المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بعد حصار 19 مرة المسلمون في القسطنطينية - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٩

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌بعد حصار 19 مرة المسلمون في القسطنطينية

‌بعد حصار 19 مرة المسلمون في القسطنطينية

للقسطنطينية ميزات كثيرة على غيرها من بلدان الأرض لا سيما من الجهتين الطبيعية والسياسية فإن موقعها الجغرافي يجعلها تسيطر على البحرين الأبيض والأسود اللذين لهما مكانة تجارية عظيمة كما أنها حلقة الاتصال بين قارتي أوروبا وآسيا أو بالأحرى بين الشرق والغرب وهي تقوم على ضفاف البوسفور ذلك المضيق التاريخي الذي شهد أعظم المآسي. وقد أنشئت هذه العاصمة سنة 658 قبل الميلاد من قبل حاكم (هدغارا) التي هي في جوار برزخ (قوربنت) في بلاد اليونان. أما خليجها المسمى بالقرن الذهبي فهو واسع عميق ومن الخلجان التي تلجأ إليها السفن وقد كان يسد بسلسلة طولها 250 ذراعاً فلا يستطيع الأعداء دخوله وسميت (بيزانس) وأصبحت قبلة أنظار الأمم العظيمة.

خضعت القسطنطينية تباعاً لأقوام شتى بسطت سيطرتها عليها في القرون الغابرة فقد حكمها السبرطيون ثم اليونان ثم استولى عليها القيصر (قلود) الروماني الذي حكم من سنة 45: 41 ق. م وفي سنة 330 ميلادية أصبحت عاصمة للقيصر قسطنطين الكبير الذي نقل إليها بلاطه من روما وسماها باسمه سنة 337 م وقد بقيت في أوج مجدها حتى فتحها محمد الثاني العثماني في 21 أيار سنة 1453 فدانت للحكم العثماني وقلبت كنيستها العظيمة أيا صوفيا مسجداً وهو من أهم المساجد في العالم اليوم.

ولا ننس جمال موقعها الطبيعي الذي قلما يوجد مثله وهي تليق أن تكون عاصمة الدنيا كما يروى عن نابليون الكبير الذي قال لو كانت الكرة الأرضية مملكة واحدة للزم أن تكون عاصمتها القسطنطينية. فلذلك كانت ولم تزل مطمح أنظار الفاتحين.

ولهذا طمع فيها المسلمون منذ أول قيام مملكتهم وتكرر حصارهم لها المرة بعد الأخرى حتى فتحت في المرة التاسعة عشرة.

وفيما يلي ذكر جميع المحاضرات الإسلامية حصرناها في مكان واحد حتى يرى القارئ بوضوح جسامة الجهود المتوالية التي صرفها المسلمون قبل الاستيلاء على هذه الدرة الثمينة:

1 -

في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان خرج والي الشام معاوية بن أبي سفيان سنة 32 هـ - لغزو القسطنطينية بجيش من الفرسان فنازلها وحاصرها ثم عاد بعد أن غنم وبعث الرعب في قلوب الروم.

ص: 49

2 -

في عهد معاوية بن أبي سفيان سنة 43 هـ - وصل جيش العرب بقيادة (يسر ابن ارطاة) إلى القسطنطينية ورجع بعد غزو ضواحيها.

3 -

4 - جهز معاوية في خلافته جيشاً عظيماً لفتح القسطنطينية بقيادة سفيان بن عوف الأزدي فخرج إليها سنة 48 هـ - في أسطول كبير خاض به بحر الأرخبيل ومضيق الدردنيل وبحر مرمره ولما وصل إليها أخرج جيشه على ضفة مرمره من غربي المدينة وضرب عليها الحصار وبقي أسطوله محاصراً لها من جهة الجنوب مدة أربع سنين إلى أن سير معاوية إليها جيشاً آخر بقيادة ولده يزيد وفيه العبادلة ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم فأوغل في بلاد الروم وفتح المدن والحصون ودام في المسير حتى بلغ القسطنطينية واشترك في حصارها وأبرز الجيشان المحاصران من الشجاعة والأقدام ما بعث الدهشة في قلوب المحصورين لكنهما لم يتمكنا من الاستيلاء عليها لمتانة أسوارها ومنعة موقعها وبعدهما عن مركز الخلافة وفتك النار الإغريقية في السفن العربية فاضطر المسلمون لقبول الصلح الذي عرضه عليهم البيزنطيون وكان في مصلحة الطرفين. وفي أثناء هذه المحاصرة بنى العرب في الحي المسمى بالغلطة الآن المسجد المعروف بالجامع العربي وتوفي أبو أيوب الأنصاري ودفن قريباً من السور ولا يزال قبره هناك يزار وعليه مسجد يدعى باسمه وفيه كان يتوج خلفاء آل عثمان.

