المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شذرات عن مبعث التفكير وطرائقه - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ١٠

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌شذرات عن مبعث التفكير وطرائقه

‌شذرات عن مبعث التفكير وطرائقه

يظن الكثير من الناس أن العقل البشري يبتكر الأفكار وإن الدماغ يوجد النظريات ويخلق الاختراعات على مختلف أنواعها من لاشيء والحقيقة خلاف هذا إذ أن ملاحظات البسيكولوجيين الدقيقة والدرس الاختباري بمراجعة تاريخ الفكر البشري توضح أن الابتكار نادر الوقوع وأن العمليات المحسوسة تسبق النظريات التي يزعمها البعض مبتكرة. خذ مثلاً على ذلك فمن الرواية أو كتابة القصص الخيالية فإن كل جزء من القصة أو واقعة من وقائعها يؤلف بذاته حادثة اعتيادية مألوفة عندنا ولكن التصرف بترتيب هذه الحوادث يوجد رواية جديدة بمجموعها لا مثيل لها. أو خذ علم الحساب والجبر والهندسة والميكانيك أي العلوم الرياضية على اختلافها التي يتخذها البعض دليلاً قاطعاً على ابتكار العقل وقوته المولدة، ومحص طبيعة هذه العلوم تجد أن أساساتها وقواعدها موجودة في هذا الكون إنما تتجلى للعقل على فترات بشكل ملحوظات أو وقائع تحدث حوله أو نتائج لبعض الأفعال التي يفعلها إذا أضفت الخمسة إلى الثلاثة يصير مجموع العددين ثمانية فهذا ليس من مبتكرات العقل بل هو أمر موجود وثابت بصرف النظر عن وجود الإنسان وبالرغم منه لكن العقل البشري امتاز باكتشافه هذه الحقيقة وإدراكه إياها. وكثيراً ما تكون الصدف هي السبب في الاختراع أو الابتكار مثاله بينما كان أحد المصورين يحمي زجاجة على قنديل لاحظ أن وضع الزجاجة حول النور جعله أكثر بهاءً ومنع الدخان من القنديل فاخترع على أثر هذه الصدفة استعمال البلورات على قناديل البترول وتشبه حكاية اختراع زجاجة القنديل حكاية اختراع الورق النشاف وهكذا فإن اختراعات أخرى كثيرة مدينة للصدف بوجودها. أما المكتشفات فما من أحد ينكر أن ليس للعقل البشري يد في إيجادها.

وإن ما ذكر عن المبتكرات الرياضية والمكتشفات يصدق على النظريات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي ليست سوى سرد وترتيب لحوادث هذه النظم الراهنة التي نشأت بالتدريج وبصورة غير محسوسة وفقاً لبيئة كل شعب وظروفه ولذا ترى أن قوانين كل شعب وعاداته تتلاءم مع حالته الفعلية الراهنة فلو كانت القوانين سابقة لاعتياد الشعب السلوك بموجبها لحدث عند تطبيق كل قانون اعتراضات شديدة ومقاومات عنيفة كما هي الحال حينما تحاول إحدى الحكومات تطبيق قوانين حكومة أخرى على شعبها مع أن ظروف الشعبين قد تكون مختلفة فيما بينهما أشد الاختلاف.

ص: 46

والفلسفة أيضاً لا تتضمن أي ابتكار أو إبداع، إن هي إلا إدراك شيء من الحقيقة والعلل المختبئة تحت الظواهر وهذا ما يجعلها تكون مدركة من القليلين فقط إنما الإدراك شيء والإبداع شيء آخر. وإذا استشهدنا بشيخ الفلاسفة وبأعظم رجل يمكن للقائلين بالابتكار الاستشهاد به وهو أفلاطون ورجعنا لأهم مؤلفاته وأشهرها وهي الجمهورية التي يحسبها الكثيرون مثالاً واضحاً عن مقدرة البشر على الابتكار نجد أنها من أولها لأخرها. وصف لحالات وترتيب لجزئيات عهدها أفلاطون وعرفها الأثينيون معه إذ أن قوام هذه الجمهورية هو وصف النظام الاجتماعي والسياسي المتبع في مدينة اسبرطة الإغريقية التي اشتهر أمرها في جميع اليونان وما القياس العلمي العالي الذي وضعه أفلاطون لأهل جمهوريته والصحة البدنية التي طلبها منهم إلا بيان لما كانت عليه أثينا في ذلك العصر من روح علمية وتعلق بالرياضة البدنية. وهكذا هي الحال في النظم التي ذكرها كتاب الرومان والفرس والعرب وغيرهم من كتاب الشعوب القديمة والحديثة.

