المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العلاقة بين مدن الشرق وقراه - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٩

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌العلاقة بين مدن الشرق وقراه

‌العلاقة بين مدن الشرق وقراه

القرى تلد الأهليين والمدن تتوفاهم

لو حاولنا أن نعرف هل وجدت القرية قبل المدينة في سوريا وغيرها من بلدان الشرق الأدنى أم بالعكس ورجعنا في هذه المحاولة للأدلة التاريخية وللاستنتاج النطقي لوصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنه في الشرق على الأغلب وجدت المدن، قبل وجود القرى فيه لأن التاريخ يؤيد أن أكثر المدن الشرقية قديمة جداً وإن مواقع المدن الطبيعية ومراكزها الجغرافية يشيران إلى أن فيهما من الخصائص ما ليس في غير مراكز المدن مما من شأنه اجتذاب الإنسان القديم عند بدء استقراره بعد أن سئم حياة البداوة وابتدأ بالاشتغال بالزراعة. وبقليل من التأمل يلاحظ المرء أن المدن في الشرق تقوم بالقرب من مجاري أحد الأنهر الكبيرة التي تمكن من يستقر بجانبها من ري الأرض بواسطتها بكل سهولة كما يرى بالقرب من هذه الأنهر السهول الواسعة التي يمكن ريها كلها نظراً لانبساطها ولوفرة المياه.

ثم أن هذه المدن تقوم بجانب أحد الطرق الهامة التي توصل الأقطار البعيدة بعضها ببعض وربما كانت هذه الطرق السبب الأكبر في جعل بعض المدن ذات شأن كما هي الحال مع تدمر والبتراء وصنعاء والكوفة فأنه عند تحول الطرق الكبرى التي كانت تمر بها إلى جهة أخرى تأخر جل هذه المدن أو اضمحلت بالكلية.

وبما أن أول دور من أدوار الحياة الاقتصادية التي تتلو دور رعاية المواشي هو دور الزراعة وبما أنه ليس للقرى في الشرق من مياه الري وسهولة الزرع ما للمدن فإنه يمكننا الجزم أن المدن في الشرق بوجه عام أقدم من القرى فيه وأن هذه الأخيرة ما أهلت بصورة جدية إلا بعد أن استولت على جميع السهول المجاورة للمدن واستعملت مياه الأنهر الكبيرة للري وقلت منابع الرزق بالنسبة لعدد السكان وتزاحم الخلق على امتلاك الأرض الزراعية القريبة ومن طاف بقرى سورية ورأى أن الكثير منها تعتمد بزراعتها على الغيث وأن عدداً كبيراً منها أيضاً قد تكبد مشقات جسيمة في حفر القنوات للحصول على مياه الري يتحقق صدق النظرية السالفة. . .

وبعد هذا التمهيد نريد أن نبين العلاقة بين المدن وبين القرى بعد نشأة هذه الأخيرة وازدحام

ص: 55

الأولى ولا يظن أحد أن العلاقة بينهما ضعيفة وغير هامة بل هي رابطة ذات أهمية عظمى إذ أنه لولا القرى لما نمت المدن ولما تجددت جيوشها ومتنت أخلاقها كما أنه لولا المدن لاشتدت وطأة التزاحم في القرى وقلت موارد العيش وتدنى مستوى المعيشة وضاق أفق الحياة وحرم الناس من درجة الرقي العالية ورقة الطباع اللتين وصلوا إليهما بواسطة المدن.

قلت أنه لولا القرى لما نمت المدن بعد وصولها إلى هذه الدرجة من الضخامة. أن القرى تمد المدن بما يتزايد فيها من السكان وهي تستوعب هذه الزيادة لا بل تتطلبها لنموها واحتفاظها بالعدد الكبير الذي بلغه سكانها ولاستعادة القوة والنشاط إليها وتجديد الدم فيها.

