الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام
- 1 -
لما كنت مدير المدرسة الزراعية في سلمية في سني 1327 - 1341 هـ - كنت أعجب بحالة الأعراب الذين يكثر ترددهم على هذه البلدة النائية وتجوالهم في أعمالهم وتقيظهم في مروجها واجتماع رؤسائهم في مؤتمراتها. وكنت أرغب الإطلاع على أنسابهم وأحسابهم وطبائعهم، فأتسقط آثارهم واستطلع أخبارهم وأكتب ما أراه جديراً بالحفظ حتى اجتمع لي طائفة من ذلك.
وقد وجدتهم ينقسمون إلى ثلاث طبقات:
1 -
الأولى أعراب البادية أو البدو ويوصفون بالرحل، وهم أهل الخيام أو بيوت الشعر لسكناهم والخيل لركوبهم والإبل لكسبهم يقتاتون من ألبانها ويتخذون الدفء والأثاث من أوبارها ويحملونه أثقالهم على ظهورها ويبيعون ذكورها لا يدرون أهي خلقت لهم وقبلهم أم هم خلقوا لها وقبلها ولا يدفعون للدولة سوى ضريبة الودي، يتقبلون دوماً بين قفار البادية الحماد ومشارف الحاضرة المعمورة فراراً من حمارة القيظ تارة وصبارة البرد أخرى وانتجاعاً للمراعي الصالحة للإبل كالروثة والنيتون وغيرهما مما فيه ملوحة وحموضة.
وهواهم في البادية وآفاقها الشاسعة وحريتها المطلقة، يحتقرون أهل الطبقة الثانية ويدعونهم رعية وشوايا لاقتنائهم الشياه والمعز يعدون ذلك من أكبر العار إذ تمنعهم عن التوغل في البيداء ومدافعة الأعداء ويمتهنون أهل الحواضر والقرى لسكناهم في بيوت الحجر واعتيادهم على الرفه وحماية الدولة، وهم لا يغشون هذه الحواضر إلا للضرورة في سني الظمأ أو لابتياع حاجاتهم وبيع جمالهم وأصوافهم. وكثيراً ما يلحق أهل الضياع والمزارع حين مرورهم بها مضرات من أفسادهم السابلة ورعيهم الزرع مخضراً وانتهابه قائماً وحصيداً ويتفاقم ضررهم حينما يرون من فوضى الأحكام ومسامحة ذوي السلطان فرصة. وهؤلاء في بلادنا قبائل عنزة ومنها في شمالي الشام في فيافي حلب وحماه وحمص الفدعان والسبعة والعمارات والحسنة وفي الوسط من فيافي دمشق وحوران الرولة والولد على وفي الجزيرة الفرانية شمر وطي. وسنذكر بطونهم وأفخاذهم ومنازلهم فيما بعد.
2 -
الطبقة الثانية: أعراب الحاضرة أو عربان الديرة أو الرعية النصف رحل باصطلاح الإفرنج، وهم أهل الغنم والمعز ومستثمرو الأرضين بالحرث والزرع يرحلون في الشتاء إلى البادية انتجاعاً لمرعى غنمهم ودفئهم ويعودون في الصيف إلى قراهم وضياعهم، ويأوون إلى الخيام بيوت شعر أو إلى القباب وبيوت الحجر حسب اللزوم والفصول، منهم من يتخذ الحمير في تشريقه وتغريبه أو تنقله من مكان إلى مكان آخر كأكثر بطون قبيلة الحديديين ومنهم من يتخذ الإبل والحمير معاً كبني خالد والنعيم والفواعرة وغيرهم ممن سنأتي على ذكرهم. وهم يشبهون في الجملة الطبقة الأولى في طباع البداوة والجفلة وانتهاك حمى الطبقة الثالثة وأهل الحاضرة عند سنوح الغفلة إلا أنهم يختلفون بأنهم لا يعاملون في عرف البادية معاملة أولئك فلا يردون النقا أي لا يشهرون عليهم الحرب ولا يحفظ لهم صحب أي لإيجار الملتجئ إليهم بل لما كانوا رعية يؤكلون ولا يأكلون. ويختلفون أيضاً بأن لهم استعداداً بارزاً للتحضر وعلائق جمة مع أهل مدن حلب وحماة وحمص ودير الزور يشاركونهم في تربية الغنم وتجارة السمن والصوف التي تدر عليهم وعلى شركائهم في سني الخصب ثروة غير يسيرة، وبأن لهم قرى وضياعاً يقطنون فيها ويستثمرون أرضها، وإذا شرقوا لا يبعدون كالطبقة الأولى فلا يتعدون جبل البلعاس وجبال تدمر وفيافيها وهم يدفعون للدولة عدا ضريبة الأغنام العشر عن الزروع والوير كوعن الأرضين فقط.
