المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الكتب والصحف الشرف عند العرب قبل الإسلام لم يدر في خلد أن - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٧

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌الكتب والصحف الشرف عند العرب قبل الإسلام لم يدر في خلد أن

‌الكتب والصحف

الشرف عند العرب قبل الإسلام

لم يدر في خلد أن للشرف أهمية كبرى في تاريخ الحياة الجاهلية وإنه كان الأساس الذي قامت عليه دعائم حياة العرب الاجتماعية والدينية والقومية حتى جاءت أطروحة السيد بشر فارس لجامعة باريس وفيها من طريف الابتكار وجيد التحليل ودقة الاستقراء ما جعل هذه الرسالة جديرة بكل مطالعة واهتمام. ولا شك أن هذه الأطروحة ستكون خير معوان لمن يريدون تفهم حياة العرب قبل الإسلام تفهماً علمياً صحيحاً.

تتلخص الفكرة التي أراد المؤلف أثباتها بعد أن حلل العوامل التي تؤلف عاطفة الشرف عند العرب تحليلاً اجتماعياً علمياً - إن الشرف كان يقوم في عصور الجاهلية بدور يشبه تمام الشبه الدور الاجتماعي الذي تلعبه الأديان في عصرنا. وإذا فهمنا إن الدين هو عبارة عن مجموعة متوحدة لاعتقادات وطقوس لها مساس بالأشياء المقدسة أي أنها في معزل ومحرمة على الناس، وإن من أثر هذه الاعتقادات والطقوس أنها تجمع في محيط أخلاقي كل الذين يدينون بهذه الاعتقادات

أيقنا أن الدين كان عاجزاً عن القيام بمثل هذا الدور الاجتماعي - الأخلاقي لأسباب أهمها:

1 -

كثرة الأديان التي كانت شائعة في الجاهلية الوثنية في مكة والطائف، والمسيحية في ربيعة وغسان وقضاعة، واليهودية عند بني الحارث وبني كعب وكندة وأهل يثرب ووادي القرى وتيماء والمزدكية عند تميم وقد يرجح بعض المؤرخين وجود بعض الزنادقة والصائبة وعباد الملائكة والجن.

2 -

على أثر اختلاف الديانات نشأت اختلافات في العقائد فقد اعتقد بعض الجاهلين التقمص وبعضهم خلود النفس وسموا بالدهرية وآخرون أنكروا البعث وغيرهم وجود الآله وذهب بعضهم إلى أن امتزاج عوامل الطبيعة هي التي تخلق الحياة وإن انحلال هذه العوامل هو الذي يؤدي إلى خرابها وقد اعتقد البعض أن الملائكة هن بنات الآله.

3 -

ضعف العاطفة الدينية عند العرب فقد جاء القرآن أكثر من مرة مصدقاً هذا الرأي (الأعراب أشد كفراً. . . 0 الخ الآية).

4 -

خلو أشعار العرب ومعلقاتهم من كل عاطفة دينية.

ص: 67

5 -

إن الزهد كان مجهولاً تماماً عند العرب لأن الزهد كما يقول دور كهايم عامل فعال في كل الديانات ومن هنا نستنتج أنه لم يكن للعرب دين واحد ينضمون تحت لوائه ويقومون بشعائره ويتتبعون سننه وقوانينه كما نص عليه تعريف الدين الاجتماعي ولا يفهم من كل هذا أن الشرف كان دين العرب وإنما كان يحل مكان الدين من حيث دوره الاجتماعي ولا ريب أنه الشرف تضمن كل الصفات التي تتمتع بها الديانات الشائعة فكلنا يعلم أن الدين ينقسم إلى قسمين العقائد والشعائر أو الطقوس ولما كان من دلائل القوانين الأخلاقية صفتها الإجبارية وجب على العرب قبول الاعتقادات والقيام بالطقوس ذاتها ولم تكن عوامل الشرف إزاء انحلال العاطفة الدينية وكثرة الأديان الشائعة - إلا لتقوم مقام هذه الاعتقادات فأصبحنا مسوقين باعتبار أن الحرية والاستقلال اللذين كان يتمتع بهما العرب والمحافظة على عدد أفراد القبيلة وحرمة الديار وتحريم أسر المرأة والمحافظة على النسل وطهارة الأنساب وجودة الآباء وأعراقهم في الشرف هي بمنزلة الاعتقادات ومن جهة أخرى رأينا أن نفوذ السيد وحوله والثورة على الضعف والاضطهاد والأخذ بالثأر والشجاعة والوفاء وحماية الجار والجود والسخاء وواجب الضيافة وأخيراً الشعر والفصاحة بمنزلة الطقوس أو الشعائر. وصفوة القول أن عوامل الشرف كانت تؤلف في عهد الجاهلية مجموعة قوانين فرضتها الهيئة على جميع الأفراد وتولت الجمعية حمايتها وفرض العقوبات على من يجرأ على مخالفة هذه القوانين. ولهذا ترى أن الشرف كان العامل الأوحد في جمع العرب وتآخيهم حتى تمكنوا من تأليف هيئة اجتماعية لها أحكامها وقوانينها الأخلاقية.

