الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صيف في أوربا
إلى مجلة الثقافة
بقلم الأستاذ جان غولميه
تعريب كاظم الداغستاني
21 حزيران سنة 933 بيروت
غادرت الشواطئ السورية على الباخرة ليمنوس وهي باخرة يونانية صغيرة جذابة وليست بالوسخة كثيراً. ولقد أقلعت في موعدها تماماً وساعة المساء تدق العاشرة وكانت الأضواء تتلاعب فوق مياه المرفأ الكثيفة فتتراجع منعكسة على صفحاتها بألف شكل. واجتمع نواتي الباخرة ليمنوس حول آلة للحاكي تردد معزوفة من نوع التانغو الإغريقي الشجي، ولا أدري إذا كانت هذه الموسيقى المضطرمة المحزنة هي التي أثرت في نفسي، ومهما يكن الأمر فإني أرحل عن بيروت وبين جوانحي من الكآبة ما لم أشعر بمثله من قبل. لقد فارقت سورية مرات عديدة دون أن يترك الفراق في نفسي ما تركه الآن وهذه هي المرأة الأولى التي أغادر معها هذه البلاد وكأني أغادر بلدي الذي ولدت ونشأت فيه تاركاً بين ربوعه شطراً من نفسي كما قال شاعر قديم.
23 حزيران: حيفا
شاطئ جاف لا شجر فيه. شمس وذباب وسآمة. يشكو البحارة في المرفأ من كثرة اليهود المهاجرين الذين أخذوا يفدون من البحر زرافات بعد الحوادث الأخيرة في ألمانيا. لقد كان أحد هؤلاء البحارة فيما مضى جندياً في سوريا في جيش الملك فيصل ولقد تكلمنا معاً عن مدينة دمشق التي هي في نظره أجمل بلاد العلم.
23 حزيران: بور سعيد
لقد عدت ورأيت في بور سعيد حركة المرفأ الذي تلتقي فيه شعوب العلم وشناعة تلك المدينة المحددة المخططة التي لا ماضي لها. تنتشر في شوارعها رائحة المقليات الحقيرة وتبدو لناظرها وكأنها أصدق صورة لمدن البحر الأبيض بذلك المخصوص الذي تتمشى متسللة في جوانبه عنزاته الناحلات. وهو حي يحظر على جنود صاحب الجلالة البريطانية الدخول إليه كما نصت على ذلك الإعلانات المعلقة على مداخله. شمس محرقة وحدائق
غناء ذات أشجار مثقلة بأزاهير وعناقيد أرجوانية. وعلى الشاطئ قامت منازل تحيط بها جنائن صغيرة تذكر الناظر بما في منازل أرياف المدن الإنكليزية من رفاه وراحة. على أنه ليس هنالك كما في كل مكان من هذه المدينة إلا السآمة والضجر.
27 حزيران: أثينة
ها هي اثينة أمامنا بعد أن عبرنا البحر مارين بجزائر سيكلادس. مدينة بديعة بنيت على قياس وانتصبت أنيقة لبقة. حتى أن سمائها ليس فيها تلك الزرقة الغامقة الشديدة التي تصطبغ بها سماوات الشرق، فلونها أزرق باهت موشحة بخطوط رمادية من السحاب تمازجها حمرة خفيفة كأنها الشفق وهي يعيد للخاطر ذكرى سماء باريس.
هنا أوروبا تتمثل الآن في هذه المدينة حيث يختلط القديم البعيد مع الخاطر الجديد. ففي رأس شارع ايلوس حيث تقوم فروع المخازن الباريزية الكبيرة وتزدحم جماهير الناس من باعة ومشترين بينهم جم غفير من النساء المتألقات الجميلات يظهر معبد البارتينون على هضبته الخشنة الجافة كذكرى مفاجئة لتلك العظمة القديمة. هنالك أيضاً مقاهي كمقاهي دمشق اجتمع فيها أناس يدخنون النارجيلة ويلعبون (الطاولة) النرد فيصمون الآذان بضوضائها. على أن هنالك أيضاً في باريز مكتبات عظيمة فخمة يمكن أن يحصل منها الراغب على آخر وأحدث ما صدر من المؤلفات في جميع اللغات الأوروبية.
