الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثقافة وعلاقتها بعبقرية الشعوب
للفيلسوف رضا توفيق
تعريب جميل صليبا
من المسائل ذات البال التي تعد في أيامنا هذه في الدرجة الأولى من الخطورة مسألة أوحى إلي بها اسم هذه المجلة الراقية فكتبت مقالي الأول فيها ولم ألم بأطراف البحث إلا قليلاً.
لم يكن مقالي إلا إشارة أولى لتوجيه انتباه الشبيبة العربية المفكرة إلى جملة من المسائل التي تعرض للباحث عند أمعان النظر في أمور الثقافة.
ومن عانى هذه الأمور أدرك أن صور الثقافة تختلف بحسب الأدوار التاريخية الأساسية التي قطعتها البشرية في تطورها وبحسب الظروف التي امتازت بها هذه الأدوار على غيرها، هذا فضلاً عن اختلافها بالنسبة إلى المحيط الطبيعي والاجتماعي أو بالنسبة إلى العبقرية والذوق الفني والمزاج القومي.
إن كل مسألة من هذه المسائل الأساسية تكتشف عن جملة من المسائل العويصة، لم يبحث فيها أحد - فيما أعلم - لا الغاية أو لغرض. ولو عالجها العلماء بصورة علمية لما تأخر حلها إلى أيامنا هذه.
وهي بالرغم من ذلك تتطلب حلاً - ولو مؤقتاً - لأن لها خطورة عملية ومنفعة حيوية واسعة النطاق.
وكلما خطرت هذه المسائل ببال المرء وتصورها بوضوح شعر بضرورة الاهتمام بها اهتماماً شديداً. ولكن المفكرين لم يدركوا خطورة هذه المباحث ولم يشعروا بأهميتها إلا في الآونة الأخيرة.
إن درس الثقافة درساً منظماً يكشف عن كثير من العلائق المشتبكة بغيرها من العوامل المستعصية والحوادث الهامة التي ساعدت على انتشار الحياة الفكرية بين الأفراد والمجتمعات وعلى ذلك فالبحث والتدقيق في هذه الأمور التي لم يعرف موضوعها ولم يحدد نطاقها بعد، يقود الباحث - إذا خضع لمنطق الحوادث - إلى هذا النوع من القضايا. وأني له أن يفهمها إذا لم يتصل بتاريخ الشعب ويألف عبقريته التي أبدعت هذه الثقافة. أقول على الباحث في هذه المسائل أن يعرف فضائل الشعوب وآدابها ومذاهبها الفلسفية
وعقائدها الدينية وأمانيها ومثلها العليا، وإن يجاريها في ذوقها الفني، ويمازج على قدر طاقته أحلامها.
ولكن كيف السبيل إلى متابعة البحث بالنزاهة الفكرية اللازمة المكشف عن الحقائق المستترة وراء هذه المعضلات؟ إن العواطف الشخصية والميول القومية تمازج هذه الحوادث وتعمل على تبديلها. وهل يمكن التجرد من تأثير العطف والنفور عند البحث في هذه الأشياء الإنسانية التي نطلق عليها اسم الثقافة؟ إذ كثيراً ما يكون تأثير العواطف في البحث العلمي قوياً، بحيث لا يمكن التغلب عليه، فيمنع الباحث من إدراك غايته المجردة ويؤثر في نتائجه أسوأ تأثير.
ليس للعواطف شأن في دراسة العلوم الصحيحة المجردة كالرياضيات، ولذلك كان البحث عن حقائقها سهلاً جداً. انظر إلى الأعداد والدساتير المجردة، أنها بعيدة عن أهوائنا وليس لها علاقة بحياتنا الاجتماعية ولا بآبائنا القومي أو عقائدنا المقدسة أو أوضاعنا القديمة وتاريخنا الماضي ورغباتنا الحاضرة وآمالنا.
أما أمور الثقافة فإن الباحث لا يستطيع أن يتجرد فيها عن عواطفه لأنها تدل على كياننا الروحي وقيمتنا الأخلاقية وثروتنا الفنية والأدبية. لذلك اختلف العلماء فيما بينهم لا بل ناقض بعضهم بعضاً عند البحث في هذه المسائل. لأنهم كلما ساقهم البحث إلى النظر في أمور الثقافة عجزوا عن التغلب على عاطفته القومية واصطدموا لا محالة بقضية الجنس.