إبراهيم الكيلاني

تقويم الهلال لسنة 1934

لا مشاحة أن مجلة الهلال وما تصدره دار الهلال من مطبوعات ممتازة أصبحت جميعها بإتقان الطبع وجودة الصور وحسن التبويب والتنظيم لا تقل بشيء عن أعظم مؤسسات الطباعة والنشر في مختلف العواصم الأوروبية. ولقد أرادت دار الهلال أن تقدم دليلاً جديداً على ما ذكرنا في هذه السنة تقويمها لسنة 1934 وجعلته، والحقيقة يجب أن تقال، خير نموذج لما بلغته مصر من نهضتها الحديثة في الطباعة التي كانت دار الهلال أول من حمل لواءها جليلاً في جميع بلاد الشرق العربي وقد صدرته بتواريخ المواسم والأعياد ونتيجة

ص: 68

سنة 1934 ثم درجت فيه حوادث السنة الغابرة مصورة فنشرت كثيراً من صور المواقع الهامة في مصر خاصة والعراق وفلسطين وسائر البلاد العربية عامة، ولم تذكر عن سورية ولبنان شيئاً ما نشرته في إحدى الصفحات من رسم الونت دي مارتل المفوض السامي الجديد وهنري بونسو المفوض القديم مع أن في سورية من الحوادث الهامة في خلال تلك السنة ما لا يقل شأناً عما أشارت إليه في بقية البلاد وفي هذا التقويم عدا ما بينا كثير من مواضيع مختلفة مزينة كلها بالصور الواضحة، وفكاهات مصورة وأبحاث شتى عن نهضة المرأة المصرية وعن الفن السينمائي وعن سجون النساء وغير ذلك من الأخبار والمعلومات التي جرت دار الهلال في ترتيبها وتبويبها على أصول التقويم الغربية الحديثة دون أن تتهامل في إبراز ما تمتاز به الروح المصرية والثقافة العربية من مميزات وطوابع خاصة. زاد الله في نجاحها ووفقها.

ك. د

دائرة المعارف الإسلامية

لا جرم أن هذه المعلمة الإسلامية خزانة علم وأدب، تشتمل على جهود المستشرقين في حقبة من الزمن تزيد على قرن، بحثوا فيها عن العرب ولغتهم وعلومهم وآدابهم خاصة، وعن الإسلام ومدنيته وبلدانه وشعوبه وأحوالهم الاجتماعية والدينية والسياسية عامة، وأبحاث هؤلاء المستشرقين منها ما كان باعثه الشغف بالعلم والبحث عن الحقيقة، ومنها ما الغرض منه خدمة الاستعمار، ومهما يكن الحادي بهم إلى تأليف هذا المعجم الخطير، فإن الأمة العربية وسائر الشعوب الإسلامية لتنتفع به كل الانفاع بالإطلاع على أبحاثها الجغرافية والقومية والاجتماعية الممتعة، فيعرف المسلم العربي مثلاً من أحوال المسلم الصيني أو السوداني أو الاقيانوسي ما لا يجده في كتبنا التاريخية والجغرافية، ولم تقتصر أبحاثهم على علوم الإسلام الكونية فقد حاولوا بها أيضاً أن يتغلغلوا في صميم العقائد الإسلامية والأحوال الروحية، خذ لك مثالاً على ذلك التصوف وحقائقه، ووارداته ورقائقه، فقد كتبوا عنه فصولاً عديدة أصابوا في بعضها وحاموا الحمى في بعضها، ومن أعجب من بحث منهم عن التصوف الأستاذ ماسينيون بما كتبه عن الطرق الصوفية، فقد بحث لعمر

