المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحفة الأدبا وسلوة الغربا - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٤

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌تحفة الأدبا وسلوة الغربا

‌تحفة الأدبا وسلوة الغربا

عثر المحدث الكبير السيد عبد الحي الكتاني الإدريسي على كراريس من الرحلة الموسومة بتحفة الأدبا وسلوة الغربا للرحالة الأديب المحدث الخطيب بالمسجد النوري البرهان إبراهيم بن الشيخ أمين عبد الرحمن الخياري المغربي الشافعي المتوفى عام1083هـ. والرحلة هذه موجودة بكاملها في خزانة كتب شيخ الإسلام عارف حكمة بالمدينة ورآها السيد الكتاني فيها. والذي يهمنا نحن الدماشقة من هذه الرحلة هو وصف صاحبها لدمشق التي عرج عليها في طريقه إلى القسطنطينية وصفاً دقيقاً رقيقاً، تدل على أنه كان رحمه الله جيد الملكة في الأدب، مستملح السجع مليح النكتة، بليغ العبارة وبديع الاستعارة، وإليك نمطاً من إنشاءه العذب وسجعه الذي يجري مع طبعه، قال ما نصه في وصف رحلتهفإنها تحفة كل أديب رقَّ طبعه وخيمة، وكل لبيب أشرب بماء اللطافة والظرافة أديمه وأسرته الخدود والألحاظ واستعبدته الثغور الدرية بمنظومها ومنثور الألفاظ.

وصار طعين قدود الجآذر والغيد رهين الخصور أثقلتها الروادف عن أن تمديد، وقد مادت تحت هاتيك الغلائل البدائع، مأمورة من السن المناطق بعد أن دارت على قلبها الضائع إلى أن يقول في تعليل تسمية رحلته: وإنما وسمتها بسلوة الغربة لأنني تعرضت فيها لكل منزل مررت عليه وأنزلته في ميسري الذي سرته، ومسلكي الذي سلكته، ذاكراً ما حواه من اللطائف، وما اشتمل عليه من الظرائف بأحسن عبارة وألطف إشارة ومن أوصافه الحسان ما يشنف ويقرط المسامع والآذانثم ينتقل إلى ذكر طريقة الراحلين في كتابة الرحلات بقوله: وقد توارد الفضلاء وتعاهد النبلاء على أن يجمع الواحد منهم رحلته إذا سافر إلى غايات وآماد وتعاهد البلاد، ثم اختلفوا فمن مخصد في رحلته ذكر الرجال الذين لقيهم، وآخر ذكر البلاد، وكلام الغرضين أمر مروم وقصد مأموم، فأحببت أنا أن أضم في جمعي هذين الأمرين وأنظم في سلكي العقدين، لما تقرر أن خير من العلم الواحد العلمين، وقد وقع لبعض شيوخنا (هو شهاب الدين الخفاجي) إنه لما ذكر من سماهم في رحلته لم يخص من لقيهم ولحظهم بعين البصر، بل زاد من لم يراه لتقدم عصره أو لبعد شقته، وأنا بخاري المذهب في مسلك التحديث فلذلك جريت فيمن أثبت اسمه على شرطه لعزته في القديم والحديث، فلم أذكر إلا من أثبت لي لقاؤه وتحلى سمعي بجواهره، كما تشنفت بلآليء كلماتي أذناه ولم أذكر من الرجال غير ذلك الإلهام إلا ممن يكون قد جرته القافية أو انجر

ص: 52

بالجوار أو كان من الأنبياء والصحابة والصلعاء الذين لهم في الطريق آثار اقتضى المرور على ذكرهم وشيخاً المشار إليه جاوز شرط البخاري ولم يقف ما شرط مسلم من اشتراط المعاصرة دون اللقاء ما معناه: إنّ فأتني الاجتماع بهم في الأندية والرحاب فلا يفوتني أن اجتماع أنا وإياهم في كتاب، وقال أن سماع الأوصاف إحدى الرؤيتين، وإنه يكتفي بالأثر لفوات العين. . .