ولكن كيف التراجع أمام هذا (الاسفنكس)، دون الجواب بصورة صحيحة عن الأسرار التي يلقيها علينا؟ الفكر يتردد تحت تأثير هذا الميل الأعمى ويظن أن قومه فوق كل قوم وأنه نقي خالص من كل شائبة أجنبية شائنة. إن هذا الصلف يفسد حكم الباحث بالأدلة السفسطائية التي تقوم عليها محاكماته البعيدة عن المنطق الصحيح وعند ذلك تجد المناقشة قد انتقلت من البحث في أمور الثقافة إلى البحث في أفضلية القومية وامتياز جنسية الباحث على جنسية غيره. وتجد الباحثين إذا أرادوا ركز فرضياتهم السريعة التي خاطروا بها على الحوادث المشخصة يستقون أدلتهم من العلوم التي لم تثبت حقائقها بعد كعلم فراسة الرأس وعلم الأقوام وعلم وصف الجماعات وعلم منشأ اللغات وعلم الجغرافيا التاريخية وعلم الأساطير وغير ذلك من العلوم التي لا أدري ما اسميها.
أني أتابع منذ ثلاثين سنة تقريباً هذه الحركة الفكرية فأوصلتني دراستي الطويلة وتأملاتي العميقة إلى نتيجة لابد لي من الجهر بها. وهي أن النتائج التي نتوصل إليها بأحكامنا الباطلة التي أفسدها الصلف وشوهها الإعجاب بالنفس أو أوحت بها العصبية القومية لا يمكن أن تكون إلا رأياً من الآراء أو فرضية من الفرضيات، لا حقيقة علمية يقينية.
ومما يؤسف له أن هذه الفرضيات المتناقصة التي تبحث في منافع الأمم الحيوية وكيانها الوطني تزيد الخلاف الزمني بينها وتولد النفور وتمنع شفاء الأحقاد وإعادة السلام والنظام والتعاون والاتساق إلى عناصر هذا العالم المتمدن. ولو كانت هذه الفرضيات حقائق علمية راهنة لكانت النتيجة على عكس ذلك.
أنا أعرف جيداً أن العلم لا يستغني عن الفرضيات، لأن الفرضية هي ظل الحقيقة والعالم يسعى جهده لأن ينير هذا الظل ويجعله واضحاً. ولكن أحسن الفرضيات بناء يتهدم بسرعة إذا تقتضيه حادثة واحدة. إذن لسنا بحاجة إلى قبول هذه الفرضيات الوهمية في علم ليس له من الصحة نصيب وافر كتاريخ المدينة والثقافة، لأن هذه الفرضيات الوهمية قد يصدرها أصحابها بسرعة أو لغاية قومية فيرضون بها كبرياءهم أو تفوق أجناسهم. ومما لاشك فيه أن خير وسيلة لمعالجة هذا النوع من المباحث وأول شريطة يجب تحقيقها هي أن يتفق العلماء على ملاحظة الحوادث. ولكننا نصادف في هذا النوع من البحث مشاكل نكاد لا نستطيع التغلب عليها، وذلك أن الحوادث التي يبحث فيها تاريخ الثقافة أو فلسفة التاريخ ليست حوادث بسيطة كالحوادث التي تدرسها الكيمياء أو يبحث فيها علم الطبيعة (الفيزياء) لأنها حوادث نفسية واجتماعية تدل بإحدى صورها على أحلام النفس البشرية ورغائبها وعقائدها وتعبر عن النية والذوق والإرادة، ولا يمكن تفهم معنى هذه الحوادث إلا بالتأويل. وهذا التأويل هو غاية فلسفة التاريخ.
المهندس الذي يريد إقامة البناء يهتم بحساب مقاومة المواد التي بين يديه ويكتفي بمعرفة خواصها، أما الاجتماعي والمؤرخ والفيلسوف فأنهم لا يقتصرون على المواد التي بين أيديهم. ولذلك ربما كان من الممتع على حقائق علم الاجتماع والتاريخ وغيرهما من العلوم المشابهة الوصول إلى يقين العلوم الوضعية الثابتة. إن هذه الملاحظة الهامة جديرة بأن تحفظ.
لم أجعل موضوع مقالتي هذه البحث في الثقافة وعلاقتها بعبقرية الجنس إلا لآتي بمثال بين أثبت به صحة هذه الملاحظات الأولية التي قدمتها كتوطئة.
