المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌شقاء العالم للكاتب الإيطالي الكبير جيوفاني بابيني لقد هبط مدينتنا، على غير - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ١٠

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌شقاء العالم للكاتب الإيطالي الكبير جيوفاني بابيني لقد هبط مدينتنا، على غير

‌شقاء العالم

للكاتب الإيطالي الكبير جيوفاني بابيني

لقد هبط مدينتنا، على غير موعد، معلم اسمه آريل آتياً من إحدى الجزر البعيدة تلك الجزر التي لا يرسمها الجغرافيون على الخرائط بل تظهر من حين إلى حين على سطح البحار، كما تظهر في مخيلة الشعراء. ويقال أن آريل كان منذ زمن بعيد في خدمة أحد الأمراء المنفيين، وإن هذا الأمير المنفي قد باح له بأسرار ليس في وسع الإنسان سماعها أكثر من مرة واحدة. ولعله بسبب ذلك اعتاد ما نستغربه منه كثيراً وهو أنه لا يسمح لأي كان بحضور درسه أكثر من مرة واحدة. لأنه كان يقبل كل من يتقدم إليه بشرط أن لا يكون قد جاءه من قبل. ويطرد كل من يعود إليه مرة أخرى، وليس هناك من يستطيع المفاخرة فيزعم بأنه حضر درسه أكثر من مرة واحدة.

وكنت أقول لنفسي في كل يوم: لاشك أن الأستاذ قد علم أشياء جديدة وغريبة لأن جميع الذين يخرجون من القاعة التي يلقى بها دروسه يسيرون في شوارع المدينة وأزقتها مفكرين تائهين، كأنهم عائدون من عالم جديد أو كان الله بعث بهم أحياء بعد أن كانوا أمواتاً.

ولعل ما سيقوله في الغد من الأقوال ويلقيه من الدروس يكون أعظم وأهم. ولو أني ذهبت لما سمعته غداً ولفاتني اليوم الذي سيعلن فيه أهم تعاليمه وأغربها. لأن هذا الرجل ليس بالمعلم العادي، فيستطيع الإنسان سماع دروسه في كل يوم وحضورها إن كل واحد من تلاميذه عرضة لعذاب الأسف على المجهول الذي لا يعوض.

ولذلك فقد تركت أياماً كثيرة تمر دون أن أحضر درس آريل. فقد كنت أقف على بابه ساعات طويلة، مرتجفاً، قلقاً، متردداً في الدخول. وعندما كان تلاميذ ذلك اليوم يخرجون، كنت أسألهم عما قال المعلم، فلا أظفر منهم بجواب لأنهم كانوا ينظرون إلي نظرات تائهة كالخارج من الحلم ويبتعدون بخطى متثاقلة مضطربة.

وهكذا فقد مضت أيام كثيرة تغير في خلالها مجرى حياتي، إذ أنني أضعت وساوس كتبي وعادتي بتقبيل أمي في كل صباح ومساء. حتى أني نسيت مراقبة طلائع النجوم عندما يصل الليل. وأخيراً بعد أن نفد صبري، وأصبحت عاجزاً عن مقاومة رغبتي أكثر من

ص: 37

ذلك، عزمت على لقاء الأستاذ

وصباح الأمس دخلت مدرسته كالكثيرين غيري من المنتظرين على بابه.

وكانت القاعة واسعة، لا شيء من الرياش فيها ولها نوافذ ترمي إلى أروقة طويلة وكان آريل واقفاً ومسنداً ظهره إلى الحائط، متدثراً، رغم الحر الشديد، برداء سميك وضخم. ولعله يرتديه ليخفي تحته جناحيه الطويلين، لأن عينيه كانتا ترسلان دائماً نحو السماء ومن فوق الجبال الرمادية العالية، نظرات جامدة، باردة خرساء.

ومنذ دخلنا جميعاً، نظر إلينا واحداً واحداً، ثم أمر بطرد شابين أخوين كانا قد حاولا الاختفاء بين صفوفنا ولكن قوة نظراته في معرفة حالت دون ذلك فبعد أن خرجا وأمر بإقفال الباب، بقي صامتاً مدة غير وجيزة.

لقد كنا جميعاً وقوفاً مثله ولم يكن يسمع في القاعة التي لا رياش فيها غير صوت أنفاسنا.

