الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق بين الوصف والقصص
إن الوصف العارف يميز بين الوصف والقصص فلا يكاد يجمع بينهما في عنوان واحد إذ لكل منهما عنوان خاص هو به أليق، وبحقيقته أشبه، فإذا أراد أن يصف حريقاً حدث في الحي، أو فرحاً مباغتاً بعد ترح لم يعنون ما صوره من هاتين الحادثتين بقوله: وصف الحريق، أو وصف الفرح، بل يعنونهما بقصة الحريق أو حكايته وحكاية الفرح بعد الترح مثلاً، ذلك لأن الوصف الدقيق غير مرادف للقصص، وقد قال تاين النقادة الكبير فيما كتبه على أمثال لافونتاين:
الوصف شبيه بالقصص، وإنما الفرق الوحيد بينهما أن القصص تتوإلى فيه التفاصيل بحسب توالي صفحات الحادثة، وفي الوصف تكون هذه التفاصيل مجتمعة.
وقد يقال: ليس في الوصف عمل معين لأن ترتيب أجزائه اختياري، والأمر بعكسه في القصص الذي لا بد أن يكون العمل فيه معيناً محدوداً، ويراد بهذا العمل تتابع وقائع الحادثة وتوالي أجزائها توالياً ليس للاختيار يد في ترتيبه: إذ لها فاتحة وواسطة وخاتمة تتعاقب تعاقبها في الروايات التمثيلية، والأمثلة التالية تبين الفرق واضحاً بين الوصف والقصة:
قصة الزلزال
…
وصف مدينة خربها الزلزال
قصة نزهة في الغوطة
…
وصف الغوطة أيام الربي - ع
قصة العيد في دمشق
…
وصف دمشق في العي - د
وخلاصة القول انه ينبغي لنا أن لا نخلط بين الوصف والقصص وإن نعلم مما ضربناه من الأمثلة أن الوصف لا يشتمل على حادثة، وإنه لا بد في الحكاية منها، وإنك في الوصف على خطتك حاكم وفي القصة أنت لها محكوم.
بيد أن القصة قد تشتمل على حوادث تتعلق بالوصف كما أن الوصف قد يشتمل على حادثة صغيرة تضيع في موضوع الوصف ولا تخرجه عن كنهه لكنهما في الجملة متباينان. فالأفضل أن يخلط بينهما بالنظر إلى الخطة وإلى الشرح والبيان.
اعتماد الوصف على المشاهدة
إن سكان البادية هم في الغالب أوصف من قطان الحاضرة فيما يحتاج إلى الاستعانة بالتحديق، وإلى معاودة المشاهدة التي تقف بصاحبها على جميع مميزات الموصوف
وخصائصه لكثرة رؤيته ولفرط ألفته وذلك كوصف البوادي والمفاوز، والكثبان والوديان، والخيل والأنعام والمها الأرام والسماء والكواكب والغمام، يدل عليه شعر العرب في الجاهلية البعيد عن التكلف والكذب والممتاز بدقة الوصف وسلاسة الوصف، وبدل عليه أيضاً ما حدث به أبو العالية عن أبي عمران المخزومي قال: أتيت مع أبي والياً كان بالمدينة من قريش وعنده ابن مطير الشاعر وإذا مطر جود فقال الوالي:
- صف لي المطر فأجابه ابن مطير:
- دعني أشرف عليه.
أي دعني اصعد على شرف ورابية فلا تخفي عني منه خافية، فأصفه لك وصفاً صادقاً، وبعد أن أشرف كما طلب على المطر، وصفه للوالي وصفاً حسياً كثير الوشي والصور.
كذلك كان الوصف في صدر الإسلام دقيقاً ومبنياً على المشاهدة، فكانت الصفات المصورة والألفاظ النقاشة تبين الموصوف ولو كان غير معروف، يدل على ذلك ما رواه ابن عساكر عن أبي عمامة: أن رجلاً من بني عامر بن صعصعة جاءه وقال له:
- يا أبا إمامة، إنك رجل عربي، إذا وصفت شيئاً شفيت منه، فصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصفه له وصفاً بلغ من دقته وصحته في نفس العامري أن قال له:
- لقد وصفته لي صفة لو كان الناس جميعاً لعرفته بها!
