الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التربية الفرنسية والثقافة العربية
للأستاذ غابريل بونور
تعريب جميل صليبا
المربي الفرنسي في الشرق الأدنى رسول يقضي عليه الواجب أن يبحث عن الصفات الخاصة التي تتصف بها مسائل التربية وعلائقها بالهيئة الاجتماعية، إن هذا البحث ضروري لتعيين حدود تبعته وجهة جهوده ونتائجها.
إن للعمل الذي انتدب نفسه إليه تأثيراً قوياً في تطور هذه البلاد، غير أنه ليس مرتكزاً على أساس اجتماعي بل هو اضطراري أرغمته على القيام به حوادث التاريخ وظروفه الخاصة. إن الثقافة التي ينقلها رجال التعليم الفرنسيون إلى الشرق الأدنى ليست ظاهرة من ظواهر الحالة الاجتماعية فيه، ولا هي ثمرة طبيعية متولدة من شرائط وجود الشرق، ولا من شعور الشرقيين بالحياة. ليست هذه الثقافة من إبداع المجتمع الذي تتوخى إصلاحه، بل هي قد حملت إليه من الخارج مفعمة بالصفات الغريبة. وهي من إقليم غير هذا الإقليم لا تدل على تقاليد الشرق، ولا تحمل آثار ماضيه، فهي إذن ليست من نتاج هذه البلاد ولا هي قومية بل هي آتية من الخارج.
وبالرغم من ذلك فإن صفتها الخارجية لا تمنعها من تبديل النفوس والأخلاق وتغيير النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
إن الثقافة الأوروبية أو الأميركية التي استولت على هذه البلاد ترغم الشعب السوري كغيره من الشعوب الآسيوية على الأخذ بمنتوجات الصناعية وأساليب تفكير الغرب وآرائه وعواطفه، ولذلك فهي تطرح على بساط مسألة لا يمكن الأعراض عنها.
إن هذه البلاد قديمة جداً، وقد أورثها الماضي ثقافة غنية وجملة مركبة ودقيقة من الاعتبارات الخلقية، وهي تقاليد محترمة وأدب بديع سواء كان دينياً أو غير ديني، وهي أيضاً ذات صناعة وفن وأخلاق، ولها في الحياة البشرية مثل أعلى سام كونته مصائب الحرب وأعمال السلم وهيأه المفكرون العظام في وحدتهم وسكونهم. فليس ينقصها أذن شيء مما تقوم عليه الحضارة العالية والمدنية الروحية الجميلة.
وقد نشأ عن ذلك حال معقدة تلقى على المربي الفرنسي كثيراً من الأسئلة الخطيرة فكيف
السبيل إلى جعل الثقافة التي جاء بها تنفذ إلى قلب البيئة فلا تبقى سطحية ولا تحدث انقساماً في ثقافة الشرقيين، ولا خللا في نفوس الأفراد أو اضطراباً في الكيان السياسي والنظام الاجتماعي، كيف السبيل إلى منع هاتين الثقافتين من المنافسة الضارة التي قد تسوق أحداهما في المستقبل إلى القضاء على الأخرى، كيف السبيل إلى إيجاد الاتساق بين هاتين التربيتين الغريبتين اللتين يكاد يتعذر التوفيق بينهما؟
أننا نطمع في أن نكون مرشدين ونود أن نكون قادة العمل الفكري العظيم الذي يرمي إلى تجديد الثقافة في الشرق، إن الشروط التي تساعد على تجديد المدينة العربية الزاهرة متوفرة اليوم، فهناك نخبة من الطبقة المتوسطة مستقلة من الوجهة الاقتصادية قد شعرت بامتياز تقاليدها وخصائصها القومية، وهناك شعور بالماضي حي وقوي، وظهور للقوى القومية، وثروة من الأساطير والحكايات والأهازيج الشعبية بالنشاط والحياة، وهناك شعور قوي بالألفاظ وقوة دلالتها، وهناك لغة قديمة غنية مشخصة تركيبية لا تزال مسيطرة على اللغة التحليلية الحديثة التي أخذت تتوسع وتتكيف وفقاً لدلالات الفكر المجرد - إن الإبداع الفني والفكري الذي ازدهرت به عصور المجد العربي قد تولد من هذه العناصر المختلفة ومن الوحدة العميقة التي يربطها بعضها ببعض. فيمكننا إذن أن نشارك الشبيبة السورية المثقفة في آمالها وأن نتوقع انبثاق الآثار الفكرية القيمة وظهور الأعمال العظيمة في بلاد العرب.
