الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أميركا تفتش على الطريقة الثالثة
للأستاذ شاكر العاص (نيورك)
إن الأزمة المستحكمة في الولايات المتحدة منذ سنة 1929 تهيئ الأسباب لانقلاب عظيم في معظم شؤون الحياة. فقد حار في أمرها وتعليل أسبابها الاقتصاديون الذين يدينون بما آتى به (آدم سمث) واضع علم الاقتصاد السياسي. وقد تاهت التكهنات والنبوآت في تحديد أجلها وكيفية انفراجها. وتقمصت الأزمة فلم تعد طارئة لتزول بل تأصلت لتدوم. أما ما أحدثته في الحياة الأمير كية فهو من النوع الذي تحدثه الزلازل الشديدة والعواصف القوية.
ألف الأميركيون مصابهم وأصبح جزءاً من حياتهم اليومية ولكنه ما يئسوا ولا استسلموا بل نشط الفكر في كل أنحاء البلاد يدرس مظاهر الأزمة وأسبابها البعيدة والمباشرة، ينظر في أطوارها المختلفة ويجمع الإحصاءات ليستعين بذلك على حلها والتغلب عليها. لم تنصرف الأفكار للسؤال والبحث والتدقيق في زمن من الأزمان كم انصرفت إليه الآن وقد بلغ من أمرها أن أخذت تشك في صحة كل المبادئ والأسس والمعتقدات التي قام عليها أبناء هذا المجتمع العظيم وهذه المدينة الخلابة وهي أمور كانت قبل أربع سنوات فوق الشك، إليها ينتهي الباحث وبها يهتدي الحائر. وكان من نتائج البحث النقدي والتحميص الدقيق أن أخذت تلك المبادئ والأسس والمعتقدات تتفرع آحاداً وجماعات وتتكدس جثثها تحت الأقدام.
ليس الدور الذي تمر فيه أميركا دور تطور ونشوء يتبدل فيه القيم تبدلاً غير محسوس ويندمج معه الجديد فلا يكاد يشعر بذلك أحد بل هو دور يشعر فيه الإنسان أن الأرض تنهزم تحت قدميه فلا تجد مستقراً ثابتاً يركن إليه ولا نقطة جامدة يتعلق بها. عرف الأميركيون أكثر من كل الناس أن هذا العالم مستبدل وألفوا التبدل حتى أصبح جزءاً من حياتهم ولكنهم اليوم يعيشون في عالم ثائر.
أن اليد غير المنظورة التي أقرها (آدم سمث) لتعمل على توجيه جهود الأفراد لتعود بالنفع على الجميع لم تعد غير منظورة فإذا هي لا تعمل لتحقيق النفع العام. ومبدأ التزاحم والتسابق الذي أقره أساساً لتقدم الحضارة وازدهارها ظهر في ثوب جلاد يهددها ويهيئ انقراضها. وظهرت مفاسد آراء (جيروم بنثام) شيخ النفعية التي جعل منها قاعدة للأخلاق
والتشريع. فقد ظهر أثر الزمان في المبادئ التي أقرها القرن التاسع عشر فإذا بها تنهار كما ينهار البناء القائم على أساس غير مكين. لم يبق في هذا العالم المنظور مجال لشيء غير منظور وحيثما اختلف الاستنتاج العقلي أو المنطق عن التجربة والواقع أهمل الناس الاستنتاج وتعلقوا بالتجربة والواقع. هذا جزء من كل يشير لعمق البحث وتشعبه لمعالجة هذه الأزمة الخطيرة.
