المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المرأة والأدب للآنسة وداد سكاكيني عفا الله عن أبي العلاء المعري حين - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٦

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌المرأة والأدب للآنسة وداد سكاكيني عفا الله عن أبي العلاء المعري حين

‌المرأة والأدب

للآنسة وداد سكاكيني

عفا الله عن أبي العلاء المعري حين قال:

فحمل مغازل النسوان أولى

بهن من اليراع مقلمات

وليسامحه الله على قوله:

إن نشأت بنتك في نعمة

فألزمنها البيت والمغزلا

فقد شاءت طبيعته المتشائمة أن لا يكون للمرأة من المثل العليا إلا هذه الصورة الوضيعة التي يرسمها في مطاوي لزومياته الخالدة، وهي التقلب على فراش النعمة والانصراف إلى تدبير المنزل وشغل فراغ وقتها في حمل المغزل لكي لا تبقى لديها فرصة للتفكير فيما عدا ذلك من قضايا الحياة التي لا بد أن تلمع في ذهنها وتقع في خلدها.

والواقع أن المعري كان شديد الحذر م الناس لا يتعفف عن إساءة الظن بأحد منهم، ونحن نعلم أن ظنونه السيئة كانت نتيجة تلك الطبيعة المتشائمة التي استبدت بعقله الكبير فجعلته قاسياً في نقمته على الحياة ينظر إليها بعين السخر والوجل فيراها مليئة بالبؤس والغناء وتطغى في نفسه موجة السخط عليها فينطلق لسانه الذرب بذمها وهجائها والتنديد بزخرفها الباطل، وينكر على الناس تدافعهم للارتماء في بركانها النائر فبوسعهم نقداً وتقريعاً وتهكماً ثم تأخذه الرأفة بهم فيبكيهم في حنو وإشفاق:

تعب كلها الحياة فما

أعجب إلا من راغب في ازدياد

كان يرى الحياة بحراً من الدموع تطفو على سطحه سفائن التعس والعذاب وألواح الهم والشقاء وأن الناس ينطوون على قلوب مريضة تزخر بالخبث والطمع والرياء فلا صديق يخلص إليك سراً وعلانية ولا حبيب ينهالك عليك إلا ليقضي حاجة له، بل الناس عنده سواسية لا يفضل بعضهم بعضاً فكل منهم يسعى لنفسه ويحاول جر الماء إلى غرسه ولو أدى ذلك

كان يرى الحياة بحراً من الدموع تطفو على سطحه سفائن التعس والعذاب وألواح الهم والشقاء وأن الناس ينطوون على قلوب مريضة تزخر بالخبث والطمع والرياء فلا صديق يخلص إليك سراً وعلانية ولا حبيب يتهالك عليك إلا ليقضي حاجة له، بل الناس عنده

ص: 21

سواسية لا يفضل بعضهم بعضاً فكل منهم يسعى لنفسه ويحاول جر الماء إلى غرسه ولو أدى ذلك إلى إنزال المصائب بالآخرين فيحذرك م الانخداع بمظاهر صداقتهم صائحاً بك:

فظن بسائر الإخوان شراً

ولا تأمن على سر فؤادا

وكان طبيعياً وقد امتدت نقمته إلى كل شيء وتناول الدين والدنيا بسخره الممزوج بالشك - أن يصيب المرأة رشاش من تلك النقمة والسخرية فيود أن يحجز عابها في البيت حيث تعمل في مغزلها ويهيب بالرجل أن يباعد بينها وبين القراءة والكتابة.

علموهن النسيج والغزل والر

دن وخلوا قراءة وكتابة

فصلاة الفتاة بالحمد والإخ - لاص تجزي عن يونس وبراءة

ويظهر لنا من كلامه أن كان يعتقد أن تعليم المرأة مدعاة لفسادها وضلالها وأنه شر يجدر بالرجل أن يتقيه قبل نزوله، وإذا كان لا بد من وقوع هذا الشر فيتول مهمة تعليمها أما شيخ فإن وأما عجوز بالية

ليأخذن التلاوة من عجوز

من اللائي فغرن مهمات

ولا يدنين من رجال ضرير

يعلمهن آياً محكمات

سوى من كان مرتعشاً يداه

ولمته من المنثغمات

إذن فدق بلغ منه سوء الظن أنه لم يكن يعتقد العفة بأحد من الناس ولذلك نراه يدعو إلى منع الغلام اليافع من الدخول على النساء