ص: 69

الحق عنها بحثاً دقيقاً ممتعاً توفرت له شرائط من العلم والجد وبذل المال وشد الرحال، فأطلعنا على ما ظهر من الطرائق قديماً واحتفى، وعلى ما بقي في هذا العصر منها، مبيناً لنا أصولها وفروعها وأماكن انتشارها مع إحصاء شيوخها المربين ومريديها السالكين، مما لا يعرف أكثره شيوخ الطرق أنفسهم، وفي هذه المعلمة من الكلام على العلوم الطبيعية والرياضية وعلى حكماء الإسلام والعرب وأطباءهم ورجال الهندسة والكيمياء والفيزياء منهم ما فيه تذكرة للغافل ودمغ لباطل الشعوبي المتجاهل، وفي خاتمة كل مبحث يجد المطالع ما يحتاج إليه من أسماء المراجع العربية أو الغربية مما لا يسع باحثاً جهله لا مؤلف كتاب ولا طالب علم وآداب.

إن هذه المعلمة الإسلامية لا يقتصر الانتفاع بها على شعب إسلامي دون شعب فهي ملك الأمة الإسلامية جمعاء من حيث حاجة المتعلمين من أبنائها إلى مطالعة ما يهمهم منها، ولهذا يجب على كل من يقدر هذه المعلمة قدرها، ويجل الغية من تعريبها، ويكبر الهمة في الشباب المقدم على نقلها إلى العربية، أن يحرص كل الحرص على إتقان هذا العمل الجليل، ذلك الواجب هو الذي حملنا على كتابة الكلمة المشتملة على ما يتعلق بالمعنى والمبنى معاً.

أما ما يتعلق بالمعنى فيحتاج التعريب، إلى دقة في التعبير تدعو إليه أمانة النقل وقد رأيت جل الناقلين إلى العربية أو الكاتبين فيها يصرفهم زخرف التعبير وطلاوة الأسلوب وجمال المعرض عن الإحاطة بالمعنى المراد، وعدم العناية بالتدقيق في التعبير مما جعل لغتنا العربية تتخلف على مرونتها ووفرة مادتها عن اللغات الغربية نثراً وشعراً، ولا نقصد بهذا القول أن تفقد العبارة حسن سبكها، فإن أكمل التعريب ما كمل وجمل مبناه، ولم تشم منه رائحة أجنبية، ولا يتوفق لذلك إلا من أحكم لغتي النقل: أي المنقول منها والمنقول إليها، وقد لاحظنا في بعض ما تنقله لجنة التعريب بعض الضعف في التعبير والدقة في التعريب ولولا خطورة هذه المعلمة لما بالغ الناقدون في نقدها لأن تعريبها لا يقل عما ينتقل إلى العربية في هذا العصر إن لم يزد على كثير منه في الإحسان والإتقان.

ومما لاحظناه مثلاً في مادة الاباضيون تعريب ما يأتي:

ص: 70

بالعبارة التالية: زمن الطبيعي أن يعارض الاباضيون بشدة في اتهام أهل السنة لهم بالكفر ولو قيل مثلاً: ومن الطبيعي أن يعارض الاباضيون بشدة نبر أهل السنة بلقب الخوارج أو المبتدعة لا شك هذا القول أو يوافق الصواب فثمت فرق بين بين الكفر والابتداع، وانظر أيضاً إلى العبارة التالية:

فقد نقلت إلى العربية هكذا:

والمسلمون مضطرون اضطراراً إلى الاعتراف بوحدتهم، والتعبير عن هذه الوحدة بالقول والعمل وكان الأصح أن تعرب هذه العبارة بما يأتي:

أن للتضامن بين المسلمين كافة فروضاً شديدة يؤدونها بالأقوال والأفعال

إذ شتان ما بين الفرض والاضطرار والوحدة والتضامن من الفرق والتباين.

ومما يعود إلى المبنى وحسن الصياغة مثلاً عبارة المعلمة الآتية:

وجماعاتهم الدائمة الاتصال بعضها ببعض ولو قيل المتواصلة أبداً لكان أمتن وأبين.

وحبذا لو يرجع بالأعلام الأعجمية في المعلمة إلى مسمياتها العربية، اضرب لذلك ما جاء في الجزء الثاني مثلاً من اسم طيسفون، في العبارة التالية:

وتقول الرواية الشائعة: إن سيف بد ذي يزن ذهب إلى طيسفون حيث نجح في استمالة ملك الفرس وأي عربي يطالع المعلمة ويدرك الموضع المقصود من طيسفون، إلا من درس تاريخ الفرس بلغة أجنبية، فكان يحسن تسميتها باسمها العربي أيضاً، وهو المدائن ومن أطلالها اليوم في العراق طاق كسرى الباقي من إيوانه.