إن هواء القرى عكس هواء المدن جيد نقي يدعو لنشاط الجسم وتقويته ولتوسيع الرئتين فيقل بها مرض السل كما تؤدي فيها محافظة الأخلاق إلى ندرة الأمراض التناسلية وهكذا فالهدوء فيها يحفظ الأعصاب سليمة وقوية. فتتحسن الصحة وتخصب البطون ويزداد عدد المواليد وينتج عن ذلك أيضاً قوة النسل والأعمار الطويلة فتقل الوفيات وتنقص وقائعها عن وقائع الولادات نقصاً بيناً فلا يلبث أن يتزايد سكان القرية وتضيق أبواب العيش في وجه البعض فينزلون للمدن، حيث تكثر الأعمال وتتعدد أبواب الرزق ويقصد البعض الآخر المدن لتحصيل العلوم العالية والاحتكاك بطبقة من الناس أعلى مما اعتادوا عليه وبعد إذ يحصل الشبان علومهم في المدن يترفع طموح أكثرهم عن الرجوع للقرية والعيش بمحيطها الضيق ويفضلون البقاء في المدينة ليخوضوا بحر عراكها ويروا مقدار نشاطهم في السباحة فيه، كما أن الذين تتحسن اقتصادياتهم في القرية يروق لهم الانتقال للمدينة حيث مجال العمل أوسع والأمن أشد، فالمدن مركز المعامل الكبيرة والمشاريع الجسيمة. والثروات الطائلة وسوق النزعات الجديدة ففيها نظراً لكثافة السكان وشيوع قراءة الصحف واحتكاك الأفكار تظهر الثورات الفكرية وتنتشر وتتشكل الأحزاب السياسية وتتألف الجمعيات والنقابات وتتحفز كل فئة ضد مناوئيها فالمدينة ميدان تزاحم اجتماعي وسياسي واقتصادي وعلمي فيتقدم لخوض مختلف ساحاته الكثير من أهل القرى كل بحسب عدته وأهليته وبهما يقاس فوزه بين منافسيه وهكذا فأهل القرى يهجرونها للمدن دون أن يحدث العكس إلا ما ندر فتستعيد المدن بهذه الجماعات الوافدة من القرى ما فقد منها من نفوس

ص: 56

ويدخلون في مختلف طبقاتها وتستعيد بهم الأيدي النشيطة والأفكار الثاقبة والقوة على العمل التي هي بحاجة دائمة إليها.

وهكذا تتجدد العائلات في المدن وتحتفظ بحيويتها بمجيء العائلات الجديدة من القرى وبمصاهرة هذه العائلات. ومن يمحص الأنساب في مدن هذا الشرق يرى أن كثيراً من العائلات فيها قدمت من القرى وبعضها لم يمض على قدومها للمدن جيلان أو جيل واحد. وأن أسماء عائلات كثيرة تدل دلالة ظاهرة على أصلها القروي فنجد في دمشق مثلاً آل الحلبوني والصحناوي والقاري والمهايني والنبكي والدوماني والقرواني والصيدناوي والتناوي والقساطلي والرحيباني والشويري وهلم جرا وكل هذه العائلات كما تدل أسماؤها من أصل قروي وهكذا قل عن المدن الأخرى غير دمشق وكثيراً ما تجد أن حياً من أحياء المدينة يسمى باسم سكان إحدى القرى كحارة السخانة في حلب وحماة وحمص ودمشق المأهولة بمهاجري السخنة وتدمر والقريتين وكذا فإن كثيراً من عائلات طائفة السريان القديم في المدن السورية من أصل صدي وبعض هذه العائلات قد اشتهرت بغناها وبوجاهتها. وستظل صدد القرية معقل الطائفة اليعقوبية المنيع في سوريا ومنبعها الدائم.

وعليه فلنشبه المدينة بالبحر والقرى بالينابيع التي تنساب دوماً مياهها نحو البحر لتعوض عليه ما فقده وهي كالينابيع حلوة يتدفق منها الماء النقي ليمنح البحر ما فقده من المياه النقية التي بخرتها حرارة الكدح والمزاحمة ويلطف ما بقي فيه من المياه الكثيفة الملوثة بالأملاح التي جادت بها سكنى المدينة الغنية بماديتها وأذواقها ومغاويها، وهي كالينابيع هادئة تدفق الماء بكل تؤدة وسكون ثم تدفعها للبحر وسط هديره وصخب أمواجه، وهي كالينابيع دائمة تسير نحو البحر في حال اليسر والعسر وفي حال السلم والحرب فهي ينابيع الأرحام الدائمة تدفق مياه الحياة نحو بحر القبر الدائم.

