المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحضارة الحاضرة وواجب التربية تعريب الأستاذ عبد الحميد الحراكي ظهر مؤخراً كتاب قيم - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ١٠

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌الحضارة الحاضرة وواجب التربية تعريب الأستاذ عبد الحميد الحراكي ظهر مؤخراً كتاب قيم

‌الحضارة الحاضرة

وواجب التربية

تعريب الأستاذ عبد الحميد الحراكي

ظهر مؤخراً كتاب قيم بقلم الاقتصادي الفرنسي المعروف لوسيان روميه تحت عنوان إذا اضمحلت الرأسمالية عالج فيه الأزمة الاقتصادية وتعرض بصورة خاصة إلى الناحية الاجتماعية الإصلاحية. وبسبب الفضائح المالية في فرنسا فقد استرعى هذا الكتاب أنظار المفكرين الذين يبحثون في طرق الإصلاح الاقتصادي. وفيما يلي مقالة للكاتب الفرنسي (جورج غي - غران) عن هذا الكتاب نقلها إلى العربية الأستاذ عبد الحميد بك الحراكي ننشرها لفائدة القراء:

إنه الفضائح المتنوعة التي اجتاحتنا مؤخراً قد هزت الرأي العام هزاً عنيفاً لم يقف عند انفجار التظاهرات الصاخبة في بعض المدن الكبيرة بل تعداه إلى أثاره السخط العام في جميع أنحاء البلاد. وإذا نحن لم نشاهد آثار هذا الاشمئزاز مرفوقة دائماً بالاحتجاج واللغط الشديد فأننا قد لاحظنا أشياء ربما كانت أشد خطراً وأوقع أثراً إلا وهي الاحتقار والنفور الصامت من قبل أصحاب الشرف وأهل الفضل.

وحقاً فإن نفرة أرقى طبقات الشعب على النظام السائد وعدم ثقتهم به لشيء له خطورته لاسيما في وقت كثرت فيه الحملات العنيفة على النظام البرلماني في أوروبا وفي وقت كان يجب أن يستند فيه هذا النظام على إدارة نزيهة لا يعتروها الخلل والفساد ليستطيع أنصاره الدفاع والمحافظة عليه. ولكن لم ينكشف لنا من هذا النظام حتى الآن إلا نواحيه المتفسخة. . .

لاشك أن هناك كثيراً من مشاريع الإصلاح تقدم بها أصحابها ليظهروا للملأ بصورة واضحة بعض النواقص والعيوب الأكثر ضرراً في هذا النظام كما اقترح كثير من وسائل العلاج التشريعية التي لا غنى عنها ولكن هذه الأدوية لا يمكن أن تؤثر وتكون ناجعة إلا إذا تم تطبيقها فعلاً. وفي الواقع أن الذي ينقصنا أكثر من كل شيء هو التطبيق الجدي الفعال المتواصل.

فالمشاريع والاقتراحات الجديدة تلقى في سلة المهملات وتستغرق في سباتها العميق مثل

ص: 21

غيرها من المشاريع والأنظمة التي لم تطبق وهكذا تستمر الحالة حتى تقع فضيحة جديدة أو كارثة حديثة تدعو اليقظة.

لماذا نرى هذا الخلل في جميع المؤسسات؟ ولماذا لا يعمل بالقوانين والأنظمة؟

هنا نصل إلى المسألة الحقيقية التي تتلخص في ضرورة إصلاح الأخلاق والآداب والعادات.

ليس معنى ذلك أن الأشياء يمكن إهمالها ولا لزوم لإصلاحها. فإن بين المؤسسات وبين الآداب والعادات نفس العلاقة الموجودة بين الطبيعة والأخلاق أو بين المادة والعقل. وبما أننا لسنا عقولاً محضة فإن أفكارنا وعواطفنا مقيدة ومتأثرة، إلى درجة ما، بالبيئة الطبيعية والمحيط السياسي والاجتماعي الذي نعيش فيه. ولكن، من جهة أخرى، لا يمكن أن يكون في المؤسسات من الحياة إلا بقدر ما نستطيع نحن نفخه فيها. فأن التقيد والتأثر ليس مطلقاً وقاطعاً بل في مقدورنا تحويره تصحيحه. وبالنتيجة فأن قيمة المؤسسات والقوانين إنما ترجع إلى قيمة الأشخاص القائمين عليها. هذه حقيقة قديمة جداً.

