المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مياه الغوطة ملخصة عن مقال للأستاذ ر. ترس لم يبحث المؤرخون في - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٩

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌مياه الغوطة ملخصة عن مقال للأستاذ ر. ترس لم يبحث المؤرخون في

‌مياه الغوطة

ملخصة عن مقال للأستاذ ر. ترس

لم يبحث المؤرخون في دمشق وغوطتها إلا قليلاً مع أنها أقدم مدن العالم ولم يمح الدهر شيئاً من جمالها مع أن بابل ونينوى وصور وجبيل وغيرها من المدن المشابهة لها قد اندثرت أعلامها ولم يبق منها إلا الذكرى حتى أن بعضها زال بتمامه أو انقلب إلى قرية، أما دمشق فقد بقيت على عين الدهر وستبقى خالدة بالرغم من اختلاف شرائط حياتها، والسبب في بقائها لا يرجع إلى أسباب سياسية ولا أسباب اقتصادية، بل يعود إلى تأثير مياهها وخصب غوطتها. وليست تمتاز دمشق على غيرها من البلدان ببرداها فحسب - وهو ينقل إليها من لبنان الشرقي مياهاً عذبة - بل تمتاز أيضاً بتوزيع هذه المياه ونشاط سكان الغوطة وانصرافهم إلى استثمار الأرض استثماراً حسناً.

الوسط الطبيعي

إن الملاحظات الجوية التي قام بها العلماء منذ خمس عشرة سنة أثبتت لنا أن منطقة دمشق وما يجاورها من الراضي الشرقية محرومة من قسم كبير من الأمطار لأن سلسلة الجبال الشرقية تمنع عنها الغيوم فتهطل الأمطار في الجهة الغربية وإذا بقي قسم من هذه الغيوم فإنه لا يقطع الجبال الشرقية إلا إذا ارتفع كثيراً فيمر بالغوطة من غير أن يتكاثف ويصل إلى جبل الدروز وغيره من المناطق البعيدة. وليست قلة الأمطار هذه خاصة بالزمان الحاضر بل كانت قليلة أيضاً في الماضي وكانت هضاب دمشق يابسة وكانت مياه بردى موزعة في مستنقعات فقيرة ليس فيها ما في الغوطة اليوم من الأشجار الباسقة والخمائل الزاهرة. فليس خصب الغوطة إذن هبة من مواهب الطبيعة بل هو نتيجة لعمل الإنسان وما بذله في سبيل استثمار الأرض وأعمارها. لقد ألف الناس منذ القدم رؤية هذه الجنان فظنوها طبيعية والحق عن ذلك بعيد، لأن هذه الجنان لم تتولد على الأرض إلا بجهود الإنسان ولو استطعنا أن نعود بخيالنا إلى الماضي لرأينا الشعوب الأولى التي استوطنت هذه الأرض في صراع دائم مع الطبيعة حتى تغلبت عليها وجففت مستنقعاتها وغرست فيها الكروم وأشجار التين والزيتون.

عمل الإنسان

ص: 45

نريد أن نذكر شيئاً عن قنوات بردى وتاريخها إذ لعلنا بعد هذا البحث نستطيع أن نعرف الزمان الذي بنيت فيه ونطلع على اسم الذي بناها. إن البحث في هذه المسائل صعب جداً، لأن شبكة الأنهر كشبكة الطرق لا تبقى إلا إذا تعهدها الناس بالعناية الدائمة. إن البحث في الأطلال والخرائب أسهل من البحث في الآثار الحية لأن الأجيال المتتابعة قد أثرت فيها وأضافت إليها أشياء كثيرة حتى صارت مركبة بعيدة عن حالتها الأولى. فأنهار دمشق من الآثار الحية التي أضاف إليها كل جيل شيئاً من عمرانه.

