الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بول فاليري
للكاتب الفرنسي اندره موروا
ديكارت وفاليري
ما أشد الشبه بين فاليري والفيلسوف العظيم ديكارت، فقد وصل الاثنان إلى النثر من طريق الشعر والعلوم وأحب كلاهما في صباه الشعر حباً جماً. ولم يشأ ديكارت أن يحترف في بادئ أمره مهنة الأدب بل تطوع في إحدى فرق الجيش ليسيح في أرجاء العالم الواسع طمعاً أن يكون أحد المتفرجين على مشاهد الألعوبة الإنسانية التي تمثل على مسرح الوجود لا أن يكون من ممثلي هذه الألعوبة. وفاليري أيضاً أبى إلا أن يكون أحد المتفرجين على مناظر العالم. قضى فاليري مثل ديكارت عشرين عاماً في التأمل والتفكير ولم يذع الاثنان للناس نتيجة تأملاتهما إلا بعد انقضاء عشرين عاماً من عزلتهما، والاثنان شديدا الشبه في هذه النواحي الثلاث: قوة التفكير، ومحاولة تجديد الفكر الإنساني، وإعادة بنائه على أسس جديدة وقويمة.
حياة الرجل
ولد فاليري في مدينة سيت بالقرب من مونبليه سنة 1871 وتلقى دروسه الابتدائية في مدرسة بلده ثم انتقل بعدئذ إلى مونبليه وقد ترك لنا ذكريات طريفة عن حياته الدراسية وآراء قيمة في الدرس والتعليم تفسر لنا نزعته الخاصة في الحياة وتكشف لنا عما انطبعت عليه شخصيته الفذة:
لنا أساتذة يتسلطون علينا بالإرهاب ونظرتهم إلى الأدب هي نظرة عسكرية محضة. وقد خيل لي أن للسخافات مكاناً واسعاً في البرامج المدرسية، وإن ضعف النفوس ونقص الخيال هما من العوامل الفعالة في نجاح الكثيرين في المدرسة، ولذا نشأت عندي روح معرضة للتعليم في زماننا
كان لهذه الروح المعارضة للتعليم أثرها في تكوين فاليري ودفعه للارتفاع عن المستوى العادي والخروج عن حيز المجموع ولا عجب إذا أدت به هذه الروح المتمردة إلى رفض هذه الحقائق التي يدعوها رسمية والتي يقدمها الأساتذة إلى تلاميذهم عادة وإلى إعادة بناء صرح حياته الفكرية من جديد.
شرع فاليري في العمل، ليس كما كان يرجوه منه معلموه إذ كان يحضر ظاهراً دروس الحقوق في جامعة مونبليه وكان في الحقيقة مكباً على دراسة الشعراء الجدد أمثال بويلير وفيرلين ورامبو ومالا وقد طلع فاليري عقب هذه الدراسات بأفكار طريفة ملخصها أن الفن هو الشيء الوحيد الثابت في هذا العالم وإن فلسفة ما وراء الطبيعة نوع من الهذر ولغو الكلام وإن العلوم دائرة ضيقة لا يستطيع الإنسان أن يظهر فيها مواهبه وما خصته به الطبيعة من مزايا عاليةوإن الحياة العملية تدهور وسقوط تؤدي غالباً إلى عيشة قلقة مضطربة.
ظل فاليري على اتصال دائم مع رجال الأدب أمثال بير لويس صاحب آفروديت أو الحب الإغريقي واندره جيد الكاتب العظيم وقد نظم فاليري حينئذ أشعاراً نشرت في إحدى المجلات الفتية فلاقت رواجاً سريعاً وقد حاول فاليري أن يكون بعدها كاتباً محترفاً ولكن هذه المهنة كانت كما يقول فوق طاقته ودون قواه ووسائله إذ كان ينزع مثل غوته شاعر ألمانيا الأكبر أن يجعل لحياته هدفاً يصعب الوصول إليه ولا أدل على مزاج الرجل وما انطبعت عليه نفسيته من هذه المحادثة القصيرة التي جرت بينه وبين اندره جيد إذ قال هذا أثناء الحديث سأقتل نفسي لو منعني أحد عن الكتابة.
أما أنا، أجاب فاليري، سأقتل نفسي لو أرغمني أحد على الكتابة!!
قضى فاليري سنة في الخدمة العسكرية فأعجب بروح النظام السائدة فيها كما أعجب ستاندال من قبل بالقانون المدني وترتيبه المنطقي.