إن الإقبال على المطالعة في بلاد اليونان عظيم ولقد نشرت مجلة البلقان الشهرية التي تصدر في اللغة الفرنسية مقالاً قيماً أثبتت وأحصت فيه عدد الصحف والمجلات التي تطبع في بلاد اليونان فبلغت في سنة 927 - 442 منها 197 في مقاطعتي آتيك وبيئوثي فقط وأن أهم ما يلفت نظر الغريب في هذه البلاد هو ما انتشر بين سكانها من أثر الثقافة والآراء الفرنسية ويدل على ذلك انتشار اللغة الفرنسية بين المثقفين وعبارات المديح والثناء التي رددها من حدثوني عن مدارس البعثة العلمانية الفرنسية وما تلقاه هذه المدارس من الإقبال العظيم، ومما يؤيد هذا التأثير أيضاً ما يطبع في بلاد اليونان من الصحف الفرنسية كجريدة البيتي اتينيان مثلاً. ولقد لقيت حفاوة فائقة من جميع الذين تحدثت إليهم من اليونانيين سواء على سواء على ظهر الباخرة أو في بلاد اليونان ولشد ما أعجبني منهم سرعة الفهم وشدة الذكاء ولينة الفكر وسحر وجوههم الطلقة الباشة.
بلاد جميلة يؤلمها رزء عظيم. قال لي على ظهر الباخرة ليمونس أحد كبار أرباب المعامل في سلانيك ما يأتي: لقد كان باستطاعتنا أن نعمل رغم الأزمة بالخناق لو كانت السياسة تتركنا نتصرف للعمل وفي الحقيقة أن السياسة لم يتغير شكلها في بلاد اليونان منذ ذلك الزمن الذي كان فيه فيليب المكدوني يشجع بأمواله الخصام والنزاع في ساحات اثينة العامة ولقد حل اليوم محل النزال الذي كان قائماً إذ ذاك بين الخطيبين ديموستين واشين البراز بين الزعيمين تسلادريس وفنزيلوس. لقد أحرز في انتخابات شهر أيار الغابر حزب اليمين الذي يرأسه الزعيمان تسلادريس الملكي وقوانديليس الاشتراكي الوطني 136 مقعداً ضد 109 مقاعد نالها الأحرار الراديكاليون من أشياع فنزيلوس. ولقد كان في محاولة قلب الحكم من قبل القائد بلاستراس يساعده على ذلك كما قيل فنزياوس وفي مؤامرة الاغتيال التي أوشك فنزيلوس أن يكون من ضحاياها ما أهاج الرأي العام. وزاد في اضطرابه موعد أجراء الانتخابات في سلانيك الذي حدد في اليوم الثاني من شهر تموز وهي انتخابات ستكون حاسمة بشأن انحياز الأكثرية في مجلس النواب في اثينة إلى جانب حزب الشمال أو إلى جانب حزب اليمين. لم أكن أبغي البقاء طويلاً في بلاد اليونان ولكن حضور معركة انتخابية في سلانيك لا يخلو مما يفيد الإطلاع عليه.
29 حزيران: سلانيك
كنا في سفرنا من اثينة إلى سلانيك بعد أن وقفنا حيناً من الزمن في خليج فولو الهادئ وفي مركز اديبوس الشهير بحماماته، كأنما نجتاز مضيقاً من المضائق وكأنما الباخرة التي تقلنا هي إحدى تلك السفن ذات المقاذف التي تمخر عباب الأنهر الكبيرة في أمريكا، فلقد كانت تحاذينا عن كثب وعن يميننا وشمالنا الشواطئ اليابسة ومنعرجات جزيرة أويه وكان على ظهر الباخرة جمهور عظيم يتزاحمون بالمناكب ويرددون أقوالاً جميلة وأناشيد فخمة وجميعهم مسافرون إلى سلانيك ليضموا أصواتهم إلى أصوات ناخبي فنزيلوس. وبدت لنا كلانيك من أعماق خليجها ببنائها الجميل الأنيق منبسطة على سفوح جبل أولمبيا الذي حجبت ذروته كتل الضباب، ولا يصعب على الناظر لهذا الطود الرهيب أن يعرف السبب الذي حدا الإغريقيين القدماء أن يجعلوا منه مقراً ومسكتاً لآلهتهم.
