المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رأي ابن سينا في السعادة - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٧

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌رأي ابن سينا في السعادة

‌رأي ابن سينا في السعادة

2

لجميل صليبا

5 -

السعادة بعد الموت

أما في الحياة الثانية فإن النفس قد تدرك السعادة الحقيقية وقد تشقى شقاء مؤقتاًً أو شقياً أبداً، فسعادة النفس الحقيقية بعد الموت تنشأ عن تصور الإنسان للمبادئ الروحانية تصوراً حقيقياً وتصديقه بها تصديقاً يقيناً على الوجه الذي ذكره ابن سينا في مقالة المبدأ والمعاد، وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه إلا أن يكون أكد العلائق مع ذلك العالم فصار له شوق وعشق إلى ما هنالك يصده عن الالتفات إلى ما خلقه، وهذه السعادة الحقيقية كما قلنا لا تتم إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس.

وإذا قايسنا بين أحوال الناس في الآخرة وجدناهم على ثلاثة أحوال.

الحال الأول هو حال البالغين في فضيلة العقل والخلق مرتبة عالية فهؤلاء لهم الدرجة القصوى من السعادة.

والحال الثاني هو حال الجهال إلا أن جهلهم ليس مضراً لهم فهم من أهل السلامة وإن كانوا ليس لهم ذخراً من العلم.

والحال الثالث هو حال الذين كثر شرهم وعظم أذاهم في الدنيا والآخرة وهؤلاء ليسوا من أهل النجاة.

فالنجاة ليست إذن مصروفة عن أهل الجهل، إن سعادة العلماء أعلى مرتبة من سعادة الجهال كما أن سعادة الجهال أفضل من شقاوة الأشرار، وخير للإنسان أن يكون جاهلاً من أ، يكون عالماً شريراً، لأن البلاهة العمياء أحسن من الفظاظة البتراء.

فالذي يحصل العلوم ويعرف الكمال ويشتاق إليه من غير أن يتصف به أو يعمل به للوصول إليه أسوأ من أصحاب النفوس الساذجة لأن الجاهل غير عارف بالكمال غير مشتاق إليه، ولذلك كان العذاب أقرب إلى العالم الشرير منه إلى الساذج الصالح.

فإذا كانت النفس شديدة الشوق إلى ما اعتقدته من أحوال الحياة زكية كريمة قليلة العلائق بالبدن فإنها إذا انفصلت عن الجسد اتصلت بكمالها الذاتي وتمتعت باللذة الحقيقية وتبرأت

ص: 61

عن النظر إلى ما خلفها وأدركت السعادة الحقيقية، وإن كان لها التفات إلى ما خلفته في الدنيا تأذت بالحسرة عليه، إن الالتفات إلى أحوال الدنيا وتذكر مقتضيات البدن هو شأن النفوس الرديئة التي تتخيل بعد الموت جميع أنواع العقاب الذي صور لها في الدنيا وتقاسيه بالصورة الخيالية التي لا تقل تأثيراً عن الصورة الحسية، إذن فابن سينا يعتقد أن الإنسان سيلاقي بعد الموت سعادة نفسانية وأن العذاب الذي سوف يقاسيه عذاب روحاني.

6 -

سلامان وابسال

ويجدر بنا وقد أوضحنا أسباب سعادة النفس في الدنيا والآخرة أن نستشهد بقصة (سلامان وابسال) التي ذكرها الشيخ الرئيس في كتاب الإشارات. لأن هذه القصة هي أحسن رمز لا بل أوضح صورة يمكن بها بيان سعادة النفس ودرجاتها وكيفية محاربتها للشهوات والتجرد عنها. والقصة التي نذكرها هنا ليست قصة سلامان وابسال التي قيل أن حنين ابن اسحق نقلها من اللغة اليونانية إلى العربية وترجمها المسيو (كارا - دوفو) في كتابه عن ابن سينا إلى اللغة الفرنسية، فإن القصة التي اخترعها أحد العوام كما يقول الطوسي، ليست من كلام الشيخ الرئيس ولا هي مطابقة لما ذكره في الإشارات. وأما القصة الحقيقية التي أشار إليها ابن سينا فهي التي أورد ذكرها أبو عبيد الجزجاني في فهرس تصانيف الشيخ الرئيس ونقلها عنه شارح الإشارات.

وحاصلها أن سلامان وابسال كانا شقيقين وكان ابسال أصغرهما سناً وقد تربى بين أخيه ونشأ جميل الصورة عاملاً متأدباً عفيفاً شجاعاً. فعشقته امرأة سلامان أخيه وقالت لزوجها أخلطه بأهلك ليتعلم منه أولادك فأشار عليه سلامان بذلك وأبى ابسال مخالطة النساء فقال له سلامان أن امرأتي بمنزلة أم لك فرضي ابسال بذلك ثم أكرمته زوجة سلامان وأظهرت له عشقها في خلوة فانقبض ابسال من ذلك. ولما علمت زوجة سلامان أن ابسالا لا يطاوعها قالت لزوجها زوج أخاك بأختي ثم قالت لأختها أني ما زوجتك بابسال ليكون لك خاصة بل لكي أساهمك فيه. وليلة الزفاف جاءت امرأة سلامان بدلاً من أختها وبادرت تعانق ابسالا وتضم صدره إلى صدرها فلاح برق في السماء أبصر بضوئه وجهها فأزعجها وخرج من عندها وطلب من أخيه أن يعطيه جيشاً فتولى قيادته وحارب حتى فتح كثيراً من البلاد شرقاً وغرباً. ثم رجع إلى وطنه مكللاً بالنصر وهو يحسب أن امرأة أخيه

