المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الديكتاتور كل حركة عبارة عن دائرة تتمركز في شخص كمحور لها، - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٦

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌الديكتاتور كل حركة عبارة عن دائرة تتمركز في شخص كمحور لها،

‌الديكتاتور

كل حركة عبارة عن دائرة تتمركز في شخص كمحور لها، في قائدها.

مبادئها مبادئه، صفاته صفاتها، سيرتها تندمج في سيرته، تنبعث منه وينخرط هو في صفوفها. أما الحركة والقائد، وهو نقطة المركز فيها، فتتجلى عنهما اتجاهات المجتمع وتصادم هذه الاتجاهات، كما تخرج الدائرة ونقطتها من الماء، وتتماوجان فيه بشكل يتقرر عند وقوع الحجر في الماء وتصادمه مع اتجاهه ومبلغه من العمق وأسلوب مجراه وسوى ذلك.

يتمخض المجتمع فيلد الفكرة والفكرة تتجسم في توأميها: القائد والاتباع وهما اللذان يكونان الحركة هما قطبا الحركة، كلا الطرفين يمثلان الفكرة التي تسير بها، كلاهما نتاج الموجات المستديرة التي اندفعت من الماء على أثر وقوع الحجر في بحيرة المجتمع.

القائد لا يختاره ابتاعه. بل تختاره مجموعة أوضاع نفسية واجتماعية وسياسية تتألف من شخصيته ومن الظروف، أو ما اسميه بشخصية الظروف المجتمعة، وأخيراً من الحد الذي تتوافق عنده الشخصيتان، ويختلف ما لهذين العاملين، أي الشخصيتين، من تأثير في خلق القائد. فتارة نجد لشخصية القائد المكان الأول وتارة تجد هذا المكان للظروف، وهو الغالب.

لينين، مثلاً، جعلته شخصيته الخاصة (والشخصية مغناطيسية تخرج من تجسم الفكرة بمعناها الواسع - أو تجسم الخلق أو الراغبات - وتمركزها وظهورها في الفرد بقوة وتصلب) قائداً أكثر مما جعلته الظروف كذلك. لقد كان ليني قائداً قبل أن يحكم، كان القائد وهو بين مجموعة من أقطاب القيادة، ولد وهو قائد، أما الظروف الطارئة فقد ساعدت على تربية هذه الفطرة فيه، ومن جهة أخرى وضعته على رأس حركة معينة. لو ظهر لينين محاطاً بأية ظروف أخرى، وفي أي زمان آخر، لكان قائداً أيضاً ذلك لأن عقله - وفي العقل تتمركز فكرة هذا الرجل وشخصيته - لو جاء في أي مكان أو في أي وقت، وتحت أي اسم، لكان عقلاً يجمع بين الميل الشديد لهدم القديم والظالم وبين الحماس القوي لتشييد الجديد والعادل، عقلاً يطلع من الماضي لينفذ في المستقبل، عقلاً متطرفاً وكذلك قائداً سواء جعلت الظروف من لينين فناناً، أو عسكرياً، أو راهباً، أو طاهياً. ذلك لأن القابلية على الانطباع بأية فكرة تجمع بين الثورة والعدل هي الطبيعة في ها العقل. لهذا نجد أن أحد

ص: 48

الكتاب الأذكياء لم يخطئ كثيراً لما شبه لينين بسان جوست وبالراهب يواكم الفلوري لما غلب على هذين من فكرتي العدل والتطلع إلى المستقبل. (أما ما ذهب إليه رينه قيلوب ميللر النمسوي، في كتابه عن اليسوعيين، من تشبيه لينين بإيجنانيوس دي لوايولا فليس صحيحاً، لأن لوايولا كان ذا عقل ارتجاعي وديني. وهذان المظهران لا وجود فيهما لروح الثورة وطلب العدل، بل هما يختصان بالعقل الشرقي المشبع بفكرة الحاكم المطلق، المهمل للجماهير التي يختص بها العدل، وللمستقبل الذي ترمي الثورة إليه، فهو لا يطمح إلا بخلاص روحه الأنانية وحدها) إن شخصية لينين: أو بتعبير أفصح، أجمع لما شرحنا: إن عقله المنغمسة فيه الفكرة المازجة بين العدل والتجدد جعل منه في المكان الأول قائداً. أما الظروف فجعلته قائداً بلشفياً بدل أن يكون مثلاً نورياً أفرنسياً أو زعيم حركة كحركة الشعلة البافارية.

