الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلسفة سبينوزا
- 2 -
كل حي، ذي خيال، مسير بقوة الحياة الحافزة يلمس في مساعيه الخاصة صفات الخير، ويرى الشر العميم في كل ما يخالف تلك المساعي، فكل عادة من عاداته وعاطفة من عواطفه تغدو حكما للأخرى، ثم تنضم هذه العادات في مجاميع مركبة
وكلها تستقر في أعماق نفسه وتسيره في الوجهة المناسبة. ولكنها لا تلبث هناك هادئة بل يغمرها تيار المنافسة فتحاول أن تتنازع على السيادة وأن تقسر بعضها البعض لإرادتها. من هذه المنافسة بين عواطف الإنسان يتألف تاريخه الخلقي كما أن الاصطدام بين مصالحه الذاتية ومصالح الجمعية يرسم له هدفاً معيناً والخيال الذي يرى في لمحة عابرة هذه المصالح المتضاربة في مجموعها ويتأملها في تصادمها وتألفها، هذا الخيال هو العقل نشيطاً قوياً تتوفر وسائل النجاح وتسود الجرأة النفسية وتتلاشى أسباب السقوط والاضمحلال. وما السعادة في نظر سبينورا - غير قوة نفسية يولدها العقل فتنكر كل مستحيل وتقبل كل أمر ضروري واقعي. وقوام هذه القوة نواميس الطبيعة وإدراك نظامها، ولذلك يدعوها سبينورا - معرفة الله ومحبته. السعادة - بهذا القياس - هي الغاية المثلى التي ينشدها فيلسوفنا، لأنها تضع حداً للأطماع الشاردة وتحمل الناس على الخضوع للقوى الموجودة كونية كانت أم سياسية. أما الوهم والغرور الإنسانيان فأنهما الباعث الأكبر على الفوضى الصارخة والخوف الذي يساور النفوس من قوى الطبيعة الغاشمة وسبينوزا بالرغم من خضوعه للسلطة المشروعة التي تمثلها القوانين الطبيعية لا يعرف هوادة في قضايا الفكر فهو بكل شجاعة وثقة يهدد الحكومة التي لا تمثل قوة الجمعية المنظمة بالاضمحلال والدين الذي يحرف موحيات العقل والضمير الإنساني بالتلاشي. ولما حرمته الدينية القروسطية من الامتيازات التي كان يتمتع بها أبناء دينه عاد إلى آراء الأنبياء الأصلية ونهل من معين اليهودية الأول. منذ ذلك الحين أصبح مصلحاً فذاً يحمل إلى العالم رسالة إصلاح جديدة تدعمها روح ورع فعالة لا تعبأ بتقاليد البشرية العمياء. وقد وعد الذين يعتنقون تعاليمه بالحصول على سعادة دنيوية معقولة مستمدة من نواميس الطبيعة ونظمها الثابتة.
لاشك أن الله لا يفكر كما نفكر ولا يحتذي الأساليب التي نحتذيها. ولكن الإنسان الصالح الذي يعمل للخير في أوسع معانيه بأتباعه للسنين الطبيعية التي تمثل الله يغدو سعيداً هادئ البال. وبالعكس فإن طريق الإثم شاق عسير يملؤه القتاد. فالقوانين الطبيعية، إذن، هي المبرر السامي للخلق النبيل، وهذا الخلق لا يتمثل بالتضحية الظاهرة المسرحية ولا بالإيمان الخادع الذي تولده العقائد الخيالية بل هو نتيجة طبيعية للنواميس الكونية متصل بها بأقوى الأسباب وأوثق الأواصر.
التفت العبرانيون المتأخرون، بعد اضمحلال شأنهم السياسي إلى التقوى الباطنية والشعور الرثائي النادب - كما نرى في المزامير - وقد وجدوا في القلب الكسير والنفس المصدوعة طريقاً جديداً للخلاص فحفن هذا (سبينوزا) إلى إضافة لون صوفي جديد للخلاص يضم إلى مزايا العملية: فقال أن الاحترام المجرد لإرادة الله والفهم الحقيقي لقوانين الطبيعة (والاثنان واحد في رأي سبينوزا) هما في ذاتهما ملك أثمن من الياقوت وأغلى من ألآلئ. والروح الفلسفية ليس لها وطن سوى بيت الله والمكان (الكون الشامل) الذي تستقر فيه عظمته، وكل ما في الطبيعة، هو بلا ريب، ومسرة للرجل الذي يدرك الضرورة الرياضية لجميع حوادث الكون.
