الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جورج برنارد شو
اجمع نقدة الأدب الانكليزي ومؤرخوه على أن برنارد شو أعظم كاتب روائي بين الانكليز في العصر الحاضر، وان الشعوب الغربية تعجب به أكثر من كل كاتب معاصر ولاسيما الأمير كان والألمان الذين مثلوا رواياته قبل أن يمثلها الانكليز. أما برنارد شو نفسه فلا يأبه لما يقول عنه بل يذهب بنفسه ابعد من ذلك فيدعي انه أعظم من شكسبير بل يزعم انه أفضل رجل في العالم، وقد يتنادر على شكسبير فيشبه به احد خدمة الفنادق الذين مرنوا على مسايرة الناس وتزويق الكلام وكثرة الهز، ويسمى دانتي اكبر شعراء الطلياني وملتون اكبر شعراء الانكليز بعد شكسبير اغبي رجلين عاشا في ايطاليا وانكلترا.
سمعته ذات ليلة من ليالي تشرين الثاني سنة 1928 يلقي محاضرة على جمهور عظيم من الناس في لندن موضوعها مستقبل المدنية الغربية، فقدمته إلى الحاضرين سيدة وبالغت في تقريظه، فقام على الأثر وقال: شكرا للسيدة الفاضلة التي لم تكن مخطئة في إشادتها بفضائلي لأنني الفت كثيرا من الروايات المنقطعة النظير في الجودة بل منها ما لا يقدر على الإتيان بمثله احد. فهتف له الناس طويلا، فقال: أن من يهتف لنفسه غني عمن يهتف له، أنا لا أعرف التواضع.
ولد هذا (المتأله) في دبلين (ايرلندا) في 26 تموز سنة 1856 فهو ايرلندي لا انكليزي وكان أبوه يعمل في الحكومة ثم اشتغل في التجارة فلم يفلح، وكانت أمه معروفة بحسن الصوت، فكان اظهر ما ورثه من أمه الشذوذ وحب الفن ولاسيما الموسيقى. أما تعليمه في حداثته فقدوه كل إلى احد أقاربه من رجال الدين، ثم ذهب إلى كلية ويسلي في دبلين حيث مكث بها حتى بلغ الرابعة عشرة من سنه وكان يغلب عليه الكسل وعدم الاهتمام بما يجب على التلاميذ حتى ريع لذلك أهله فنقلوه إلى عدة مدارس أخر لم يحصل منها على أكثر من النتيجة التي حصل عليها في كلية ويسلي، ثم استخدم في بعض المحلات باجرة قليلة، فلما بلغ العشرين ترك ايرلندا وذهب إلى لندن فقضى فيها تسع سنوات في ضيق شديد ولقي كثيرا من المصاعب في سبيل عمل يقوم بمعيشته، فكان يكتب مقالات في نقد الموسيقى يتقاضى عليها أجرة زهيدة، وشرع يؤلف بعض القصص فأنجز حتى سنة 1883 تأليف خمس قصص ولمن لم يجد من يطبعها له بعد أن عرضها على الناشرين، كما انه كتب كثيرا في النقد الروائي. ثم بدا له أن يتحول عن كتابة القصص إلى الروايات التمثيلية
فطبع سنة 1892 رواية بيت الأرامل وفي سنة 1894 رواية السلاح والرجل ومن تلك السنة بدأ نجمة بالصعود فلم يطلع فجر القرن العشرين حتى بلغ من الشهرة مبلغا عظيما، واستمر على التأليف بهمة لا تعرف الكلل ولا يزال حتى الآن، فكان عدد رواياته تسعا وثلاثين عدا القصص والنقد الروائي والموسيقي. ولقد نال جائزة نوبل الأدبية لسنة 1926 البالغة أكثر من سبعة آلاف ليرة انكليزية فلم يبرد منها في كفه شيء بل دفعها إلى المعهد الانكليزي الاسوجي لتصرف في سبيل ترقية الآداب الاسوجية في البلاد التي تتكلم باللغة الانكليزية.
ويلاحظ أن جملة رواياته ألفها بعد أن بلغ الأربعين من عمره وان نصفها ألفه بعد أن كان في العقد السادس على أن الروايات الثلاث المعدودة خير آثاره وهي بيت كسر القلب والعودة إلى متوشالح وجان دارك ألفها وهو في العقد السابع من عمره
اظهر خصائص برنارد شو الشذوذ واعتبار الأشياء بخلاف ما يعتبرها الناس ولقد قال عن نفسه: أنا لا أشارك الناس في ذوقهم في الفنون ولا في حرمتهم للآداب المألوفة ولا في عقيدتهم في الدين ولا في إعجابهم بالبطولة. ومع أني ايرلندي فلا ادعي الوطنية لايرلندة ولا للمملكة التي خربتها. وكرجل إنساني امقت القسوة سواء أكانت في الحرب أم في الألعاب الرياضية أم في مجازر القصابين. نعم أنا رجل اشتراكي ولكن ابغض تكالب الاشتراكيين على المال.