إن نابليون خلقته الظروف لا شيء سواها، كما إن انعدام الشخصية فيه كفكرة ساعدت تلك الظروف بل كانت من جملتها. كذلك موسوليني أيضاً. فقد ترأس هذا الرجل الحركة الفاشستية بعامل الظروف أكثر مما ترأسها لشخصيته، فكان لها المكان الأول في تكوينه كقائد، إن شخصية موسوليني، مثل حال نابليون، ليست مظهراً لقوة الفكرة بقدر ما هي صفات خاصة أكثر اتفاقاً مع الفكرة العامة، الفكرة الفاشستية، من صفات غيره، وأبرع في التمشي مع أهواء أصحاب الفكر الحقيقيين والقيام بقيادتها الظاهرة، لذلك لو جاء موسوليني في وقت وظروف غير التي أظهرته لكان بقي في الزاوية، لكان قضى عمره وهون ذلك الأناني الصغير الذي ليس له أقل أثر في التاريخ فلم يكن قائداً، بل فرداً من أفراد الجماهير التي تحمل التاريخ على ظهرها ولكان مندمجاً، من عظمة الأنانية فيه، في ذلك القسم الصغير من الجماهير، ذلك القسم الذي لا يشعر بفداحة ووطأة ما يحمل والذي لا شعور له بالرابطة الكبرى في الآلام.

قلنا أن القائد والحركة وشيء واحد. وكذلك موسوليني والفاشستية. وكون موسوليني ابن الظروف أكثر مما هو ابن الشخصية، وكونه ابن شخصية الطباع والرغبات الملائمة، لا شخصية الفكرة الفولاذية، كون موسوليني كذلك لا يعني أنه ليس شيئاًَ واحداً هو والفاشستية. لو لم يكونا كذلك لما التقيا ولما سارا جنباً إلى جنب. إن كل قائد مهما تكن

ص: 49

العوامل التي خلقته، لفلذة من فلذات الحركة. التقى الاتباع والقائد عند مفترق الطريق، كانت طريقهم واحدة فساروا عليها، إما صفين: في الأول رجل واحد هو القائد، في الثاني رجال عديدون هم الاتباع، وإما صفاً واحداً: القائد والجنود معاً، وهذه هي القيادة السامية. وكان سير القائد والاتباع - في الحالة الثانية - صفاً واحداً دون اهتمام بقشور الرسميات والعنهجيات الفردية.

وسندرس في هذا الفصل بقدر ما نستطيع من الاختصار الحركة الفاشستية وقائدها موسوليني بصفتهما واحداً، ممتزجين أخلاقاً، نفسية وروحاً، غرضاً مادياً وأسلوباً، بصفتهما أداة تعبير لإرادة الأقلية السائدة في المجتمع. هذه الأقلية التي تحركهما كيف شاءت التي تمدهما بالمعونة المعنوية والمالية، والتي تنضم إلى صفوفهما وتعد نفسها من الاتباع، التي تضع في فمهما الكلمات والأوامر، التي خلقتهما: موسوليني والفاشستية معاً.

ولد موسوليني في 29 يوليو سنة 1883 في دوفيا من مقاطعة فورلي، ببيت فقير. كان أبوه حداداً وأمه معلمة، وكانت طفولته بائسة، كطفولة أبناء الفقراء.