هذا وقد اصطلح المستشرقين على اتخاذ علائم خاصة تشكل بها الأعلام العربية ليسهل عليهم لفظها على وجهها كما يلفظها العرب، فحبذوا لو جاريناهم في الاصطلاح على علائم خاصة تشكل بها الأعلام الإفرنجية ليسهل على من لا يعرف الهجاء الفرنسي مثلاً أن ينطق باسم نطق الفرنسيين فلا يلفظه هيوار كما جاء في المعلمة الإسلامية المعربة. وقد كان عالم الشام الشيخ طاهر الجزائري فكر في شيء من ذلك، ومثله الشيخ اليازجي وغيرهما، ولكن العلائم التي اتخذاها لم يكتب لها التعميم، ولعل من أحسن الوسائل لتعميمها أن تنتشر في المعلمة وتقيد بها أعلامها الإفرنجية كما قيدت المعلمة الإسلامية الأعلام

ص: 71

العربية.

الكمال كما قيل معوز، ولدمع الحنكة وطول المعاناة، فكيف به في ابتداء هذا العمل الجلل، ولذلك نعتقد أن ما ينشر من الملاحظات والتنبيه، والنقد النزيه، لا يقل شيئاٍ من شبا عزائم الشباب، وإنما يزيد إقداماً على إتقان النقل، بتحري المعنى الدقيق والتعبير العربي البليغ، وعرض ما ينقل من العلوم قبل نشره على المختصين بها ممن قضوا أعمارهم في تمحيصها وتحقيقها، فإن من أفضل ما يعين على تجويد العمل وإدراك المأمول، أن تتعاون على تحقيقه العقول، ولعمري أن نقل هذه المعلمة الخطيرة إلى العربية إن لم يكن - كما قال صديقنا خليل مردم بك - أعظم عمل علمي قامت به مصر فإنه من أعظم أعمالها جزى الله لجنة التعريب أفضل ما جزى به مبتدي إحسان ومحيي لسان.

عز الدين التنوخي

نقد فلسفة مناهج العلوم

المثل الأعلى في النقد

لا يخفى أن نقد المؤلفات يكون بثلاث صور، تختلف باختلاف الروح التي تتجلى في النقد.

فأما أن تكون روح الناقد مفعمة بحب المدح والإطراء، فلا ترى سوى الحسنات والمبرات وتتجاهل النقائص والزلات. ولا فائدة من هذا النوع من النقد، اللهم إلا مجاملة المؤلف وحث الناس على اقتناء مؤلفه، بل كثيراً ما ينشأ عنه مضار شتى وأما أن تكون روح الناقد مشبعة بحب القدح والذم، فلا تستوحي سوى السيئات والمتاعب وتعززها بما تشعر به نحو المؤلف أو المعرب من العواطف فتسرد لواذع ومهازل تتجلى بين طيات السطور. وضرر هذا النوع من النقد بيّن ظاهر يعود قسم منه، أن نقل جله، إلى الناقد نفسه فينسب إليه التحامل والتشفي والغايات وتنحط منزلة آرائه لدى القراء، والحقيقة تبقى ناصعة مهما حاول سترها.

وأما أن يكون رائد روح الناقد إظهار الحقيقة الراهنة متحاشياً التحامل والتجامل، فيذكر الحسنة حسنة والسيئة سيئة بدون زيادة ولا نقص. وهذا هو النقد المثمر المنشود لذي تصبو إليه النفوس الأبية، وتستهدفه أرباب الأفكار النزيهة العارية عن الأغراض وهو

ص: 72

الذي يجب أن يكون المثل الأعلى في النقد.

تفنيد النقد

لقد حدا بي إلى كتابة هذه السطور ما قرأته في مجلة الثقافة الغراء في صفحتي 612و613 من سهام النقد التي سددت إلى كتابي (فلسفة مناهج العلوم) ولم تر المجلة لزوماً للتصريح باسم الناقد مع أنها لم تستتر في نقد الكتب الأخرى.