تبتعد فلسفة سبينوزا الدينية عن الروح اليهودية وتقترب من الفكرة الإغريقية حينما تعالج فكرتي الحرية والخلود. وهما لا تدخلان في طريقته التي شرحناها.
كان سبينوزا جبرياً يرى في ظاهرات الكون حوادث مقدرة بكل دقة لا حيلة للإنسان في تسييرها وتبديل مجراها. فليس ثمة علاقات اجتماعية منفصلة، وجذب ودفع روائي بين الله والناس، كما يوحي إلينا التاريخ المقدس. وليس الله - في رأي سبينوزا - شخصاً في (درام) الوجود الشامل، بل هو الرواية بمؤامرتها وحركتها ومغزاها، وكل مظهر من مظاهرها. وقد كان سبينوزا يتخيل أن نفس الإنسان هي الوعي الذي يلازم حياته الجسدية. فإذا هلك الجسد بادت النفس بالضرورة. ولكنه بالرغم من ذلك كان يستعمل كلمتي الحرية والخلود في كل ما خطه يراعه ونضح به عقله. فما هما في نظره؟.
الحرية - في رأي سبينوزا - مساوية للقوة، والإنسان الحر هو الذي تكون طبيعته موحدة الأجزاء منسجمة في كلها تحسن التعبير عن ذاتها بوضوح في الفكرة وصراحة في العمل.
الحرية هي الفضيلة في معناها القديم - أو هي الموهبة التي تقود الإنسان إلى العقل القوي النافع وفي هذه الفضيلة تكمن السعادة المنشودة فالحرية، إذن، لا تتمثل في الخلق المتردد ولا في الاختيار الفوضوي الذي لا يخضع إلى قياس ولا تلائم مع مكنونات النفس بل هي الكفاءة الخلقية، والمقدرة على إنجاز المهمة التي توحي بها السليقة والفطرة السليمة الخاصة.
أما الخلود، فليس هو قضية زمنية معقدة أو وجوداً دائم الاستمرار، بل صفة من صفات الحياة لا تدخل في نطاق الزمن وقياسه. فليس طول الأيام وكثرتها مقياساً لخلود الإنسان بل الآثار الفكرية التي يبدعها عقله. فالروح تشترك مع الأشياء التي تتحد بها في مصيرها المحتم، والنفس المنغمسة في الأشياء العارضة هي نفس متلاشية. كما أن النفس التي تلابس الأشياء الخالدة خالدة مقدار خلود تلك الأشياء. ولكننا حين نتساءل بعد ذلك عن ماهية الأشياء الخالدة، يجيبنا سبينوزا بأن لا شيء خالد في ديمومته. فتيار التطور يجرف كل شيء أمامه سواء كان جسداً أم فكرة، فرداً أو جماعة. ولكن الأشياء، مع ذلك خالدة خلود الحق وإمكان الذي تشغله حادثة من حادثات التاريخ وقف لها لا يمكن استبداله، والصفة التي يصطبغ بها عمل من الأعمال وإحساس من الإحساسات صفة ثابتة لا تتغير. وليس العقل الإنساني، بنتيجة هذا القول، حيواناً صرفاً لا يشعر بغير الانتقال من حالة راهنة إلى أخرى مقبلة في مراقي التطور، بل هو جهاز تركيبي ذهني، تأملي، يستطيع أن يتطلع إلى السابق واللاحق، وأن يبصر العلاقات المتبادلة بين الأشياء المتعاقبة، ويراها في شكلها الخالد - على حد قول سبينوزا - ورؤية الأشياء في شكلها الخالد هي رؤيتها في حقيقتها التاريخية والخلقية لا كما تبدو في انتقالها السريع إلى حالاتها المتسلسلة، بل كما تظهر بعد أن تنتهي من رحلتها الشاقة. فحين تنتهي حياة الإنسان - مثلاً - تظل حقيقة وجوده فترة في عباب الزمن اللامتناهي، حقيقة لا تزول، ويظل صحيحاً أنه كان ذاتاً متميزة لا تتميز فيها ذوات أخرى مهما كانت عليه تلك الذاتية من الضآلة وتفاهة الشأن. يعكس لنا التاريخ في مزيجه وصفحاته هذه الحقيقة في لون ظاهر لا يتطرق إليه الشحوب ويرى الإنسان في نورها صفة الخلود التي تلازمه رغم حصول الموت ذلك لأن الحياة حين تنتهي حركتها تبقى حقيقتها وتخلد. فحادثة وجود الإنسان هي حادثة دائمة الارتباط