كان يشعر بشقائه منذ تفتحت أنظار على الحياة. كان يتألم من وضعه الاجتماعي يشمئز من أبناء طبقته، ويطلب الخروج عنهم والارتفاع عليهم. قال للودفيغ في أحاديثه معه، وهو لا يزال متأثراً من قسوة تلك الأيام البعيدة عليه: على المائدة (مائدة المدرسة) كان التلامذة يتناولون طعامهم وهم ثلاثة أقسام. وكان عليَّ إن أجلس دوماً في الطرف الأسفل وإن آكل مع أشدهم فقراً. . كان يتعذب من فقره، ويحزنه وجوده مع الطبقة الثالثة من التلامذة بدل الطبقة الأولى.

في شبابه مثل رواية عامل شقي مضطهد يكاد لا يجد خبزه. ويقال أنه مرت به أيام قضى عيشها معرضاً لذل السؤال. ابتدأ العمل بالتعليم، وهو ابن ثمانية عشر سنة، فكان يتقاضى أجراً ضئيلاً يبلغ عشر ما يتقاضاه معلمو الطليان اليوم على ضآلة أجورهم. لما مل التعليم، أو حدث له ما أجبره على هجره، ذهب إلى سويسرا، هناك كان يتعاطى مختلف الأشغال الجسدية الشاقة ولا يكاد يحصل على ما يربط الجسد بالروح. لكنه كان مجتهداً، وقد واظب على الدرس في جامعتي جنيف ولو زان إلى أن توصل للحصول على شهادة بتعليم الإفرنسية. قضى أغلب حياته في تلك الفترة مقيماً بين العمال عائشاً في بيئاتهم. وذلك لأنه

ص: 50

كان معاملاً مثلهم.

كان في مشربه السياسي طوال هذه الامدة نورياً متحمساً. بيد أن أبيه الحداد اسكندر موسوليني كان أيضاً نورياً من قبله، وكان أبوه دولي العقيدة والنظرة، شديد العدواة للكنيسة والدين. لقد لعب دوراً لا بأس به في حركات العمل الإيطاليين. أما أمه روزا مالتوني موسوليني، فكانت معلمة بسيطة محافظة في ميولها وامرأة دينة. قد ترجع ذبذبة الطبع والرأي، التي ظهرت جلياً في أدوار حياته السياسية المتأخرة إلى هذا الاختلاف الذي كان بين والديه.

في سويسرا كان معداً لا يملك ما يزيد كثيراً عن ستر جسمه. ونعتقد أنه لذا السب دخل صفوف الثوريين وعمل معهم بنشاط. كان يسعى في تأليف الترايديونيوس (جمعيات العمال النقابية) ويدعو للإضرابات، فطارده البوليس من ناحية إلى ناحية، ثم أخرج من الاتحاد السويسري جميعاً. رجع إلى إيطاليا والتحق بجيش البيرساحجلبيري (ما يقابل القناصة في الجيش اللبناني!) ثم لما ترك العسكرية عاد إلى التعليم ليأكل وثابر على المطالعة ليتعلم. وأخيراً انخرط في الصحافة الاشتراكية.

كان طموحاً بعيد المرمى في أحلامه ومن كثرة ما خبر تأمر الغير به أصبح يرى التأمر لنفسه من اللذات المرغوبة. لما دخل في الصحافة الاشتراكية كان يضمر تحقيق أغراضه المتأصلة نفسه الفردية عن هذه الطريق، كان الحنين فيه إلى السيطرة قوياً بقدر ما كانت نفسه جموحة ومتكبرة، وبقدر ما كان يشعر به من رغبة في طمس صور الذل المخزية في صفحات حياته. ويظهر أنه في هذه ال أيام كانت معرفته بالحياة قد بلغت به إلى قول الطغرائي:

وإنما رجل الدنيا وواحدها

من لا يعول في الدنيا على رّجل

وإلى قول المتنبي:

