان، تبارك الله مع صغرهما كيف يطيقان حمل ما فوقهما) الخ. الخ.
ألا ترى يا جميل كيف أن الوصف يغني عن الرؤية؟ إنني أرى بنت عوف، كما رأيت أمك قبل الزواج بما حدثوني عنها!
قال جميل - أما أنا يا والدي فقد أتصور ابنة عوف كالتي تتصورها، ولكنني لا أحبها. . أو قد أحب صورة لها أتخيلها ولكنها لا تشبه صورتها الحقيقية، فأنكب إذا ما رأيتها في أملي وخيالي، يجب أن أرى أولاً. .
قال الأب: ولدي! ألم تكتب إلي أن إقامتك في باريس بعثت في نفسك الكره لكل ما هو غربي وزادتك بأخلاق بلادك إعجاباً. اليوم جاءت الساعة لتقدم الدليل على ما قلته. لقد أصبحت ملكاً لنا، ملكاً لهذه البلاد التي تبرهن على حبك لها بإتباعك عاداتها. إن العائلات السورية لن تمكنك من رؤية بناتها والتحدث إليهن، وإذا استطعت أن ترى خلسة فلن تستطيع أن تكاتب، وإذا استطعت أن تكاتب فلن تملك أن تتحدث، وإذا تحدثت، فبغير ما يروي الظمأ. إن بعض العائلات تتساهل في هذه الأمور، وأما العائلات العريقة في الشرف والتقوى، فما زالت محافظة، وزوجتك يجب أن تكون من هذه العائلات المحافظة، فلا طمع إذن في أن تراها!
قالت زليخا: ولكن عندي صورة جميلة. هاهي - ودفعتها إلى أخيها!
أخذها جميل وتأمل فيها طويلاً ثم قال:
- لا أقول أنها قبيحة، فقد يعجب بها غيري، ولكن هذا الشكل ليس بالشكل الذي أحب، كلا ولا الشكل هو كل ما أحب حتى أقنع برؤية الصورة.
إن الإنسان لا يحب الجسم وحده، على أن نفسي تحدثني أنني لن أحبها. .
قال الأب: هل خيرت يا ولدي في حب أمك؟ أنك أحببتها بعد أن عرفت أنها أمك، لم تخير فيها ولا خيرت في حبها. هكذا زوجتك. إنك ستجدها غداً إلى جانبك، وستحبها لأنها تحبك ولأنها أم أولادك.
وي! تريد أن ترى وتتحدث، وتنتقل كالنحلة من فتاة إلى فتاة، تحب هذه شهراً، وتلك شهرين، والثالثة نصف عام، تبقي عند هذه ذكريات، وتحتفظ من تلك ذكريات، تثير هنا شكوكاً، وهناك حقداً، حتى تصل إلى فتاة تحبها حباً عنيفاً يسوقك إلى الزواج، وبعد أن تتزوج يبرد الحب وتعرف أنك كنت مخدوعاً وأن بين اللائي عبثت بقلوبهن من كانت أجدر بحبك! لا، إن هذا الأسلوب الغربي الجاني لا يعجبني قط! تزوج فتاة لم تحب قبلها أحداً، ولا ترجو أن تحب بعدها أحداً، وإذا كان فيها نقص بسيط لم يفطن له الذين خطبوها فأنسه كما تنسى عيوب أمك وأبيك وأحبها كما تحب أمك رغم نقائصها، أحبها حتى في عيوبها! ولدي، أنا ما دعوتك لأسألك رأيك، فأنا أعرف بسعادتك منك. إن جميلة خطبت لك! قضي الأمر! تظن أنك لن تحبها، ولكنها اجتمعت لها كل المزايا الحسنة. . . . وغداً ستلبسها من وراء الباب خاتم الخطبة، فترى يدها اللطيفة. .
- 3 -
غادر جميل الدار بحجة أنه يريد أن يزور طائفة من أصحابه، ولكنه قصد إلى حانة قريبة فتناول شيئاً من المسكر وذهب إلى دار السيدة ماري، حيث كانت ايفون تنتظره.
شعر أن السكر بدأ يأخذ منه، فقال لايفون: أقسم لك أنني ما تناولت مسكراً في صباي إلا اليوم، أجل سكرت اليوم ولكن من أجلك. جئت لأطلب منك أن تكوني زوجتي، جئت لأقول لك أنني أعبدك.
قالت له في لطف كثير: ولكن الربة لا تكون زوجة لعبدها، قد تكون صديقة، فلنبق صديقين. أنا أعرف يا جميل أن لك خطيبة، ولكنني أحبك للصداقة الماضية ولإعجابي بك، ومادمت كاتباً فسيكون لي نصيب من قراءة أدبك، ولن تبخل علي بزياراتك، كما كنت
تفعل وأنت في المدرسة. إن الفتيات اللائي يولدن في عائلات متواضعة مثل عائلتي لا يتزوجن من الأشراف الأغنياء، واذكر أنك مسلم وأنني مسيحية وأن من غير المألوف زواج المسلم من المسيحية.
قال: ولكنك أجمل فتاة على الأرض، وأغناهن مزية! لا تظني أن الخمر يملي هذا القول، إنه يحل عقدة لساني، هذا كل ما في الأمر. أنت زوجتي، أما خطيبتي، فليست خطيبتي. . . . قالت: كيف ذلك! إن أمك وأباك يريدانها بكل قواهما. وإن للأم والأب حقوقاً يجب أن تحترم. .