وثمة قبيلة واحدة تدعى الموالي تشبه الطبقة الأولى والثانية معاً في بعض الأمور وتختلف في أخرى. فأعراب الموالي أهل أبل وغنم وقرى لكن أبلهم ليست من الوفرة بدرجة البدو وتربيتهم للغنم واشتراكهم مع الحضر واستثمارهم للقرى أقل أتقاناً من الرعية.
ومشابهتهم للطبقة الأولى في أنهم يردون النقا ويعطون الصحب لأنهم أهل حرب وضرب وأقوال وأفعال.
اشتهر أفرادهم بالفروسية والشراسة وأمراؤهم بكرم المحتد وعراقة النسب. وإذا اجتمع رؤساء قبائل الطبقة الأولى في المؤتمرات التي تعقد الحين بعد الحين في سلمية أو تدمر أو خلافها من البلاد التي على سيف البادية لفض الفتن التي لا تخلو من النشوب بين القبائل يحل أمراء الموالي صدور المجالس بينما رؤساء الطبقة الثانية عليهم الوقوف في أبوابها
والإصغاء والامتثال لما يقرر فيها. فالموالي إذن طبقة متوسطة بين الأولى والثانية لهم شؤون وطبائع خاصة طالما استرعت أنظاري. لا سيما حينما نشبت فتنة شعواء بينهم وبين الحديديين في سنة 1339 وقد كانوا على مصاهرة ومسالمة دامتا أكثر من نصف قرن عقيب فتنة مثل هذه جرت إذ ذاك بينهما. ففي سنة 1339 اقتتلوا اقتتالاً شديداً حول قرية عقيربات في سفح جبل البلعاس ثم انتقلوا إلى أماكن أخرى في شرقي حماة والمعرة وجنوبي حلب ودامت الفتن بينهم سبع سنوات تخبو نارها وتشب أخرى خاصة كلما وجدت من يوقد شرارها. حتى خربت من جراء ذلك قرى كثيرة في براري البلاد المذكورة وراح ما لا يعد من الصامت والناطق لأهلها.
3 -
الطبقة الثالثة: الأعراب الفلاحون الذين تركوا الحل والترحال وشن الغارات وأيقنوا أن العيش الثابت خير من المتقلقل وأن من يلجأ لحمى الدولة أهنأ بالاً ممن يتكل في حمايته على نفسه وعصبيته فعمروا الخرب الدائرة وهجروا بيوت الشعر إلا قيلاً وقطنوا بيوت الحجر أو القباب وتوفروا على الحرث والزرع أكثر من تربية الماشية. منهم في شمالي الشام القاطنون في قرى أملاك الدولة في أقضية جرابلس ومنبج والباب وجبل سمعان وفي سقي الفرات في لواء دير الزور وفي جنوبي دمشق في قضائي القنيطرة والزويه وغيرهما مما سنذكره أيضاً.
وكنت في سني إقامتي في سلمية كلما سنحت لي الفرص أتجول وأستقصي خرائبها الأثرية شأني في كل أرض حللتها فوجدت ذات يوم مسجداً يبعد عن سلمية خمسة كيلو مترات إلى الشمال له جدران متداعية وقبة من الأجر أكثرها متهدم. وفي قربه ضريح محاط بجدران وليس له سقف علمت بعد أنه لشيخ يدعى الشيخ فرج لا يعرف له أصل ولا خبر تزوره أهل القرى وأعراب تلك الديار لا سيما أهل عشيرة الجملان التي تدعي الانتساب إليه وتنذر النذور لاعتقادهم أنه مبارك وقد وجدت إذ ذاك في جنوب المسجد الخرب جبانة فيها قبور كثيرة منها القديم والحديث عثرت بينها على قبر له شاهدة زبر فيها اسم صاحبه محمد بن عبس بن مهنا وتاريخ وفاته رجب عام 724.
