المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أعضل، وأن نفسه النفسية على خطر، فنسأل الله أن لا - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٤

[خليل مردم بك]

الفصل: أعضل، وأن نفسه النفسية على خطر، فنسأل الله أن لا

أعضل، وأن نفسه النفسية على خطر، فنسأل الله أن لا يرزأ الملة بإحدى بواصر عيونها، ولا يفجع الحكمة المشرقية بأمتن أساطينها، وأن يحفظ حياته ذخرا في هذه الأيام، ويقرب شفاءه برا بالوطن والإسلام!، آمين

‌حرية الرأي

في الشرق العربي

إن صح ما أقرَّه علماء الاجتماع المعاصرون من أن للجماعات في تطورها كما للأفراد في حياتها مراحل لا بد من قطعها ومناطق لا مندوحة عن اجتيازها في الانتقال من حال إلى حال فأبناء القطر السوري وكثير غيره من أقطار الشرق العربي يجتازون اليوم في بعض وجوه تفكيرهم وإبداء آرائهم وكثير من أوضاعهم الاجتماعية ، مراحل قطعها أبناء الغرب في أواخر القرون الوسطى التي انقضت منذ خمسمائة عام تقريباً. وهي حقيقة يحتاج التصريح بها لشيء من الجرأة وعلى الأخص إذا كان قائلها من أولئك الذين درسوا في جامعات الغرب لأن أكثر هؤلاء قد اتهموا في جميع أقطار الشرق العربي بتهمة حبك الشيء يعمي ويصم لا لأنهم أحبوا ما رأوه في الغرب فأعماهم ذلك عن الحقائق بل لأن أخصامهم من ذوي الأفكار المتجمدة وجدوا في العداء السياسي القائم بين الشرق والغرب ثلمة انحدروا منها للوصول إلى أغراضهم في تصغير شأن أخصامهم والنيل منهم فكان لهم ما أرادوا في شعب لم تزل العاطفة الهوجاء لا تقيم فيه على الغالب للعقل حساباً أو وزناً. وليس من المحتم على من تعرض لمثل هذه المقابلة الخطرة بين ما كانت عليه أفكار الناس في أواخر القرون الوسطى في الغرب وما هي عليه أكثر الآراء والعقائد في سورية وكثير من أقطار الشرق العربي اليوم أن يثبت الشبه في جميع الوجوه والمناحي حتى يقنع الناس أن لا فرق هنالك قط بين العصرين في جميع صورهما ومظاهرهما فمراحل التطور الاجتماعي تقطعها الجماعات على وتيرة واحدة وتبعاً لنظام واحد ولكن أشكال هذه المراحل تختلف باختلاف الشعوب وتتباين بتباين العناصر والأديان واللغات عدا ما هنالك من عوامل مفاجئة ومؤثرات طارئة فإذا كان مثلاً في عقائدنا وعرفنا وتقاليدنا الشرقية في عصر الكهرباء والسرعة بعض الوجوه التي تختلف عما كانت عليه الآراء في الغرب منذ

ص: 17

مئات السنين فليس في ذلك دليل على أننا نقطع اليوم المرحلة نفسها أو نستغني عن اجتياز الطريق ذاتها بل أن هنالك عوامل اجتماعية فعلت فعلتها وحالات شرقية اختلفت في ماضيها عما يقابلها في حالات غربية فغيرت اليوم كثيراً من وجوه الشبه بين الدورين اللذين نقابل ونقايس بينهما. وهذا الاختلاف الواقع الذي كثيراً ما يحتج به مناهضو هذا الرأي هو استثناء يؤيد القاعدة العامة في سير تطور الجماعات وتحولها البطيء على وتيرة واحدة وفي ظواهر مختلفة.