قال: ايفون، أن لي في حياتي ثلاث رسائل: أن أحب وطني، وأن أحب عائلتي، وأن أحبك. فإذا كرهتني، وكرهتني عائلتي، فلن استطيع أن أخدم الوطن، لأنكما مصدر عبقريتي، وماذا يبقى نمن عبقريتي، ماذا يبقى من قلبي، إذا زلتما منه؟ قطعة من اللحم! أنا لم أشرب الخمر، ولكن حياتي كانت سكرى. كنت أسكر من رؤيتك، ومن حديثك، ومن ذكراك، وكان يحبب الحياة إلي إنك ستكونين رفيقتي فيها، وإن روحي ستقرن إلى روحك.
وكان بينهما جدل طويل، يطلب وتدفعه وفي النهاية قال لها في حزم كثير! ايفون، هل تعتقدين أنني إذا قلت أفعل؟
قالت نعم، أنا أعرفك، وما أظن أن الغربة بدلت من طباعك، فهي متأصلة فيك!
قال: إذا لم تلبي ندائي، فلن تريني ولن يراني أحد، لأنني بعد أن أفقد ثقتي بك، يفقد العالم في نظري كل جمال. . لا تظني أنك تضحين نفسك من أجلي برفضك، فرفضك تضحية بي قبل كل شيء. هلمي، أجيبي، أتقبلين؟ قال ذلك وأنشأ ينظر إليها، وقد بدت في ثوبها الحريري الأزرق الشفاف فتنة من الفتن، ليست التي رسمها عصام إلى جانبها، إلا تشويهاً، أنشأ ينظر إليها نظرة كلها استعطاف، فأجابته بصوت ناعم، والدمع يترقرق في عينيها: إذا أردت. . .
- 4 -
مأساة وسعادة
مضت أشهر على زواج جميل، وقلب الأب لم يلن. . يكتب إليه فلا يجيبه ويزوره فيتوارى عنه، ويهدد كل من يختلف إليه بغضبه وحرمانه من الإرث!
عانى جميل كثيراً من العذاب في بيروت التي هاجر إليها طلباً للحياة، ولكن زوجته ايفون كانت له اللطف سلوى. .
وفي ذات يوم تلقى جميل زيارة أخيه البكر خالد، فسأله عن حياته الزوجية فأجابه بكلام كان يخرج من صدره كأنه قطع من الجحيم، أن زوجتي (حدراء) مسافرة في لبنان، مع أبيها، وقد سميتها (الحلقة المفقودة) لأن الإنسان يحار في أي الصنفين، القرد أو الإنسان، يضعها. لقد اختارتها لأي أمل. لأنها قبلت يديها بخشوع، وتقبيل اليد معيار الأدب والجمال عند أمي الطيبة القلب! حدراء معجبة بنفسها إلى آخر حدود الإعجاب، شكلها يشبه شكل العجائز وحديثها تزهق منه الأرواح، ولكن لها من عناصر الجمال شيئاً واحداً شعرها الأسود الذي تنفق عليه بلا حساب، وجميع أحاديثها مع ضيفاتها تدور حول جمال الشعر! يحبها والدها، لما تتظاهر به من تقوى ويصطحبها في أسفاره، ولكن غيباتها لسوء حظي قليلة وسعادتي قصيرة. أتعاتبني حدراء لأنني أسكر ولم تعرف أنني أسكر من شقائي بها! سألني أمس أحد المسيحيين: لماذا يباح للمسلم أن يتزوج مسيحية، ولا يباح للمسيحي أن يتزوج مسلمة، فقلت له: ماذا؟ أتريد أن تشتري شيئاً مغلفاً لا تعرف ما هو؟ وانتظر على الأقل حتى يكون سفور وترى ما وراء الحجاب، فأما ملكاً. .
قال ضاحكاً: وأما غولا. . .
فتركته وأنا كالأحمق. . لأن هذا اللقب ينطبق تماماً على زوجتي. . نعم، أنا زوج غول! أعيش مع غول، وسيكون نسلي من غول!. .
وداعاً يا أخي! إن سعادتك لا تقدر. . . . . .
ثم فر خالد فوراً. . . مما بعث الدهشة في نفس جميل، الذي لم يستطع أن يدركه، ولكنه، في صباح اليوم الثاني، أخذ من أبيه الرسالة الأولى، بعد التقاطع، وقد جاء فيها:
حكم القضاء على (مساعد) زوج (جميلة) بالسجن ثلاث سنوات لأنه ضرب زوجته وجرحها جرحاً بليغاً! هجر أخوك المنزل العائلي هرباً من (حدراء) سافر فجأة إلى أمريكا. أمرضت أمك الهموم. تعال يا ولدي. الآن فهمنا أنك كنت على حق في رفضك الزواج من جميلة. تغيرت فكرة العصر فوجب أن يتغير الأسلوب. بلغ من جنوني أنني حرمتك من أرثي وعطفي، فاغفر لي حماقتي. عدنا إليك يا ولدي فعد إلينا، مع زوجتك الفضلى التي
ننتظرها بشوق. الخ. . . . .
وهكذا دخلت فتاة مسيحية في عائلة محمد باشا، الشريف السوري العريق في النسب والتقوى وكانت من أسباب سعادته!
فلماذا لا يتكرر هذا المثال؟. . . .
دمشق في 16 حزيران
الدكتور منير العجلاني