إذا بلغ الوليد لديك عشرا

فلا يدخل على الحرم الوليد

وقد لا نفتري على الحقيقة إذا قلنا أن المعري من الشعراء الخالدين الذين تركوا في آثارهم صوراً نواطق بحوادث عصورهم وأحوال بلادهم وأخلاق أمنهم فقد عاش في عصر كان يزخر بألوان الرفه والترف وإحداث التفازع ولا أراني بحاجة لأن أحدثك عن حياة البذخ والترف في بغداد أيام الرشيد وفي عهد من جاء بعده من الخلفاء لأنك عليم بذلك وتعرف أن اختلاط الغارب بالأعاجم وتمازجهم ذلك التماذج الشديد قد أحدث الفوضى في أخلاق الناس وآدابهم العامة، فتسرب شيء غير قليل من الوهن والاستهتار إلى أخلاق النساء حمل بعضهن على خلع العذار، ولا مراء في أن أخبار هذه الفئة الماجنة قد وصلت إلى أبي العلاء وهو في محبسه ووقف بنفسه على بعضها في رحلته إلى عاصمة العباسيين

ص: 22

فكان ذلك بالإضافة إلى طبيعته المتشائمة حافزاً لقوله بحرمان المرأة من طلب العلم والاختلاف إلى مجالس الأدب ومنعها عن الظهور في الشوارع والتشدد في الحجاب.

تهتك الستر بالجلوس أما ال - ستر إن غنت القيان وراءه

والمعري حين يقول هذا ينظر إلى الصورة التي رسمها للمرأة في ذهنه وأنت تراها صورة مشوهة وضيعة تستحق منه تلك النقمة التي كان يصبها عليها، ولعي لا أظلم هذا الشاعر الفيلسوف إذا قلت أن رأيه السيئ في المرأة هو إحدى هفواته الكبرى، ويكفي للدلالة على فساد نظره وسوء ظنه أن نتذكر جهود الرجل في عصرنا هذا للنهوض بالمرأة إلى المستوى الذي يليق بكرامته وكرامتها على السواء، فهو الذي يمهد لها سبل التعلم والتثقف ويعاونها على تشييد صرح نهضتها الحديثة لتؤدي واجبات الأمومة ومطالب الأسرة وحاجات جنسها على الوجه الأكمل وهل يتسنى لها ذلك كله إذا لم تكن مهذبة مثقفة، وهل الثقافة شيء يعدو دائرة هذه الأشياء؟

وبعد فمالنا ولأبي العلاء الناقم على الحياة والناس أجمعين فمهما تعمقنا في درسه لم نجد عنده مثقال ذرة من العطف على المرأة فلنتركه للمتشائمين فهم أولى به منها ولنعطف على غيره من أدباء العرب الأفذاذ فربما وجدنا حاجتنا عندهم.

ذكر الجاحظ في كتابه المحاسن والأضداد في أواخر كلامه على فضلا الكتاب والكتابة ما يلي:

قال الزهري الأدب ذرك لا يحبه إلا الذكور من الرجال ولا يبغضه إلا مؤنثهم فهل نفهم أن كان يرمي بذلك إلى الأدب من صناعات الرجال وإن إتقان فنونه وتجويد أساليبه من مزاياهم ومقاصدهم وإنه إذا أعرض رجل عنه فلأن طبائعه محشورة في طبائع النساء وسجاياهن؟

ما أظن أنه قد قصد ذلك وأن يكن هو ما نفهمه من معناه البارز

لقد رمى الزهري بالتخنث من مال عن الأدب من الرجال تعييباً وتقريعاً، ولكن الأدب لم يكن قط من حظ الذكور على حقيقته وليس هو مما يقتصر على الرجال كما يقول الزهري إذا أخذنا قوله بمعناه الظاهر، وما ألفينا أحداً من أعلام الأدب المتقدمين والمتأخرين يعيب في كتبه ومصنفاته على النساء نزوعهن إلى الأدب أو ينسج على منوال المعري فيحظره

ص: 23

عليهن وينصح بحرمانهن من التعلم والتفقه فالجاحظ صاحب هذه الرواية يحشو كتبه ومؤلفاته أخباراً عن النساء المتأدبات ويحدثنا بها عن البارعات منهن في فنون الشعر والحكمة والغناء، ولا يستنكف من القول في أواخر وسائله: وسلنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل أن النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقة أو طبقتين أو بأكثر. .