نعم، إنها حقيقة قديمة ولكنها مع ذلك جديدة دائماً ومن المفيد في كل وقت التذكير بها. وهذا ما قام به مؤخراً المسيو (لوسيان روميه) في كتاب يدل عنوانه على أنه من وضع رجل اقتصادي إلا أنه في الحقيقة ينطق بلسان رجل أخلاقي، بل أخلاقي منهمك بصورة خاصة في قضايا التربية.

إننا نتأكد من ذلك منذ المباشرة في مطالعة المقدمة. فأن المؤلف يتساءل هنا: هل يجب إصلاح الأشياء أم إصلاح الأشخاص! ثم يتأخر في إعطاء الجواب منذ الجملة الأولى التي تبين لنا روح الكتاب والغاية منه إذ يقول: يعيش إنسان اليوم قي وهم خطر. فهو يعتقد أن الخير والشر في الأشياء لا في الأعمال، في حين أن الخير والشر ليسا في الأشياء نفسها بل في الناس القائمين عليها.

وما دام الأمر كذلك فمن الضروري أن لا نذهل عن القضية الأساسية وهي البحث في المسؤولية الشخصية. فإذا اضمحلت الرأسمالية إنما يقع الذنب على الإنسان الذي لم يحسن التصرف بها ولم يعرف كيف يجعلها صالحة للبشرية ولائقة بالإنسانية.

وإذا قدر للاشتراكية الفوز فأن حظها الحقيقي في البقاء مدة طويلة سيتوقف على مقدرة

ص: 22

إتباعها ومقدار جهودهم لجعلها صالحة للحياة.

وما يقال في الاشتراكية يقال أيضاً في الديمقراطية لم يمارسوا الفضائل والمزايا التي بها وحدها يمكن تحقيق هذه الفكرة. والأنظمة والتعاليم الجديدة التي تنتقد الديمقراطية أو تطمع في أن تقوم مكانها إنما تستفيد مما يزينها من بهجة التجدد وتستثمر حماسة أنصارها المؤسسين.

ولكن هذه أيضاً لابد أن يصبها بدورها الهرم وتبلى بالابتذال إذا لم يكن إتباعها قادرين على تجديدها وبالاختصار فإن المسألة الأساسية ليست الدعوة الكلامية لمختلف الكلمات المنتهية بحرفي (يه) - مثل ديمقراطية، اشتراكية، فاشستية - بل التفتيش عن الحقائق التي تشتمل عليها هذه الكلمات وفي الدرجة الأولى السؤال عن الأشخاص الذين يمارسونها. أما الوهم بأنه من الممكن استبدال مسؤولية الأشخاص الذاتية والاجتماعية بمسؤولية الدساتير والأشياء المفروضة فتلك فكرة ستوصلنا حتماً إلى الفوضى المطلقة. لأننا بحجة إدارة الأشياء نهمل إدارة الناس

وقد ضرب لنا المسيو (روميه) مثلاً لإيضاح أساس فكرته بصورة بارزة إذ تعرض إلى مسألة الاقتصاد المنظم الذي شاع في هذه المدة. فهو يقول بأنه من المؤسف الطمع في ذلك لأن المادة أو الاقتصاد لا يمكن أن تتصف بالحكمة والتدبير والشعور بثقل المسؤولية. ولذلك فأن إدارة الشؤون الاقتصادية يظهر عليها كأنها إنما اخترعت لتساعد على حماية المجرمين، ليس بتسهيل السبل لهم للتفكير عن ذنوبهم فحسب بل أيضاً لإعطائهم في ارتكابها.

يظهر أن هناك سوء تفاهم وجدالاً فارغاً حول الكلمات. وفي الحقيقة يجب أن لا نطلب من الأشياء ما لا يمكن تكليف غير الأشخاص به. على

أن عمل الإنسان إنما يظهر في الأشياء. وبهذا المعنى ينبغي أن يكون هناك اقتصاد منظم كما هو الأمر مع السياسة المنظمة أو مع الأشغال الخاصة والعامة المنظمة. فأن الأشياء، بصفتها غير عاقلة، لا يمكن أن تدير نفسها بنفسها بل أن الإنسان هو الذي يقوم بذلك. ومتى أهمل أمرها تحدث الفوضى والاضطراب.

