الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غوطة أمس وغوطة اليوم
للأمير مصطفى الشهابي
أنحبس الغيث عن الشام سنتين متواليتين فغاضت الينابيع وشحت مياه الأنهار وأغبر أديم الأرض وجالت أشعة الشمس اللذاعة خلال النبت المريض الذاوي فلم تدع بقلاً إلا صوحته، ولا زرعاً حدثته نفسه بأن يستأسد إلا أردته، ولا زهرة نضرة إلا أذبلتها ولا عشبةً مسكينةً متواضعة إلا أيبستها. وراقت صفحة السماء فمل الناس زرقتها واختالت ذكاء في جبروتها دون أن يحجبها عن الأرض حاجب حتى لكأن الغيوم أسماء في المعاجم لا مسميات لها في السماء. فأين الطخارير ترنق الجو بخيوطها البيض القطنية، والنيرات السحاب كأنها أمواج الخضم المتدافقة، والمكفهرات كالجبال ركاماً، والدجنات المعصرات الباعثات الغيث أنهاراً. لقد أنسينا كل هذه وهي بواعث الحياة فينا فلا سحاب يبكي ولا أرض تضحك وليس في الجو سوى الشمس المحرقة تضحك النهار من بؤس الفلاح وشقائه وبودها لو كانت الأرض غير مستديرة إذن لضحكت منه ليلاً. . .
وأصيبت مياه بردى بداء العقاد فلصقت بالأرض تتمور وتترجرج كأنها ترتقب من يدفعها إلى جنات الغوطة دفعاً وهي التي كانت بالأنس صخابة جرافة لا يعترضها عارض في تيارها. وتهامست الأشنة والطحالب بأنها فرصة يجب اهتبالها فراحت تفرش في عرض النهر بساطها السندسي وأليافها الخضر الحانئة أرائك يترفق عليها البعوض واليعاسيب وحواجز تمنع قطرات الماء أن تسيل. وكلما أستأصلها الأكارون عادت فنمت واشتبكت بين ليلة وضحاها هازئة بمجرفة الفلاح ومره كأنها تثأر لنفسها من ظلمه وظلم الماء معاً. وتباشرت الضفادع وتنادت قائلة: حيّ على رغد العيش وهناءة الرزق وهيا إلى فتح الفتوح في قاع الجداول والمجاري وراح قويها يستنفر ضعيفها فما هي إلا أيام قلائل حتى كانت مملكة الماء في قبضة يدها فأعرست بالرفاء والبنين وأنجبت خير نسل ملأ الفضاء نقيقاً. . . . وراسل ملك الضفادع في بردى خدينه في قويق يلاحيه البيتين الآتيين زاعماً أنهما إنما يجب أن توصف بهما محامد الجفاف في نهر دمشق والغوطة لا في نهر حلب وهما:
إذا ما الضفادع نادينه
…
قويقٌ قويقٌ أبلى أن يجيبا
تغوص البعوضة في قعره
…
وتأبى قوائمها أن تغيبا
فيجيبه دهقان الضفادع الحلبية بأن المساجلة لا تغنيه فتيلاً ولا نقوم على زعمه دليلاً. فأنهار دمشق ما برحت مضرب الأمثال في غزارة مائها لدى أبناء آدم فهي لا تصلح لأبي هبيرة وأولاده وأنه إذا استرسل في العناد أحاله على ذلك الآدمي الرومي المعروف باسم الياقوت الحموي الذي رأى أن بردى أنزه نهر في الدنيا أو على آخر من نوعه يطلقون عليه اسم البحتري فقد وصف دمشق بقوله:
فلست تبصر إلا واكفاً خضلاً
…
أو يائعاً خضراً أو طائراً غردا
وهذه الصفات لا سبيل معها إلى المساجلة. دع أشعار رجل مصري قريب العهد بنا يسميه أبناء آدم شوقي ويقولون: أنه شاعر فحل ما أنجبت الكنانة مثله منذ قرون. فهذا الإنسان جعل الغوطة لأبناء جنسه جنة الله في أرضه. أفبعد هذا يستطيع جلغوم بردى أن يوطد ملكه على أسس موطدة أم ترى إن هذا الملك الرجراج سيطوح به أول شؤبوب بنهل من السماء ودقا وينبجس من الأرض غدقاً!.
ويقف فلاح الغوطة الحزين ساهما يستمع إلى هذه الأهكومة وقد أسقط في يده ويسرح الطرف في مسوق الشجر العظام من زيتون ومشمش وجوز وتفاح وخوخ وغيرهما فإذا بها لهبى لوحها العطش، إن أرسلت جذورها متغلغلة في التراب لم تلق فيه إلا ذراتٍ جافة لازبة مستحصفة، وإن فتحت مسام أوراقها للندى لم تستقبل في الهواء سرى الريح السموم ويبتسم الفلاح بسمة صفراء وينادي صاحب البيت الآتي:
يا نسيماً هب مسكاً عبقاً
…
هذه أنفاس ريا جلقاً
يناديه ليتحسس معه أنفاس هذه السنة الجدباء ويتنشق بدلاً من رياً الغوطة لوافح الصحراء. ثم يجول المسكين في الأرض فلا فواكه يجنيها ولا يقول بقطفها ولا زروع يحصدها ولا كلأ يعلفه مواشيه الجائعة.
لقد تبدلت الأرض وتبددت الأحلام فالسعيد من أصاب رغيفاً من الذرة قوتاً لعياله ومن أدرك حملاً من التبن علفاً لماشيته ومن سلمت له أرضه فلم تكن من نصيب الصيارفة والمرابين.
وقد كان هذا الفلاح نفسه بالأمس يربى الخيل العراب ويركبها ويؤم أسواق دمشق يبتاع العقود والأقراط لامرأته وبناته، والبسط والسجاد لدار ضيافته، وغالي الكوفيات والعباءات
لنفسه ولأولاده.
وكنت تراه أحياناً يرتاد حدائق دمشق وملاهيها وآثار النعمة فاشية فيه وبادية على محياه الطلق وهو ينفق بحساب أو بدون حساب مما أغله تراب الغوطة المخصاب. وكان إذا حل جابي بيت المال في القرية تلقاه أهلها ببشر فأطعموه وعلقوا على دابته ونقدوه الضرائب وصرفوه حامداً محموداً. أما اليوم فكأني بالجباة أنفسهم قد أصبحوا بائسين في خلقان من الثياب وكأني بجيادهم العراب قد تبدلت فصارت فسأكل من الأكاديش الهزيلة. . . . ولو ظل هؤلاء الجباة أياماً طوالاً يستقصون بيوت القرية وحقولها شبراً فشبراً لما وقعوا فيها على فلس يرضون به رؤساءهم. فلك الله أيها الفلاح المسكين ما أشقاك.
مصطفى الشهابي