المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌اندره جيد أو من الشك إلى القلق كنت تلميذاً في دمشق دون الثامنة - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٧

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌اندره جيد أو من الشك إلى القلق كنت تلميذاً في دمشق دون الثامنة

‌اندره جيد

أو

من الشك إلى القلق

كنت تلميذاً في دمشق دون الثامنة عشرة، أتهيأ لفحص البكالوريا وأكثر من قراءة المعري. وكما يحدث عادة عندما يدرس المرء كاتباً مدة طويلة أن يتقمص نوعاً ما في روح ذلك الكاتب وتتصل به بعض جريانات من كهربائية شخصيته، كذلك أصبحت بعد ملازمتي أبا العلاء أرى في الحياة رأيه، وأشكو منها شكاته، وصرت وأنا الفتى اليافع أحس بثقل السنين أجرها ورائي، ثم أعرض عن كل ما في الحياة من جمال في الصور وغنى في المشاعر، لألتفت إلى الموت وأتحين مفاجأته مذعوراً.

وكيف أقضي ساعة بمسرة

وأعلم أن الموت من غرمائي؟

وغدا شك المعري المبني على سعة العلم وبعد غور الفكر، ذريعة لي كي أهرب من التعمق والجهد، واكتفي بشك سطحي أقذف به العالم، وأرضي غروري وكسلي! اتخذ وجهي هيئة من عرف الدنيا واختبر كل شيء فيها فملها وعافها، وعثر على الجواب الشافي لكل سؤال:

أما اليقين فلا يقين وإنما

أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا

وكنت لم أزل واقفاً على شاطئ الحياة!. . .

قذفت بي الصدفة إلى باريس، فاصطدم المستنقع الذي كنت أحمله معي - حياتي القديمة - باوقيانوس خضم للحياة، أسلمت نفسي لأمواجه، عندما ذقت حلاوة لمسها وخفة دعابها. هناك على الشاطئ، وقدماي ما تزلان في تردد، وشبح الشيخ الأعمى يحول بيني وبين الشمس، لمحت ساحراً جديداً، قوي الجسم، طلق المحيا، غنائي هكذا!

ناتانائيل! أروم أن أدخل سرك وأخاطبك كما لم يخاطبك بعد إنسان. في تلك الساعة من الليل، إذ تكون فتحت وأغلقت كتباً كثيرة، تسأل كلاً منها ما لم تجبك بعد عليه، وإذ تكون معذباً يشفك الانتظار، ويكاد حماسك ينقلب إلى كآبة لأنك لم تلق من يمسك بيدك. إني لا أكتب إلا لك، ولا اكتب لك إلا من أجل هذه الساعة. أريد أن اقترب منك وأن تحبني. ناتانائيل! ليست الكآبة إلا الحماس الخائب.

هذا هو الصوت السحري الجديد الذي استهواني لأنه متصل بأعماق كياني وكيان كل

ص: 32

شاب. جوهر الشباب حماس ويقين، لا تعقل بارد، كما في المعري، وشك سقيم. يحب الشاب أن يثبت، ولو راح ينفي اليوم ما أثبته بالأمس، لأن الإثبات تعبير عن القوة والشك صورة للضعف والارتخاء. صرت أطرب بقول جيد:

تمر بي أيام يكفيني أن أردد فيها أن اثنين مع اثنين مع اثنين لا تزال تساوي أربعة، حتى يمتلئ قلبي غبطة أو أن أرى قبضة يدي على المنضدة. .

أو عجيب أن يلقى صوت جيد ذلك الصدى في قلوب الشباب وهو أول كاتب خاطبهم بتلك اللهجة، وأتاهم بدين جديد، دين الحماس، بعد أن انقضى القرن كله (التاسع عشر) بين نواح الروماتيزم وبردة الكتابات العلمية والروايات الواقعية؟

أنها موسيقى جديدة:

ناتانائيل! لأعلمنك الحماس حياة مضطربة أجدر بك من حياة السكينة والراحة. أنا لا أشتهي راحة قبل راحة الموت، وأخاف من كل رغبة لم أروها، وكل قوة لم أجردها في حياتي أن تعذبني بعد الممات.

