الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهندسة والزندقة
نادرة من أظرف النوادر
لأبي حيان التوحيدي
سمعت أحمد الطيب يقول: إن صديقاً لابن الكاتب أبي العباس يكنى أبا عبيدة قال له ذات يوم:
إنك بحمد الله وأدبه ذو أدب وفصاحة وبراعة فلو أطلت فضائلك بأن تضيف إليها معرفة البرهان القياسي، وعلم الأشكال الهندسية الدالة على حقائق الأشياء، وقرأت إقليدس وتدبره؟
فقال له ابن ثوابة: وماكان إقليدس ومن هو؟ قال: رجل من علماء الروم يسمى بهذا الاسم، وضع كتاباًَ فيه أشكال كثيرة مختلفة تدل على حقائق الأشياء المعلومة والمغيبة، ويشحذ الذهن، ويدقق الفهم، ويلطف المعرفة، ويصفي الحاسة ويثبت الروية، ومنه ومنه افتتح الخط وعرفت مقادير حروف المعجم.
قال له أبو العباس بن ثوابة: كيف ذلك؟
قال: لا تعلم كيف هو حتى تشاهد الأشكال وتعاين البرهان
فقال: فافعل ما بدا لك.
فأتاه برجل يقال له قويري مشهور، ولم يعد إليه بعد ذلك.
قال أحمد بن الطيب: فاستظرفت ذلك وعجبت منه فكتبت إلى ابن ثوابة رقعة نسختها:
بسم الله الرحمن الرحيم. اتصل بي - جعلت فداك - أن رجلاً من إخوانك أشار عليك بتكميل فضائلك وتقويتها بشيء من معرفة القياس البر هاني وطمأنينتك إله، إنك أصغيت إلى قوله وأذنت له فأحضرك رجلاً كان غاية في سوء الأدب معدناً من معادن الفكر، وإماماً من أئمة الشرك، لاستغرارك واستغوائك، يخادعك عن عقلك الرصين، وينازعك في ثقافة فهمك المبين، فأبى الله العزيز إلا جميل عوائده الحسنة قبلك، ومننه السوابق لديك، وفضله الدائم عندك، بأن تأتي على قواعد برهانه من ذروته، وتحط عوالي أركانه من أقصى معاقد أسه، فأحببت استعلامي ذلك على كنهه من جهتك ليكون شكري لك على ما كان منك، حسب لومي لصاحبك على ما كان منه، ولأتلافى الفارط في ذلك بتدبير المشيئة إن شاء الله
تعالى.
قال: فأجابني ابن ثوابة برقعة نسختها:
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلت رقعتك أعزك الله وفهمت فحواها وتدبرت متضمنها، والخبر كما اتصل بك والأمر كما بلغك، وقد لخصته وبينته حتى كأنك معنا وشاهدنا، وأول ما أقول:
الحمد لله مولى النعم، والمتوحد بالقسم، يرد علم الساعة وإليه المصير وأنا أسأله أيذاع الشكر على ذلك، وعلى ما منحنا من ودك، وإتمامه بيننا بمنه. ومما أحببت أعلامك وتعريفك بما تأدى إليك، أن أبا عبيدة لعنه الله تعالى بنحسه ودسه وحدسه، اغتالني ليكلم ديني من حيث لا أعلم، وينقلني - عما اعتقده وأراه وأضمره من الإيمان بالله عز وجل، وبرسوله صلى الله عليه وسلم موطداً - إلى الزندقة بسوء نيته إلى الهندسة، وأنه يأتيني برجل يفيدني علماً شريفاًََ تكمل به فضائلي، فيما يزعم. فقلت: عسى أفيد براعة في صناعة، أو كمالاً في مروءة، أو فخاراً عند الأكفاء، فأجبته أن هلم؟ فأتاني بشيخ ديراني شاخص النظر، منتشر عصب البصر طويل مشذب محزوم الوسط، متزمل في مسكه، فاستعذت بالرحمن إذ نزغني الشيطان ومجلسي غاص بالإشراف من كل الأطراف، وكلهم يرمقه ويتشوف إلى رفعتي ومجلسي غاص بالإشراف من كل الأطراف، وكلهم يرمقه ويتشوف إلى رفعتي مجلسه وإدنائه وتقريبه، ويعظمونه ويحبونه، والله محيط بالكافرين. فأخذ مجلسه ولوى أشداقه، وفتح أو ساقه، فتبنيت في مشاهدته النفاق، وفي ألفاظه الشقاق.