هذا وقد اعتبر بعض المؤرخين هذه المحاصرة محاصرتين الأولى من قبل سفيان بطريق البحر والأخرى من قبل يزيد بطريق البر وعلى هذا القول تكون المحاصرات تسع عشرة.

5 -

أرسل الوليد بن عبد الملك أخاه مسلمة عدة مرات لحرب الروم ففتح كثيراً من المدن والحصون ثم تقدم في إحدى غزواته حتى وصل إلى ضفة البوسفور (اسكدار) فهدد القسطنطينية وأحرق السفن التي كانت راسية في مينائها دون أن يصاب بضرر.

6 -

في سنة 88 هـ - جهز سليمان بن عبد الملك جيشاً مؤلفاً من 12. . . جندي بقيادة أخيه مسلمة لفتح القسطنطينية فسار مسلمة حتى وصل إليها فحاصرها حصاراً شديداً ولما دخل فصل الشتاء زرع العرب وبنوا مدينة من الخشب دعوها (مدينة القهر) فلما رأى الروم ذلك استولى الرعب على قلوبهم فطلبوا الصلح على جزية يؤدونها كل سنة فأبى مسلمة حتى بئس الروم فخلعوا ملكهم (ته ئودوسيوس) الثالث وقتلوه ووعدوا البطريق

ص: 50

(ليون) بتتويجه إذا استطاع صرف العرب عنهم فأستأمن (ليون) لنفسه وتظاهر لمسلمة بالمودة والإخلاص ثم خدعه وأتلف طعام العرب حتى كادوا يهلكون من الجوع واضطروا إلى أكل الدواب والجلود وأصول الأشجار وأوراقها وكل شيء غير التراب وهم صابرون تجاه أعدائهم ينتظرون المدد من خليفتهم وكان الخليفة عازماً على اللحاق بهم بنفسه فما أمكن ذلك لمفاجأة فصل الشتاء البارد حتى توفي في مرج دابق في شمال حلب والجيش على أبواب القسطنطينية يكاسر الجوع عزائمه وتفتك النار الإغريقية به فلما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز رأى من الحكمة رفع الحصار ورجوع الجيش فكتب إلى مسلمة بذلك وأرسل إليه مؤونة كثيرة وخيلا عتافاً فوصلته وهو قافل في الطريق سنة 99 هـ -.

7 -

وهذه المحاصرة كانت على يد عبد الله البطال الإنطاكي من قواد مسلمة بن عبد الملك في عهد أخيه هشام وفيها أحرزت العرب انتصارات عظيمة قرب القسطنطينية حتى اضطر القيصر إلى توقيع معاهدة كانت في مصلحة المسلمين.

8 -

كانت هذه المحاصرة في عهد المهدي العباسي إذ أرسل ولده هارون الرشيد سنة 165 هـ - في جيش مؤلف من (95) مجهز بكامل العدد فأوغل هارون في بلاد الروم حتى بلغ البوسفور وهدد المدينة فكان الذي يقوم بأمر الروم القيصرة (اربنى) والدة القيصر قسطنطين السادس فهادنت هارون على (7) دينار في السنة وأن تقيم في طريقه الإدلاء والأسواق فأجابها إلى ذلك ورجع مكللاً بأكاليل العز والنصر فمدحه مروان بن أبي حفصة بقوله:

أطفت بقسطنطينية الروم مسنداً

إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها

ومازحتها حتى أتتك ملوكها

بجزيتها والحرب تغلي قدورها

9 -

كانت هذه المحاصرة في خلافة الرشيد وسببها أن الروم ثارت سنة 187 هـ - على القيصرة (اري) فخلعوها وتوجوا أحد القواد (نقفور) فكتب هذا إلى هارون كتاباً يهدده فيه ويقول له (أردد ما حصل من قبلك من الأموال وإلا فالسيف بيني وبينك) ولما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب فكتب على ظهره قد قرأت كتابك والجواب ما ستراه لا تسمعه والسلام ثم شخص من وقته في جيش عرمرم حتى أناخ بباب (هرقلة) ففتحها وغنم ولما رأى ذلك (نقفور) طلب المهادنة على خراج يؤديه كل سنة فأجابه الرشيد إلى ذلك وقفل

ص: 51

راجعاً حتى وصل الرقة فبلغه هناك أن (نقفور) نقض العهد فعاد غير مبال بالثلوج وشدة البرد حتى نزل على مضيق القسطنطينية وهدد المدينة فارتاع (نقفور) وأخذ الرعب من قلبه كل مأخذ حتى صار يتذلل للرشيد ويحلف له أنه لن يتأخر عن دفع الجزية ولا ينقص العهد أبداً فقبل الرشيد وعاد ظافراً ولكن ابن نقفور لم يترك أباه ثابتاً على عهده بل أغراه وشجعه على جيش الرشيد والفتك به فجمع جيشه وسار في أثره حتى لحق به وحصلت بين الفريقين وقعة هائلة جرح بها (نقفور) وتشتت جيشه بعد أن قتل كثير منه وافترض عليه الرشيد غرامة سنوية قدرها (2) دينار واشترط عليه أن تنقش باسمه واسم أولاده.

10 -

والمحاصرة العاشرة كانت حين نهوض الدولة العثمانية فقد طلب إذ ذاك قيصر القسطنطينية الحماية من محمود غازان ملك المغول بتبرير وأرسل له هدايا كثيرة من جملتها ابنته فبوصولهم إلى (تبريز) كان محمود غازان قد توفي وجلس مكانه ولده (خدا بنده محمد خان) فرغب في بنت القيصر وأرسل إلى جميع ملوك الطوائف الناهضة على أنقاض دولة السلاجقة المنقرضة بعدم التجاوز على مملكة القيصر فشق ذلك على عثمان شاه أحد ملوك الطوائف هذه ومؤسس الدولة العثمانية فتجاوز حدود الملكة البيزانتية سنة 708 هـ - واستولى على مدينتي (قوجحصار) و (لفكه) وأغار على قرية استاوروز من البوسفور.

11 -

في عهد السلطان أورخان ثاني ملوك العثمانيين سنة 728 هـ - حين سار جيش بقيادة (اقجه قوجه) و (قو كورالب) و (اقباش محمود) إلى بكفوز على البوسفور واضمحل جيش القيصر هناك وقبل الهدنة.

12 -

كان (ياني) قيصر القسطنطينية قد دخل في الحلف مع الأمم البلقانية ضد العثمانيين على أثر غزو العثمانيين لسهل المريج (مارتيزا) فأرسل جيشاً بقيادة ولي عهده (مانوئل) إلى جهات (ازمير) فانقض عليه السلطان مراد الأول ملك العثمانيين ومزق ذلك الجيش شر ممزق وفي الوقت نفسه أرسل جيشاً بقيادة (لالا شاهين باشا) و (اورانوس بك) سنة 771 هـ - فأغار على أملاك القيصر في جوار القسطنطينية وتقدماً حتى وصلا (اياستفانوس) ولما فرغ السلطان من تهدئة الأمور في آسيا الصغرى عبر إلى شبه جزيرة البلقان واستولى على أطراف القسطنطينية وهددها، ولما رأى القيصر ذلك خاف على

ص: 52

عاصمته فطلب الصلح من السلطان فصالحه لعلمه أن وقت الفتح لم يئن بعد.

(يتبع)

محمد صادق آل النقشبندي

ص: 53