فمما ذكرته في مقدمة هذا الكتاب العبارة التالية:

هذا ولا يخلو مثلي من الوقوع في مهاوي الزلل ولذا فإني أتقبل الناقدين قبولاً حسناً مقروناً إلى شكرهم باسم العلم. . . الخ نعم، ولكن على أن يكون هذا النقد صحيحاً. أما إذا كان مغلوطاً فإنه يترتب علي طبعاً أن أفند مواطن الخطأ فيه، دفعاً لما قد يعلق في ذهن القارئ الذي لم يتح له مطالعة كتابي هذا من الأفكار المباينة للواقع ومنعاً لتشويش أفكار الطلاب الذين يدرسونه بلهف واعتماد.

أجل إني رجحت التعريب الصريح ولم أقل الصحيح كما ذكرته المجلة سهواً، لأني أكثر تواضعاً من أن أدعي بالصحة في هذا الموضوع الحديث الدقيق (وهذه عبارة طواها أيضاً حضرة الناقد) على التأليف الملتقط. وقصدت من ذلك التعريب الذي يصرح معربه للملأ معترفاً بأنه تعريب لا أن يترجم أو يلتقط وينتحل ولا يعترف بهذه الترجمة وهذا الانتحال، بل لا يرى غضاضة في المباهاة بأنه هو المؤلف. نحن لا ننكر أن التأليف الحر حسن، على أن يكون حقيقة تأليفاً لا تعريباً ملتقطاً ملفقاً. وإني لا أزال أرى (ولكل رأيه) التعريب في العلوم الفلسفية الحديثة الدقيقة في نهضتنا الفتية، أفضل من انتحال التأليف المشوب بالنقائص والمقتصر على ما استطاع المؤلف فهمه، مهملاً ما لم يكن في متناول إدراكه. وليت شعري، هل المقالات المزخرفة والمواضيع العلمية المنقمة التي تسود في المجلات والكتب من وضع صاحب التوقيع وابتكار بنات أفكاره أبداً، أم جلها مترجمة منتحلة؟.

وقد أخذ علي حضرة الناقد الصدق في التعريب، ومتى كان الصدق محطاً للملامة؟.

أما قول حضرته: فجاء كتابه أنموذجاً في صناعة التعريب الحرفي حتى أنك تكاد تشعر بالأصل الفرنسي خلال الترجمة العربية فهذا قول مجرد لا يقوم عليه برهان، إذ التعريب الحرفي يكون على ما أفهم بصف الكلمات المنطبقة على الأصل جنباً لجنب، مما يجعل

ص: 73

المعنى متعذر الفهم تماماً. وربما صدر هذا الطراز من التعريب عن الحديثي العهد في الترجمة، لا عمن مارسها بين لغات شتى منذ عشرات السنين وعرب حتى الآن عدة كتب ومواضيع مختلفة مدرسية وسواها يفهمها صغار التلاميذ كل الفهم فضلاً عن كبارهم، وها هو كتاب (فلسفة مناهج العلوم) نفسه مائل بين أيدي طلاب دور المعلمين والمعلمات في دمشق وحلب منذ سنتين يدرسونه ويفهمونه ولم يشعر أحد منهم ولا ممن طالعه لنفسه (بالأصل الفرنسي)، بل يكفي لمن تصفحه قليلاً أن يرى، بعكس ما رآه الناقد، لغة عربية مصقولة وتعابير تحلو في الطبع وتستاغ في الأذن (كما قال أحد مقرظيه الأدباء الحياديين في جريدة الأيام عدد 36) مما يبرهن على أنه عرب تعريباً متقناً بتصرف غير مخل مع العناية الخاصة بتقريبه من الفهم وإقصائه عن التعقيد، الأمر الذي حمل حضرة الناقد على الاعتراف بأني أتيت بأمثلة لم ترد في الأصل الفرنسي (حسية، مشخصة، موافقة لمدراك التلاميذ رغبة في تقريب المباحث من أذهانهم). فأين هذا القول من صناعة التعريب الحرفي؟ ولو أنصف حضرة لا ناقد وأنعم النظر في هذا الكتاب وقابله مع الأصل الكثير التعقيد والإبهام، لقنع بالجهود التي بذلت في سبيل جعله عربياً خالصاً بعيداً عن كل مسحة فرنجية.

ومن الغريب اعترافه أيضاً بأني وفقت في تعريبه إلى وضع بعض الاصطلاحات الفلسفية الجديدة، ولكنه ما لبث أن عاود خطة الملامة، فنسب إلي مخالفة كلام فلاسفة العرب في تعريب جملة ب - (لا علم إلا من العام) مفضلاً تعريبها ب (لا علم إلا بالكليات). نعم يمكن أن تعرب أيضاً بهذه الصورة، وإني لم أهمل تفسيرها بعد بضعة سطور بقولي: العلم، معرفة شاملة قائمة على كليات عامة وما أظن أني ارتكبت بذلك (مخالفة لكلام فلاسفة العرب).