وفجأة بدأ آريل في الكلام، فكان صوته ينحت الألفاظ نحتاً:

اليوم، سأتكلم عن الإنسان وشقائه الأكبر! كم من مرة شفق عليكم! كم من مرة حذرتم! وكم من لعنات صبت عليكم! قد وصف البعض في كتبهم جراحكم الخفية، واحتقركم البعض وازدراكم.

من شقائكم تولدت مراثي الشعراء، ونواح الباكين ومواعظ القديسين، وآراء الفلاسفة المتشائمين ولكن واحداً من هؤلاء لم يدرك شقاءكم الكبير العميق، شقاءكم الأبدي، الذي لا حد لا نهاية له.

لعلكم تعساء لأنكم تموتون؟ ولكن كل شيء يموت ليولد من جديد في هذا العالم.

لعلكم تعساء لأن أفراحكم قصيرة وآلامكم طويلة أبدية؟ ولكن الألم ينقذكم من التخمة، ويطهركم ويرفعكم إلى المعرفة.

لعلكم تعساء لأن قدرتكم لها حدود؟ ولكنكم ستكونون أتعس وأشقى بكثير، لو أنكم ملكتم القدرة المطلقة.

كلا! ليست هذه أسباب بؤسكم الحقيقي، إن شقاءكم غير هذا، وإلى الآن ما من أحد استطاع إظهار حقيقته لكم، وها هي:

الإنسان أبكم! هذا شقاؤه الوحيد، وهنا مصيبته الأبدية الكبرى.

ص: 38

الإنسان أبكم! لا يستطيع النطق، ولا يعرف أن يجيب، ولو أنه تكلم لانتهى ألمه، وانتهى هذا العالم. ولكنه بقي إلى الآن أبكم، أبكم بعناد وغباوة،

ولهذا السبب تستمر حياته الحاضرة وآلامه الأبدية.

أنتم لا تفقهون أقوالي، وأنا شاعر بذلك. إني أشعر بالشك يجول في نفوسكم واتبين رغبة الابتسام تلوح على شفاهكم. ولكن سيفعم اليقين قلوبكم وستعجزون عن الابتسام عندما تفهمون ما أريد أن أقول.

أعرف أن الكثيرين من بينكم يرون العالم عظيم الشبه بهم فيجدونه مملاً، كله عادات محزنة، متشابهة متكررة، وإني لأتبين من بينكم شاباً شاحب اللون يرتدي السواد. ولاشك أنه يقرأ اللورد بيرون فهو يميل للانتحار ويردد دائماً هذه الشكوى: دائماً الشمس ذاتها، دائماً النور ذاته، دائماً هي هي المياه الجارية، ووجوه القمر المتتابعة، والعصافير المغردة، والنساء العاشقات، والزهور المتفتحة الذابلة، ورنين أجراس الفجر والمساء، والبواخر التي تغادر الشاطئ لتعود إليه، وتعاقب الأيام والليالي، وكل هذا بدون نهاية، من ساعة الخلجان الأولى إلى ساعة النزع الأخيرة. وحتى الذي يجوب الأرض باحثاً عن شيء جديد، وشعور جديد ينتهي دائماً بالفشل، فالاستمرار يبعث الاستياء والضجر والحياة كلها وبجميع ما فيها من تعاقب الفصول والمواسم وتوالي الأعوام والعصور والرياح والعواصف تلخص هذه المراحلة المستمرة المتوالية وهي ولادة فألم فحب فتأمل فموت.

هكذا يتكلم الناس بعد أن تنقض مدة طفولتهم فلا يدعوا أنفسهم يسكرون بألعاب الحياة الخطرة. وهؤلاء أيضاً لم يدركوا مصيبتهم الكبرى. يظنون أنهم تجرعوا كأس المرارة حتى الثمالة، بينما هم ما كادوا يقتربون من الحافة حتى ابتعدوا مسرعين، وفي نفوسهم رغبة واحدة هي إبادة نفوسهم، وإزالة الحياة والعالم معها.

ولكن أنى لهم أن يهتدوا إلى طريق العدم ماداموا لم يدركوا بعد معنى الحياة وأسباب تواليها وتعاقبها على نمط واحد.

الحياة جامدة، الحياة ذات نمط واحد وشكل واحد كل هذا حقيقة واقعة ولكن ما سبب ذلك إلا الناس أنفسهم البكم الذين لا يستطيعون الكلام وليس بوسعهم أن يجيبوا على ما يسألون عنه.