وسيتضح للقارئ أثناء البحث أن الاستناد إلى علم باطل أو بالأصح إلى علم لم يتوصل بعد إلى الطور الوضعي قد يدفع الناس في بعض الأحيان إلى بعض الغرباء كما هي الحال الآن في بعض ممالك العالم المتمدن، وخصوصاً عندما تكحون أحكام هذا العلم مشوهة بالعواطف الواهية المنبعثة عن مسألة العصبية وهي مسألة لا يزال العلماء يتنافسون فيها من كل حدب وصوب منذ أوائل هذا العصر.
لست استطيع أن أمنع نفسي من ذكر لمحة تاريخية عن هذه الفكرة العظيمة، ولكنني سأجعل هذه اللمحة التاريخية مختصرة جداً.
نحن نعلم أن القدماء كانوا يعدون الحرب أمراً مشروعاً وكانوا يعتبرون الرق حقاً من حقوق الغالب لأنه نتيجة من نتائج الحرب حتى أن الفيلسوف العظيم أرسطو جعله وضعاً من أوضاع الحياة الاجتماعية. ونعلم أيضاً أن الأمم الغالبة كانت تعد نفسها أعلى طينة من الأمم المغلوبة، وإن امتيازات الخاصة كانت مؤسسة على حق الفتح. ومما لاشك فيه أيضاً أن بغض الأجانب واحتقارهم أمر يرجع أصله إلى مبادئ التاريخ.
إن بعض الكتابات الهيروغليفية تثبت لنا ببداهة أن فراعنة مصر القدماء كانوا يسمون الحثي والعربي بالأسيوي الدنيء، وما ذلك إلا لأن الأسيوي كان يزعجهم ويؤلمهم في دارهم. ومن الغريب أن هذه الأمور لم تتغير كثيراً منذ ذلك الوقت. وبالرغم من التقدم العظيم الذي حققته البشرية في حظيرة المدنية والثقافة فإنك لا تزال ترى اليوم أن صفة الأسيوي لا تزال مدعاة للاحتقار والازدراء.
إن فلسفة التاريخ تثبت لنا أن الحرب كانت منذ القدم الشرط الأساسي لحياة البشر الأولية حيث كانت جموع أجدادنا الأولين تهيم على غير هدى تحت تأثير الجوع الدائم.
وربما كان الصواب في قولنا مع سبنسر أن حالة الحرب هذه كانت القدم العامل الأساسي في تنظيم الجماعات وتأسيس الحكم. ولا أشك في أن الحرب قد أثرت ولا تزال تؤثر في تطور البشرية وأنها تصهر الشعوب المختلفة لتولد منها أنواعاً جديدة تصلح لمعترك الحياة ومؤالفة البيئة.
ومما لا شك فيه أيضاً أن الحرب كانت السبب في هجرة القبائل، فأثرت في توزيع الشعوب على سطح الأرض. واستوطن الأراضي الخصبة الممتلئة بالأحراج والصالحة للصيد أعظم الجماعات قوة وأكثرها شجاعة ونشاطاً وأحسنها تنظيماً وأغناها سلاحاً. لم يتغير شيء من ذلك الآن لأن أعظم الأمم قوة وأحسنها مدنية تستثمر اليوم منابع النفط ومناجم المعادن لأن هذه المواد الأولية ضرورية للصناعة الكبرى كما هي ضرورية لمدنية الآلات ومعدات الحرب.
إن تغير عدد السكان أمر هام بذاته، لا يزال العلماء يبحثون فيه منذ عصر تقريباً، ولكنهم لم يتوصلوا بعد إلى التعبير عنه بدستور علمي ثابت لأنه تابع لأسباب مختلفة لا يمكن جمعها في قانون واحد. إن عدد السكان قد ازداد في الجماعات الأولية بصورة بطيئة ولكنه من الصعب حصر العوامل التي أثرت في ازدياده، ومما يبعث الحيرة والعجب أن هذه الجماعات اليائسة كانت في حرب دائمة مع الحيوانات الضاربة المحيطة بها. وكانت معرضة للجوع والحرب والمهاجرة وغير ذلك من الأوبئة فازداد عددها بالرغم من ذلك شيئاً فشيئاً حتى اتسع سلطانها وانقادت لها ممالك الأرض.