وما أن لمحت هذا الاسم حتى ذكرت أنه مر عليّ كثيراً خلال قراءتي تاريخ الملك المؤيد أبي الفداء وتاريخ الأمير حيدر الشهابي، فأسرعت بعد هذه الزيارة لمراجعتهما فإذا بي أمام
طائفة من الحوادث أجراها أبو هذا الرجل وأخواه مهنا وفضل وأعقابهما في القرن السابع والثامن والتاسع من الهجرة، وأخرى مثلها أجراها قبلهم أقاربهم بنو الجراح في جنوبي الشام وشماليه في القرنين الرابع والخامس أدهى وأمر مما أتاه الموالي الحديديون في زماننا. وقد تبين لي منها ومن المصادر التي راجعتها بعد حين كصبح الأعشى للقلقشندي والعبر لابن خلدون أن عبس بن مهنا فخذ من آلف فضل من ربيعة من طي من كهلان من القحطانية.
وأنهم كانوا في زمن السلاطين الأيوبيين سيما في دولة المماليك كما قال في صبح الأعشى رؤساء أكابر وسادات العرب ووجوههما ولهم عند السلاطين حرمة كثيرة يحلونهم فوق كيوان وينفقون لهم أجناس الإحسان. وتبين لي أن آل عبس خاصة كان لهم مداخلة في إدارة بلاد الشام وسياستها في تلك القرون وأثر عظيم في زوال عمرانها وانحطاط شأنها اللذين حصلا حينما اختلت الأمور في آخر دولة المماليك على النحو الذي أدركناه من أعراب زماننا عقيب زوال الدولة العثمانية.
وساقني هذا الإطلاع لاقتفاء أثر آل عيسى وخاتمتهم ومعرفة العهد الذي انقرضوا فيه وكيف تم ذلك وهل بقي منهم في زماننا أعقاب، فوجدت الشهابي في حوادث القرن الحادي عشر يلقب بعض أمراء البادية بآل أبي ريشة وينعتهم بالحيارين كما نعت عيسى بن مهنا وأعقابه من قبلهم. وقد استدعى نظري هذا اللقب وتذكرت أن أمراء قبيلة الموالي في زماننا مازالوا يعرفون بآل أبي ريشة فصرت افتكر في هل أن هؤلاء هم من أعقاب عيسى بن مهنا أبو صاحب القبر الذي عثرت عليه شمالي سلمية وهل بالإمكان ربط سلسلتهم نتلك الأرومة. ولما سألت بعض هؤلاء الأمراء وبعض شيوخ القبائل المجاورة لهم وجدتهم يا للأسف في غفلة عن ماضيهم ومعرفة أنسابهم، يكاد أحدهم لا يعرف اسم أجداده ناهيك عن أسلافه البعداء وقليل منهم من يحفظ حديث أخبارهم وملامحهم وتاريخ وقوعها وأماكنها، والحافظون لذلك منهم تتضارب أقوالهم وتتشتت رواياتهم التي التقطتها على علاتها وسأذكر زبدتها فيما بعد. وفي الجملة فقد صرت شبه الموقن بأن فضيلة حفظ النسب وضبط الحسب ومعرفة أخبار السلف ضاعت من أعراب زماننا كما ضاع منهم كثير من الفضائل والمحامد التي كانت لأسلافهم في الجاهلية وصدر الإسلام وملأت كتب التاريخ
والأدب القديمة.
ولما لم اكتف بما التقطته من أفواه هؤلاء رجعت أتحرى وأنقب صحائف التاريخ الباحثة عن كوائن بلادنا في العصور الأخيرة فلم أجد ما ينقع غلتي في تاريخ الشهابي وهو على علاته أوسع من دون أخبار تلك العصور التي زهد فيها أهلها بالتاريخ والتدوين لا سيما في ما يتعلق بأخبار الأعراب في زمانهم. فالشهابي لم يذكر اسم الموالي إلا مرة في أحداث سنة 1035 في خبر طلب الأمير فخر الدين المعنى منهم ذخيرة وتمنعهم ورحيلهم ولحاق الأمير بهم حتى عبرهم النهرين، ولم يعد لذكرهم ولا لذكر من كانوا أمراء البادية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر كما ذكر من كانوا في الحادي عشر على ما سوف ننقله.