ص: 39

أعلموا إذاً يا تلاميذ هذا اليوم، إن العالم ما هو إلا خطبة طويلة مبهمة معقدة مرت عليها الأجيال دون أن يكون هنالك من يجيب عليها.

هناك كائن غريب يريد أن يقول للبشر شيئاً، ولكنه لا يتكلم بلغة البشر قط. كائن يعبر عن ذاته بالرموز، وبواسطة ظواهر الأشياء والحادثات، الكون خطبته الأزلية، والأرض والشمس والنبات كلمته الغامضة التي تدوي جيلاً بعد جيل دون أن يسمعها أو يدركها إنسان.

ولهذا السبب، لا تجهدوا أنفسكم بالبحث عن غيره، تتكرر هذه الخطبة، فيسمع منها كل إنسان حي الأشياء ذاتها، والأشياء الأبدية لا يمكن أن تتغير والعالم جامد كخطاب دائم التكرار، لأن ليس بينكم من يسمعه، ولأنكم جميعاً بكم لا تستطيعون الكلام.

أنكم تنظرون إلى العالم، فتنسخوه، وتسخروه في حاجات وجودكم ولكنكم لا تفكرون بسماعه قط. إنه لا يخطر في بال واحد منكم أن العالم يكلمكم وإنه يقصدكم وينتظر جوابكم. أنتم تعتبرون العالم مستودع بضائع، أو أرضاً للحراثة أو مقاماً يسعد الإنسان فيه أو يشقى. ولم تفكروا ولو مرة واحدة أن للعالم صوتاً.

صوتاً يكرر بإلحاح مطالب كثيرة، صوتاً يريد أن يصل إلى أسماعكم بل إلى أعماق نفوسكم، وهو صوت بائس تعب يستغيث ويتوسل طالباً جوابكم.

لأي سبب تظنون أن الشحارير تردد دائماً الأغاني نفسها، والضفادع لا تبدل أنغامها الكئيبة، والرياح لا تغير ألحانها العاصفة والمياه خريرها البارد الأبدي؟ وإلى أي نهاية تظنون السنونو يرسم في طيرانه الخطوط التي لا تعد، والشمس التي تمر في كل يوم من فوق رؤوسنا على مهل متبعة نفس الطريق منذ ابتداء الأزمان؟؟ وما هي في عرفكم غاية الأشجار التي تزدهي في كل ربيع بالألوان ذاتها.

إن كل ما يبدو ويتلاشى ثم يعود فيبدو من جديد، ما هو إلا قسم من هذا وعبارات تردد. لأن الذي يكلمكم صبور حليم لا يعد صمتكم وسكوتكم إهانة له. إنه يردد ويكرر إلى اللانهاية مطلبه منكم آملاً باليوم الذي سيمكنكم أن تجيبوه فيه، وفي هذا اليوم، اليوم الذي تجيبون فيه، ينتهي هذا العالم المتشابه وتنتهي معه حياتكم المملة المفعمة بالسآمة والضجر وعندئذ يبتدئ خطاب جديد، وتخلق أرض جديدة وسماء جديدة، وبشر جديد لأفراده قوة

ص: 40

أزلية لا تستقر على حال ولا تبقى أبداً على شكل واحد أو نمط واحد.

أما الآن فعليكم أن تتكلموا. لقد غبرت آلاف السنين والصوت يخاطبكم وأنتم لا تجيبون. اجتهدوا منذ اليوم أن تعتبروا العالم كسلسلة من الكلمات، وأرهفوا إليها الإسماع والفكر، وحاولوا أن تفهموا هذه اللغة المبهمة.

وعندما ينفك عنكم بكمكم وتحل عقدة ألسنتكم تصبح ساعات شقائكم الأكبر أثراً بعد عين. لتنفتح أمامكم صفحة جديدة من الكون.

لقد أعطيتكم الخوف، فاخلقوا أنتم أنفسكم الأمل

هذا كل ما سمعته من أمثولة آريل، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يردد بتتابع تلك الكلمات التي كانت تخرج قوية رهيبة من فمه؟؟

وعندما سكت لم يجسر أحد منا أن يرفع نظره إليه بل وجدنا أنفسنا في الشارع تائهين، مفكرين كالخارج من الحلم، أو كمن بعث حياً بعد أن كان ميتاً

وأوقفني في الطريق رجل، وسألني مضطرباً عما قاله المعلم في ذلك اليوم، فنظرت إليه دون أن أراه، وتابعت مسيري دون أن أنبس ببنت شفة.

تعريب: ع0 ج

ص: 41