إن في وسع الثقاف6ة الفرنسية أن تكون عنصراً مغيراً لا يتغير في دور التحضير والتنشئة، لأنها تحمل معها مثال الحرية الفكرية الناضجة وصورة من المنهاج القويم الذي أبدعته آدابها القديمة.
ولكن الفرنسي ربما كان مبالغاً في الظن أن ثقافته ذات نطاق عالمي واسع وإن قيمتها لا تجاري، فلنلق إذن نظرة على الصعوبات التي يلاقيها المربي الفرنسي في تأدية رسالته والعمل بها.
إن تجدد الثقافة الذي نتوقعه يلاقي صعوبتين أساسيتين:
أولاً: إن الحاجة جعلت تجديد اللغة أمراً ضرورياً ولذلك فقد تعددت التجارب الناجحة في القاهرة كما في بغداد وفي بيروت كما في دمشق لتغذية اللغة.
ثانياً: من الضروري أن تؤدي العلاقات المتتابعة بين الشرق والغرب إلى تعويد الشرقيين طرائق التفكير والعلم وتدريبهم على أساليب الصناعة والاختراع الفكري الحديث.
إن تجديد اللغة العربية يتعلق بالشرقيين وقدرتهم واجتهادهم وإبداعهم واتحاد جهودهم، ولكن ليس في وسعهم أن يبقوا بمعزل عن التربية الفكرية العالية التي وضعها الغرب لنفسه، أننا مستعدون لنقل هذه التربية لهم بروح التعاون المجرد عن كل غاية وبقلب نقي خالص، ولكن الغرب لم ينقسم أبداً كما هو منقسم اليوم في معرفة حقيقة حاله، ولا كان أكثر قلقاً مما هو اليوم في نقد مثله الأعلى وقواعد عمله وتصوره لحقيقة الإنسان، إن وضع مسألة التربية في الشرق على بساط البحث يحتوي على هذه الشكوك: الشرق يقتبس هذا القلق منا ويعيده إلينا، وكثيراً ما يولد في نفوسنا هذا القلق، إن ألمانيا مثلاً تتردد اليوم بين الثقافة العقلية القديمة على طريقة الفرنسيين وبين عدم تقيد الأساليب الحديثة التي توصي بها معاهد التربية والتعليم ورجال التربية الحديثة - يلخص هذا الخلاف بالتباين الموجود بين أفكار (كورتيوس) وأفكار (بيكر) ولكن آسيا لا تجهل هذه المباحث والتجارب ولا هذا الخلاف. والمربون الذين يريدون أن يطبقوا نتائج دراستهم لأحوال الطفل النفسية على تسيير حياة الصغار وتنشئة نفوس الأحداث تجدهم في الصين والهند كما في العالم العربي كثيري العدد. ولئن كانت ألمانيا مترددة بين الروح الفرنسية المدرسية وبين طرائق التربية الروسية فالعلم العربي منقسم بين تقاليد العقل في البلاد المحيطة بالبحر المتوسط وبين الأفكار التي حملت الجمهورية الصينية على إبداع المدارس التجريبية الحديثة. فلم ينقض العام الماضي حتى شاهدنا بلدين عربيين، هما العراق وسوريا، اللذان تربطهما نزعات وميول واحدة في رفع مستوى الثقافة، أقول رأينا هذين البلدين يعملان على إصلاح التعليم الرسمي ويقايسان لهذه المناسبة بين الطرائق الفرنسية والطرائق الأميركية.
(لها تتمة)
غابريل بونور