الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرية ابن سينا في السعادة
السعادة من الأمور التي فكر الإنسان فيها من القدم فهام بها وعشقها، ولا يزال اليوم يبحث عنها كما يبحث الجائع عن الطعام. ذلك لأن ارتقاء الصناعة والرفاه لم يحسن حالة الإنسان ولا قربه من البهجة التي ينشدها والسعادة التي يحلم بها.
فالألم الذي كان يمزق الأحشاء ويضني النفوس في الماضي لا يزال اليوم يمزق أحشاء الملايين من الناس والغم الذي ساور نفوس الأقدمين زاد بازدياد حاجات الحياة وكثرة أسباب المعاش وتعقدها. نعم إن إنسان اليوم أحسن حالاً من الإنسان الأول ولكنك لا تزال ترى على وجه الأرض أنساً يتضورون جوعاً ويئنون تحت عبء البؤس والشقاء.
لقد بحث الفلاسفة منذ القدم في الطريق التي يجب على الإنسان سلوكها للوصول إلى السعادة وهم اليوم لا يزالون يبحثون أيضاً عن طريقة يبددون بها ما يحيط بالإنسانية من الظلمات. لكل زمان فلاسفة ولكل فيلسوف أحلام وكل خيال حقيقة. كل فيلسوف يضع في مصباح الحياة ذبالة جديدة وترتيباً جديداً فأما أن يصبح نور الحياة واضحاً بهذا الزيت الجديد وأما أن يمسى ضئيلاً. فما هو النور الجديد الذي وضعه ابن سينا في طريق الوصول إلى السعادة؟
1 -
الخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرف
أن رأي الشيخ الرئيس في السعادة تابع لرأيه في العناية الإلهية. وقد عرف ابن سينا هذه العناية الإلهية بقوله:
العناية هي إحاطة علم الأول بالكل وبالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على حسن نظام ومعنى ذلك أن العناية هي علم الإله بكل ما في الكون من الأشياء وبكل ما يجب أن تكون عليه ليتم اتسق الوجود ويكون الخير فيه غالباً على الشر. وهذا يدل على أن ابن سينا كثير التفاؤل. فهو يعتقد أن الخير يفيض من المبدع الأول على هذا العالم. كأن الموجودات كلها سابحة في بحر من الخير، كل منها ينال من الخير ما هو جدير به وما هو لائق له. وهذا النظام هو احسن نظام يمكن أن يكون عليه الوجود، وهذا العالم هو أحسن ما يمكن أن يتصوره العقل ويدركه الخيال.
ولكن كيف وجد الشر في هذا العالم وما هي حكمة الله من وجوده. كيف فاض الشر من المبدع الأول وهو خير مطلق. هو تتولد الظلمة من النور، أم هل ينشأ النقص عن الكمال.
الجواب على ذلك أن الشر ليس الغالب في الوجود لأن الخير، كما يقول ابن سينا مقتضى بالذات أما الشر فمقتضى بالعرض ومعنى ذلك أن الإله لا يريد إلا الخير، وهو ينفح الوجود بنسماته ولم يتولد الشر إلا من المادة ولذلك كان الشر غير موجود في الأفق الأعلى بل هو موجود دون فلك القمر أي في عالم الكون والفساد.
ولكن لماذا وجد الشر؟ ألم يكن في وسع المبدع الأول أن يوجد خيراً مطلقاً مبرأّ عن الشر (نجاة ص 4710) ألم يكن في وسع المدبر الحكيم أن يبدع اللذة ولكن في غير هذا النمط من الوجود. إلا أن هذا العالم يقتضي وجود الخير مع الشر، وهو عالم القوة والفعل وحيث توجد القوة لا بد من وجود الإمكان والنقص أي لا بد من وجود الشر. إلا أن هذا الشر هو أقل ذيوعاً من الخير. ولو كان طبيعة الوجود، والشر من طبيعة العدم. فالخير الكلي يقتضي وجود الشر الجزئي ولا معنى للخير بدون الشر كما أنه لا معنى للنور يدون الظلمة.