ص: 62

سلامان قد نسيته ولكنها عادت إلى حبها له ورجعت إلى معاشقته. فأبى ذلك وأزعجها ثم ظهر لهم عدو فوجه سلامان أخاه ابسالا إليه إلا أن امرأة سلامان فرقت في رؤساء الجيش أموالاً ليرفضوه في المعركة ففعلوا وظفر به الأعداء وتركوه جريحاً وبه دماء فعطفت عليه مرضعة من حيوانات الوحش وألقمته حلمة ثديها واغتذى بذلك إلى أن انتعش وعوني ورجع إلى سلامان وقد أحاط به الأعداء وأذلوه وهو حزين من فقد أخيه فأدركه ابسال وأخذ الجيش والعدة وكر على الأعداء وبددهم وأسر عظيمهم وسوى الملك لأخيه ثم اتفقت المرأة مع الطابخ والطاعم وأعطتهما مالاً فسقياه السم واغتم من موته أخوه واعتزل من ملكه وفوضه إلى بعض معاهديه وناجى ربه فأوحى إليه بحقيقة الأمر فسقى المرأة والطابخ والطاعم ما سقوا أخاه فماتوا جميعاً.

وتأويل هذه القصة أن سلامان هو النفس الناطقة وابسالا هو العقل النظري أو هو درجة النفس في العرفان وامرأة سلامان هي القوة البدنية الإمارة بالشهوة والغضب وعشقها لابسال هو ميلها لتسخير العقل كما سخرت سائر القوى، وإباء ابسال هو تطلع العقل إلى عالمه وأخت امرأة سلامان هي الملكة العملية والبرق اللامع من الغيم المظلم هو الخطفة الإلهية التي تسنح للإنسان أثناء الاشتغال بالأمور الفانية وإزعاج ابسال للمرأة هو إعراض العقل عن الهوى. وفتحه البلاد هو اطلاع النفس بالقوة النظرية على الملكوت، ورفض الجيش له هو انقطاع القوى الحسية والخيالية عند عروج النفس إلى الملأ الأعلى، وتغذيته بلبن الوحش إشارة إلى إفاضة الكمال إليه عما فوقه من المبادئ والطابخ هو القوة الغضبية والطاعم هو القوة الشهوانية وتواطؤهم على هلاك ابسال إشارة إلى اضمحلال العقل في شقوة العمر وإهلاك سلامان إياهم ترك النفس استعمال القوى البدنية في أخر العمر، واعتزاله الملك وتفويضه إلى غيره انقطاع تدبير النفس الناطقة عن البدن ومفارقتها لهذا العالم.

7 -

رسالة الطير

ومن الرسائل التي تدل على هذا التجرد عن المادة وتدعو إلى ضرورة التطلع إلى المثل الأعلى رسالة الطير التي طبعت مراراً ونقلها الموسيو (مهران) إلى اللغة الفرنسية في مجموعة رسائل ابن سينا الصوفية.

ص: 63

يقول ابن سينا: هل لأحد من أخواني في أن يهب لي من سمعه قدر ما ألقي إليه طرفاً من أشجاني عساه أن يتحمل عني بالشركة بعض أعبائها. وهؤلاء الأخوان الذين سيحملون عنه بالشركة بعض أشجانه هم الأخوان الذين جمعتهم القرابة الإلهية وألفت بينهم المجاورة العلوية ولاحظوا الحقائق بعين البصيرة وجلوا الوسخ ورين الشك عن السريرة وهؤلاء الذين ألفوا المجاورة العلوية هم الذين انسلخوا عن المادة وتجردوا عن الشهوات بإيمانهم وعقلهم: ويلكم أخوان الحقيقة انسلخوا عن جلودكم (صفحة 115 جامع البدائع) ومن عجب أن الإنسان الذي نورت جبلته بالعقل لا يزال يبذل الطاعة للشهوات ويضيع على استئثارها صورته: ويلكم أخوان الحقيقة لا عجب أن اجتنب ملك سوءً وارتكبت بهيمة قبيحاً بل العجب من البشر إذا استعصى على الشهوات.