وربما قيل أن ازدياد عدد السكان قد تولد من تكامل الأدوات الحربية شيئاً فشيئاً وامتياز الإنسان على الحيوان باختراع الأسلحة التي صنعها للحصول على غذائه والدفاع عن نفسه في مقاتلة أعدائه الطبيعيين. على أنه من الممكن أيضاً أن يكون ازدياد السكان ناشئاً عن انقطاع الحرب ورجوع الهدن التي تحفظ الحياة وتهيئ أسباب الراحة وتساعد على تربية الحيوانات النافعة وحراثة الأرض. ولا أشك أبداً في أن عدد السكان يزداد بازدياد وسائل الراحة والرفاه وشمول الأمن أي بازدياد الحضارة.
إن أكثر المتعلمين يعرفون منذ زمان غير بعيد قريب هذه الأفكار ذات النتائج العملية ويعرفون كثيراً من الأفكار المشابهة لها حتى لقد صارت أساساً لفلسفة السياسيين في أوروبا. أما رجال السياسة في الشرق الأدنى فقد كانوا يجهلون هذه الأفكار تماماً. ولقد رأى (توماس روبر مالتوس) أحد علماء الاقتصاد البريطانيين الذين ظهروا في أوائل القرن التاسع عشر أن يبحث في هذه المسائل بصورة علمية فأصدر كتابه مبادئ السكان فذاع صيته بسرعة وشغل الناس به كثيراً وبالرغم من أن كثيراً من المفكرين الذين تربطهم
عواطفهم وميولهم الإنسانية بالمبادئ الخيالية انتقدوا هذا الكتاب وعدوه مخالفاً للأخلاق فغنه استرعى انتباه الجميع وأثر في تاريخ الفكر الحديث تأثيراً عظيماً.
ولقد أصاب مالتوس في استنباط ملاحظاته من علاقة السكان بالغذاء الضروري للحياة. ولا غرو إذا هو رغب في تثبيت هذه العلاقة بدستور علمي يدل عليها. أنه حاول قبل شيء أن يبرهن على أن عدد السكان يزداد بنسبة هندسية وفقاً للسلسلة: (2 2: 4)، (4 4: 16)، (16 16: 256)، وإن الغذاء لا يزيد إلا بنسبة عددية تبعاً للسلسلة (1 + 1: 2)، (2 + 2: 4)، (4 + 4: 8) الخ. .
ولكن غضب المنتقدين من كتاب (مالتوس) لم ينشأ عن هذه الاعتبارات النظرية بل تولد من النتائج المنطقية التي استخرجها هو نفسه من هذه الاعتبارات.
ولا شك أن عدد السكان إذا ازداد بهذه النسبة المخيفة فلا يبقى - بعد قليل من الزمان - غذاء يكفي الجميع ولا أرض تصلح لهم. لأن القسم الذي يمكن أن يسكن من الأرض لا يزيد عن الربع، ولأن العمران لا يمكن أن يمتد إلى المناطق الشمالية والجنوبية، أو يصل إلى الصحارى العظيمة في أفريقيا وغيرها من القارات الأخرى. فماذا يحصل إذ ذاك؟ أن النتيجة الطبيعية لازدياد السكان هي التطاحن فلا يزال الناس يفترس بعضهم بعضاً حتى يهبط عدد السكان بعد هذه المذابح إلى مستوى الشروط الطبيعية التي يمكنها أن تؤمن حياة جماعة بشرية في نطاق معين من الأرض. ولا شك في أن الشعوب القوية هي التي تفني الشعوب الضعيفة في هذه الحرب التي لا هوادة فيها ولا رحمة، لا بل في هذه الحرب الحيوانية التي يضرمها الجوع وتحركها الغريزة. وهكذا فالحرب حق من الحقوق المشروعة لأنها وظيفة من وظائف الحياة الطبيعية. وهي كما يقولون نافعة للبشرية لأنها وسيلة من وسائل الاصطفاء الطبيعي الذي يؤدي إلى زوال الشعوب الضعيفة ويفسح المجال للشعوب القوية الصالحة للبقاء. إن في الشفقة ضعفاً وانحرافاً عن مجرى العواطف الطبيعي لأن الطبيعة تجهل الشفقة ولا تعرف للحنان معنى.
هذه خلاصة من الأفكار الجديرة بالإعجاب التي استنتجها مالتوس في كتابه مبدأ السكان واتبعها أصحاب المذهب الحربي وهي التي جعلت كثيرين من المفكرين يقولون عن آرائه أنها مخالفة للأخلاق. وسوف ترى بعد قليل أن هذه الأفكار لم تتهدم بالانتقادات القاسية التي
وجهت إليها، بل نمت وتنظمت في جملة متسقة من الآراء التي تقوم عليها اليوم أسس فلسفة التاريخ والسياسة في بعض ممالك أوروبا. إن هذه الفلسفة تبلبل اليوم حياة المنيا وتولد الاضطراب في سياستها وتحدث شيئاً من الحمى في نفوس قادتها.