ولعل أصح صور الشبه وأبرزها في المقابلة بين ما كان عليه الغرب في أواخر القرون الوسطى وما نحن عليه اليوم هي حرية الرأي ومظاهرها في كلا الزمنين وهي ظاهرة صادقة ومقياس صحيح تقاس به نهضة الجماعات وما بلغته في طريق تحولها وتبدلها فحرية الرأي والجرأة في إبداء ما يهتدي إليه التفكير هما أصح ما يعتمد عليه في قياس الحضارات. وتاريخ الفلسفة في العالم هو تاريخ ما تجرأ الناس على إبدائه من آرائهم وهذا التاريخ هو أعظم ما يرجع إليه في تقدير الشعوب وقرها ومعرفة حقيقة ما عملته ورمت إليه وليس من داع لأن نأتي في هذه المقابلة على ذكر طائفة من مظاهر حرية الرأي وما كانت إليه في أواخر القرون الوسطى في الغرب من ضعف وانكماش وما أصاب أصحابها من اضطهاد وعسف وما ذهب في سبيلها من ضحايا فكل ذلك بتصور القارئ ويتمثله بعد أن عرف عنه ما عرف وسمع من غرائب شأنه ما سمع وحسبنا أن نتصدى لتذكيره بالرجوع إلى التذكير تفكيرا صريحا مستمدا من منطق العقل الصحيح فيما نحن عليه في هذا القطر السوري وغيره من أقطار بلاد العرب ومقابلته بما تمثله ووعاه من مظاهر إخفاء الرأي وعدم الجرأة في إبداء الفكر في تلك الصور. إنه لو غاب نفسه على ذلك وتجرد قليلا عما أملته عليه الجماعة التي عاش فيها وغرسته في نفسه دون اختياره ورضاه من عقائد وتقاليد ونزعات لعرف أن الشبه صحيح من أكثر الوجوه وأن ماشذ عنه استثناء يؤيد القاعدة التي أشرنا إليها في نظام التطور المحتم. وليس مطلبنا هذا منه بالأمر السهل فتحكيم العقل دون الهوى والتجرد عن العاطفة في التحليل والمقابلة عقبة كؤود ما برحت تعترض علماء الاجتماع في إقناع الناس بصحة ما استنبطوا من نظم وسنن اجتماعية تجردوا في استنباطها عن أهوائهم الشخصية وعواطفهم القومية والدينية فأحكموا

ص: 18

في استقرائها واستنتاجها عقولهم فحسب.

يعتقد الكثيرون ممن لم يفرقوا بعد بين الحق والواقع في أقطار الشرق العربي إن الناس أحرار في إبداء آرائهم وبسط ما يجول في خواطرهم للناس ويستدلون على ذلك بما جاء مثلا في المادة السادسة عشر من الدستور السوري وما ورد في غيره من المواد في دساتير الأقطار العربية الأخرى التي تنص كلها على أن حرية الفكر مكفولة وأن كل شخص مكفولة إن لكل شخص حق الإعراب عن رأيه وهي نصوص يكتفي الباحث بقليل من التحليل والاستقصاء حتى يعرف أنها تخالف الواقع ولا تتفق معه فهي رماد يذر في أعين البسطاء من الناس ليخفي عنهم تأثير العرف القديم والتقاليد البالية التي ما برحت الحاكم المطلق في أقدار الكتاب والأدباء والمفكرين والمسيطر الأول على إبداء وإعلان ما يهجس في نفوسهم ويجول في خواطرهم من آراء عقائد.

استعرض إن شئت في ذهنك جميع من عرفتهم من كبار المفكرين ورجال الأدب المعاصرين في سورية وغيرها من بلاد العرب وارجع إلى ما يكتبونه وينشرونه في هذا العصر وابحث عن أرائهم الخاصة التي يتحدثون بها إلى أصدقائهم في مجالسهم وعن أفكاره التي ينشرونها ويذيعونها على الناس في الصحف والكتب والمجلات وانظر فيما تكنه نفوسهم وما يعلنونه. إنك لو فعلت لوجت أن منهم من رأى الجماعة التي هو منها واعتقد بعقيدتها ودان بعرفها وتقاليدها فكان قي كل ما يكتبه كرجع الصدى فهو لا ينشد إصلاحاً ولا يطلب تجدداً بل يرضى بالحالة التي وجد آباءه عليها وهو أشبه شيء بمفكري القرون الوسطى ممن رضية عنهم الكنيسة ورأت فيهم رسل السلام والحق فخضعوا لحكمها عن رضاء وعملوا بمشيئتها فأراحوا واستراحوا.

ومنهم من كانت السياسة هدفهم الأول فطمحوا للزعامة وصرفوا كل جهودهم للوصول إليها وهم مثقفون لم تخف حقائق الكون وسنن التطور عنهم لكن الوصول إلى الزعامة يقضي أن لا تجابه الجماعة بما لم تألفه فهم يعنون عير ما تكنه نفوسهم ويحاربون حتى الجماعة في أرائهم وعرفهم وتقاليدهم ليحرزوا ثقتهم وينالوا عطفهم آملين أن يتحكموا في أقدارهم ويسيروا في طليعتهم فيقودونهم إلى حيث يريدون واجدين في غاياتهم السامية ما يبرر السبل التي يسلكونها.