إذن فهذه الشهادة يدلي بها شيخ أدباء العرب جديرة بالتقدير والاعتبار والحق أنه ليس من الأنصاف أن تهم المرأة في قلة المقدرة والعجز عن الوقوف والرجل على قدم المساواة في إتقان فنون الأدب ومعرفة مداخله ومخارجه والتغلغل في مدابه ومخوافيه.

لمعت في ذهني هذه الآراء وأنا أفكر بجهل النساء عندنا أدب لغتهن المجيدة وتخلف المتعلمات منهن في مضمار الإنتاج الأدبي وصدوف الفتيات عن الثقافة العربية وعقوقهن لها، وفي الوقت نفسه تذكرت أن علماء الاجتماع يعزون بلوغ الفردسنام العلم والفضل إلى طبيعة الزمن الذي يعش فيه والبيئة التي يطوي فيها بساط عمره حتى تتفتق أكمام مواهبه فيكون ذلك الأديب النابه أو الشاعر البارع.

فالناس في عصر المأمون الذهبي كانوا يتنفسون الأدب الرفيع في كل شيء تقع حواسهم عليه وكانت نهضة النقل والترجمة تضطرهم إلى العناية بأدبهم فكان ذلك موجباً إلى ارتفاع مجد الأدب العربي وتألق نجمه في العصور التي تقدمت فترة الانحطاط.

ولقد حدثنا أصحاب الأخبار في ثنايا كثير من المصنفات القديمة. إن إقبال الناس على اقتناء الجواري المثقفات كان أشد منه على الجميلات منهن، وكان ثمن الجارية يقدر بنسبة حظها من العلم والمعرفة وليس على قدر نصيبها من الحسن والجمال.

وأبو الفرج صاحب الأغاني ذكر كثيراً من أخبار عنان مع أبي نواس وغيره، وقد كانت عنان هذه جارية الناطفي صديقة للشعراء وكانت من أجمل الناس وجهاً وأحسنهن أدباً وأوسعهن معرفة بفنون الشعر وألوان الكلام.

قيل أن أحدهم دخل عليها وكان عندها رجل إعرابي فقال له: يا عم لقد أتي الله بك فقال: وما ذاك؟ قالت دخل علي هذا الإعرابي قائلاً: بلغني أنك تقولين الشعر فأنشديني شيئاً فقال لها: انشديه فقال: قد أرتج علي فقل أنت أولاً فانشد:

لقد جد الفراق وعيل صبري

عشية عيرهم للبين زمت

ص: 24

فقال الإعرابي:

نظرت إلى أواخرها ضحيا

وقد بانت وأرض الشام أمت

فقال عنان:

كتمت هواكم بالقلب مني

ولكن الدموع علي نمت

كان الأدب في عصر المأمون الذهبي وفي العصور التي تلته يرن صوته في مختلف الأرجاء، يغر أنه لما ضعفت الأمة العربية وتضعضع كيانها السياسي كسد سوق العلم والثقافة وقل أنصار أهل الأدب والمعرفة وتضاءل شأن العلماء، وقد وجد بنيهم.

من يستجدي في شعره كابن التعاويذي وابن الخياط الدمشقي وأبي اسحق الغزي القائل:

قالوا تركت الشعر قلت ضرورة

باب الدواعي والبواعث مغلق

لم يبق في الدنيا كريم يرتجى

منه النوال ولا مليح يعشق

ومن العجائب أنه لا يشترى

ويخان فيه مع الكساد ويسرق

وهكذا ظل يتفاقم الاضطراب السياسي والأخلاقي حتى أجناح المرأة فتركها خائرة النفس حائرة الروح سقيمة القلب، تبدو في أعمالها رخاوة تشف عن فساد أخلاقها وقد لمس ذلك كله أبو العلاء المعري فإذا بهذا الشاعر البصير الضير يصوره لنا أشنع تصوير وصيحوا بالناس أن جنبوا المرأة تعلم القراءة والكتابة واحجروا عليها في البيت وأشغلوا فراغ وقتها بالنسج والغزل فذلك خير لها من حمل القلم وأبقى.