يخطئ كل من يرى في هذا القول للانغماس في اللذات، بل إنما هي دعوة للانغماس في الحياة بكل ما فيها، هي عبادة متمادية للحياة وتقديس لكل ومضة من ومضاتها:

ناتانائيل! سأحدثك عن اللحظات. أن أقصر لحظة في الحياة أقوى من الموت. ألا تعلم أن اللحظة لم تكن لتلمع ذلك اللمعان لو لم يحطها إطار الموت القاتم؟ آه لو تعلم أي جمال يخلعه قرب الموت على اللحظة من الحياة. . . .

فأي فرق بين هذه النظرة ونظرة المعري الذي لا يهنأ عيشه ساعة لعلمه أن الموت غريم يلاحقه!

وجيد رجل الحاضر، تشغله اللحظة الحاضرة، لا لينتهبها انتهاب إلا بيقوري المستخف بكل شيء سوى اللذة، بل لأنه يرى فيها الأبدية، لأنه يستجمع فيها كل إحساسه وفكره، وينسى فيها الماضي وينسى المستقبل، فيحقق بذلك أجد وأقوى حياة ممكنة لإنسان.

كيف توصل جيد إلى فلسفته وفنه؟ من حياته. لا اعتقد أن هناك كاتباً مثلاً اتفقت حياته الأبدية مع حياته الخاصة هذا الاتفاق التام النادر. فكل كتاب من كتبه يدل على مرحلة جديدة من مراحل حياته. واحسب أنه أصبح ذلك الكاتب الكبير لأنه نسي أنه كاتب والتفت

ص: 33

إلى حياته كل الالتفات. نشأ جيد في بيت بروتستانتي شديد التمسك بالسنن الدينية والتقاليد الاجتماعية. وارتوت طفولته من منهلين: الكتاب المقدس وألف ليلة وليلة، فأنمى فيه الأول شعوره الديني وخوفه من الخطيئة خوفاً مرضياً، وفتح الثاني لخياله أبواباً على عالم العجائب واللذاذات. شاءت الطبيعة أن يكون شديد الشهوة الجسمية، فقضى من أجل ذلك حداثته غي جحيم من الحيرة والتردد بين مطالب جسمه وإيمان قلبه. كل ذلك نتيجة الهوة السحيقة التي حفرتها المسيحية بين الروح والجسد، والاحتقار السقيم الذي رمت به الجسد، فكان جيد في العشرين من عمره شديد الإيمان والشهوة معاً، وكان يتمزق تمزقاً من صعوبة موقفه. على أن اللذة التي سيجنيها عندما يتحرر من قيود الدين ويصغي لمطالب جسمه العادلة، لم تكن لترتدي تلك البرود الخلابة لولا تمسكه القديم بالدين وخوفه من الخطيئة. يقول أناتول فرانس إن المسيحية خدمت الحب أجل خدمة إذ جعلت منه خطيئة! ونستطيع القول هنا أن المسيحية خدمت أندره جيد بصورة لأنها كشفت لعينيه آفاقاً للذة ولجمال لم يعرفها قبله إنسان.

إن الأرض التي تلقت عبادة جيد وحنت على غرامه هي أرض الجزائر، الشمس والصحراء. هناك بين عرس الطبيعة في الربيع، بين زهو النبات وذوبان النور صرخ جيد: ناتانائيل! لن أؤمن بالخطيئة بعد الآن! كلا، ليست الأرض ملعونة ولا جسم الإنسان حقيراً. . .

وفي نفس الوقت الذي اكتشف جيد فيه اللذة وجمال الجسم الإنساني، اكتشف الساحر الذي سيكون له أكبر التأثير في حياته وفكره. نيتشه.

فاتفقت نظرة هذين العبقريين في حب الأرض، ليس حباً شعرياً فحسب، بل حباً دينياً وعبادة صوفية. هدم نيتشه السماء وقتل سكانها، ورفع دين الأرض الجديد القائم على جمال الجسم وقوته، ونشاط الفكر وانطلاقه، وجعل غاية كبرى لهذا الدين: الفرح. ولم يكن جيد ليطلب أكثر من ذلك عش الخطر! تلك هي صيحة نيتشه، فكان لها سميعاً. وأي خطر للكاتب أكبر من خطر الفكر؟ هكذا وقف جيد في كل حياته على قمم الهاوية، وأطلق جناحيه مع رياح عاصفة. ليخضع غيره أمام سلطان الأخلاق وليحجموا عن المضي إلى نهاية الطريق التي يقودهم إليها الفكر، أما هو فلن يعيقه في سيره نحو الحقيقة عائق. وقبل

ص: 34

معرفة الحقيقة العامة يريد أن يعرف حقيقة نفسه. من هو؟ على أي شيء هو قادر؟ إنه قلق. كان جيد إذا جلس مع صديق له يقترب منه ملهوفاً ويسأله بصوت خافت:

هل أنت قلق؟ وفي رنة صوته ما يفضح عذابات نفسه الحيرى.