لقد كان المرفأ مستقيماً قامت على جوانبه منازل حديثة غاية في النظام وحسن القياس ولا
تشبه بشيء منازل المدن الغريبة ذات المظهر المملوء بالغرور والعجرفة. ورأينا المدينة في هرج وهياج والمتنزهون يجتمعون زرافات حول صحيفة يقرأونها بلهفة أو حول لاصقي الإعلانات على جدران الشوارع أو حول بائعي الصحف الذين يملئون الفضاء بصراخهم. ولقد مررت بإحدى المراكز الانتخابية حيث يتجمهر الناس ورأيت رسوم رجال حزب اليمين مع زعيمهم تسالداريس وهو رجل تبدو عليه ملامح العامة ذو ذقن عريضة وشاربين أشعرين وعينين غلبت عليهما الصفرة تحيط بهما أجفان غليظة منتفخة. وفي مظاهر الرجل ما يشير إلى أنه ممن يعيرون أسماءهم وأنه سيعمل لإعادة الملكية القديمة إلى نيقولا أمير الإغريق. ولقد كان إلى جانب رسمه رسم قونديليس وهو يحارب كما قيل في الإعلان، لأجل حرية أخوانه في آسيا الصغرى. وقد لبس على رأسه قبعة كالتي يلبسها الشرطة وهو ذو عينين تدلان على قوة في الإرادة وملامح قائمة أشبه بملامح أبطال حرب الاستقلال وشار بين مصقولين منتصبين على الطراز الألماني. إن قوندليس هو مؤسس الاشتراكية الوطنية في بلاد اليونان وأن أكاليل الظفر التي يحملها موسوليني ومصطفى كمال وهتلر تمنعه من أن ينام هادئاً مستريحاً. ومن يدري فلعله هو الديكتاتور حاكم اليونان المطلق في الغد.
30 حزيران: سلانيك
سيعقد في هذا اليوم اجتماع سياسي عظيم وصول فنزيلوس الذي سيتولى بنفسه الدفاع عن النظام الجمهوري ضد أشياع تسالداريس وقونديليس. ولقد كانت أفواج من الوطنيين المكدونييين وجميعهم من الجمهوريين العتيدين قد هبطوا المدينة من الجبل الذي يسكنونه يسيرون في الشوارع حاملين على أيديهم رسماً كبيراً لفنزيلوس. وعلى شاطئ البحر جمهور عظيم من الناس يبلغ عدده العشرة آلاف على أقل تقدير. وتتألف هذه الجماهير من جميع الطبقات والأوساط ما عدا اليهود الذين ينتسبون لحزب قونديليس ومن الغريب أن فنزيلوس وهو على ما هو عليه من البراعة في أساليب السياسة والإطلاع على دخائلها وخفاياها قد ارتكب خطيئة سياسية كهذه فترك رجال جيشه يجعلون من مناوءة العنصر السامي ومعاداته بنداً من بنود برنامجهم السياسي.