اجتاز فاليري سن الحداثة ليس مثل اندره جيد الذي تحرر عن طريق لذة الحواس ولا مثل بايرون عن طريق الشعر والإلهام أو مثل عامة الناس عن طريق العمل ولكنه تحرر مثل زميله ديكارت عن طريق الفكر وتقوية دعائم الشخصية فقد أقام فاليري في باريس في غرفة كان يسكنها سيد الفلسفة الوضعية أو غوست كونت وهنا في هذه الغرفة الحقيرة صار يسود عدة صفحات تدور معظمها على مواضيع فلسفية بحتة كفكرة الزمان والمكان والأحلام والانتباه ونصيب العلوم من الحقيقة وسير الفكر الإنساني في مدارج التطور والارتقاء.
ماذا وجد فاليري في جهاده الفكري؟
وجد طرائق غير عادية تمكننا من الوصول إلى نوع من الدقة في التفكير واستطاع بما حذفه من الكلمات المبهمة التي لا تؤدي المعنى بتمامه أن يوجد مفردات عديدة تفي بهذا الغرض بعد أن أعمل قلم التهذيب فيها وحذف كل ما وجد نقصاً في تعريفها.
لقد أصبت بمرض الدقة ونزعت نفسي إلى تفهم الأشياء تفهماً كلياً وغدا كل ما هو سهل في نظري محتقراً ومذموماً فأسأت الظن بالآداب وكل ما كان رقيقاً من الأشعار وهجرت الفلسفة كلها واعتبرتها من الأشياء المحتقرة التي تشمئز نفسي منها.
طريقة الرجل: الدقة
ناتانائيل! سوف لا أعلمك التآلف بل الحب!
بمثل هذه الكلمات يخاطب اندره حيد تلميذه في كتاب طعام الأرض ولو قدر لي اكتب عن طريقة فاليري في الكتابة لما وجدت أحسن من ترديد هذه الجملة:
اركسيماك! سوف لا أعلمك الوضوح في الكتابة بل الدقة.
يجد معظم الناس كتابة فاليري غامضة ولم يكن هذا التذمر إلا ليلاقي استغراباً ودهشة من الشاعر العظيم فكان يجيب بقوله يسوؤني تعذيب عشاق الوضوح والنور إذ لا شيء يجذبني مثل الوضوح في الكتابة وأن ما ينسبونه إليّ من الغموض هو ضعيف بجانب الحقائق التي اكتشفتها دوماً. . . يا صديقي أن لي فكراً لا يقنع بحقيقة الأشياء إلا بعد التحقق منها.
ومن الغريب أننا إذا تدبرنا الكتب التي عرفت بسهولتها وجدنا أنها تحتوي شيئاً من الوضوح الغامض ولم يتردد فاليري في خطابه إلى الأكاديمية من الإشارة إلى الوضوح في كتابة صاحب الزنبقة الحمراء قائلاً:
أحب الناس بسرعة كتابة فرانس لأنهم استطاعوا أن يتذوقوها بدون أدنى مجهود فكري إذ كانت هذه الكتابة تخدعهم بمظهرها الطبيعي الجذاب وإن كانت تخفي تحت فكرة مقصودة واضحة. في كتب فرانس أثر لفن التقاط الأفكار والمسائل الصعبة. وقد لا يستوقف القارئ عند قراءته كتب فرانس سوى هذه الأعجوبة أنه لا يشعر بأدنى مقاومة أثناء القراءة. الوضوح أمنية لذيذة توحي لنا أننا نتثقف بدون عناء وأننا نتذوق الكتب بدون نصب وأننا نفهم بدون شدة وأننا نتمتع أخيراً بمشاهد الرواية دون أن ندفع فلساً واحداً. ما أسعد هؤلاء
الذين كفونا مؤونة التفكير وبسطوا بيد خفيفة ستاراً براقاً على صعوبة الأشياء.
لقد أجاز فاليري لنفسه حينما نظم الشعر أن يكون غامضاً أو بالأحرى موسيقياً
كما أجاز ذلك لبقية الشعراء ولكنه إذا أراد أن يكتب نثراً أو إذا حاول أن يبني أفكاراً متسلسلة تعمد الدقة في الكتابة فهو لا يستعمل الكلمة قبل التحقق من معناها التام وتعريفها الشامل والخلاصة إنه يريد أن يكون لكتابته نصيب من الدقة يعادل نصيب الأعداد من الدقة الرياضية.
وهكذا ترى أنه لاشيء يوقف فاليري في جهاده في سبيل الدقة لأن جهاده الفكري هذا ينطوي على شجاعة وثبات نادري المثال فهو لا يقبل الحقائق السهلة ولا تخدعه الآراء العامة ولا يعترف بسلطة الأخصائيين فهو يلقى عن نفسه إزاء كل مسألة هذا السؤال:
ماذا يعني تماماً الشاعر والكاتب؟
وهو شديد الشبه بديكارت إذ ينقب في كل بحث ويفرض على نفسه هذا الشك المنظم وأراني مخطئاً بقولي بفرض لأن هذا الشك من مميزات فاليري وخاصة من خواص عبقريته النادرة المثال.