إن جميع الأمم التي انتقلت من الفرات إلى النيل أو هاجرت من شواطئ النيل إلى شواطئ الفرات تركت أثراً في سوريا. فهل نستطيع أن نستدل بهذه الآثار على الشعب الأول الذي امتاز على غيره بحفر هذه القنوات؟ لاشك أن أول من فكر في الاستفادة من المياه هو الإنسان الحضري ولكن تاريخ سوريا بقي زماناً طويلاً مفعماً بالوقائع العديدة التي كانت تجري بين البدو والحضر. فالغوطة لم تتولد من جهود شعب منفرد ولا هي نتيجة زمان واحد، بل تولدت من جهود أمم عديدة لأنها كانت طريقاً للفاتحين في ذهابهم وإيابهم. وكلما مر بها فاتح تغلبت عليه بجمالها وطبيعتها فانصرف إليها وأضاف جهوده إلى جهود غيره ممن سبقه وهكذا تجمعت الأمم المتعاقبة بعضها فوق بعض حتى وصلت الغوطة إلى ما هي عليه اليوم من توزيع المياه وخصب التربة. وكلما كان نصيب الأرض من الماء أكثر كان إنتاجها أحسن ولذلك تجد سكان الغوطة كثيري الحرص على الأراضي التي يمكن سقيها بالماء ولعل الإنسان الأول كان أكثر حرصاً على الماء من الإنسان الحاضر لاقتصاره على الأرض في معاشه واقتصاره على الماء في استثمار الأرض وخوفه من الفاتحين في كل صباح ومساء.

لم يختلف سكان الغوطة الأقدمون عن غيرهم من الأوائل في حياتهم ومعاشهم فقد بدأوا أولاً بصيد الحيوانات ثم انتقلوا من الصيد إلى الرعي فلما صاروا رعاة وجدوا في مروج الغوطة ما تحتاج إليه قطعانهم من الحشيش والكلأ فالتجأوا إليها عند اشتداد الحر. ولا يزال البدو في أيامنا هذه يأوون إلى هذه المروج الخضراء في أيام الحر من شهر أيار إلى شهر أيلول ولما التجأ الرعاة إلى الأرض وأقاموا فيها أخذوا يعنون يزرعها ليطعموا قطعانهم فتوزعوا الأرض وعمروها.

ص: 46

يمكن تقسيم الأرض التي أقام بها الأقدمون إلى ثلاث مناطق:

أولاً الوادي ومجرى النهر. ثانياً منحدرات جبل قاسيون الوطيئة. ثالثاً الهضبة الواقعة بين الجنوب والغرب على الشاطئ الأيمن من النهر. ولعلنا إذا قايسنا سكان هذه المناطق المختلفة استطعنا أن نرجع بالفكر إلى الماضي، ونستنتج من هذه المقايسة انقسام الأولين على الأرض وتوزعهم إياها. فالقرى الواقعة في الجهة الشمالية من شرقي جبل قاسيون أكثر هذه المناطق سكاناً ثم يتلوها في عدد السكان قرى الهضبة الواقعة بين الغرب والجنوب لأن أكثرها يحتوي على أربعة آلاف أو ثمانية آلاف نسمة. أن قرى السهل القريبة من شواطئ النهر لا تحتوي على أكثر من 500 أو 1. . . نسمة. فالأقدمون إذاً هجروا شواطئ النهر واستوطنوا الأراضي المرتفعة. ومما يؤيد ذلك أيضاً أن النهر قبل انقسامه إلى القنوات الأنهر الصغيرة الحاضرة كان غزير المياه فكان يفيض في أيام الشتاء ويجرف التراب ويغطي الأرض أشهراً عدة، فلا يتمكن الناس من إقامة المساكن بالقرب منه فلما أنشأوا هذه القنوات لري الأراضي العالية صارت هذه المرتفعات صالحة للزراعة وأمكن تجفيف بعض المستنقعات التي كان يحدثها طوفان النهر. ويغلب على الظن أن العمران الأول حصل في مدخل الوادي على أنه من الصعب أن تصور للداخل إلى دمشق حالة النهر الأولى وعمران شواطئه القديمة لأنه قد تبدل كثيراً. ويمكن أن يقال أن دمشق كانت في العصر الحجري ضيقة الحدود. أننا نتصور حالة الغوطة القديمة بمجموعها ولكننا لا نستطيع أبداً أن نجد فيها آثاراً تاريخية واضحة تدل على عمل الإنسان الأول واستثماره للأرض وكيفية استفادته من مياهها.

يتبع ج. ص

قال شرف الدين بن محسن يصف دمشق:

دمشق بنا إليها مبرح

وأن لج واش أو الح عذول

بلاد بها الحصباء در وتربها

عبير وأنفاس الشمال شمول

تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق

ص: 47

وصح نسيم الروض وهو عليل

ص: 48