بمجموع الحوادث الأخرى التي لا تتناعى. هذا الضرب من الخلود يشمل جميع الموجدات في صورته السلبية. ولكنه يتمثل في عقل الإنسان بصورته الإيجابية أيضاً لأن العقل بنسبة إدراكه لخلود الحقيقة وتأمله لها، وهو حين يعني بالجزء الخالد من وجوده ينصرف عن العناية بالجزء الفاني. على أن هذا الخلود الذي تصوره سبينوزا هو قياس مثلي فقط. فالرجل الذي يحيا حياة الخلود لا تطول حياته سواء أكانت جسدية أم روحية. بل كل ما في الأمر يعمد في تلك الحالة التأملية إلى إسقاط المقاييس الزمنية من جعبته ويتنكر لها، وبذا يفقد الموت كل تأثير ممكن في نظره. ولا بدعة، بعد ذلك، إن قلنا أن هذه النظرة السامية التي تبدد حجب الوهم حين ينظر الإنسان بها إلى مصلحته تغدو منقذة له بابتعادها عن فكرة الغناء التي تتضمنها صور الزمان والمكان. والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي عرف أن الموت حق لا ريب فيه. ومعرفته هذه، قد رفعته فوق فكرة الغناء وأدت به إلى الاشتراك في استبصار الحقيقة الخالدة ثم وقف جانباً يشاهد تمثيل مأساته والعطف على العاصفة الثائرة يملأ جوانحه، ساداً أذنيه عن سماع استغاثة النوتي في المركب الحطيم. مع أن النوتي يمثل (ذاتيته) الخاصة. الحقيقة قاسية، ولكنها جذابة يهيم الكثيرون في حبها، وهي تعمل دائماً على تحرير أولئك المحبين.
إن الجزء المهم من فلسفة سبينوزا في الدين والسياسة والأخلاق يستعد من (الفيزياء) أكثر مما يستمد من الغيبيات. فالفيزياء - نظر الأفلاطوني - هي علم غايته درس العلاقات التي تربط بين الظواهر فقط، أما المثل الإنسانية العليا عقلية كانت أم خلقية فهي مفتاح لعالم غبي غير طبيعي. ولكن سبينوزا يرى في المثل والمدركات الإنسانية صفة إنسانية لا تنطبق على غير علة الأصغر. أما التاريخ الطبيعي فهو - في نظره - الوسيلة الوحيدة لاكتشاف كل أمر جوهري وخالد وإلهي في كشف الطبيعة. ومما لا شك فيه أن إيضاح هذه الحقيقة بصورة تامة أمر متعذر لأن التاريخ الطبيعي لا يخرج في دوره عن نطاق النظرة الإنسانية مبتدئاً من النقطة العالية المشرفة التي يقف فيها الملاحظ المستقرئ. ولكن هذه النظرة الذاتية التي يبتدئ منها الدرس العلمي ليست عاملاً مهماً في ذاتها لأن غاية العلم ملاحظة كل أمر يقيني واقي، ولو كان هذا الأمر مزاجاً أو وهماً. وبهذه الطريقة نتمكن من لمس جانب من الوجود اللا نهائي. إدراك ناحية من الكون الحقيقي. فمهمة العالم الطبيعي
إذن، إن يعين الموضع الذي يحتل حادث من الحوادث في كتف الطبيعة وأن يحدد علاقته بالحوادث التي تحيق به فتصبح موضع درس يقيني أو فرض ضروري. هذه الطريقة هي (كلمة السر) التي فتحت مغاليق الحقيقة الكثيرة في وجوه الباحثين فولجوا إلى حديقتها الكبرى يتذوقون أطايبها ويتنشقون أزاهيرها العطرة ثم خرجوا مزودين منها بنماذج صحيحة التركيب يعرضونها على سمع الناس وأبصارهم وأذواقهم وسائر حواسهم ليحملوهم على الإيمان بالأساليب الموضوعية غير مشوبة بعاطفة أو نزعة ذاتية. يعتقد سبينوزا أن هنالك منطقتين يتصل فيهما العلم بالطبيعة، وهو يصفهما وصفاً جزئياً حقيقياً، وهاتان المنطقتان هما (الفيزياء) الرياضية والشعور الذاتي. وقد استمد فيلسوفنا صورتي (الفكر والامتداد) من فلسفة ديكارت وجعلهما حدين للطبيعة في إمكان الإنسان أن يلمس بعض أجزائهما فعلم سبينوزا يتلخص في