فقلت: بلغني أنَّ عندك معرفة من الهندسة، وعلماً واصلاً إلى فضل يفيد الناظر منه حكمة وتقدماً في كل صناعة، فهلم أبدنا شيئاً منها أن يكون عوناً لنا على دين أو دنيا، في مروءة ومفاخرة لدى الأكفاء، أو مفيداً زهداً ونسكاً، فذلك هو الفوز العظيم، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فازوما ذلك على الله بعزيز.
قال: فأحضرني دواةً وقرطاساً، فأحضرتهما إليه، فأخذ القلم ونكت نكتة، نقط منها نقطة تخيلها بصري وتوهمها طرفي كأصغر من حبة الذرة، فزمزم عليها من وساوسه، وتلا عليها من حكم أسفار أباطيله، ثم أعلن عليها جاهراً بفكه وأقبل علي وقال: أيها الرجل، إن هذه النقطة شيء لا جزء له. فقلت: أضللتني ورب الكعبة، وما الشيء الذي لا جزء له؟
فقال: كالبسيط. فأذهلني وحيرني وكاد يأتي على عقلي، لولا أن هداني ربي، لأنه أتاني بلغة ما سمعتها من عربي ولا عجمي، وقد أحطت علماً بلغات العرب وقمت بها واستبرتها جاهدا واختبرتها عامدا وصرت فيها إلى مالا أجد أحداً يتقدمني إلى المعرفة به، ولا يسبقني إلى دقيقة وجليلة. فقلت أنا: وما الشيء البسيط؟ فقال: كلله والنفس. فقلت له: أنك من الملحدين! أتضرب لله الأمثال والله يقولفلا تضربوا لله الأمثال أن الله يعلم وأنتم لا تعلمون؟ لعن الله مرشداً أرشدني إليك ودالاّ دلني عليك، فما ساقك إلي إلا قضاء سوء، ولا كسعيك نحوي إلا الحين، وأعوذ بالله من الحين، وأبرأ إليه منكم ومما تلحدون، والله ولي المؤمنين، إني بريء مما تشركون، لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
فلما سمع مقالتي كره استعاذتي، فاستخفه الغضب فأقبل علي مستبسلاً وقال: إني أرى فصاحة لسانك سبباً لعجمة فهمك، وتذرعك بقولك آفة من آفات عقلك فلولا من حضر والله المجلس وإصغائهم إليه مستصوبين أباطيله، ومستحسنين أكاذيبه، وما رأيت من استهوائه إياهم بخدعه، وما تبنيت من تواز رهم، ولامرت بسل لسان التلكع الألكن، وأمرت بإخراجه إلى نار الله وسعيره، وغضبه ولعنته، ونظرت إلى إمارات الغضب في وجوه الحاضرين فقلت: ما غضبكم لنصراني يشرك بالله، ويتخذ من دونه الأنداد، ويعلن بالإلحاد؟ لولا مكانكم لنهكته عقوبة؟ فقال لي رجل منهم: إنسان حكيم! فغاظني قوله فقلت: لعن الله حكمة مشوبة بالكفر. فقال لي آخر: إن عندي مسلماً يتقدم أهل العلم! ورجوت بذكر الإسلام خيراً. فقلت آتيني به. فأتاني برجل قصير دحداح آدم مجدور الوجه، أخفش العينيين، أجلح، أفطس، سيء المنظر، قبيح الزي، فسلّم فرددت عليه السلام، فقلت مااسمك؟ فقال: أعرف بكنية غلبت علي. فقلت: أبو من؟ فقال أبو يحيى. فتفاءلت بملك الموت عليه السلام، وقلت اللهم إني أعوذ بك من الهندسة، اللهم فاكفني شرها فإنه لا ينصرف السوء إلا أنت. إلا أنت الحمد لله والمعوذتين، وقل هو الله أحد، وقلت أن صديقاً لي جاءني بنصراني يتخذ الأنداد ويدعي أن لله الأولاد، ليغويني فهلم أفدنا شيئاً من هندستك، واقتبسنا من ظرائف حكمت، ما يكون لي سبباً إلى رحمة الله ووسيلة إلى غفرانه، فإنها أربح تجارة وأعود بضاعة؟ فقال: أحضرني دواة وقرطاساً. فقلت: أتدعو بالدواة والقرطاس وقد بليت منهما ببلية لم تندمل عن سويداء قلبي؟ فقالت: وكيف كان
