الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حضارة مدينة دمشق الفيحاء
وآثارها وكتاباتها
للأستاذ عيسى اسكندر المعلوف
تمهد
إنّ مدينة دمشق من أقدم المدن ذكرت التوراة فيها اسم اليعازر الدمشقي خادم إبراهيم الخليل الذي مرّ بها عندما جاء من أور الكلدانيين إلى أرض كنعان وجرت لإبراهيم حوادث أخرى مع كدر لاعومر ملك عيلام ومحالفيه وذلك في تضايف القرن الثالث والعشرين قبل ميلاد المسيح. وورد ذكر دمشق في كتابات تل العمارنة وهيكل الكرنك في القطر المصري وعلى مسلة كنيسة اللأتران في مدينة رومية بالكتابات القديمة المصرية والمسمارية. وفي غيرها من الآثار باسم تمشكو بمعنى المثمرة وسميت بأسماء أخرى كثيرة تفيد مثل هذه المعاني إشارة إلى غوطتها الفيحاء إحدى متنزهات الدنيا الأربعة ولاسيما اسم (جلَّق) الفارسي بمعنى (ألف زهرة). وقد عنيت بوضع تاريخ لدمشق بعنوان (حضارة دمشق وآثارها). وهو في مجلّد كبير لا يزال مخطوطاً في خزانتي بمدينة زحلة وأنا في بيروت فاقتصر على ذكر لمعة مما يحضرني منه على دمشق وكتاباتها بمناسبة مطالعتي لمقالة المستشرق الأستاذ (جان سوفاجه) المنشورة في الجزء الثاني من مجلة الثقافة الغراء والصفحة 125 من كتابه الافرنسي (المباني التاريخية في دمشق) الذي وصف في ذلك الجزء أيضاً.
مباني دمشق القديمة والحديثة
ليس هنا محل الإفاضة في أبنية دمشق وهي كلها القديمة وكتاباتها اليونانية والرومانية والعبرانية وغيرها ولا في؟ أبنية العرب فيها ولا كتاباتهم وآثارهم ولكنني أقتصر على لمعة من ذلك من (تاريخي المذكور آنفاً) فأقول:
منذ بضع وثلاثين سنة كنت أتردد إلى دمشق معجباً بآثارها مستقرياً لتاريخها ناقلاً بعض كتبها القديمة من عربية وأجنبية واصفاً ما وقفت عليه من آثارها وأبنيتها.
فكنت أطوف في أنحاء مدينة دمشق مع بعض زملائي أو لا ثم انفردت وحدي في تفقد الآثار القديمة والأبنية والكتابات ونقل ما يجب نقله عنها وتصوير بغضها إلى أن اجتمع
لدي كتاب ليس بقليل رأيت أن أضعه تاريخاً لدمشق وحضارتها وآثارها نقلت فيه الكتابات الأجنبية وترجماتها وبعضها مما لم يعثر عليه ودنكثون الانكليزي وغيره لأنه ضمن البيوت أو ظهر عند هدمها أو عند الحفر في المدينة ونحن ذلك ثم استقريت الكتابات العربية القديمة والجديدة ولاسيما على أبوابها ومدارسها وجامعاتها وتكياتها وكنائسها ودياراتها من خرب ومعمور ونقلتها بحروفها ثم عمدت إلى المخطوطات العربية والرحلات العربية والأجنبية وطالعتها وأخذت عنها ما وصفه المؤرخون والرحالة وما دونه مما كتب على جدرانها أو أبوابها من عامر ودارس وعارضت ذلك بما اجتمع لي منها ونقلت كثيراً من رسوم الكتابات والنقوش والمباني والمخططات ونحو ذلك مما يجب أن يزدان به الكتاب ليكون عصرياً مفيداً على أسلوب علمي نقدي يعرف (بفلسفة التاريخ).
مع ذكر أسانيده ومصادره فجاء كل ذلك في مجلد ضخم ضمنته هذه المباحث وما يتعلق بها من الإضافات والاستدراكات والانتقادات.