ولكن لماذا خلق العالم على هذا النمط؟ أليس من الممكن أن يكون الوجود كله خيراً مطلقاً. لا محل لهذا السؤال في فلسفة ابن سينا لأنه جعل الإنسان في فهم حقيقة الخير والشر قاصراً عن إدراك حكمة الخالق. قال (لو كان أمر الله تعالى كأمرك وصوابه كصوابك وجميله كجميلك وقبيحه كقبيحك، لما خلق أبا الأشبال أعصل الأنساب أحجن البرائن لا يغذوه العشب. فالإله لا يراعي ما نراعي نحن في حكامنا الضيقة وأحلامنا القاصرة بل ينظر إلى الوجود الكلي ونحن لا ننظر إلا الوجود الجزئي.
2 -
السعادة ليست في اللذة
الإنسان قادر بعقله أن يميز بين الفضيلة والرذيلة فيميل إلى الخير ويتجنب الشر ولكن ما هو الشيء الذي نبحث عنها جميعاً ونرغب فيه؟ الأحياء كلها ترغب في اللذة. ولكن هل يمكن أن يقال أن السعادة في اللذة؟
إن رأى ابن سينا في اللذة لا يختلف بالجملة عن رأي أرسطو القائل أن اللذة في الفعل. لكل فعل قوة تحدثه ولكل قوة من القوى النفسانية لذة تخصها. مثال ذلك أن لذة الغضب الظفر، ولذة الوهم الرجاء، ولذة الحفظ تذكر الأمور الماضية فالشعور بكل ما يلائم هذه القوى يولد لذة، وهذه اللذة هي إدراك الكمال. وكلما كان الكمال الذي تحصل عليه النفس
أتم وأفضل كانت اللذة التي ندركها أبلغ وأشد.
على أن ابن سينا لا يرى السعادة في ابتاع كل لذة بل يراها في الكمال والخير يدل على ذلك انقسام اللذات عنده إلى عاليه وخسيسة. فالجاهل الذي لا يدرك اللذات العالية ولا يشعر بها أشبه بالأصم الذي لا يدرك الألحان اللذيذة والأكمه الذي لا يشعر بالألوان الجميلة. وكيف تقاس هذه اللذة العالية بتلك اللذة الحسية الخسيسة. نعم إننا في عالم المادة المظلم يمنعنا حجاب الحس من إدراك المثل الأعلى ولكنا إذا خلعنا ربقة الشهوة والغضب من أعناقنا وطالعنا شيئاً من تلك اللذة السامية، فحينئذ ربما تخيلنا منها خيالاً طفيفاً خفيفاً:(نجاة - 482). فاللذات المعنوية إذن أفضل من اللذات المادية. وكثيراً ما يفضل الإنسان الألم الفادح على اللذة السائحة. فإذا علم أن اللذة ستسوقه إلى افتضاح أو خجل أو تعيير أو شوق أعرض عنها. ولذلك كانت الغايات العقلية السامية أكرم على النفس من الشهوات الخسيسة التي يحتقرها العاقل ويستخف بها الحكيم. أما النفوس الخسيسة فإنها لا تدرك إلا القريب ولا تبتهج إلا بالمحسوس ولا تتطلع إلى ما في الأمور العالية لأن اللذات الخالدة قال ابن سينا: إذا كنت في البدن وشواغله وعلائقه ولم تشتق إلى كمالك المناسب أو لم تتألم بحصول ضده فاعلم أن ذلك منك لا منه (إشارات 94) يريد بذلك أن فقدان الاشتياق إلى الكمال وعدم التألم من الجهل راجع إلينا لا إلى المعقولات. لأن إشغال النفس بالشهوات واتصالها بالمادة يمنعانها من الالتفات إلى الملأ إلا على. قال: إن النفوس السليمة التي هي على الفطرة، إذا سمعت ذكراً روحانياً غشيها غاش شائق لا يعرف سببه وأصابها وجد مبرح ولذة مفرحة يفضي ذلك إلى حيرة ودهش. فالنفوس قادرة إذن بما فيها من الاستعداد والشوق أن تصل إلى شيء من السعادة في هذه الدنيا وذلك بالتأمل والتفكير في المبادئ الروحانية إلى الخلود.