فما هو إذن السبب في أن فكرة الاقتصاد المنظم تصادف في الوقت الحاضر ميلاً شديداً

ص: 23

ومساعدة قوية لدى الكثيرين من أصحاب العقول النيرة؟

ذلك لأننا قد شاهدنا نتائج سياسة عدم التنظيم. وترك الأمور تجري كما تريد فأن هذا قد انتهى بنا إلى الفوضى وهو السبب الأساسي في الأزمة الاقتصادية الحاضرة.

ولكن من جهة أخرى لاشك في أن مبدأ تدخل الحكومة في جميع شؤون الاقتصاد سيكون خطراً آخر في الظروف الحاضرة التي نرى فيها آثار التطور السياسي والاقتصادي السريع لأن هذا التدخل ربما يؤدي إلى عرقلة وقتل كل حياة وفعالية. وهذا هو السبب في أن النظر بين الاقتصاديين المجددين حقاً مثل (هنري دومان) قد أخذوا يعدلون عن المبادئ والتعاليم القديمة ويحاولون التوفيق بين العمل الشخصي وبين تدخل الحكومة. ولا يخلو من فائدة أن نشير إلى أن الحركات الفكرية الحاضرة التي ترمي إلى التعديل في مبدأ حرية الاقتصاد من جهة وفي الاشتراكية الماركسية من جهة ثانية إنما ترجع إلى أساس واحد فان كل واحد من الاتجاهين متمم للأخر، وغايتهما قلب الأشياء الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا من قبل الإنسان.

وكذلك يتبين بأن النظرية (السنت سيمونية) القائلة بضرورة حكم الإنسان إلى إدارة الأشياء لا يمكن قبولها على علاتها. نعم، إن مبدأ هذه النظرية هو الرغبة المحدودة التي ترمي إلى استبدال العمل الإرادي بالعلم ولكن الأشياء أيضاً إنما تدار في النتيجة من قبل الأشخاص ولذلك يجب السعي لجعل هؤلاء أهلاً ليكونوا مديرين أي أن يصبحوا حكاماً صالحين.

إننا، بعد هذه الملاحظات في تعريف الأشياء، لا نستطيع إلا الموافقة على آراء المسيو (لوسيان روميه) الأساسية. فأنه من الضروري تهذيب ومراقبة الأشخاص المسؤولين من الوجهة الأخلاقية ثم تأديبهم بل ومعاقبتهم. ولاشك في أنه من المتناقض في الإدارة أن نسعى لإصلاح الأشياء قبل المباشرة في إصلاح الأشخاص القائمين عليها وليس ما نراه من انحطاط الوجدان المسلكي، الذي أظهرت لنا الفضائح الأخيرة أمثلة مؤسفة له، إلا نتيجة لازمة لفقدان الأخلاق والتربية.

أما فيما يتعلق بالتربية بصورة خاصة فإن المسيو (روميه) يعطينا أحكاماً قطعية وهو يشبه من هذه الناحية (ارنست لاويس) قبله مع اختلاف زهيد في وجهة النظر إذ أنه يتكلم عن إهمال التربية وفقدانها ويقول لإثبات ذلك أن التربية الحاضرة عاجزة عن تهيئة الناشئة

ص: 24

للقيام بالمهمة الملقاة على عاتقها وغير قادرة على تكييف العقول والقلوب والإرادات وفقاً للانقلابات العظيمة التي تمت في العالم منذ القرن التاسع عشر.

وإذا تساءلنا عن هذه الانقلابات نرى المؤلف يبدي كل اهتمام تجاه انقلاب واحد أساسي حدث في النظام الاقتصادي وأخذنا اليوم نشعر بتأثيره ونرزخ تحت أثقاله وهو تحول الرأسمالية التي كانت قائمة على التوفير في البلاد القديمة إلى رأسمالية مغامرة تسعى وراء الصفقات المالية الكبيرة كما نراها في البلاد الناشئة جديداً.

إن النظام الرأسمالي الذي ساد الحياة الصناعية لم يكن حتى سنة 1914 ليخرج في اتساعه عن حدود ومقاييس القوى البشرية. لقد كان الربح هو الدافع والمحرك ولكنه كان مقيداً ضمن نطاق المبادئ الأخلاقية.