وصف هذين الحدين ودراسة العلاقات التي تربطهما ببعضهما وتصور العلاقة التي تصلهما بالأشياء الأخرى. لا جرم أن تفاصيل هذا التأمل العلمي هل على جانب عظيم من السمو والاعتبار ولكنها عتيقة لا تقبلها الروح العصرية لأن منطقة (الفيزياء) الرياضية هي في نظر الناقد الفلسفي جد بعيدة عن منطقة الشعور الذاتي. والهم الجريء الذي وقر في ذهن سبينوزا أو حاول يشيد دعامته نظاماً وتناسقاً، هذا الوهم الذي يجد الوعي حيث يوجد الامتداد متناقض لا سبيل له إلى الذهن العلمي. غير أن الإيمان الذي يكمن في نفس فيلسوفنا والبصيرة الثاقبة التي يتحلى بها قد أديا به إلى اكتشاف فكرة عظيمة في قيمتها. وقوام هذه الفكرة تصور اللا نهاية المطلقة التي تشمل جميع الأجسام والمظاهر، متدرجة في تطور مستمر، سائرة في مدى لا يتناهى، وكذلك الإحساسات والمدركات التي ترافق ذلك التطور والتي تقرر إلفة العقل ضرورة وجودها، يضاف إلى ذلك مشاعر باطنية وأشياء أخرى لا يلمسها الفكر لبعدها عن نطاق التجربة ولكنها ممكنة الحدوث يشعر بها القلب وهي منسجمة من مجموعها وفي حيز طبيعتها الخاصة. جماع هذه اللا متناهيات بمختلف صفاتها وألوانها، منظومة في سلك واحد تؤلف الكون اللا نهائي المطلق. وما الإنسان في الكون بسائر أعماله وآثاره سوى حادث في حادث وجزء من جزء.
ليس لدينا، في الواقع، برهان قاطع يحملنا على الاعتقاد باتساع الكون للدرجة التي تخيلها
سبينوزا ولا بضيقه أيضاً. ومع أن سبينوزا هو أبعد الفلاسفة عن تصور الله مخلوقاً على نموذج عقله، فقد كان تصوره لله محدوداً ب - (الامتداد والفكر) محاولاً بذلك أن يبتعد عن المقاييس الإنسانية ولكن الدكتور (ماتينو) قد نقض فكرة سبينوزا قائلاً لم تطرأ فكرة الامتداد على سبينوزا إلا في نظره إلى حالات جسمه الطبيعية، ولم ير أن الله فكرة إلا بعد أن نظر في خصائص عقله ولا ريب في أن الامتداد والفكر هما ظاهرتان أخص ما تتصف بهما الأجسام والعقول. ولكن فكرة سبينوزا كتصور لكون شامل بعيد عن الحدود الإنسانية ما أمكن، تظل، بالرغم من فقدان البراهين القاطعة والصفة الإنسانية التي تمثلها كلمتا (الفكرة والامتداد) عاملاً فعالاً في إيقاظ المذهبين المتعنتين الذين يصنعون لوجود الله قانوناً مماثلاً لحاجاتهم ومستمداً من تجاربهم الشخصية. هذه مبررات كافية تحملنا على الانحناء لهذا الذهن الجبار مرهفين إسماعنا إلى المفكر الفرنسي ربنان، عند إزاحة الستار عن تمثال سبينوزا حيث وقف يقول (ويل لمن يقذف هذا الرأس المفكر بالشتيمة عندما يمر أمام نصبه. لأنه سيعاقب عقاب النفوس المظلمة بالجهل والانحطاط وعدم القدرة على التصور الإلهي لهذا الكون. إن هذا الفيلسوف (مشيراً إلى سبينوزا) سيدل الناس جميعاً من قاعدة تمثاله على طريق السعادة الذي اكتشفه، وبعد مرور أجيال سيمر السائح المثقف بهذه البقعة قائلاً في قلبه أن أصدق تصور لله، قام في مخيلة هذا الرجل.
حينما يقول لنا أنهم يمتلكون مفاتيح الحقائق في جيوبهم أو في قلوبهم، وبها يتمكنون من معرفة بارئ الكون وماهية الخلق ويدركون أن كل شيء هو مادة أو روح. حينئذ نقدم لهم نظرية سبينوزا في الكون اللانهائي والبانته ئيزم كعلاج واقٍ يبعد عنهم القلق ويمنعهم من الفوضى، ونقول لأولئك اللاهوتيين التائهين في صحراء الوجود: نحن لا نصدقكم ولا نؤمن بحدودكم الضيقة لأن الله عظيم.
صلاح الدين التقي المحايري