وإليك بعض ما جاء في رسالة الطير:

برزت طائفة تقتنص فنصبوا الحبائل ورتبوا الشرك وهيأوا الأطعمة وتواروا في الحشيش وأنا في سربة طير لحظونا فصفروا مستدعين فأحسسنا بخصب ما تخالج في صدورنا ريبة ولا زعزعتنا عن قصدنا تهمة فابتدرنا إليهم مقبلين وسقطنا في خلال الحبائل أجمعين، فإذا الحلق ينضم على أعناقنا والشرك يتشبث بأجنحتنا والحبائل تتعلق بأرجلنا ففزعنا إلى الحركة فما ذاتنا إلا تعسيراً فاستسلمنا للهلاك وشغل كل واحد منا ما خصه من الكرب عن الاهتمام لأخيه، وأقبلنا نتبين الحيل في سبيل التخلص زمانا قد انسينا صورة أمرنا واستأنسنا بالشرك واطمأنا إلى الأقفاص وهذا شأن النفس عند اتصالها بالجسد لأنها تألف كما يقول في قصيدة النفس مجاورة الخراب البلقع ويصدها الشرك الكثيف عن بلوغ غايتها، ثم أ، الطير الذي استأنس بالشرك ليلحظ مرة رفقة من الطير قد أخرجت رؤوسها وأجنحتها عن الشرك وبرزت عن أقفاصها تطير وفي أرجلها بقايا الحبائل فيقول فذكرتني ما كنت أنسيت ونغصت علي ما ألفته فكدت أنحل تأسفاً أو ينسل روحي تلهفاً ثم يناديهم ويناشدهم بالصحبة المصونة والعهد المحفوظ فلا يتقربون منه إلا بعد أن ينفى عن صدورهم الريبة ثم يغتنم النجاة ويطالبهم بتخليص رجله عن الحبال فيقولون له لو قدرنا عليها لابتدرنا أولاً وخلصنا أرجلنا وإني يشفيك العليل، إن هذه الحبال كما يقول بعد ذلك لن يقدر على حلها إلا عاقوها ثم يطير حتى يبلغ جبل الآله ثم يشرد على الراحة بعد

ص: 64

الانتباه ثم يطير حتى يبلغ المدينة التي تبوأها الملك الأعظم فيخرج من صحن ويدخل في صحن حتى يرفع له الحجاب ويلحظ الملك في جماله الذي لا يمازجه قبح وكل كمال بالحقيقة حاصل له وكل نقص ولو بالمجاز منفي عنه، وكله لحسنه وجه ولجوده يد، من خدمه فقد اغتنم السعادة القصوى، ومن صرمه فقد خسر الآخرة والدنيا وهكذا فإن السعادة القصوى هي في نسيان الشهوات وخدمة الأحد الحق، وقد ختم ابن سينا رسالة الطير بقوله:

وكم من أخ قرع سمعه قصتي فقال أراك مسّ عقلك مس أو ألم بك ألم ولا والله ما طرت ولكن طار عقلك وما اقتنصت بل اقتنص لبك، أنى يطير البشر أو ينطق الطير، كأن المرار قد غلب في مزاجك واليبوسة استولت على دماغك وسبيلك أن تشرب طبخ الافثيبمون وتتعهد الاستحمام بالماء الفاتر العذب وتستنشق بدهن النيلوفر وتترفه في الأغذية وتستأثر منها المخصبة وتجتنب ألباه وتهجر السهر وتعل الفكر، فأنا قد عهدناك فيما خلا لبيباً وشاهدناك فطنا ذكيا ولله مطلع على ضمائرنا فأنها من جهتك مهتمة، ولاختلاف حالك حالنا مختلفة، ما أكثر ما يقولون وأقل ما ينجح وشر المقال ما ضاع.

وقصارى القول أن هذه القصة كقصة حي ابن يقظان وقصة سلامان وابسال تدل على أن النفس لا تنال السعادة الحقيقية إلا بأعراضها عن الشهوات وتركها اللذات وتطلعها إلى المثل الأعلى، لأن لذة التفكير والتأمل تشبه لذة العبادة.

أن مذهب ابن سينا في الخير مذهب التفاؤل ونظريته في اللذة نظرية الكمال ورأيه في التجرد عن المادة وشواغلها للوصول إلى السعادة الحقيقية هو رأي المتصوفين كأن سعادة الإنسان في الدنيا لا تكون بإعراضه عن الدنيا وعدم التفكير في أوهامها.

إن فلسفة ابن سينا مضيئة بنور التصوف والتقشف ولا أظن أن هذا الضئيل قد أظلم في العصر الحاضر بل أن مدينة هذه الأيام قد تلوثت بأدران المادة، ولعل الأدران لا تزال إلا إذا انغمست ذبالة الحياة في شيء من زيت التصوف. ماذا يفعل البطالون؟ ماذا يفعل الجائعون؟ افيستمرون على عبادة المادة والمادة لا تغذيهم؟ ليرجعوا إلى الحياة الروحية، إلى الحياة الفكرية، لعل في الحياة الروحية غذاء لهم، وهذه الحياة الروحية لا تنافي التقدم والإنتاج والأخذ بأسباب المدينة، إن الشيخ الرئيس يؤمن بالعقل والعلم ويعتقد أن السعادة

ص: 65

القصوى لا تكون إلا عن طريق العلم، وهذا نتيجة طبيعية لمذهب التفاؤل، فلنرحب إذن بآراء هذا الحكيم الذي هام بالمثل الأعلى وآمن بالفكر وكان كثير الثقة بالفطرة الإنسانية.

جميل صليبا

ص: 66