3 -
مراتب النفوس البشرية
قسم ابن سينا النفوس إلى مراتب وقال أنها على اختلاف أنواعها قادرة على إدراك اللذة الحقيقية قبل الموت.
إن أجل سعيد وأحسن مبتهج بذاته هو المبدع الأول ويتلوه في مراتب السعادة الجواهر العلوية التي تبتهج بذواتها وتتأمل خالقها. فكما كانت الجواهر قريبة من المبدع الأول كانت
أكثر كمالاً وأشد عشقاً واشتياقاً، وكلما ابتعدت عنه قلت سعادتها وخف كمالها.
ثم يتلو مراتب الجواهر العلوية مرتبة العشاق المشتاقين فهم من حيث هم عشاق
قد نالوا قسطاً من الكمال وهم بما حصلوا عليه من الكمال مبتهجون سعيدون. نعم
انه قد يكون لهم أصناف من الأذى من حيث هم مشتاقون، لأن الشوق يولد العذاب إلا أن هذا الأذى الذي يصيبهم لذيذ، وهذا الشوق الذي يحرك نفوسهم عذب.
ثم يتلو هذه النفوس نفوس أخرى بشرية مترددة بين جهتي الربوبيه والسفالة لا هي في المثل الأعلى ولاهي في الحضيض، بل تارة تسمو وتارة تنحط من درجة إلى درجة.
ويتلو هذه المرتبة مرتبة أخرى هي في الحضيض الأسفل من المادة. قال ابن سينا: وهي مرتبة النفوس المغموسة في عالم الطبيعة المنحوسة التي لا مفاصل لرقابها المنكوسة وأصحاب هذه النفوس هم بدون شك أشقى المخلوقات وأكثرهم بؤسا وأسؤهم حالاً.
4 -
مقامات العارفين
ثم إن ابن سينا بعد أن ذكر أنواع ابتهاج الموجودات بكمالاتها المختصة بها عاد إلى ذكر أهل الكمال من النوع الإنساني فقال: إن للعارفين مقامات ودرجات يخصون بها وهم في حياتهم الدنيا دون غيرهم فكأنهم وهم في جلابيب من أبدانهم قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس ولهم أمور حفية فيهم وأمور ظاهرة عنهم يستنكرها من ينكرها ويستكبرها من يعرفها (إشارات، ص - 101). إن هؤلاء العارفين هم المتصوفون الذين يتوصلون بالرياضة إلى مشاهدات يعجز عن إدراكها الوهم والمتصوفون في رأي ابن سينا هم أهل البهجة والسعادة في هذه الحياة.
وقد ذكر ابن سينا صفات العارف المتخلي عن شواغل البدن بألفاظ ساحرة فقال:
العارف هش بش بسام يبجل الصغير من تواضعه كما يبجل الكبير وينبسط من الخامل كما ينبسط من النبيه. وكيف لا يهش وهو فرحان بالحق وبكل شي يرى فيه الحق ولا فرق عنده بين الكبير والصغير ولا يعرف الطمع سبيلا إلى قلبه وهذا الخلق هو خلق الرضا والقناعة فلا يخاف العارف من هجوم شيء ولا يحزن على فوات شيء بل يفرح ويبتهج بما أدركه كما يبتهج العاشق بالوصول إلى حبيبه.
العارف لا يعنيه التجسس ولا التحسس ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه
الرحمة. وإذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح لا بعنف معير وذلك لشفقته وحبه.
العارف شجاع وكيف لا وهو بمعزل عن خوف الموت. وجواد وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل وصفاح للذنوب وكيف لا ونفسه أكبر من أن تجرحها ذلة بشر ونساء للأحقاد وكيف لا وذكره مشغول بالحق.