ومن عرف الأيام معرفتي بها

وبالخلق روى رمحه غير زاحم

ذلك لأن كتاباته في تلك الأيام، من صحيفة وأدبية، تتم عن نيتشوية زرادشتية شديدة التمسك بفرديتها، في أحاديثه مع لودفيغ يصرح بحقيقته هذه مرات عدة، ويعترف بأن نيتشه كان دائماً معلمه، وأنه كان دائماً تلميذه. وقد كان في زمان شبابه شبه فوضوي أكثر

ص: 51

بكثير مما كان اشتراكياً. والفوضوي في عرف موسوليني هو ديكتاتور بالناقص، أي دكتاتور غير منصوب. وبالتالي الفوضوي فوضوي لأنه ليس بدكتاتور.

ونرى كذلك أنانية موسوليني وحبه للسيادة في ناحية الانتقام التي تنطوي عليها نفسه فإن حب الانتقام طبع يرافق الأثرة، وتحترق له شعلة أكّالة في قلب من رفع هيكل عبادته أمام شهوات أنانيته الفردية.

في سير الحركات المجموعية، التي تسير بجاذبية المثل الأعلى، لا نجد أثراً للانتقام الشخصي عند الأفراد القائدين لتلك الحركات. فالثورة الإفرنسية، مثلاً، وقعت فيها فظائع. بيد أن فظائعها ما كان لتتصف بأية صبغة أو شهرة مفترسة يضمرها إبطالها، كما وأنها لم تتصف بحب التعذيب الذي يرافق حب الانتقام، إن رجال الثورة الإفرنسية لم يقتلوا ولم يسجنوا أحداً. هي الثورة التي قتلت وسجنت والثورة كانت بحالة اجتياح، هو المثل الأعلى الذي قتل وسجن، ومع ذلك لم يكن في فظائع الثورة شيء من هذه الخلة الحيوانية، خلة التلمظ والتلذذ بألم لم يكن بألم الفريسة الضعيفة - غرام التعذيب. أما رجال الثورة الباروزن المتطرفون، فالمعروف عنهم أنهم كانوا أفراداً أنكروا نفوسهم لدرجة أن بعضهم - خصوصاً ماراً وروبسبير - أهملوا أكلهم وملبسهم وخصوصياتهم الصغيرة. كان الواحد منهم يبدو كأنه لا وجود له، وكان الوجود جميعه عندهم فكرة يجب أن تتحقق. مثل هذا يقال أيضاً في كرومويل وفي رجال الثورة الروسية.

لكن بالعكس من ذلك، نلاحظ في الحركات التي لا ترافقها جاذبية من المثل الأعلى، والتي لا تتقدمها شخصيات وأغراض متلاشية في شخصية المجموع وأغراضه، إن الروح الانتقامية الفردية مع ما يلحق بها من حب التعذيب تكون فيها سائدة مديرة. من يدرس نابوليون يشعر أن حياة هذا الرجل كانت منذ أول ما ظهر وأول ما عمل سلسلة من حوادث الانتقام ابتدأت معه بصورة فردية صغيرة، ثم امتدت به وتوسعت حتى أدخلت جميع أوروبا في شراكها. كذلك موسوليتي، على بعد النسبة بين حجمه وحجم نابوليون، كان مسيراً بعاطفة الانتقام الملازمة للأنانية الطموحة اللامبالية المحضية كل شيء من أجل أنانيتها. كان يتكلم مع لودفيغ عن سجونه، عن أنه استفاد وسر من سجونه، وأنه قرأ فيها مرة قصة دون كيشوت وعندما سأله لودفيغ بنكتة:

ص: 52

لعل هذا هو الداعي لإرسالك أعداءك السياسيين إلى السجن، ترى حينما تصدر مثل هذه الأحكام، إلا توقفك عنها ذكريات سجنك؟

فأجاب موسوليني: قطعياً. إنني أجد هذه المعاملة جد منطقية. كانوا البادئين بزجي فيه. الآن جاء دوري لأزجهم فيه.

سليم خياط

ص: 53