ص: 19

ومنهم من اعتقدوا غير ما تعتقده الجماعة واستنارت أذهانهم بنور الحقائق فثارت نفوسهم ضد العرف وضد التقاليد وعرفوا ضرورة التجدد في الحياة لكنهم جبنوا فلم يجرؤوا على مجابهة الناس بما يخالف وتقاليدهم وعقائدهم وأعوزتهم حرية الرأي في جماعة قديمة جامدة فانبروا يحتالون على الأبحاث التي يعالجونها احتيالاً ويخدعون القراء بظاهر ما يبتغونه خداعاً يحتاج لكثير من المهارة والجهد ويدسون أفكارهم الجديدة دساً من حيث لا يجد فيها أخصامهم من المتعصبين سبيلاً لإثارة غضب الجماعة ونقمتها عليهم.

ومنهم من عرفوا الحقائق واعتقدوها ولكن نفوسهم كانت أصغر من أن تذيعها وتؤيدها وضمائرهم أضعف من أن تدعوهم للمفاداة من أجلها فأذاعوا على الناس غير ما اعتقدوه ودعوهم لما تأكدوا من فساده متخذين من أدبهم وعلمهم وقوة أقلامهم طريقاً يصلون منه لما يدفع عنه عادية المتربة أو يسد جشعهم وأطماعهم.

أما أولئك الذين اعتقدوا بما لا يتفق مع عقيدة سواد الجماعة وعرفها وتقاليدها واستطلعوا أن يجابهوا القوم بما اعتقدوا صحته مجابهة دون خداع أو احتيال أو تردد وتقلب فأنك لا تكاد تجد منهم من تهتدي إليه في هذا العصر لتذكره على سبيل المثال في سورية وسائر أقطار الشرق العربي. وحرية الرأي لا تكون صحيحة إلا متى أتيح لهؤلاء الآخرين أن يذيعوا آرائهم ويبثوا أفكاره دون أن يكون لهم من نقمة الجماعة وغضبها عليهم ما يخشون معه على نفوسهم وأرواحهم. إذاً فحرية الرأي التي تؤيدها حقوقنا ونظمنا ليس في الواقع ما يدل على وجودها وإذاً فمشيئة الفرد ما برحت خاضعة بكل مناحيها لهوى الجماعات وهوى سوادها وعامتها وفي جملة ما نشأ عن ذلك أن أدبنا أصبح لا يمثل نفوسنا بشيء ولا يتفق مع تفكيرنا فقد حظرت الجماعة عندنا على العقل والشعور والعواطف أن تظهر كما هي وقضى العرف والمحافظة والتحرج على الأدباء والمفكرين والكتاب أن يكتموا الناس ما في نفوسهم وأن يذيعوا عليهم غير ما يجب أن يعلنوه فكانت أكثر آدابنا وكتاباتنا وتأليفنا حتى قصائدنا وأشعارنا ومظاهر فنوننا مشوهة بالكذب والرياء والخديعة والدس والممالأة والجبن والتردد وغير ذالك من مظاهر ضعف الأفراد ووجلهم أمام قوة الجماعات وبطشها.

وهذه كلها صور لما كانت عليه حرية الرأي وجرأة التفكير في الغرب حوالي القرون الوسطى وأواخرها.

ص: 20

ولا ينتج عن هذه المقابلة أننا نحتاج لمئات من السنين بعد لتصل إلى ما وصل إليه الغرب اليوم في إبداء الرأي وبيان نتائج التفكير فسرعة التطور وقطع المراحل الاجتماعية تختلف باختلاف وسائط العصر على أن الانتقال من طور إلى طور في الجماعات أعراضاً لا مندوحة عن ظهورها وأهم الأعراض والدلائل التي تنبئ باجتيازنا المرحلة التي نحن فيها اليوم واتصالنا بالطريق المؤدية إلى حرية الرأي الصحيحة هو ما يجب أن يظهر بيننا مما ظهر في الجماعات الأخرى من أولئك المفكرين الذين تستهويهم آراؤهم وأفكارهم وعقائدهم فيذيعونها على الناس ويعلنونها فلا يثنيهم عن عزيمتهم خشية السلطان ولا يردعهم عن عليتهم غضب الجماعات ولا يبرحون عند أرائهم هذه حتى يسقطوا مضرجين بدمائهم من دونها وهم ينادون بها ويهتفون لها.

ص: 21