ويعلل شذوذه بقوله: لي صديق طبيب مختص بأمراض العيون فحص ذات ليلة بصري وقال لي: إن بصرك طبيعي يرى الأشياء كما هي تماما ولكن تسعين بالمائة من الناس لا يتمتعون ببصر طبيعي. فما شككت أن بصر عقلي كبصر عيني يرى الأشياء كما هي ولكن لا كما يراها الناس.
إذا تقرر لديك ذلك فلا تعجب لما ستراه من آراء برنارد شو في الدين والعلم والسياسة والاجتماع والأدب فهو يرى - وذلك الرأي شائع في جميع رواياته - أن الله تعالى أو قوة الحياة كما يسميه، كائن يتكامل ويستعمل في سبيل غايته كل وسيلة، فإذا أضحت تلك الوسيلة غير صالحة أو أمكن أن يستبدل بها غيرها نسخ الأولى. وقوة الحياة عنده تتمثل في المرأة التي تقتاد الرجل ليكون أبا لأولادها.
وهو لا يحفل كثيرا بالمدنية الحاضرة ولا بالعلم بل يرى أن الإنسان الحاضر لم يرتق كثيرا من حيث المدنية والعلم على الإنسان قبل آلاف من السنين، ولكنه ارتقى بالتدمير وعمل الشر، فبناء البيوت لا يتغير في ألف قرن بمقدار ما يتغير شكل قبعة المرأة في عشرين أسبوعا، ولكن آلات الحرب التي لا تبقي ولا تذر لا يمكن أن تقاس بالقسي والسهام التي كان يستعملها القدماء. ومع ذلك فهو عظيم الأمل بالمستقبل يرى أن الإنسان سيتمكن من أن يعيش مئات من السنين حتى يكاد يكون خالدا وانه سيغير شخصيته وخلقه كما يريد. وقد عالج هذا الموضوع في روايته العودة إلى متوشالح فأتى على تاريخ البشر منذ آدم وحواء إلى الزمن الحاضر ثم صور المستقبل البعيد على أقصى ما يتخيله الفكر.
ويرى أن البشر سيأتي عليه زمان يدين بدين واحد ويتكلم بلغة واحدة أما ذاك الدين فهو الإسلام المجدد وأما اللغة فالانكليزية.
ولقد حمل حملة منكرة على رجال العلم والدين والسياسة وندد بالأطباء والمحامين وهزئ بعلمهم وقواعدهم، فالعلماء عنده بله والجامعات معاهد للغباوة، والأطباء جزارون يتقاضون على بتر أعضاء الناس وإزهاق أرواحهم أجرا قال: العالم كسول يقتل الوقت بالبحث فاحذر علمه
الكاذب واعلم انه اشد ضررا من الجهل وقال: عقل الغبي يحول الفلسفة إلى سخافة والعلم إلى خرافة والفن إلى حذلقة كما هو الشأن في تعليم الجامعات وقال: القادر على عمل يعمل والعاجز يعلم وقال: العمل وحده هو الطريق إلى المعرفة
وآداب المسيحية عنده لا تصلح للحياة العملية حتى ولا الأخلاقية وله في مخالفتها آراء منها قوله: لا تعامل الناس بما تحب أن يعاملك الناس به لان الأذواق قد تختلف ومنها: إياك ومقاومة الأهواء ولكن امتحن كل شيء ثم استمسك بالصالح ومنها: احذر ممن لا يرد لك لطمتك فانه لا يعفو عنك ولا يأذن لك أن تسامح نفسك وعنده أن من اعتاد أن يضحي بنفسه لا يحجم عن التضحية بغيره، ومن بدا بتضحية نفسه في سبيل من يحب انتهى ببغضه، وان نكران الذات ليس من الفضيلة في شيء ولكنه أثر الحنكة في الخداع. ورجال الحكومات عنده دعاة للوثنية يدعون الناس لعبادة أصنام من اللحم والدم فيعودون بهم القهقرى إلى مستوى المتوحشين الذين يعبدون أصناما من الخشب والحجر والفرق بين
المعبودين أن الأول يضر ولا ينفع والثاني لا يضر ولا ينفع.
والبشر في رأيه يؤلهون العبقرية ويعبدونه لأنهم لا يفهمون فإذا فهموه صلبوه، وهكذا فهم يعبدونه ويجهلونه ولا يعملون بإرادته.