والتناقض الفكري الذي وقع فيه حضرة الناقد يظهر جلياً من ملاحظته على تعريبي (بالحس العضلي) وزعمه أن هذا التعريب لا ينطبق على المعنى الأصلي لهذا اللفظ. نعم أن التعريب (الحرفي!) هو (الحس الحركي) ولكن من الذي يفهم المعنى المقصود من هذا التعريب الحرفي؟ لأن كل أنواع الحس يتضمن شيئاً من الحركة ولذلك فضلت التصرف بالتعريب شأني في جميع المواطن الغامضة، على المحافظة على الأصل، حباً بالتوضيح

ص: 74

فقلت (الحس العضلي)، لأن هذا النوع من الحس لا يكون إلا بالعضلات. وهذه هي المرة الثانية التي يناقض حضرته نفسه ويلومني على تصرفي بالتعريب، بينما نجد نقده يحوم حول إظهاري شديد الولع بالمحافظة على الأصول محافظة عمياء (وكنت لا انتظر من حضرته أن يجيز لنفسه استعمال هذا النعت بحقي). فبعد هذا كله أينا أشد محافظة على الأصل؟

والأغرب أنه لم يحبذ تعريب لفظ بالرصد في معرض البحث الفلكي وغاب عنه أن المرصد الفلكي في باريس يدعى وإن (الملاحظة) لا تصلح لهذا اللفظ إلا في غير الشؤون الفلكية.

كما أنه أخذ علي كتابة (سوقراط) بالواو، فإن أرباب الأفكار الحديثة لا يرون اليوم بأساً من كتابة الكلمات العربية نفسها كما تلفظ أي بزيادة حروف مد حيث يمكن، فكيف بنا والكلمات الأعجمية كسوقراط. وهل نحن من محبذي الوضوح أن الغموض؟ بحيث نجعل القارئ يتردد في قراءة (سقراط) بين حركات السين الثلاث.

وكم نسب الأوروبيون إلى لغتنا القصور والغموض لخلو معظم كلماتها مما يدل على الحركات ويسهل القراءة؟

ومما لاحظه عليّ: تعريبي (بعلم الحكمة). نعم لقد اقتصرت نادراً جداً على لفظ علم الحكمة بدلاً من علم الحكمة الطبيعية ولكن ذلك كان عمداً مني طلباً للإيجاز، لأني أكثرت جداً من تكرار (علم الحكمة الطبيعية) في صلب الكتاب بحكم الضرورة. ثم لما اضطرت إلى استعمال النسبة مثل في (العلوم الحكمية - الكيماوية) إذ كيف كان يمكنني إضافة لفظ (الطبيعة) بعد الحكمية هنا؟ ولا أخال أحداً طالع هذا الكتاب وظنني عربت (بعلم الحكمة) فقط.

أما الأمر الهام فليس هنا، لأنه لا يطلب تعريبها (بعلم الحكمة الطبيعية)، بل في نصحه إياي بتعريب (بعلم الطبيعة) أو (الفيزياء) وسها عن باله أن علم الطبيعة يتناول الحكمة الطبيعية والكيمياء وعلم الحياة وعلوم الحيوانات والنباتات والطبقات وكلها تسمى العلوم الطبيعية وبعضهم حصرها في العلوم الثلاثة الأخيرة. فكيف يريد أن أستعيض عن علم الحكمة الطبيعية وحدها (بعلم الطبيعة) الشامل المعنى؟ وفوق ذلك يفضل استعمال الكلمة

ص: 75

الفرنجية نفسها وهي (الفيزياء) مكان الاصطلاح المأنوس لدى الجميع وهو (الحكمة الطبيعية) فمن منا أكثر شغفاً ومغالاة بالمحافظة على الأصل محافظة عمياء، وقد بلغ به حب المحافظة على الأصل أن يستعمل الأصل نفسه لا تعريبه؟ وأين عناية الأتراك منا في تشذيب لغتهم الفقيرة من الألفاظ العربية والفارسية؟

وقد أردف بأن ثمة (كثيراً من مثل هذه الألفاظ الني لا يمكن ذكرها هنا) وأنا أرى أيضاً من الأصلح أن لا يذكر سوى إذا كان ما يود ذكره من هذا القبيل.