إن الذين يلاحظون مثلي بهدوء وسكون هذه العاصفة الهوجاء من الأفكار، ويدرسون بصورة مجردة النتائج التي تنشأ عنها يجدون في هذه التجربة الحادثة اليوم في منطقة واسعة من مناطق العالم المتمدن درساً نافعاً في الفلسفة الاجتماعية. وذلك أن مفهوم الأمة إذا ارتكز على فكرة الجنس الواهية - وهي كلمة مجردة غامضة لا تعريف لها - بدلاً من أن يبنى على الثقافة الجنسية والمصالح السياسية والاجتماعية التي تقوم عليها حياة الجماعة المنتظمة (الأمة)، فإنه يؤدي بالضرورة إلى أضرام العواطف الوطنية العمياء. ويكون للخوف من الغرباء، إذ ذاك، كلمة مسموعة في الوطنية الكاذبة. ولا حاجة بنا إلى القول أن في هذا التعصب الذي هو أكثر شراً من تعصب الأديان خطراً - لا محيد عنه - على حسن اتفاق الدول واتساق مصالحها المشتركة ومنافعها المتقابلة. أضعف إلى ذلك أن الأمم المتمدنة مركبة من عناصر قومية مختلفة الأجناس وإن هذه الأجناس، التي يزعمون أنها خالصة، مركبة هي أيضاً من عناصر أخرى. إن العناصر البسيطة لا وجود لها حتى في الكيمياء.
الأمة المتمدنة هي الأمة التي استطاعت دائماً أن تمثل بثقافتها العالية التي لا تقاوم جميع العناصر الغريبة عنها. هكذا كان العرب في أوج مدنيتهم الزاهرة. وإذا استثنينا دولة الأمويين بدمشق أمكننا أن نقول أن العرب لم يبغضوا الغرباء أبداً ولم يخافوا من ازدياد عددهم. فلم ينقرض سلطانهم لضعف سياستهم بل لأسباب عديدة منها الانحطاط والهرم الطبيعي وبغض الأخوة وعداوة الأرحام التي أثارت الطمع وولدت الميل إلى الغلبة والسلطان بين السلالات المالكة.
إن الأمة ذات العبقرية القادرة على إبداع ثقافة عالية لا تلجأ إلى بغض الغرباء في حفظ بقائها وصيانة استقلالها. فبينما تجد كثيراً من الأمم المتمدنة في أيامنا هذه مصابة بخوف الغرباء تجد فرنسة قد تركت أبوابها مفتوحة دون أن تخاف من الانحطاط تحت تأثير الغرباء واختلاطها بهم.
إن ثقافتها العالية قادرة على تمثيل هذه العناصر الجديدة قبل نقلها إلى الجيل الآتي. ولنا في تاريخيها أكبر شاهد على ذلك. انظر إلى سويسرا، أننا لا نعرف أمة أحسن منها سكوتاً وأحسن منها نظاماً واتساقاً، وهي مع ذلك مركبة من ثلاثة أجناس من فرنسيين، وإيطاليين، وألمانيين قد حافظوا على هوياتهم القومية.
ومهما يكن الجنس عالياً، خالصاً من كل شائبة فإنه لا يكفي لبقاء الأمة، بل الأمة إنما تؤسس على اتحاد المصالح وارتقاء الثقافة وسموها.
إن الثقافة تسود العالم وتتغلب على كل شيء فتبقى بعد زوال الأمة التي أبدعتها ولنا في ثقافة اليونان القديمة أحسن مثال يدل على ذلك.
لقد أطلت البحث، وأجدني مضطراً إلى الوقوف بالمقال عند هذا الحد. وسأنتقد في مقالي الآتي آراء مالتوس واستعرض أفكار بعض العلماء والفلاسفة ورجال الفن غيرهم من العظماء الذين كان لهم أثر في نمو هذه الفلسفة السياسية الطبيعية المتبعة اليوم. وأرجوا أن أوافق إلى البرهان على أن هذه الفلسفة وطيئة لا قوة فيها ولا جمال.
الدكتور رضا توفيق