كانت الساعة خمسة حينما نزل فنزيلوس من الباخرة تحييه الجماهير وتهتف له. إن
الشيخوخة لم تنل من هذا الرجل منذ سنة 1919 حينما رأيته وأنا ضائع بين الجمع الباريزي الحاشد يمر قاصداً مؤتمر الصلح حيث جاء موفداً لتمثيل بلاده. وهاأنذا أراه للمرة الثانية ولكن في بلاد اليونان. لقد وقف في إحدى الشرفات فحي الجماهير المتزاحمة المتراصة وخطب فيهم خطاباً استمر ساعتين من الزمن ولقد أظهر في خطابه الضرورة المبرمة للدفاع عن النظام الجمهوري والوقوف في وجه أخصامه وأعدائه مذكراً للناس بالحوادث الدامية التي أوشك هو نفسه أن يكون ضحيتها ثم انبرى كرجل خاض المعارك واختبر أسرارها وعرف روح الجماعات ونزعاتها الشعبية فأظهر للجمع الغفير شاردة الحزن التي أحاط بها ذراعه أحياء لذكرى رفاقه ممن ماتوا في سبيل الحرية. ولقد بلغ التأثر من نفس الجمهور مبلغاً عظيماً. فمهما قال أشياع تسالدرايس في هذا المساء وفي الغد فستكون محاولتهم عبثاً وأتعابهم سدى. لقد تمت الانتخابات منذ الآن ولقد تم النصر في هذه المرة أيضاً للسياسة الجمهورية في جزائر الإغريق على السياسة الوطنية الضيقة التي يقوم بها الوجهاء المعاكسون في اليونان كما كان شأنهم في ماضيهم القديم.
قضيت المساء على شاطئ البحر مع رهط من الشباب اليونانيين ممن يشتغلون في الصناعة والتجارة وممن درسوا في البعثة العلمانية فأجادوا التكلم باللغة الفرنسية وهم أشياع تسالداريس والمنضمين لحزبه لما يخشونه من محاذير النظام الجمهوري وتبعثر سلطة الحكم فيه. ولقد بينت لهم ما اعتقده من ظفر الحزب الجمهوري في الغد لكنهم لم يريدوا أن يشاركوني الاعتقاد بذلك.
لقد كنا نتحدث على شاطئ الخليج في وادي الفردار وعلى الشاطئ الثاني حيث تتراكم قطع الليل كان القمر العظيم يعلو متثاقلاً في صعوده مصبوغاً بلون الدم الأحمر.
1 -
تموز: على حدود بلاد الصرب
عزمت أن لا أتأخر أكثر مما تأخرت في سلانيك وأنه من العبث أن انتظر نتائج الانتخابات فأنا أعرفها سلفاً رغم ما يرتأيه أصدقائي اليونانيون بشأنها.
وددت السفر إلى مدينة صوفيا ولكن أخبار المساء في الأمس جاءت تنبئنا أن المدينة قد حوصرت عقب مؤامرة قام بها الشيوعيون من المكدونيين ولذلك فقد وليت وجهي شطر بلغراد وأوشك القطار أن يبلغ بنا الحدود الصربية دون أن أرى سوى ربوع سهل الفاردار
ذات المنظر الموحش والغلال التافهة الفقيرة بسنابلها الضعيفة ولقد قضينا الوقت منذ الطهر حتى الساعة الثالثة في محطة صغيرة من محطات القطار على حدود داوداليا ثم تابع القطار مسيره مجتازاً سهلاً قاحلاً تحيط به جبال قد أخضرت منها السفوح فقط. ولقد كان منظر الفقر والشقاء بادياً على أزياء وملامح الفلاحين الذين يشتغلون في الأرض، أما رجال الجيش فهم على الطراز الألماني غاية في حسن الهندام والانتظام. وبدأت المناظر تتنوع تدريجاً وأوشك الوادي الذي نعبره أن يكون ضيقاً بالقرب من دمير قابية فيصبح كممر أخضر تجري على جنباته سواقي غزيرة. وفي الفردار نواعير صغيرة تدور لم أكد أراها حتى هبت في نفسي ذكرى مدينة حماه وذكرى أصدقاء أحباء تركتهم فيها. لحماه منظر بهج يؤلف الآن قسماً من ذاتي فلن أنساه أبداً. ولرب صور بسيطة تعترضني في الآتي كهذه النواعير الصغيرة التي أراها فتحيي في أعماق قلبي عهداً غابراً محاطاً بالكآبة ومفعماً بالود والإخلاص.
ما أشرق الصبح حتى كنا في بلغراد.
يتبع
جان غولميه