ثم قال: (إن الدكتور نصري أكثر من ذكر الاصطلاحات الفرنسية إلى جانب الاصطلاحات العربية حباً بالمحافظة على الأصل) كلا يا سيدي، ليس هذا هو السبب، بل السبب هو أن الاصطلاحات العربية محدثة قد لا تكون مألوفة لدى القارئ ورغبة في إزالة الغموض. ثم قال (فوقع في كثير من الأغلاط المطبعية التي لا يمكن تجنبها لجهل عمال المطابع اللغة الفرنسية وقد صحح في الخطأ والصواب كثيراً من هذه الأغلاط المطبعية). إن هذا الكثير الذي صححته في جدول الخطأ والصواب هو لفظ فرنسي واحد وهو وصوابه فمتى كان يطلق على الواحد كثيراً؟

على أني أعترف أنه فاتني تصحيح ب - ب - ولم ألحظها إلا بعد الفراغ من الطبع ولكن أظن أنه لا يستشم من هذا الجهل باللغة لأني معرب ولست بمؤلف وكان النص الأصلي أمامي، فالخطأ مطبعي لا محالة.

أما العبارة التي أوردها حضرته مثلاً للغموض وأشغل بها نصف صفحة من المجلة فلم يستصعبها التلاميذ.

هذا وإن المواضيع الفلسفية جميعها لا تخلو من شائبة الغموض، لا سيما إذا كانت مترجمة، مهما بذل في سبيل توضيحها وصقل عباراتها من الجهود، ولي كلمة في بعض المؤلفات والمعربات الفلسفية من حيث تبادر عباراتها إلى الذهن عفواً أم بشق الأنفس أرجئها إلى مقال آخر.

وبالختام أقدم شكري الجزيل لحضرة الناقد الكريم على تقديره الجهود المبذولة لإخراج هذا الكتاب إلى اللغة العربية ولا سيما على إطرائه الطبع الجيد والورق الحسن.

الدكتور كامل نصري

ص: 76

الثقافة

إن سرورنا برد الدكتور نصري على الانتقاد الذي وجه إلى كتابه (فلسفة مناهج العلوم) لا يقل عن إعجابنا بالجهود التي ذلها لنقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية. ولذلك نشرنا له مقاله كاملاً بحرية النقد، ولنا عليه تعليق نذكره حباً بالحقيقة المجردة فنقول:

1 -

يسرنا أن نقول أحد مقرظي الكتاب من الأدباء أنه كتب بلغة عربية معتدلة وتعابير تحلو في الطبع وتستساغ في الأذن، كما يسرنا استشهاد حضرة الدكتور نصري بهذه العبارة للبرهان على أن الكتاب قد عرب تعريباً متقناً، فنحن لا نريد الآن أن نؤاخذ المعرب على لغة الكتاب، بل نترك الحكم في ذلك لعلماء اللغة.

2 -

أما مخالفة المترجم لاصطلاح فلاسفة العرب فلم تظهر فقط في قوله لا علم إلا من العام بدلاً من لا علم إلا بالكليات بل ظهرت أيضاً - وهذا ما طويناه في التقريظ الأول - في قوله دائرة سقيمه (ص - 74) بدلاً من دور فاسد أو باطل في ترجمة وقوله (ص - 95) كان الأقدمون يشترطون في التعريف أن يكون بالجنس القريب والفرق المميز فترجم كلمة بالفرق والعرب تقول في هذا المقام الفصل أي التعريف يكون بالجنس القريب والفصل وترجم (صفحة 175) بالعينية والعرب تقول الهوية أو الهوهو.

3 -

ولقد عجبنا لإصرار الدكتور نصري على تعريب

بالحس العضلي بدلاً من حس الحركة. لا شك أن حضرته يعرف أن الحس العضلي يقابل باللغة الفرنسية وكيف نترجم هذا التعبير الأخير إذا سرنا على رأي الدكتور نصري؟ أليست ترجمة

بحس الحركة أبعد عن الالتباس وأدل على المعنى وأقرب إلى الأصل؟

4 -

ثم أننا لا نفكر أن الدكتور نصري استعمل كلمة رصد في معرض البحث الفلكي أيضاً، لأن الفلكي يلاحظ حوادث السماء كما يلاحظ الطبيعي حوادث الطبيعة. على أن الأستاذ نصري قد استعمل هذا الفظ في معرض البحث عن العلوم التجريبية عامة كمرادف لكلمة ملاحظة، وهذا ما يدعو إلى الالتباس كقوله: الملاحظة (أي التأمل أو المشاهدة أو الرصد)(صفحة 68) وكقوله: المحاكمة التي تتطلب إدراكا سالماً لمنهاج التجريب هي مجموعة نظريات وملاحظات (رصدات) وتجاريب.