بقي معنا العقائد الدينية والآراء اللاهوتية أو آراء ما وراء الطبيعة وهذه لا يمكننا بتاتاً نسبتها لابتكار البشر إذا كنا من رجال الإيمان كما أنه يمكن للطبيعيين والملحدين نسبة الكثير منها لعوامل بسيكولوجية نشأت كرد فعل لما كان يحف الإنسان القديم من المخاوف والأخطار، أو للقياس والتشبيه على البشر وقد استعملها، على رأيهم، أصحاب الكتب الدينية عندما تكلموا عن الإله والسماء والثواب والعقاب وبالفعل فإن آلهة بعض الشعوب الوثنية القديمة كزفس وهرمس عند اليونان. كانت كالبشر تفتكر وتتصرف. إلا أن الطبيعي لا يمكنه أن يعلل كل ما في الدين واللاهوت بالبسيكولوجيا والقياس بل يبقى لديه أمور كثيرة لا يمكنه تعليلها بهما.

والآن ننتقل لطرائق التفكير عند الشعوب المختلفة أو عند الشعب في مختلف أدوار حضارته فالإنسان عند ابتداء تفكيره أو عندما كان أسلوب تفكيره لا يزال على الفطرة كان طليقاً حراً يفكر كيف يشاء دون رعاية ضوابط أو قيود للفكر فتلذ له الأفكار الدينية التي لا يعلم لها قواعد وينصرف لطرق الأبحاث الأخلاقية والاهتمام بأدب النفس وبالسلوك ويولع بسرد حوادث الماضي وسماعها وبقصص الحروب وبطولة المحاربين ويكثر من الشعر الحماسي ومن الأدب المجازي ومن الوصف الخيالي الذي لا ينطبق حقيقة على الموصوف

ص: 47

فيستعير ويشبه ويتخيل كما يرى ثم مع رقي الشعب ونمو المدن واحتكاك الأفكار ووقوع الجدل والمماحكة نتيجة التجمع والائتمار والخصومة أمام السلطة يرى المرء أنه بحاجة لاستعمال البرهان لإظهار أفضلية رأيه ودحض خصمه ونيل مأربه فتظهر القواعد المنطقية وتسن القوانين وتكيف وتعدل بحسب مقتضياتها ويتخذ للعلوم مع تقدمها قواعد يبحث فيها بموجبها ويتطور الأدب من طور المجاز والوصف الخيالي والاسترسال وتطبيق قواعد البديع إلى دور الإيجاز والتمسك بالحقائق على قدر الإمكان وهكذا فالشعوب في أدوار حياتها كالفرد في أدوار حياته تنتقل من اللهو إلى الجد ومن الاستعاضة عن الحقيقة بخيالها إلى السعي الحثيث لإدراك الحقائق المطلوبة والتمتع بها. وعليه فأنت ترى كيف أن اليونان شغفوا بالفلسفة النظرية وبأدب النفس وبالبطولة الرياضية وسرد قصص الأبطال والأقدمين والتحدث عن الآلهة بينما الرومان الذين جاءوا بعدهم وابتدأوا حيث انتهى اليونان تمسكوا بأهداب الجد وقاموا بالفتوحات التي أشبعت أطماعهم الاستعمارية ونظموا علم الحقوق من أحكام وأصول خير تنظيم وشكلوا الأنظمة الحكومية التي تكفل حسن سير سياستهم.

وكذلك لو أخذنا شعباً واحداً ورافقنا سير حضارته نجد أنه كالفرد ينتقل من حال التفكير الطليق الساذج إلى التفكير المنطقي المحدد بالقواعد والقيود وينتقل من الاهتمام بظواهر الحياة وملاهيها إلى الاهتمام بحقائقها وإلى الجد فيها ومن يدرس الأدب الفرنسي خلال الستة قرون الماضية، والأدب الانكليزي أو العربي أو أدب أي أمة عاشت لغتها عمراً طويلاً يرى هذا الانقلاب بأجلى وضوح.

فالأمم تسير في سبيل الرقي الفكري ووجهة سيرها من العمل إلى النظر فتنتقل من التجربة إلى التعليل ومن الإسهاب إلى الإيجاز والرصانة والجد في الحياة.

المحامي شكري جبور

ص: 48