ولأصحاب الرحلة شعر رقيق منه ما قاله حينما نزل بمنزل يسمى القاع في طريقه

إلى دمشق:

بالله عزب هواً بالقاع قابلنا

آثار كامل لوعاتي وأشجاني

فقلت ريح دمشق فاح من كثب

يا عين قوي فهذا وصلها دان

وحينما بلغ أبواب دمشق قال: واستبشرنا برؤية أعلام دمشق، وانتشقنا من عرفها العقب أطيب نشق، فلم نزل نسير والشوق يتجدد والتوق يتأكد فمررنا بمحل يقال له القبة، به قبة حسنة الأوضاع، عجيبة الإبداع حتى انتهينا إلى محل يقال له باب الله (بوابة دمشق) فوجدناه مفتوحاً وقد ثبت أن الشام جنة فتذكرت قوله تعالى: حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها، فقلت قاصد الكريم يدخل من بابه ويتعلق بمعظم أسبابه، فدخلناها فرحين مستبشرين ولسان الحال يقول: طبتم فادخلوها بسلام آمنين. وفي أثناء مرورنا نمر وأهل الشام قد انتشروا بالطريق جناحين، فكم أوقفوا من لحظ وكم أقروا من عين، فبعد الدخول من سورها، والنظر إلى ولدانها وحورها، فإذا مرأى يدهش الأبصار ويستوقف الأنظار، ويحار فيه الواصف ويضحى وجواد قلمه في ميدان (يشير لحي الميدان) الطرص واقف، إلى أن يقول في أهلها: وبالجملة فأهلها ينسون الغريب أهله، ويخصبون بلطافة أخلاقهم محله، فلقد قابلنا أجلائها وأعيانها بالتكري والتعظيم وعاملونا بما طبعوا عليه من شريف الخيم معاملة الصديق الحميم، فشكر الله له الأحسن إبقاءهم ما اختلف الملوان، فمن تشرفنا بمرآه من أعيانها وتيمنا باجتلاء محياه من عظماء سكانها - وهنا نذكر للتاريخ من اجتمع بهم في دمشق تباعاً مع حذف عبارات المدح والتعظيم -: السيد محمد الحسيني الحنفي (من آل حمزة) نقيب السادة الأشراف ونجله السيد عبد الرحمن، وكلاهما شاعر ساجل صاحب الرحلة في أبيات المدح، ومنهم مولانا أفندي المفتي بالشام الشريف فلقد سمعنا له بعض

ص: 53

مباحث في التفسير أجرى بها جياد ذهنه فكانت حسنة الموارد، وجلاها بتحقيقه وتدقيقه فقرب من أمدها كل متباعد، ومنهم الخطيب الأوحد من أن وعظ ألان القلوب لقاسية بزوا جر وعظه وأبان الأجياد حالية بجواهر لفظه وحلى الطروس بآثار قلمه مولانا الأمجد إسماعيل المحاسني الخطيب بالجامع الأموي، ومنهم المحقق المتين في سائر العلوم، حضرت مجلس درسه بالجامع الأموي للتشريف والاستفادة فرأيته بحر علم وهو الشيخ إبراهيم الدمشقي الفتال الحنفي، ومنهم قاضي الشام الحبر الأمجد السري القاضي أحمد البكري ومنهم المجدد للخلف ما أندرس من معاهد السلف الشيخ عبد القادر الصوفي الشافعي، ومنهم الأمير منحك باشا بن الأمير محمد المتهى نسبة إلى الجر اكس، اسمعني من لفظه العذب كثيراً من قصائده ومنهم الشيخ عبد الغني النابلسي ثم الدمشقي ذو التآليف. التي ضربت من الإصابة بسهم أنشني من فصيح لفظه أول ما لقيني للسلام علي، وقد عد ذلك كثير منهم خصوصية لنا، فإنه يمضي عليه العامان ولا يبرز من بيته ولا يجتمع به فيه من قصيدة، أبياتا منها:

فأنت ووالدك يعد جد

خيار من خيار من خياري

وإجابة صاحب الرحلة بأبيات من البحر والقافية، ومنهم القاضي حسين العدوي الشافعي

الصالحي وله شعر رقيق منه مانظمه في الخياري صاحب الرحلة:

وما عاقني عن لثم أذيال مضلكم

سوى أن عيني منذ فارقتكم رمدا

فعاتبتها حتى كأني حبيبها

فأبدت كلاما كان قلبي له غمدا

وقد لغد كحلت طرفي بظرفه=فافتحها سهواً وأغمضها عمدا

فأجابه بأبيات منها:

أيا فاضلا أبدى لنا من نظامه

لطيف اعتذار سكن الشوق والو جدا

لئن كحلت بالظرف قد أسكرت بما

إدارته من مقلوب أحداقها الشهدا

ومنهم ذو المقام المنيف مولانا خليل بن الظريف ولقد قيل الألقاب تنزل من السماء، وصديقه هذا شاعر أديب أهدى إليه حلة بيضاء من أنفس ما يصنع بالشام مع أبيات منها:

يا أيها المولى الذي بعلومه

بين الورى تتفاخر العلماء

أيقنت انك سوف تصعد منبراً

شرفت بمنزلها به الخطباء

ص: 54

فبعثت نحوك حلة بيضاء قد

رقمت فضول ذيولها الجوزاء

كي ترتقيه بها فتصبح في الورى

وعليه منك الراية البيضاء

فأجابه بأبيات منها:

يا سيدا مازال رائق وصفه

يحلو لنا فكأنها الصهباء

أحسنت فيما قد بعثت وحبذا

ثوب به تتحمل الخطباء

وافى إلي وقد بقيت على شفا

فأتى الشفاء وزال عني الداء

فكأنه ثوب ليوسف إذ أتى

وكأنني يعقوب وهو شفاء

زمنهم الشيخ زين الدين بن احمد البصروي (نسبة إلى بصرى) قال عنه انه جامع شتات اللطائف والعلوم، فمما شنف إسماعي من أبياته الغر ما بعثه لي في صدر كتاب وهو قوله:

يا نسيما من ربوة الشام ساري

عج على طيبة اجل الديار

إلى أن يقول في صاحبنا الخياري:

زره تبصر لديه كل جليل=من علوم ورائق الإشعار

وحديث ألذ من نظرة المع

شوق وافى قي غفلة السمار

وسجايا كنكهة المسك والند

وورد الرياض غب القطار

قال وأهدى لي علبة مملوءة من قلب العشق وكتب عليها:

لما تركت القلب عندكم

وغدوت مشغوفا بكم صبا

وخشيت أن تخفى مكانته

صيرت ما يهدى لكم قلبا

فأهديت له تمراً مدنياً وكتبت معه قولي:

مذ صار قلبكم المكرم عندنا

أنزلته بحشاشتي دون السوى

وخشيت أن ينوي المرور تشريفا

فبعثت حلواً سائراً مر النوى

ومنهم الشيخ عبد الحليم ولم يذكر بسبته، اجتمع به في زيارة الشيخ الأكبر قال عنه وذاكرنا لطائف من العلوم وجارانا في ميادين المنطوق والمفهوم من المنثور، والمظلم، ثم سألته عن شيء بلغني عنه وهو انه ألف كتاباً ذكر فيه المشاهير من الناس بتراجمهم من الهجرة النبوية.

فاخضر لي من ذاك الجزء الثاني فرأيته كامل المحاسن فائق الألفاظ بليغ المعاني

ص: 55

جامعاً لما تقدم من التواريخ، ثم أطلعني منه على الترجمة الخاصة بالشيخ محي الدين التي رقمتها في تفصيل أحواله فقرأتها بلفظي وهو يسمعها والحاضرون من أولها إلى آخرها ولقد أحسن فيها وأجاد، قال ثم عدنا من محله بعد زيارته لمحلنا النازلين به وهو منتزه سرت به منا القلوب وقرت النواظر وطابت النفوس وانشرحت الخواطر فأن الصالحية الذكورة جمعت محاسن دمشق: فيها قصور شامخات ومجالس عاليات وشهرتها تعني عن تفصيل أحوالها والمحال المشار إليه المسمى بالباسطية وهو من قديم عماراتها ونظم جواهرها وتبسم حياتها، يشتمل على إيوان جامع للمحاسن وعلى بحرة ماء تذكر سبيل الجنان، فلذلك ماؤها غير آنس، وقد حققت عند حصول البسط بها أن لكل شيء من أسمه نصبياً والى هذا يشير قول بعضهم:

وكلما أبصرت عيناك ذا لقب

ألا ومعناه إن فكرت في لقبه

ولاحت مني التفاتة إلى بعض جهات الإيوان فرأيت مرقوماً على ذلك الجدار أبياتا كبيرة من الشعر منها ما هو منسوب للسيد محمد الحسيني القاضي بدمشق لما قال بالمحل الذكور سنة 1018 ما لفظه:

ولله يوم البسط إذ تم انسنا

بأحبابنا في باسطية شام

بسطنا بساط الأنس من وصل مية

وأسكرنا في بدون مدام

فكتب تحتها الشيخ حسن البور يني شارح الدبوان الفارضي سالكا ذلك المنهاج:

أنفحة مسك في الصباح عرفتها

بعرف معان في رياض كلام

وردت به في صالحية جلق

موارد أنس فيه كل مرام

لأدارك بسط الباسطة إنها

لموطن إكرام وروض كرام

ورأى تحت هذه الأبيات قطعة من البحر والقافية للمولى عبد اللطيف المنقاري ومثلها للعلامة مصطفى بن محب الدين ولم يذكر لنا نسبته، وقد ذكرنا شيئاً من شعر الرحلة بيانا لطبقة الشعر في ذلك العصر وفيه صنعة وركة كثيرة ومتانة ورقة قليلة، ولو ظفرنا بالرحلة كاملة لاخترنا منها مايهم التاريخ والأدب والدماشقه الغرب منها.

ص: 56