ص: 77

5 -

ونقول في ترجمة أننا لم نعترض على ترجمتها بالحكمة الطبيعية بل اعترضنا على ترجمتها بعلم الحكمة (صفحة 39) ولم نقترح على الدكتور نصري كلمة (فيزياء) إلا لأن حضرته شجعنا على هذا الاقتراح باستعماله ألفاظاً غريبة مثلها كمتافيزيكية وفسلجة وميكانيك وقوزموغرافية وغير ذلك.

6 -

أما قول الدكتور نصري: وأنا أرى معه أيضاً أن من الأصلح أن لا يذكر سوى ذلك إذا كان ما يود ذكره من هذا القبيل فقد دل على تأثره من هذا الانتقاد النزيه الذي وجه إلى كتابه بصورة مجردة، فنحن لم يدر في خلدنا أبداً أن ننقص من قيمة الكتاب ولا أن نحتقر الجهود التي بذلها العرب في نقله، بل غايتنا مجردة ولولا اعتقادنا أن في هذا الانتقاد نفعاً للمترجم وخدمة للحقيقة لما أقدمنا علي، ولو سمح المقام بذكر جميع ملاحظاتنا لفعلنا إلا أن نطاق المجلة لا يسمح بذلك. ونقتصر الآن على تذكير حضرة المترجم أن (صفحة 9) لا تطابق العقلي بل تطابق الوضعي أو الإثباتي. وإن (ص 174) لا تترجم بالعقل الفردي بالمذهب العقلي. وقد فسر حضرة المعرب كلمة باسكال المشهورة لو كان أنف كيلو باترا أقصر لكان وجه الأرض كله قد تغير بقوله (ص 121): أي لو كانت أقل عظمة وكبرياء وبديهي أن باسكال لم يقصد ذلك بل أراد الإشارة إلى جمال كيلو باترا وتأثيره في انطونيوس ولولا العلاقة الغرامية التي بينهما لما تعاقبت حوادث التاريخ على هذا الشكل.

فالحوادث التافهة تؤثر في مجرى التاريخ.

نحن لا نلوم الدكتور نصري على التصرف في التعريب لإيضاح الأفكار وجعلها قريبة من مستوى التلاميذ ولكن قد يكون التأليف في وضع الكتب المدرسية خيراً من التعريب، لأن الكتب المدرسية لا تحتوي في الغالب على إبداع بل تمتاز بعضها على بعض بأسلوبها وطريقتها.

نعم إن الترجمة خير طريقة يمكن إتباعها في آثار الفلاسفة العظام كديكارت وكنت وشوبنهاور وبرغسون ولكن تأليف الكتب المدرسية خير من ترجمتها لأن لكل بلاد روحاً خاصة وحاجات مختلفة، ولو قابل الدكتور نصري هذا الكتاب الذي عربه بغيره من الكتب التي وضعت للبرنامج الفرنسي لما وجد بينهما اختلافاً في المادة والإبداع ونعتقد أنه كان بوسع الأستاذ نصري أن يجمع هذه المواد ويرتبها كما جمعها الأستاذ شاللاي نفسه.

ص: 78

ونحن لم نلم حضرة الدكتور نصري على ابتعاده عن الأصل وإتيانه بمثال حسي ذكر فيه نصب ساحة الشهداء بدمشق إلا لقوله في المقدمة إنه عني بتعريب الكتاب تعريباً أمنياً صادقاً، فنحن نفضل التأليف على التعريب ونفضل التصرف في تعريب الكتب المدرسية على تعريبها حرفياً لأن التصرف في عبارتها يسمح للمترجم بجعلها موافقة لأذهان التلاميذ. ومن العجب أن يعرف الدكتور نصري هذا الكتاب تعريباً أمنياً صادقاً ولا يذكر اسم المؤلف على الغلاف.

ومهما يكن من أمر فإن عدم وجود اسم المؤلف على الغلاف لا يضيع قيمة الكتاب ولا يسعنا إلا شكر الدكتور نصري على إتحافه اللغة العربية بمثل هذه الكتب التي نحن بحاجة إليها.

ص: 79