العارف يفضل التقشف على الترف ولربما ارتاد البهاء في كل شيء وأصغى إلى
الزينة وأحب من كل جنس أكرمه.
العارف هو المنصرف بفكره إلى الأفق الأعلى والمستديم لشروق النور عليه. والزهد عند العارف تنزه والعبادة رياضة لا يطلب منها ثواباً ولا يتجنب بها عقاباً وهو يريد الحق لا بشيء غيره ولا يؤثر شيئاً على عرفانه به وتعبده له للعارف في الوصول إلى الملأ الأعلى درجات وهذه الدرجات تنقسم إلى قسمين درجات السلوك ودرجات الوصول.
فأول درجات السلوك درجة الإرادة وهي ما يعتري المتطلع إلى العالم الروحاني من الرغبة في الاعتصام بالعروة الوثقى والاتجاه نحو الحق ويسمى صاحب هذه المرتبة بالمريد.
ثم تأني درجة الرياضة لان المريد محتاج إليها وهي عبارة عن نهي النفس عن هداها وأمرها بطاعة مولاها (إشارات 115) ومنعها من الالتفات إلى سوى الحق ثم إذا بلغت الإرادة بالمريد حداً أعلى من الأول سنحت له خلسات يطلع بها على نور الحق وهي خلسات لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه وتسمى هذه الخلسات عند المتصوفين أوقاتاً. وقد يرتقي المريد إلى أكثر من ذلك في الرياضة فيرى الحق في كل شيء.
ثم أنه لتبلغ به الرياضة مبلغاً يصير فيه المخطوف مألوفاً والوميض شهاباً ويتم له
معارفة مستقرة كأنها صحية مستمرة.
ثم يرتقي من مرتبة أدنى إلى مرتبة أعلى حتى يعبر درجة الرياضة ويقترب من الله فيتمثل فيه جمال المبدع وتقضي عليه اللذات الحقيقية.
ثم انه ليغيب عن نفسه فلا يرى إلا المعبود ولا يلحظ إلا جمال الحق وينسى نفسه. وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة لا من حيث هي ذات زينة. وهذه المتصوفة
إلى درجة المحو والفناء.
غير أن ابن سينا لم يصف لنا هذه الدرجات بل قال: إن هذه الدرجات لا يفهمها
الحديث ولا تشرحها العبارة ولا يكشف المقال فيها غير الخيال ومن أحب أن يتعرفها فليتدرج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة ومن الواصلين إلى
العين دون السامعين إلى الأثر. (إشارات ص - 121) وهناك لا يبقى كما قال الطوسي واصف ولا موصوف ولا سالك ولا مسلوك ولا عارف ولا معروف أو كما قال الغزالي في المنقذ من الضلال، هناك درجات يضيق عنها نطاق العقل ولا
يحاول معبر أن يعبر عنها بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول:
وكان ما كان مما لست أذكره
…
فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
تلك هي مقامات العارفين الذين يرتقون من نطاق الطبيعة الضيق إلى فضاء العقل
الواسع وكل ما ذكرته حتى الآن من أحوالهم دليل على أن النفس قادرة في مذهب
الشيخ الرئيس أن تنال أوقاتاً من السعادة الحقيقية وهي في البدن. وذلك بتكميل قوتها النظرية بالعلوم وتهذيب قوتها العملية بالفضائل التي أصولها العفة والشجاعة والعدالة ليس بإتباع اللذة الحسية والشهوة العمياء بل بإيثار اللذة العالية المطابقة للحكمة. وهذا ما يرفع النفس ويبلغ بها درجات الكمال حتى لقد يصرفها عن هذا العالم الدنيء ويرتقي بها إلى الملأ الأعلى حيث تستطيع أن ترى الحق وتتصل به وتدرك من السعادة درجة لا يمكن وصفها.
جميل صليبا