ويمكننا أيضاً أن نضيف للمقابلات الأنفة الذكر المقابلات التالية وهي أنه في القرية يكون الخيال بعيداً وسامياً ويراعى الدين والفضائل على قدر الإمكان فترى الشجاعة والتعبد والكرم والاهتمام بالغير ومساعدتهم متجلية بأوضح مظاهرها. أما في المدينة فالتواكل قليل والضيافة غير معتادة فلا يهتم أحد بغير نفسه وعائلته الخاصة فتضعف أواصر القربى والعصبية النسبية في القرية تعيش مع مواطنين يعدون بالمئات وتتعارف مع كل واحد

ص: 57

منهم وتشعر معه ويشعر معك إن حباً أو بغضاً أما في المدينة فأنك تعيش مع الألوف ولا تتعارف حق المعرفة وتعطف بعض العطف إلا على عائلات وأفراد قليلي العدد. في القرية يهتم للمعنويات في هذه الحياة وللأنفة والشمم والسمعة الطيبة ويكثر فيها القال والقيل الفارغ أما في المدينة فينظر للحياة نظرة جدية ويهتم بالمادة فوق كل شيء، فيتفانى أهل المدينة في سبيل نيل القوت الضروري أو إحراز الغنى ليمتع أنفسهم طالبوه بكماليات الحياة المعروضة أمامهم للبيع. وكذلك فإن أهل القرية محافظون والفرد فيهم أسير للعادة وللتقاليد بينما نجد أهل المدينة نزاعين إلى التجديد والتبديل والفرد فيهم مستقل وحر بتصرفاته وأفكاره. على أن القرويين يميلون للتشبه بأهل المدينة ويسعون لتقليدهم إلا أن أغلب ما يقلدونهم فيه هو الظواهر دون الجواهر لأن الظاهرة أقرب للعين وأرغب للهوى وأسهل تناولاً لليد.

إذن فموقف المدينة من القرية موقف المادي الطموح من الرواقي القانع بالخيال والمتمسك بالمبادئ العالية، وموقف العالم من الساذج، والمعلم من التلميذ، والأب المتبني من الابن المتبنى، والغني من الفقير، ورب العمل المكافئ من العامل النشيط والملجئ من الملتجئ والقبر من الرحم.

ليس كل ما ذكرناه من المقابلات في هذا المقال يختص به الشرق دون الغرب بل أن كثيراً منها يصدق في الاثنين على السواء. على أن بعض المقابلات التي لا تنطبق على الغرب والتي هي لب الموضوع يبرر حصر العنوان بمدن الشرق فالمدن الغربية من الوجهة الصحية ومن حيث مقابلة عدد المولودين بعدد المتوفين غير مدننا. وإذا أغفلنا ما تزيده القرى في عدد سكان المدن قلنا أنها نظراً لنظافتها وللوسائط الصحية المتبعة فيها ولحداثة عهد الكثير منها لا تنطبق عليها بعض النعوت التي نعتنا بها مدننا ويمكنها أن تتزايد وتحتفظ بنشاطها بقطع النظر عن القرى قد تمدها بالحياة والنشاط كما أن الرقي الفكري ميسور في قرى الغرب فوق ما هو ميسور في قرانا بسب حسن المواصلات وثراء الشعب وغيره، ولقد كانت باريس ولندن قبل مائة وخمسين عاماً كما هي مدننا اليوم ولكن الغرب يخطو خطوات واسعة في سبيل التقدم كل عام بينما نحن نرقى ببطء وتغلب فينا روح المحافظة على حب التجديد وكذا فالنظافة العامة والشعور بواجب الفرد نحو المجتمع لم

ص: 58

يصلا عندنا إلى درجة عالية. ومقابلة صغيرة بين إحدى مدننا الداخلية وبين أصغر مدن الغرب تدل على صدق ما ذكر من الفرق بينهما.

وطالما بقيت مدننا على ما هي عليه الآن دون أن تطبق فيها القواعد الطبيعية والهندسية تبقى مقابر لدفن النشاط والحياة اللذين تبعث بهما أرحام القرى

دمشق

شكري جبور

ص: 59