ذالك؟ فقلت: أن النصر أني نقط نقطة كأصغر من سم الخياط وقال لي أنها معقولة كربك الأعلى، فوا لله ماعدا فرعون وكفره وافكة فقال: إني أعفيك من النقطة، لعن الله قويري وما كان يصنع بالنقطة؟ وهل بلغت أن تعرف النقطة؟ فقلت: ستجهلن ورب الكعبة وقد أخذت بأزمة الكتابة ونهضت بأعبائها واستقللت بثقلها يقول لي لأتعرف فحوى النقطة؟ فنازعتني نفسي في معالجته بغليظ العقوبة ثم استعطفني الحلم إلى الأخذ بالفضل. ودعا بغلامه وقال له: ائتني بالتخت. فوا لله ما رأيت مخلوقاً بأسرع إحضاراً لهمن ذلك الغلام. فاتاه به فتخيلته هيئة منكرة ولم ادر ما هو، فجعلت أصوب الفكر فيه واصعده، وأجيل الرأي ملياً، واطرق طويلا لأعلم أي شيء هو؟ فإذا ليس بصندوق: أتخت هو؟ فإذا ليس بتخت، فتخيلته كتابوت فقلت: لحد لملحد يلحد به الناس عن الحق ثم اخرج من كمه ميلا عظيما فظننته متطبباّ وانه لمن شرار المتطببين. فقلت له: إن أمرك لعجب كله ولم أر أميال المتطببين كميلك اتفقا به العين؟ قال: لست بمطبب، ولكن أخط به الهندسة على التخت. فقلت له: انك وان كنت مبايناّ للنصراني قي دينه، أمؤازر له في كفره، أتخط على تحت بميل لتعدل به عن وضح الفجر إلى غسق الليل؟ وتميل بي إلى الكذب باللوح المحفوظ وكتبيه الكرام؟ إياي تستهوي؟ أم حسبتني كمن يهتز لمكايدكم؟ فقال: لست اذكر لوحا محفوظاً ولا مضيعاً، ولا كاتباً كريماً ولا لئيما، ولكني اخط فيه الهندسة، وأقيم عليها البرهان بالقياس والفلسفة. قلت له: اخطط. فاخذ يخط وقلبي مروع يجب وجيباً وقال لي غير متعظم: إن هذا الخط طول بلا عرض. فتذكرت صراط ربي المستقيم، وقلت له: قاتلك الله أتدري ما تقول؟ تعالى صراط ربي المستقيم عن تخطيطك وتشبيهك وتحريفك وتضليلك، انه لصراط مستقيم، وانه لأحد من السيف الباتر، وارق من الشعر وأطول مما تمسحن وابعد مما تذرعون ومداه بعيد، وهو له شديد، أتطمع أن تزحزحني عن صراط ربي، وحسبتني غراً غبياً لا أعلم ما في باطن ألفاظك ومكنون معانيك والله ما خططت الخط وأخبرت أنه طول بلا عرض الأمثلة بالصراط المستقيم لتزل قدمي عنه وأن تردبني في جهنم أعوذ بالله وأبرأ إليه من الهندسة وما تدل عليه وترشد إليه أني بريء من الهندسة ومما تعلنون وبئسما سولت لك نفسك إن تكون من خزنتها بل من وقودها وابعد لك فيها لأنكأ لا وسلاسل ولأغلالا وطعنا ذا غصة. فأخذ يتكلم فقلت: سدوا فاه مخافة إن يبدر من
فيه مثل مابدر من الضلل الأول، وأمرت بسحبه فحسب إلى اليم عذاب الله، ونار وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرونثم أخذت قرطاساً وكتبت بيدي يمينا آليت فيها بكل عهد مؤكد وعهد مردد ويمين ليست لها كفارة، إني لا أنتظر في الهندسة أبداً ولا أطلبها ولا أتعلمها من أحد سرا ولا جهرا ولا على وجه من الوجوه، ولا على سبب من الأسباب وأكدت بمثل ذلك على عقبي وعقب أعقابهم لا تنظروا فيها ولا تتعلموها مادامت السموات والأرض إلى تقوم الساعة لميقات يوم معلوم.
وهذا بيان ما سألت أعزك الله فيما دفعت إليه وامتحنت به، ولتعلم ما كان مني ولولا وعكة أنا في عقابيلها لحضرتك مشافها وأخذت المتمني بك والاستراحة إليك. تمهيد على ذلك عذري فانك غير مباين لفكري، والسلام