والشعب الانكليزي عنده شعب غبي مغرور غاشم يتمسك بالمزعجات في جميع أحواله ويدعوها رسوما وآدابا، فعادات الانكليز في ملبسهم ومأكلهم ومشربهم ومجتمعاتهم ومراسمهم سلسلة من المزعجات، وهم مع ذلك يحسبون أنهم من اعرق الأمم في الحضارة بل يزعمون إنهم بناة المدنية الغربية، وقد تأصل في نفوسهم حب التسلط على غيرهم فاستعملوا كل وسيلة لبلوغ غايتهم، فلا معنى للعدل عندهم إذا اصطدم بمصالحهم السياسية، والقتل السياسي في عرفهم ضرورة أو رخصة مباحة. وهو يرى أن العبودية لا تستأصل شأفتها من العالم حتى يأتي اليوم الذي ينشد فيه الناس لن تسود بريطانيا كما يقول، وهكذا فهو يحمل الانكليز وحدهم تبعة استعباد الشعوب المستضعفة في العالم. ولقد أبرزهم حمقى أغبياء في معارض شتى من رواياته حتى ادخل على بعضهم الشك في نفوسهم، فلقد سمعت أستاذا من أساتذة جامعة لندن يقول: لابد من أن نكون نحن الانكليز أغبياء لان برنارد شو يصفنا بالغباوة وهو نابغة ذكي.
لذلك فهو لا يؤمن بالعلم الحديث ولا بالأساليب السياسية ولا بالقوانين والأنظمة الحاضرة ولا بالأوضاع والآداب الاجتماعية، ويكره ألوان النفاق التي يسميها الناس تهذيبا ولياقة، كما يكره الإقبال على الألعاب الرياضية وترويض الأجسام على المشاق، ولا يرى استخف ممن يقول أن العقل السليم في الجسم السليم لأنه لو صح ذلك لكان الفيل أعقل المخلوقات، ولكنه يرى أن العقل السليم يبني الجسم السليم. والناس عنده ينظرون إلى الأشياء بنظر معكوس ويقيسونها بمقاييس ملتوية.
بمثل هذا التفكير وبصراحة جريئة ألف برنارد شو تسعا وثلاثين رواية عالج فيها معضلات الحياة باذلا جهده في القضايا الاجتماعية أكثر من القضايا العلمية مواجها الحقائق بالتفكير لا بالعاطفة. لذلك فأدبه واقعي لا عاطفي، وسلسلة حديث الأشخاص في كل رواياته على ما في بعضها من الاسترسال طلي عذب فكه يستهوي القارئ والسامع بما فيه من سحر وبراعة ورشاقة، وتمتاز رواياته بعمق التفكير وحدة الذكاء وحلاوة النكتة، تستثير
الإعجاب والضحك معا وتدع القارئ يفكر مسرورا بما فيها من إخراج الجد في معرض الهزل. فهو من هذه الجهة يشابه الجاحظ كما انه يتفق معه في أن الإنسان لا يتمكن من إتقان لغتين فبرنارد شو يقو: ليس هناك رجل أتقن لغته بحق وتمكن من إتقان لغة أخرى والجاحظ يقول: ومتى وجدناه قد تكلم بلسانين علمنا انه قد ادخل الضيم عليهما لان كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها وهو يعتقد أن الشعر أسهل من النثر ولو أراد أن يضع رواياته شعرا كروايات شكسبير لكان عددها الآن أكثر. وله شعر قليل يشهد الأدباء بجودته.
وكما شاعت النكتة في رواياته فقد شاعت أيضا في أجوبته، قيل أن إحدى الحسان قالت له لو اقترنت عبقريتك بجمالي لتولد منهما نسل هو المثل الأعلى في النبوغ والجمال. فقال لها: وما قولك لو جاء ذلك النسل بنبوغك وجمالي؟
وقال في محاضرته عن مستقبل المدنية الغربية: أن الإنسان في المستقبل سيتمكن من تغيير شخصيته كما يريد فلما انتهى من المحاضرة قال له احد الحاضرين: من ذلك الإنسان الذي سيتمكن من تغيير شخصيته؟ فأجابه برنارد شو: نسيت أن أعطيك عنوانه.
ولرواياته مقدمات طويلة جدا يربو بعضها على مائة صفحة يشرح فيها آراءه التي يبني عليها الرواية حتى كأنه يكتب الرواية لأجل المقدمة. وهو يعتبر فنه وسيلة لتأدية رسالته ويهزأ بمن يقول: الفن لأجل الفن.
خليل مردم بك