- ماذا رحت تنشد في البلاد النائية

- لاشيء. . . . نفسي.

ويقصد جيد من كلمة نفسي الجوهر الأساسي المختص بكل فرد، المعدوم عند أي فرد سواه. فبدلاً من أن يصل إلى هذه المعرفة عن طريق العلم، يعمد إلى ما يسميه أي هدم كل القشور التي أنبتها حول شخصيته الأولى العلم والتربية. فتخطر له فكرة السفر، وفي أسفاره الطويلة المتنوعة يجرب، بابتعاده عن منشأ تربيته، أن ينسى هذه التربية، فيهمل الدرس ويفتح حواسه لتأثيرات المشاهد الجديدة التي توقظ فيه طبيعته الأولى شيئاً فشيئاً.

ناتانائيل! فرّ مما يشبهك. فمتى أخذ المحيط الذي تعيش فيه شبهك أو أنت أخذت شبهه، أهجره لأنه لم يبق لك منه جدوى. وليس أضر لك من عائلتك وغرفتك وماضيك!.

ثم يقول في مكان آخر:

ليس يكفني أن أقرأ أن رمال الساحل ناعمة ندية، بل أريد أن تحس ذلك قدماي العاريتان. ناتانائيل! متى نحرق جميع الكتب؟

بعد تلك الثورة النفسية غدا جيد وكأنه ولد في الحياة ولادة جديدة، فكل ما فيها يبهجه ويستثير دهشته. حتى الأعمال اليومية العادية التي يقوم بها سائر الناس بصورة آلية، أصبح ينتبه لجدتها ويقطف لذتها: أتساقطت بعض قطرات مطر على جلده؟ إن كل كيانه يرتعش لها. أم أكل ثمرة شهية؟ أنها مداعبة طويلة بين لسانه وبين تلك الثمرة. هو لا يريد أن يحيا إلا بالحب، الحب يدعوه إلى العمل، لا الواجب. وما هو ممن يباهون بالمشقة التي يجدونها في العمل، لأن المشقة لا تتفق مع الحب.

يسعى جيد ليصل إلى ما هو فردي فيه ولكنه ما يقصد بالفردية؟ أن يهتم الفرد بما يفرقه عن غيره، فينمي هذا الفرق ويستغله. فالإنسانية الكاملة في نظره هي التي يتخصص فيها كل فرد ويقوم بما لا يقدر أن يقوم به سواه. يعتمد جيد على الفرد ويكاد يهمل المجتمع. يريد أن يحرر الشخصيات القادرة على التحرر والتي لا تحتاج إلا لمرشد يسدد خطاها

ص: 35

الأولي. يريد أن يحررها من الماضي الذي يعين لكل شخص حياته قبل أن يولد.

كل إنسان مملوء بالممكنات العجيبة. ولو لم يعكس الماضي على الحاضر ظله الكثيف، لكان الحاضر طافحاً بالجديد. 0

ولكنه لا يعتقد أن الفردية نافعة لكل الناس على السواء، بل أنه يخشى منها على الناس الوضيعي الذكاء لآتها تبلبل خاطرهم وتفسد عيشتهم. لا يرى في الفردية جدوى إلا للشخصيات المبدعة التي إذا ثارت على نظامها وهدمته تستطيع إبداله بنظام جديد. أما أكثرية الناس، تلك القطعان التي اعتادت السير وراء راع لها فإنك تقتلها إذا ألقيت بينها بذور الفردية لأنها تحطم أصنامها ولا تستطيع خلق آلهة جديدة لها فتمسي شريدة ضائعة!

وبعد، فهل وجد جيد نفسه؟ هل عرف كل ما هو خبئ في شخصه؟ كلا إنه لا يزال ينشد بقاياه. كلما تقدم في السن ازداد حماسة للسير نحو الكمال. ولكن سيره أصبح سيراً مطمئناً بعد أن كان قلقاً. لقد تخلص جيد من الصراع القاسي الذي نشب بين روحه وجسمه، فتوحدت قواه، وصار إذا التقى بصديق له يسأله بصوت فرح:

هل أنت قلق؟ أما أنا فقد تخلصت من قلقي!.

ميشيل عفلق

ص: 36