وزبدة القول أن أعراض المرأة في أيامنا هذه عن الأدب يجب أن يعود إلى حال عصرنا فنحن في أوائل نهضة علمية وأدبية قد ذر قرنها قليلاً فإذا مشت بنا الأيام وعم التعليم بين الجنسين رأينا الأدبيات كثيرات، وقد أقبلن على الأدب وتدافعن على فنون وألوانه بلذة وشغف كأسراب الطيور العطاش حين ترد الماء أو تلتقط الحب المذرور.

إن الزمن هو صاحب هذه الرهائن. وهو جنان يتعهد مغارس القطن حتى تثمر في منابتها بيد أني أتلمس علاجاً ربما كان ناجعاً وهو ممن يحبب الأدباء الأدب إلى النساء، أن يقربوه إلى مداركهن ويغروهن بالمطالعة الجدية وأن يكتب كثير من الأدباء صور النساء فيه حتى يرين هذه الصور فيدخل الأدب بها على قلوبهن لأن أجمل ما عند المرأة وألذ أن ترى نفسها بمرآة الرجل.

ص: 25

لقد كان عمر بن أبي ربيعة يحبب الشعر إلى قلوب الناس بما ذكر فيه من صورهن وطبائعهن وأحاديثهن وأذواقهن فكان شعره في العصر الأول الهجري ألحان أهل الحجاز ومزاميرهم ومرآة تتجلى فيها حالة المرأة.

قيل مرت ظبية، مولاة فاطمة بنت عمران بن مصعب على عبد الله بن مصعب ومعها دفتر تتأبطه فنادها ما هذا معك يا ظبية؟! فقالت شعر بن أبي ربيعة يا سيدي فأجاب: ويحك تدخلين على النساء بشعر ابن أبي ربيعة، أن لشعره لموقعاً في القلوب ومدخلاً إلى النفوس ولو كان شعر يسحر لسكان هو.

والأدب في حقيقته وطبيعته لا ينال عنوةً وتكلفاً وكرهاً قال الأستاذ لانسون الأدب لا يعلمه المرء علماً ولا يدرسه دراسة وإنما يمارسه ويحرثه ويحبه فإذا حبب الأدب إلى الفتاة استخلصته لنفسها وتيقظ فيها الشعور بمحاسن الآثار ومقابحها فتتخذه مثقفاً لطبعها ومهذباً لذوقها وهي إذا تعلمت في مستهل دراستها روائع من منثورة وبدائع من منظومة فيها سهولة وجمال وفيها عاطفة ووصف انبسط أمامها أفق الأدب الفسيح واستفاضت في خواطرها لذته ومتعته ونمسرته فتنهل من موارده السائغة ولا ترتوي.

ولا بد لأدبنا العربي من علماء يخلصون المحبة له ويعنون بيت الثقافة الأدبية واستهواه النفوس إليها وحينئذ تهواه المرأة وتراه وحده ثقاف عقلها وصقال روحها وفي سموها ورفعتهما جمالها وجلالها.

وأي فضل أعظم من فضل العلم والأدب على الناس فقد قال ابن عبد ربه: العلم والأدب قطبان عليهما مدار الدين والدنيا وفرق ما بين الإنسان والحيوان وما بين الطبيعة الملكية والطبيعة البهمية وهما مادة العقل وسراج البدن ونور القلب وعماد الروح.

وسأل منصور بن المهدي الخليفة المأمون: أيحسن بنا طلب الأدب؟ قال: والله لأن أموت طالباً للعم والأدب خير لي بأن أعيش قانعاً بالجهل، قال فإلى متى يحسن؟ قال: ما حسنت بك الحياة.

ويكفيني المؤونة في ذكر فضل الأدب ما قال ابن الرومي الذي مات وبقلبه حسرة أليمة على ضياع آدابه في عصره:

إن امرءاً رفض المكاسب واغتدى

يتعلم الآداب حتى احكما

ص: 26

ثقة برعي الأكرمين حقوقه=لا حق ملتمس بأن لا يحرما

بيروت:

وداد سكاكيني

ص: 27