أمران خرجا سالمين من المعركة العلم والديمقراطية، والأميركيون يريدونه معالجة أزمتهم دون أن يخرجوا عن الإطار الديمقراطي الذي عاشوا فيه وهذا أمر هام إذ يحدث في الوقت الذي تعلن فيه أوروبا فشل الديمقراطية وفسادها كأساس للحكم حتى أن الإيمان بها أخذ يتضعضع في انكلترا ذاتها مهد الديمقراطية وحارستها. إن تعلق أميركا بالديمقراطية هو ما يحملها على البحث لإيجاد الطريقة الثالثة لأن الفاشستية والشيوعية ثورة على الديمقراطية ونقض لأحكامها. وقد تعددت الاقتراحات وتناوبت أهميتها صعوداً وهبوطاً ولكن الآراء لم تتفق على هذه الطريقة الثالثة فهي لا تزال سراً في صدر المستقبل. أهي (العهد الجديد) الذي ينفذه الرئيس الحالي روزقلت أم هي التكنوكراسيا كما اقترح كبار المهندسين أم هي رأسمالية الدولة؟ الكلمة في ذلك للغد. أما ما يعرفه الناس عن الطريقة الثالثة فهو أنها لن تكون الرأسمالية الطليقة - القائمة على الربح والتنافس إذ ظهر فسادها وضررها وأنها ستكون قائمة على أسس علمية صح0يحة تساعد على الاستفادة لأقصى حد ممكن من اختبار العلم ونتائجه والصناعة الحديثة فلا يكون هنالك مجال للخطة التي ترمي لتحيد الإنتاج الزراعي والصناعي بتحديد مساحة الأراضي التي تزرع وعدم استعمال المكائن الحديثة لإيجاد ندرة في الأسواق تسبب رفع مستوى الأسعار. فالحياة الاقتصادية المقبلة ستقوم على أساس الكثرة في الإنتاج لا الندرة كما في الماضي والأمر المستعصي حله هو توزيع الثروة لا إنتاجها.
لماذا يتعصب الأميركيون للديمقراطية؟ ولماذا يرفضون الشيوعية والفاشستية؟
إن تعصب الأميركيين للديمقراطية قائم على شعور عميق بالتساوي بين الأفراد فكل أميركي يعتقد نفسه مساوٍ على الأقل لزميله أن لم يرجح عنه قليلاً. وهذا الشعور بالتساوي هو أول ما يصطدم به من يأتي لأميركا من بلاد غير ديمقراطية ولا يقف هذا التساوي عند
الرجال هو بين الرجال والنساء أيضاً وقد أصبح هذا التساوي جزءاً من نفسية الجنسين لا يثير بحثاً ولا يسترعي انتباهاً. وقد أخذ أثر المرأة في الحياة الأميركية يظهر بوضوح وجلاء. أن هذا التساوي بين الأفراد من الجنسين يقرب الديمقراطية الأميركية من الشيوعية ويجعلها تختلف عن الفاشستية القائمة على أساس وجود اختلاف بين الأفراد ووجود طبقة ممتازة صالحة للحكم وأخرى لأن تحكم.
وتتفق الفاشستية مع الديمقراطية الأميركية التي يمثلها الآن الرئيس روزفلت بأمرين: الأول المحافظة على شكل الرأسمالية مع تبديل في التفاصيل والفروع والثاني عدم الرغبة بالتعاون الدولي والعودة للانفراد الاقتصادي. ومع ذلك فالاختلاف بينهما عظيم في الاتجاه والغاية. فالرئيس روزفلت جعل محور عمله وغاية جهوده رغد العيش والبحبوحة العامة. وهذه الكلمات ترد تقريباً في كل خطبه العامة ملحاً على لزوم توزيع الثروة توزيعاً عادلاً فلا يحصل أحد على حلوى أن يأكل الجميع خبزاً وهذه الأمور كلها كميات قابلة للقياس لأنها مادية أما الفاشستية سواء في ألمانيا أو إيطاليا فقلما تبحث عن البحبوحة الاقتصادية العامة بينما هي تثير الكبرياء القومية والحقد وعبادة بلاد الأجداد وهذه الأمور غير قابلة للقياس لأنها معنوية فالاختلاف أذن بين الديمقراطية والفاشستية هو خلاف بين المادية والفكرية ولا غرابة بذلك فالإرث الفكري والاجتماعي والاقتصادي في أميركا متأثر جداً بأصله البريطاني الذي يدين بالمادية ويرى فيها سعادة البشر وهناءهم. ويسيء الظن بالفكرية من النوع الذي تقول به الفاشستية إذ يرى فيها دماً وناراً وانحلالاً خلقياً.