وفي ذلك كله مباحث مهمة وفوائد عديدة مقتبسة من مخطوطات نادرة ورحلات عديدة وتواريخ كثيرة عربية وأجنبية فاقتصر الآن على انتخاب ما يحضرني من كتاباتها العربية في أبنيتها مقدماً عليها عامة والله الهادي إلى الصواب:
لم أقف على تقويم قديم بمباني دمشق وعددها ولكنني عرفت أنها كانت سنة 1871م تعد14696داراًفصارت سنة 1901م 18ألف دار عامة.
وكان عدد بساتين دمشق في القرن الثامن للهجرة والرابع عشر للميلاد مائة وأحد عشر بستان. غازداد عددها بعد ذلك إلى يومنا.
أما مدارسها فهي كما ذكرها أبو المفاخر محيي الدين النعيمي المتوفى سنة 927هـ (1520م) ومختصره العلموي المتوفى سنة 981هـ (1573م). في كتاب (تنبه الطلاب وإرشاد الدارس إلى ما في دمشق من المدارس). المخطوط في خزانتي هكذا مدارس القرآن الشريف عدد7والحديث عدد18 والشافعية عدد57والحنفية عدد51والحنابلة عدد10 والمالكية عدد4.
والمدارس الطبية 3 الدخوارية أسست سنة 621هـ (1224م) والبودية سنة 664هـ (1265م) والصالحية670هـ (1271م).
والمستشفيات هي مستشفى الجزام أنشأ منذ الفتح الإسلامي وغرزه الوليدين عبد الملك (وهو المسمى الآن الأعاطلة والقاطلة في محلة الباب الشرقي). والمشفى النوري الذي أسسه السلطان نوري الدين الشهيد وكانا مستشفيين أحدهما النوري الكبير والثاني النوري الصغير في باب البريد. والقيمري في الصالحية نسبةً إلى الأمير أبي الحسن القيمري.
وكان فيها صيدلية منطمة والربيعية غربي البيمارستان النوري وبمارستانات أخر إلى غير ذلك مما تغني الإشارة فيه عن التفصيل الآن.
وأنشأت بعد ذلك مدارس كثيرة منها المرادية والنقشندية والسليمانية والعبدلية والإسماعيلية وهذه الثلاث الأخيرة أسسها الأمراء سليمان وعبد الله وإسماعيل من آل العظم وأما المدرس العصرية فجددت بزمن مدحت باشا ومنة جاء بعده في القرن التاسع عشر للميلاد (الماضي).
وكان بدمشق في ذلك العهد القديم 26خانقاها (أي دور الفقهاء) و32رباطاً (أي مسكن الدراويش) و26زاوية (للدراويش) وكانت على جبل قاسيون (فوق الصالحية) قبة لرصد الكواكب وكذلك دار للقديس يوحنا الدمشقي قرب باب توما وأسس نور الدين الشهيد السلطان العظيم دار العدل (محل المشيربة الآن) وهي للنظر في مظالم الرعية من العمال. ومن الأبنية قصر الأبلق والظاهرية والعادلية وبنيت دور أخرى لا محال لتفصيلها ووصفها في هذه الحالة وذكر ما كتب على جدرانها وأبوابها مما لايسعه المقام الآن.
أمثلة عن كتابات دمشق القديمة والحديثة
لما كان الشيء بالشيء يذكر أصف الآن بعض الكتابات التي جمعتها في (تاريخي المذكور) مقتصراً على أمثلة قليلة منها وهي الكتابات العربية لا الأجنبية.