فاليري والتاريخ
أساء فاليري الظن كما رأينا بالآداب والكتاب والفلسفة وقال إنها نوع من الهذر لا ترتكز على شيء من الحقيقة وأخيراً أساء الظن بكل ما فرضه عليه الغير من الحقائق الجاهزة التي سلم بها معظم الناس.
والتاريخ من الحقائق الرسمية التي يخشاها فاليري فكان فاليري أحد الذين قاموا ضد النظريات المعروفة بالقوانين التاريخية وهي التي تنص أنه في أمكاننا استنتاج المجهول من المعلوم أي الاستدلال من الماضي عن حوادث المستقبل فيرى فاليري أن التاريخ من 1 - الفنون التي ابتدعها العقل الإنساني ولا شيء يوازي خطره على سير الحضارات الإنسانية فهو يدفع الشعوب إلى التنعم بالماضي ويسكرهم بحوادثه الخداعة الكاذبة ويقلق راحتهم ويدفعهم نحو هذيان العظمة أو الاضطهاد ويجعل الشعوب المغلوبة صعبة القياد. ويعتقد فاليري أيضاً أنه من الجنون الصرف أن يؤمن في استطاعة التاريخ إطلاعنا على حوادث المستقبل ولم يتردد فاليري في خطابه في حفلة توزيع الجوائز على طلبة إحدى
المدارس من القول إنه لما كان في سنهم عام 1887 كانت صورة العلم تختلف تماماً عما هي الآن من الاضطراب وعدم الاستقرار هل كان في مقدور أعظم السياسيين في ذلك الوقت أن يتوقع أن أوروبا ستصبح على هذه الحالة وما أظن أنه مهما بلغت القوانين التاريخية من الدقة أن تعطينا صورة ولو قريبة عما سيكن عليه العالم سنة 1935.
تحكم العلوم الصحيحة من المستقبل وذلك ضمن قواعد دقيقة وتبعاً لقوانين محدودة أما في التاريخ فليس من الممكن أن نحكم على المستقبل ولذا غدت كل التنبؤات من قبيل التضليل لأن التاريخ ليس بعلم بل هو فن لكل الفنون يجب أن يتبوأ مكانه بين آلهات الشعر والخيال. وما هذا الاعتقاد والإيمان بالتاريخ إلا وليد الفلسفة الوضعية التي ظهرت من القرن التاسع عشر ذلك القرن الذي أسكرته انتصار العلوم التجريبية فقد جرب أن يطبق قواعد هذه العلوم التجريبية على العلوم الزائفة المدعوة بعلمي الاجتماع والنفس فكان نصيبه الفشل التام.
فاليري والفن
قد يكون من الخطأ أن يعتقد أن العالم مركب من اصطلاحات قائمة بين أفراد البشر لأنه لا يوجد حقيقة أقدم من الاصطلاحان التي ابتدعها العقل البشري ولكن كيف للبشر أن يدرك هذه الحقيقة ما دامت غريبة عنه؟
يجيب فاليري كما أجاب بروست من قبل: في مقدورنا إدراك الحقيقة بالفن ويمكن إدراكها بواسطة الشعر - على شرط أن نفهم الشعر بمعناه الواسع فالشعر يسمح للفكر أن يتصل بالحقيقة الأولية التي سبقت الدور الذي اكتسبنا به معارفنا ومعلوماتنا. لأن دور الشاعر يتلخص في إعطاء الكلمات قيمتها الموسيقية وبأن يخلق حول هذه الكلمات السر العجيب الذي كان يحوطها أثناء ظهورها وولادتها.
لا ينظم الشاعر قصيدته بالأفكار ولا بالعواطف وإنما ينظمها بالكلمات.
فقد شبه فاليري الشاعر (بعامل) ذي وجدان حي وفكر منظم فهو (يركب) قصيدته كما يركب العامل في المصنع الآلة من الآلات التي هيئت لعمل من الأعمال - أعني تركيب القصيدة يجب أن يخضع لقواعد معروفة ومحدودة لآن حماسة الجمال التي يسعى وراءها الشعراء والتي جربوا تعريفها لم تكن إلا عاطفة استحالة التحول.
ولا يعزب عن البال أن مثل هذه الآراء تطرد فكرة الاستيحاء في الشعر لأن فاليري يهزأ من الاستيحاء ويعتقد أنه بغير مركز الشاعر وينقله من دور عامل إلى دور شاهد.
إبراهيم الكيلاني