وبينما كنت أقلب كتاب الجغرافية القيم المسمى بجهان نما لمؤلفه كاتب جلبي صاحب كشف الظنون المتوفي سنة 1068 والمطبوع بعد وفاته قي سنة 1142 في الأستانة عثرت بغتة في بحثه عن سلمية على ما تعريبه: وما برح هذا اللواء: يعني سلمية وقد كانت في أيامه مركز لواء: في حوزة أمراء الموالي. هؤلاء الأمراء ينسبون لآل الحيار من قبائل العرب وهم ينقسمون إلى فريقين آل حمد وآل محمد وتصل مناطق نفوذهم إلى ضواحي حلب والرقة. وفي رواية أن حمد أبا نعير أبلى مرة بلاء حسناً في معركة على عهد أحد سلاطين مصر وكان يضع على رأسه ريشة فدعي بأبي ريشة وأنعم عليه ذلك السلطان بمبلغ عظيم من الذهب فاشترى به ألف عبد ليقوى بهم على قومه فسميت أعقاب هؤلاء العبيد بالموالي وهؤلاء لا يكون منهم أمراء. اه -
وما أن لمحت هذه الكلمات حتى خيل لي أنني وجدت ضالتي المنشودة، فقد استدليت مما ذكره كاتب جلبي أن اسم الموالي وصيت أمرائهم كانا معروفين في عهده أي في القرن الحادي عش، وقد وافق بذلك المؤرخ الشهابي الذي ذكرهم في أحداث سنة 1035، ووافقه أيضاً بنسبتهم لآل الحيار وبتلقيبهم بآل أبي ريشة وزاد عليه ببيان سبب هذا اللقب.
إن هذا الاستدلال وبقاء لقب أبي ريشة لاحقاً بأمراء الموالي المعاصرين لنا حملاني على الظن بأن هؤلاء الأمراء هم من أعقاب عيسى بن مهنا آل الفضل الطائيين الذين كانوا ملوك البادية وأعظم ساداتها في عهد السلاطين الأيوبيين والسلاطين المماليك كما كان أقاربهم بنو الجراح الطائيون من قبلهم في عهد الخلفاء الفاطميين وهذا هو السبب في أن
أعراب زماننا يجهلون شأن هؤلاء الأمراء ويحلونهم الصدر الأول في المجالس والمؤتمرات التي يحضرها كبار مشايخ البادية ورؤساؤها. وقوى ظني هذا الذي لا يزال تشوبه ريبة تحتاج للإزالة ما نعرفه عن قبائل الأعراب من أن أسماءها تتبدل مهما عظمت في كل قرن أو قرنين تبعاً للمتآمر عليها وقد تسمى القبيلة باسم أميرها أو شيخها ثم باسم ابن هذا أو ذاك بعد وفاته إذا انفصلت عن الأرومة وتفرعت. فقد تغيرت أسماء القبائل التي كانت معروفة بد \ خول الإسلام الشام في القرن الثالث والرابع، وما عرف نمن أسمائها في القرن السادس والسابع تبدل في التاسع والعاشر. والأمثلة على ذلك كثيرة كما سوف يأتي. والإمارة أو المشيخة ترجع على الأغلب لمن كان له أصل قديم من بيته أو من كان أذكى قومه جناناً وأبسطهم بالكرم يداً وأشجعهم يوم النزال قلباً وأصلبهم في الحوادث عوداً ثم تنتقل بالوراثة حتى ينقطع العقب أو ينضب معين الكفاءة.
ولما رجعت أنقب الكتب الباحثة عن أحوال العرب وأنسابهم وجدت الباحثين عن أحوالهم وعاداتهم كثيرين برز بين المتقدمين ابن عبد ربه الأندلسي المتوفي سنة 328 في العقد الف6ريد، وأبو الفرج الأصبهاني المتوفي سنة 356 في الأغاني وبين المتأخرين السيد شكري الألوسي في بلوغ الأرب في أحوال العرب المطبوع في بغداد سنة 314 في ثلاثة مجلدات خصها بشرح أخبار الأعراب وعاداتهم وأخلاقهم وآدابهم في الجاهلية والارشمندريت بولس سلمان في كتاب خمسة أعوام في شرقي الأردن المطبوع في حريصاً (لبنان) سنة 1719م شرح فيه آداب مدن شرقي الأردن في عهدنا وقضاءهم وديانتهم وعشائرهم، والسيد عارف العارف قائم مقام بئر السبع (فلسطين) في كتاب القضاء بين البدو المطبوع في القدس سنة 1933م شرح فيه أخبار أعراب بئر السبع في عهدنا أيضاً وطبائعهم وعاداتهم في القضاء والقتل والسرقة والمرأة والحيوان والرحيل والتجارة والطلب والعقيدة.