وبعض تلك الكتابات فقد وبعضها باقٍ ومنها ماهو مشوش ومنها ماهو جلي فإليك شيئاً منها مما هو موجود الآن من تلك الكتابات القديمة وما وافقت عليه فقراته في بلاطه فوق باب (المدرسة الجوهرية) القديمة وهذا نصه
بسم الله الرحمن الرحيم إنشاء هذه المدرسة المباركة العبد الفقير إلى الله تعالى أبو المكارم محمد نجم الدين ابن أبي الطاهر عباس بن أبي المكارم التميمي الجوهري على مذهب الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة وكان الفراغ من عمارتها والتدريس بها سنة ستة وسبعين
وستمائة
وقرأت هذه الكتابة فوق مدخل (المدرسة الريحانة) في سبعة أسطربسم الله الرحمن الرحيم. وقف هذه المدرسة المباركة الأمير جمال الدين ريحان ابن عبد الله على المتفقهة بها على مذهب الإمام الأعظم سراج الأمة أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه. ووقف عليها جميع البستان الحراجي المعروف بأرض الحواري والأرض المعروفة بدف العناب والغرماوي بأرض القطايع والجورتين البرّانية والجوانية بأرض (كذا) الخامس والنصف والثلث من الريحانية والاصطبل المعروف بعمارته ببستان بقر الوحش وذلك معروف مشهور فمنة بدله بعد ما سمعه فإنما لله. . . . إنّ الله سميع عليم. وذلك في شعبان سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
وعلى باب مقام الشيخ رسلان كتابة كوفية ثم تحتها هذه الكتابة بالخط النسخي: جدد عمارة هذا المسجد المبارك مسجد خالد بن الوليد (رضه) الفقير إلى رحمة رب العالمين أبي علي. . . الشيخ رسلان رضي الله عنه. لاإلاه إلا الله في أيام الملك الناصر صلاح الدينا والدين ووقف عليه الساحة التي. . .
وقرأت على باب (المدرسة السليمانية قرب سوق الحميدية هذا التاريخ لبنائها سنة 1130هـ (1717م) وهو:
للخير والعلم والطلاب مدرسة
…
قد شادها أوحد الدنيا سليمان
أعني الوزير أمير الحج سيدنا
…
من كل أفعاله بر وإحسان
بالقرب من داره الزهراء أوقفها
…
وشيد منها على الإخلاص بنيان
أثابه الله في الدارين صالحة
…
كذا له السعد والتوفيق أعون
وهاتف البشر والإخلاص أرخها
…
أس القبول على الإشراق عنوان
وقرأت في ذيل (الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة) للنجم الغزي الدمشقي المخطوط وصف أبنية مراد باشا الوزير المشهور في دمشق وهي كثيرة منها الوكالة التي عمارتها له الشيخ أحمد المغربي متولي الجامع الأموي مع عمارة السوق الأول والقهوة (والوكالة أسم الخان كما هو المعروف في عرف المصريين وأهل دمشق يسمونه قيسارية) وأرخ بناء الوكالة الشيخ أبو الطيب بقوله:
هاك تاريخاً سما له
…
بدر هالات الغز اله
جملة الملك بهاء
…
وسخاءٌ وبساله
صح في أخر شطر
…
ضمن القول مقاله
ولي الشام مراد
…
فبنى خير وكاله
ومما فقد من تلك الكتابات حجر كان بجانب قوس النصر في مدخل الهيكل الغربي الذي شيد محله الجامع الأموي الشهير قد نقش عليه بيتا شعر يتناقلهما الدمشقيون خلفاً عن سلف وهما:
عرج ركابك عن دمشق فأنها
…
بلد تذل لها الأسود وتخضع
ما بين جابيها وباب بريدها
…
قمر يغيب وألف بدر يطلع
وفقد حجر آخر كان قرب برج القلعة في الزاوية بين الشمال والشرق رأيته قديماً ثم عدت إليه ثانية فلم أجده: ولكنني نقلت عنه ما نقش عليه أول مرة وهو بالحرف الواحد:
بسم الله الرحمن الرحيم - أمر بعمارة هذا البرج المبارك مولانا السلطان الملك الغازي سيف الدنية والدين سلطان جيوش المسلمين حامي الحرمين الشريفين أبو بكر بن أيوب بتولية العبد الفقير إبراهيم بن موسى وذلك سنة ست وستُمائة
الختام
هذه كلمتي الآن في آثار دمشق وكتاباتها العربية من تاريخها المخطوط الذي ألفته بعد مراجعات ما كتبه المؤرخون والرحالة من إفرنج وعرب راجياً من الأدباء والعلماء أن يسبلوا ذيل المعذرة على ما وقع لي من الوهم وما العصمة إلا لله وما الحقيقة إلا بنت البحث. ولعلي أعود إى التفصيل في فرصة ثانية.
بيروت (مؤقتاً) 20 أيار 1933
عيسى اسكندر المعلوف