إن مادية الديمقراطية الأميركية تقربها أيضاً من الشيوعية التي تجسد المادية ومع ذلك فالاختلاف بينهما لا يزال كبيراً. فالشيوعية نظرية ثوروية بحتة وضع أسسها كارل ماركس وأنكلس لاستفزاز شعور العمال وحملهم على الكفاح ضد الرأسمالية للتغلب عليها والاستيلاء على الحكم لإقامة مجتمع لا طبقات فيه ولا مستثمر ولا مستثمر. وقد اعتنق هذا المبدأ عدد كبير من العمال في أوروبا حيث تأصل نظام الطبقات مع تبدل في الشكل كما هو معروف في التاريخ. ولكن أميركا لم يكن فيها طبقات قبل قيام الصناعة الحديثة. فقد كانت متساوية في ظروف المعيشة حينما كانت البلاد زراعية إذ يملك كل فرد جزءاً من الأرض ومن لا ارض له لا يصعب عليه أن يحصل على ما يريد ويستطيع تحقيق بغيته
بأن يهاجر للغرب. كان المجتمع في ذلك الحين آخذاً بالتوسع والامتداد وكانت الناس تتساوى أمام الطبيعة وتتساوى بحاجتها للتعاون على عدو مشترك ولما بدأت الصناعة الحديثة قام بأمرها أناس عبقريون لم يرثوا مالاً، ولذا كان الطريق مفتوحاً للجميع على التساوي. أن أثر ذلك لا يزال راسخاً في العقلية الأميركية بالرغم عن تبدل الظروف رأساً على عقب فكل أميركي يحلم أن يصبح في يوم من الأيام غنياً. فالعقلية الأميركية هي (بورجوازية) في تكوينها وأهدافها، ولم يمض على ما تم من التبديل وقت يكفي لتبدلها ولذا لن تجد الشيوعية أرضاً خصبة في هذه البلاد في الزمن الحاضر.
ولا ينحصر سبب ابتعاد الأميركيين عن الشيوعية بما تقدم فالشيوعية ليست نظرية اقتصادية فقط بل هي اجتماعية وهي تحارب الدين حرباً لا هوادة فيها وهذا مما يزهد الأميركيين بها أيضاً ليس لأنهم أكثر تديناً من الأوروبيين بل لأن الدين تطور سريعاً في أمركا ولم يكن في يوم سلاحاً في يد الطبقة الحاكمة كما في روسيا أو فرنسا قبل الثورة. لم يقم في أمركا نحالف بين التاج والصليب. إذ لم يكن فيها تاج. ولم يجمد الدين في أمركا بل تجرد عن كثير من العناصر التي لا شأن لها بوظيفته الأصلية واقتصر أمره على الحياة الروحية التي تسمو بالإنسان فوق عالمه المادي وتقرب بين الإنسان وأخيه الإنسان. لمعرفة حدود التساهل الديني عند بعض الطوائف هنا اذكر حادثة استغربتها جداً إذ ذهبت صباح أحد لكنيسة فوجدتها مغلقة وقد ألصق على بابها إعلان يدعو الأعضاء المحترمين لحضور حفلة القداس في قاعة كبيرة وسط المدينة وقد جاء فيه اسم الواعظ وموضوع الوعظ فإذا هو: كيف ينبغي أن نفهم كارل ماركس. والأخير كما هو معلوم زعيم الشيوعيين الذين يقولون: الدين أفيون الشعب.
وهناك خلاف آخر هو العائلة فالشيوعية خلقت نوعاً جديداً من العائلة لم يعرفه الإنسان من قبل وهو قائم على أساس التساوي التام بين الرجل والمرأة وسهلت الزواج والطلاق ومنع الولادة إلى أبعد الحدود. ولكن العائلة الأمريكية لا تزال تتمتع بالظاهر على الأقل بما يخلعه الدين عليها من روحانية وقدسية وقد تطورت كثيراً إذ أصبح الزواج مدنياً وكثر الطلاق حتى أنه يزيد عما يحدث منه في روسيا ذاتها فالعائلة الأمريكية فقدت القدسية القديمة ومع ذلك يحرص الأمريكيون على الشكل الذي عرفوه وألفوه.
وهكذا فإن الحل الذي يبحث عنه الأميركيون لا يتفق مع الفاشستية ولا مع الشيوعية بل هو طريقة ثالثة ما زالوا يسعون في الاهتداء إليه.
شاكر العاص