أما الباحثون عما أنشده فقلائل برز بين المتقدمين ابن خلدون المتوفي سنة 808 في تاريخه العبر والقلقشندي المتوفي سنة 821 في كتابه الأول صبح الأعشى وكتابه الثاني نهاية الأرب في معرفة قبائل العرب طبع في بغداد وعنه أخذ أبو الفوز السويدي البغدادي في رسالته سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب المطبوعة على الحجر سنة 1280 وكتابه
الثالث قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان منه نسخة خطبة في دار الكتب الخديوية في مصر وقيل أن في أحد الأجزاء التي لم تطبع بعد من مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري المتوفي سنة 748 ذكراً لمنازل العرب كما كانت في زمنه، وقيل أيضاً أن لابن حزم الظاهري المتوفي سنة 456 كتاباً اسمه جمهرة النسب في معرفة قبائل العرب مخطوط في دار الكتب الخديوية. ولم يسعدني الحظ بالوصول إلى هذه المخطوطات الأخيرة وإن كانت تشمل العصور البعيدة عن درسي وتنقيبي.
أما المتأخرون إذا استثنينا الفاضلين الذين كتبا عن أعراب شرقي الأردن وبئر السبع، فقد أهملوا البحث عن قبائل الأعراب سيما ما كان منها في شمالي الشام ووسطه كما أهملوا كثيراً مما يتعلق بجغرافية البلاد الشامية ووصف بلدانها وخططها ومسالكها وسكانها وآثارها وصرنا في هذه المواضيع يا للخجل عالة على رحالة الإفرنج ومستشرقهم الذين استنفضوا كل بقعة من بقاعنا ومدينة من مدننا وبادية من بوادينا وأجادوا وأفادوا في وصفها من نواحي الطبيعة والتاريخ والآثار والعمران والأنساب وكتبوا فيها المجلدات الوفيرة، منها في الفرنسية مما يتعلق بموضوعنا وحده رسالة (بدو البلاد التابعة لحكومة دمشق) للكابتين رينو طبع في سنة 1921 وكتاب (في بلاد الشام مع البدو) للكومندان موللر طبع في سنة 1932، وكلا المؤلفين من عمال الإدارة الفرنسية الخاصة بقبائل البادية.
أما غايتي في هذه العجالة فهي ذكر بعض ما فعله الأعراب خلال القرون الماضية في شمالي الشام وبيان أثرهم في أحداثه ومصائبه للاعتبار بما كان ولا يزال عليه هؤلاء ورؤساؤهم من حب الغارات واستباحة حمى المعمور من البلاد والاشتراك بكل انتفاض واغتنام فرصة كل فوضى والنوال من الغريب والقريب على السواء واستدرار المغانم والعطايا من أي نبع كان والخنوع أمام القوي والتنمر في وجه الضعيف، ثم للتوصل إلى معرفة أنساب من هم في عهدنا وأحداثهم التي تكاد تضيع لفقدان من يعنى منا بهذه الأمور التي عني الأسلاف والإفرنج أي عناية كما قدمنا وهي أمور في ظني لها شأنها وخطرها في تاريخنا الحديث، ثم للتمكن من ربط معاصرينا منهم بأسلافهم وأخص بالذكر أمراء الموالي بآل عيسى بن مهنا وأجدادهم آل الفضل وآل الجراح وآل ربيعة الطائيين، هذا
على الرغم من صعوبة الاتصال والاستعلام من أولئك الأعراب وقلة المصادر ونقص الوسائل التي تتيسر للغربيين أكثر منا نحن الذين نمت بالاسم إلى البادية بصلة الدين واللغة والقرابة والجوار.
ولعله يأتي يوم فيتمكن أحد مفكرينا من استيفاء هذا الموضوع حقه، فأكون قد مهدت السبيل ولفت الأنظار وهما حسبي.
وصفي زكريا