ويمكن أن نلخص صفات العمل والجهد الأوروبي قبل الحرب العامة بما يلي: التنافس والتسابق والاستقلال النسبي عن التقاليد وعدم التقيد بالغايات الاجتماعية بالنظر إلى التقلبات المادية، ثم وجود توفير مكتسب، مستقل شخصي أو عائلي والسعي وراء التقدم والتجديد في كل مشروع، وأخيراً الفردية في جميع المشاريع والثروات والمسؤوليات الاقتصادية.

ولكن بعد التطور المدهش الذي تم في بلاد ما وراء البحار وفي البلاد الأوروبية التي اقتدت بها قد أخذت الرأسمالية شكلاً يختلف كل الاختلاف عن السابق. فأنها عوضاً عن التمسك بفكرة التوفير والاقتصاد نراها قد التفتت إلى المضاربة والمصافقة. وهكذا صارت المصارف هي التي تسيطر على الصناعة وتملي عليها قوانينها كما أن المال هو الذي تولى الحكم على الإنتاج. وها هي رؤوس أموال التوفير حيث لم تبدد وظلت محافظة على شيء من أهميتها قد أصبحت بعد عشر سنوات فقط من الحرب، كأنها حطمت من قبل رؤوس أموال المضاربة فهي مرغمة على مشاركة هذه الأخيرة في الخسائر وعاجزة عن الدفاع عن نفسها.

إن هذا التطور كان ضرورياً لا يمكن اجتنابه إلى حد معين. وهو لم يكن وخيماً من كل الجهات. إلا أنه كان ينبغي للسيطرة عليه وإدارته أن يتلاءم مع واجبات الأخلاق والتربية. وهذا ما لم يحدث. ولهذا فأن المدينة الحاضرة قد اعتراها التزييف والخلل من جراء

ص: 25

التناقض والاختلاف بين الوضع الاجتماعي وبين الأفكار السائدة فأن الوضع الاجتماعي العام خاضع لسير الرأسمالية بينما المبادئ الفكرية والأخلاقية المتوارثة عن الأوضاع الاجتماعية القديمة ليس لها أي تأثير في النظام الرأسمالي.

ولآن لنتقدم خطوة أخرى إلى الأمام ولنتساءل لماذا هذا الاختلاف والتناقض بين الوضع الاجتماعي وبين المبادئ الأخلاقية؟

يجيب (روميه) على ذلك بأن ليس واحدة من الطريقتين السائدتين في التربية اليوم يمكنها القيام بحاجة الجماعات الحقيقية فأن أحداهما نفعية محضة تقتصر على تعليم الناشئة المعارف والقواعد التي تستطيع تأمين الحياة بها ضمن أية مهنة كانت فهي ليست تهذيبية البتة.

وتلقاء ذلك نرى التربية الأخرى التي تسمى مدرسية والتي ترمي إلى التهذيب ولكن عن طريق تنمية الذكاء والعقل تهمل العامل الحيوي في التربية والنتيجة هي اعتراف رجال الحكومة المنوط بهم أمر التربية المدرسية وإقرارهم بالعجز عن تفهم المعضلات الكبرى المالية والاقتصادية في عصرهم. ومن الأوهام الساذجة الاعتقاد بأنه يكفي أن يحصل أحد تجار القطن على الثروة أو أن يتعلم أحد الحقوقيين اللغة اللاتينية لتبقى المدينة سائرة في طريقها.

إنه مما يسر أن نرى رجلاً اقتصادياً، أخلاقياً مثل المسيو (لوسيان روميه) يؤيد بصورة غير مباشرة الأفكار التي ندافع عنها نحن رجال التربية والتي تتلخص في ضرورة التوفيق بين المنفعة والثقافة.

فأنه من اللازم، ولاشك، تعليم الجيل الحاضر الفضيلة والتفكير بصورة تلائم ليس أحواله الفردية فحسب بل الهيئة الاجتماعية التي يعيش فيها أيضاً.

أما أن ذلك سوف يؤدي إلى إنقاذ الرأسمالية أو إلى انهيارها فتلك مسألة لا طائل تحتها. لأن الشيء المهم هو إنقاذ المدينة. . .

ص: 26