ثم أن هذا البدوي استقرى الناس حتى رأى الرسول فعرفه بتلك الصورة الكاملة الواضحة التي صورت له هامته وقامته لباسه، وصفاً صادقاً أزال ارتيابه والتباسه وهل أجاد ليت شعري أبو زبيد الطائي وصف الأسد إلا بعد أن شهد منه بعيني رأسه مشهداً رهيباً، يقول عنه لسيدنا عثمان (ض) إذ يلومه على الإكثار من ذكره: ولكني رأيت منه منظراً وشهدت منه مشهداً لا يبرح ذكره يتجدد ويتردد في قلبي، ومعذور أنا يا أمير المؤمنين غير ملوم!
ويحكى عن ابن الرومي أن لائماً لامه بقوله لِمَ لم تشبه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ فقال له: أنشدني شيئاً من شعره أعجز عنه، فأنشده في صفة الهلال:
انظر إليه كزورق من فضة
…
قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال له ابن الرومي زدني، فأنشده:
كأن آذريونها
…
والشمس فيه كالية
مداهن من ذهب
…
فيها بقايا غالية
فقال: واغوثاه! لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ذاك يصف ما عون بيته لأنه من أبناء الخلفاء. وأنا مشغول بالتصرف في الشعر: أمدح هذا مرة، واهجوا هذا مرة، وأعاتب هذا تارة، واستعطف هذا طوراً.
هذا ولعدم التمكن من مشاهدة الموصوف، وعلماً بأن الوصف لا يتم إلا برؤية موضوعه بكى بشار بن برد حينما وصفه حماد عجرد بقوله:
ويا أقبح من قرد
…
إذا ما عمي القرد!
فقال بشار: ويحي! يراني فيصفني، ولا أراه فأصفه. وهذا الوصاف الفرنسي الكبير شاتوبريان الملقب بفاتح الطبيعة لما كشف بأوصافه من محاسنها يقول عن نفسه مبيناً مواضع الوصف:
في الغابات غنيت الغابات، وعلى السفن وصفت البحر المحيط، وفي ميادين الكفاح تعلمت وصف السلاح، وفي المنفى تعلمت حقيقة النفي، وفي القصور والمرافق العامة ومحافل المجتمعين درست ما درسته عن الأمراء والسياسة والقوانين.
ومما نصح به الأستاذ ماريو روستان في كتاب الوصف والصورة:
الوصف لوح تصوير أجل مزاياه الحقيقية، فلا جل الظفر بها يجب على الواصف أن يآلف النظر إلى الموصوف، وكثيراً ما كان فلوبر الوصافة الكبير يقول ناصحاً: حدق البصر لتحسن النظر واضرب بالكتب عرض الحائط أي لا تتعلم الوصف من الكتب وحدها، إذ لا يكفي أن نلقي على ما يحيط بنا من الأشياء نظرة المسكال، يمر بالشيء فلا يراه إلا لمحا فتلتبس عليه المرئيات وانطباعاتها ويعجز عن تمييز بعضها من بعض، وعن ترتيبها ونقشها في لوح ذاكرته
إن المشاهدة الصحيحة لا يتم تصويرها إلا للقوة الفعالة والإرادة الصحيحة، فهي التي تجبر الطبيعة على الدخول في العين وهي التي تكسب الإحساسات وضوحاً وتبين ما بينها من الفروق، وترتبها وتحفظها في الذاكرة عدة وذخيرة للمستقبل، فالنظر الجيد والحفظ الجيد والإنشاء الجيد ثلاث شرائط لابد منها لتجويد الوصف الصحيح.
ويقول الأستاذ فانيه في كتابه البيان الفرنسي:
إن كثيراً من الناس لا يحسنون النظر. لأنه يقتضي ملاحظة نبيهة نيرة، وقوة تميز في الأشياء بين الجوهر والعرض وكأن هذا الأديب الفرنسي يريد ما أراد أديبنا العربي أبو الطيب المتنبي إذ يقول:
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها
…
وأعضاءها فالحسن عنك مغيب
التنوخي